قدّمها وترجمها: خالد البلوشي*
ما يميّز الأدب عن غيره من الخطابات احتضانه لما كان بين الخير والشرّ، بين العلوّ والنزول، بين الحصافة والحماقة، بين الشّعور والعقل؛ فالأدب يتناول الخبرة الإنسانيّة تداخلًا، وتأرجحًا، وتذبذبًا، واهتزازًا، وخفقانًا؛ عليه فإن أيّ تصنيف له بناءً على قوم أو قطر أو دين أو أيديولوجيّة يظلّ ناقصًا؛ ربّما كان «أدب ما بعد الكولونياليّة»، اسمًا لنوع معيّن من النتاج الأدبي، قريبًا، من هذا المنطلق، إلى عموم الأدب؛ فهو معنيّ في المقام الأوّل بالمتاخم والملاصق، بالمتداخل والمتشابك.
لعلّنا نحن القرّاء نجد شيئًا من ذلك في القصص القصيرة الثلاث التي يتضمّنها هذا الملفّ؛ فهذه القصص غالبًا ما تصنّف في أنطولوجيّات الأدب العالمي على أنّها إمّا من أدب ما بعد الكولونيالية أو من أدب المهجر؛ فكاتب القصّة الأولى، حنيف قريشي، بريطانيّ من أمّ إنجليزيّة وأب باكستاني هاجر إلى إنجلترا، أمّا كاتبة القصّة الثّانية، إيؤون لي، وكاتب القصّة الثّالثة، ها جين، فهما قاصّان وروائيّان أمريكيّان من أصل صينيّ؛ على أنّي أزعم أنّ التجارب الإنسانيّة المقدّمة في القصص تتجاذب وتتصارع في برزخ بين ما كان قبل الكولونياليّة وما كان بعدها، أو قل بين المستقرّ والمهجر، وأنّ التخوم إذا طالت صارت مستقرَّا ومُقامًا عليه فإنّ «أدب ما بعد الكولونياليّة أو «أدب المهجر» اسمًا ووصفًا ناقصٌ نقصَ أيّ أدب صُنِّفَ.(1)
ll ابني، المتطرّف
حنيف قريشي(2)
حنيف قريشي كاتب قصّة ومؤلّف مسرحيّ وروائيّ بريطانيّ، ولد في لندن عام 1954 من أمّ إنجليزيّة وأب كان من ولاية مدراس الهنديّة ثمّ انتقل إلى باكستان بعد تقسيم شبه القارة الهنديّة عام 1947؛ من أشهر رواياته «الألبوم الأسود» (1995) و«حميميّة» (1998) و»هديّة جبريل» (2001) و«الجسد» (2003)؛ ومن مجموعاته القصصيّة «الحبّ في زمن أزرق» (1997) و«منتصف الليل كلّ يوم» (1999)؛ فاز بجوائز عدّة منها، مثلًا، جائزة بين/بنتر Pen/Pinter Prize.
* * * *
شرع الأب، بخفاء وسرّيّة، يدخل إلى غرفة نوم ابنه، يجلس فيها ساعات، يستنهض همّته لا لشيء إلّا ليجمع خيوطًا يستدل بها؛ ما حيّره أنّ عليًّا صار يرتّب أشياءه أكثر من ذي قبل، فغرفته الآن صارت، بعد ما كان بها من تبعثر لملابس وكتب ومضارب لعبة الكريكت، أنيقة متّسقة، وبها مساحات خاوية بعد أن كانت أخلاطًا شتّى.
كان برويز في أوّل أمره سعيدًا؛ فابنه كان يفوق أقرانه المراهقين سلوكًا وتهذيبًا، ولكنّه وجد ذات يوم جنب صندوق القمامة حقيبة ممزّقة، لم تكن فيها لعبات قديمة وحسب وإنّما أقراص حاسوب آليّ، وأشرطة جهاز فيديو، وكتب جديدة، وملابس حسب ما ساد من أحدث الصّيحات كان الولد قد اشتراها قبل بضعة أشهر فقط؛ كما أنّ عليًّا ترك من غير سبب صديقته الإنجليزيّة التي كانت عادةً ما تأتي معه الى المنزل؛ ولم يعد أصدقاؤه القدامى يتّصلون به.
لم يتمكّن برويز، لأسباب لم يدركها هو نفسه، من إثارة سلوك ولده الغريب موضوعًا؛ فقد كان على وعي أنّه صار خائفًا قليلًا من ابنه، ابنه الذي طال لسانه سلاطةً بزيادة طول صمته؛ فملحوظة برويز «لم تعد تعزف جيتارك،» أثارت منه ردًّا كان فيه من الغموض ما كان فيه من الحسم، «ثمّة ما هو أهمّ وأولى بأن ينجز».
مع ذلك شعر برويز بأنّه ربّما بالغ في الحكم على أطوار ابنه؛ كان على وعي دائمًا بالشّراك التي يقع فيها أبناء الآخرين في إنجلترا؛ لذا عمل، من أجل عليّ، ساعات طويلة، وصرف أموالًا كثيرة على تعليمه في المحاسبة، واشترى له بدلات جيّدة، وكلّ ما كان يحتاج إليه من كتب وجهاز حاسوب؛ والآن يرمي الولد كلّ ممتلكاته!
وقد أتى الدور بعد الجيتار على التّلفاز وجهاز الفيديو والأشرطة السّمعيّة والبصريّة؛ وإن هي إلّا أيّام معدودة حتّى غدت الغرفة عمليًّا جرداء، حتّى أنّ الحيطان البائسة كانت بها علامات صور عليّ أزيلت عنها.
لم يستطع برويز أن ينام؛ لاذ بقنّينة الويسكي أكثر من ذي قبل، بل حتّى وهو في العمل؛ فقد أدرك أنّه كان ضروريًّا أن يحادث شخصًا يفهم الأمر فهمه ويقدّره تقديره.
لقد مضى على برويز سائقًا لسيّارة أجرة عشرون سنة، أمضى نصف الوقت هذا في شركة واحدة؛ كان معظم السّائقين بنجابيّين(3) مثله، كانوا يفضّلون العمل في الليل حيث الشّوارع أخفّ حركةً والمال أكثر وفرةً؛ كانوا ينامون في أثناء النّهار، فيتجنّبون زوجاتهم؛ وكانوا إذا تجمّعوا في غرفة سائقي الأجرة عاشوا عيشة من كان في مقتبل عمره: يلعبون الورق، يسخر بعضهم من بعض بحيل وخدع صبيانيّة، يتبادلون قصص حبّ وجنس، يأكلون معًا، يناقشون السّياسة ومشكلاتهم.
ولكن برويز لم يكن قادرًا على إثارة هذا الموضوع عند أصدقائه؛ فقد كان يشعر به أمرًا محرجًا أيّما إحراج؛ كان خائفًا من أنّهم سيلومونه على ما آل إليه أمر ابنه، كما كان يلومهم على ترك أولادهم المدرسة وخروجهم مع بنات سيئات السّمعة والتحاقهم بعصابات.
كان برويز يتباهى منذ سنين عند أصدقائه بتفوّق ابنه في الكريكت والسّباحة وكرة القدم وتوقدّ ذهنه ودوام اجتهاده في المدرسة؛ فقد كان ينال درجة امتياز في معظم الموادّ؛ اشتدّ على عليّ حينما طلب منه أن يبحث له الآن عن وظيفة، ويتزوّج من امرأة محترمة، ويؤسّس له أسرة؟ فإذا ما حدث ذلك سعد برويز، فعندئذ يكون قد تحقّق حلمه بأن يبلي بلاءً حسنًا في إنجلترا؛ فيم أخطأ يا ترى؟
بيد أنّه بينما كان يشاهد ذات ليلة فيلمًا للممثّل سيلفيستر إستالون في غرفة سائقي الأجرة مع من كان أقرب الصّديقين إليه كسر حاجز الصّمت.
«لا أفهم الأمر،» قال صارخًا فجأةً، «كلّ ما يحدث في غرفته- لم أعد أقدر على التّحدّث معه؛ لم نكن أبًا وابنًا- كنّا أخوين! أين هو الآن منّي؟ أين ذهب؟ لم يعذّبني هكذا؟»
ثمّ وضع رأسه في يديه.
وبينما كان برويز يحكي حكايته هزّ صديقاه رأسيهما، ونظر أحدهما إلى الآخر كأنّما كانا يسمعان ما كانا يعرفانه، بدا لبرويز ممّا كان في وجهيهما من جدّ وقتامة أنّهما فهما.
طلب منهما، «أخبراني ما أمره؟»
كان في الرّدّ ما يشي برضاهما على تحقّق تخمينهما؛ فالأمر كان واضحًا الآن، كان عليّ يتعاطى مخدّرات، يبيع ما له حتّى يدفع لها، لهذا كانت غرفة نومه تخلو ممّا كان بها.
«ماذا ينبغي لي فعله إذن؟»
نصحه صديقاه أن يراقب عليًّا عن كثب، ويتشدّد عليه قبل أن يجنّ جنونه ويأخذ جرعات مميتة أو يميت شخصًا آخر.
خرج برويز في الصّباح الباكر متعثّرًا محتارًا، خائفًا من أن يكونا على حقّ، فيكون ولده- مدمن مخدّرات وقاتلًا!
وجد بيتينا جالسة في سيارته؛ ذهب عنه شيء ممّا كان به.
كان زبائن آخر الليل عادةً «النحاسيّات» المحلّيّات أو بنات الدعارة؛ كان سائقو الأجرة يعرفونهنّ جيّدًا، وكانوا عادةً ما يوصلونهنّ إلى من كان يطلب خدماتهنّ، وعند انتهائهنّ من عملهنّ كانوا يعودون بهنّ إلى منازلهنّ؛ على أنّهنّ كنّ أحيانًا ينضممن إليهم في المكتب لجولة من الشّراب، وفي بعض المرّات كان السّائقون يذهبون معهنّ، «ركوب مقابل ركوب،» هكذا كانوا يسمّونه.
كانت بيتينا قد التقت برويز قبل ثلاث سنوات، كانت تسكن خارج البلدة، كان من دأبها أنّها إذا عادت مع برويز إلى بيتها من رحلة طويلة جلست جنبه لا في مقعد الرّكّاب؛ كان برويز يتحدّث عندها عن حياته وآماله، كما كانت تتحدّث هي عن حياتها وآمالها؛ كان يرى أحدهما الآخر جلّ الليالي.
كان يحادثها في أمور لم يستطع ذكرها عند زوجته؛ وكانت بيتينا، بالمقابل، تروي له أنشطتها الليليّة؛ فقد كان يهمّه أن يعرف أين كانت ومع من، وقد خلّصها ذات مرّة من زبون شرس؛ فصار بعدئذ يهتمّ كل منهما بالآخر.
مع أنّها لم تكن قد رأت عليًّا فإنّها كانت دائمًا تسمع عنه؛ لم تقف، عند إبلاغ برويز إيّاها في وقت متأخر من تلك الليلة عن شكّه بأنّ ابنه يتعاطى مخدّرات، موقفًا من الابن ولا من الأب؛ وإنّما أخبرته، على طريقة من أراد أن يتعامل مع ما بين يديه بجدّ واجتهاد، بأن يراقبه محدّدةً ما ينبغي له أن يركّز عليه؛ فـ»الخبر اليقين في العينين،» فقد تكونان محتقنتين بالدم وقد يتّسع بؤبؤهما؛ وقد يبدو عليّ تعبًا مرهقًا، وقد يعرق كثيرًا ويضطرب مزاجه تقلّبًا، «فهمت؟»
وقع كلامها منه موقعًا، فصار يرقب ابنه؛ ولما عرف ما قد يكون أمره هدأ رَوعه؛ لا بدّ وأنّ الأمور، كما فهم، لم تبلغ مداها الأسوأ؛ سيعالج الأمر سريعًا- مع مساندة بيتينا.
راقب كلّ لقمة أخذها الولد، جلس جنبه كلّما سنحت له سانحة ونظر مليًّا إلى عينيه، وإذا أمكن أخذ يده وقاس درجة حرارته؛ وإن لم يكن الولد في البيت توقّد عزم برويز: يفتّش ما تحت الأثاث، وما في الأدراج، وما وراء الخزنة الخالية؛ ينقّب، ويفحص، ويستنشق؛ كان يعرف ما ينبغي أن يبحث عنه: فبيتينا كانت قد رسمت له كبسولات ومحاقن وحبوبًا ومساحيق.
كانت تنتظر كلّ ليلة أخبار ما رآه.
استطاع برويز أن يفيدها، بعد بضعة أيّام من المراقبة الحثيثة، بأخبار ابنه؛ فقد تخلّى عن الرّياضة إلّا أنّه لم يزل بكامل صحّته، لا غبار في عينيه ولا أيّ فرق آخر؛ ولم يكن، على خلاف ما توقّع أبوه، يخفضهما من الذنب إذا ما رأى أباه يطيل النّظر إليه؛ الحقّ أنّ الولد كان، مع تجهّمه، هادئًا، يقظًا، فطنًا؛ فإذا ما رأى أباه يحدّق إليه ردّ بنظرة كان فيها ما وشى بلوم أو حتّى بتوبيخ؛ بل كان في نظره من الثّبات ما جعل برويز يشعر بأنّه هو من أخطأ لا ابنه!
«أولم يكن في جسمه أيّ اختلاف يذكر؟» سألت بيتينا.
«لا،» فكّر برويز لدقيقة، «ولكنّه أطلق لحيته».
ذات ليلة، وبعد جلوسه مع بيتينا في مقهًى يخدم الزبائن طيلة الليل، رجع برويز متأخّرًا كثيرًا؛ كان برويز وبيتينا قد تخلّيا على مضض عن تفسيرهما الوحيد، ذاك القائم على المخدّرات؛ فبرويز لم يجد في غرفة عليّ أيّ شيء يشبه مخدّرًا؛ أضف إلى أنّ عليًّا لم يكن يبيع ممتلكاته، بل تخلّص منها، وزّعها، تبرّع بها إلى محلّات خيريّة.
بينما كان برويز واقفًا في الصّالة سمع منبّه ابنه يرنّ، أسرع خطاه إلى غرفة النّوم؛ وجد زوجته مستيقظة، جالسة على السّرير تخيط، أمرها أن تجلس وتلزم الصّمت مع أنّها لم تكن واقفة ولا نبست ببنت شفة؛ راقب ابنه عبر صدع في الباب؛ تعجّبت زوجته من أمره.
ذهب الولد إلى الحمّام، وعندما رجع إلى غرفته طار برويز إلى الصّالة، وضع أذنه عند باب غرفة عليّ، سمع تمتمة ووشوشة، ذهل ممّا سمع وإن سكن روعه.
وعند تثبّته من ذلك راقبه في أوقات أخرى، كان الولد يصلّي خمس مرّات، لا يفوّت إحداها إذا ما كان في البيت.
كان برويز قد نشأ في لاهور،(4) حيث علّم الأولاد كلّهم القرآن؛ كان «المولويّون»(5) يلصقون، في سعيهم لمنع برويز من النّوم، قطعة من السّلك بالسّقف ثمّ يربطونه بشعره؛ فإذا مال وجهه إلى الأمام استيقظ فورًا؛ تفادى برويز، بعد هذه المهانة، الأديان كلّها؛ لا يعني ذلك أنّ بقيّة السّائقين كانوا يكنّون احترامًا أكبر، فالحقّ أنّهم كانوا يستهزئون من «الملّاوات»(6) المحلّيّين الذين كانوا يتجوّلون بلحاهم وطاقياتهم معتقدين أنّهم بإمكانهم أن يعلّموا النّاس ما الطّريقة السّليمة للعيش بينما كانت أعينهم تنظر بشبق إلى الصّبايا والصّبيان الذين كانوا بعهدتهم.
وصف برويز لبيتينا ما قد اكتشفه، كما أخبر الرجال الذين كانوا في مكتب سيّارات الأجرة؛ أمّا أصدقاؤه الذين كان عليٌّ قد أثار فضولهم كثيرًا فقد لاذوا الآن، على نحو غريب، بالصّمت؛ فما كانوا ليلوموا الولد على أدائه صلواته.
قرّر برويز أن يأخذ إجازة ليلة كاملة ليخرج مع الولد، علّهما يتبادلان أحاديث وأخبارًا، كان يريد أن يسمع منه كيف كانت دراسته في الكلّيّة، كان يريد أن يسرد له قصصًا عن أهله في باكستان، وأكثر من هذا وذاك كان يتوق إلى معرفة كيف اكتشف عليّ «البعد الروحيّ،» حسب تسمية بيتينا.
إلّا أنّ برويز تفاجأ برفض ابنه أن يخرج معه، فقد ادّعى أنّ له موعدًا، اضطرّ برويز على أن يصرّ أنْ لا موعد أهمّ من يكون الابن مع أبيه.
وفي اليوم التّالي ذهب برويز على الفور إلى الشّارع حيث كانت بيتينا تقف في المطر بكعاب عالية وتنّورة قصيرة ومعطف طويل واقٍ من المطر تفتحه للسّيّارات المارّة علّها تجد مأمولها.
«اركبي، اركبي!» قال لها.
سارا عبر أرض سبخة حتّى أتيا مكانًا كانا يلتقيان فيه في الأجمل من الأيّام، مكانًا يتّسع أفقه أميالًا، فلا شيء فيه سوى غزلان برّيّة وأحصنة، مكانًا كانا قد تعوّدا أن يستلقيا فيه بأعين نصف مغمّضة قائلين، «هذه هي الحياة!» هذه المرّة كان برويز يرتجف، وضعت بيتينا ذراعيها حوله.
«ماذا هناك؟»
«مررت قبل قليل بأسوأ تجربة لي في حياتي».
مرّرت بيتينا يدها بلطف في شعر برويز عند إخباره إيّاها أنّه ذهب المساء المنصرم مع عليّ إلى مطعم؛ وبينما كانا يلقيان نظرة على قائمة الطّعام أتاهما النّادل بشراب برويز المعتاد: زجاجة ويسكي وماء؛ كان من شدّة توتّر برويز أنّه أتى محضّرًا سؤالًا لعليّ، كان على وشك أن يسأله إن كان قلقًا بشأن الامتحانات التي كانت على الأبواب؛ ولكنّه أطلق، من باب التّرويح عن النّفس، ربطة عنقه قليلًا؛ مضغ رقائق من بوبادُم،(7) أخذ جرعة كبيرة من الشّراب.
وقبل أن يتمكّن برويز من الكلام عبس وجه عليّ واكفهرّ.
«ألا تعلم أنّ الشّراب حرام؟»
«كلّمني بأسلوب فظّ جدًّا،» أخبر برويز بيتينا، «كدت أن أوبّخ الولد على قلّة احترامه لي، ولكنّي تمكّنت من كظم غيظي».
شرح لعليّ بسعة صدر وطولة بال أنّه عمل في اليوم الواحد غير عشر ساعات، وأنّه حرّم نفسه من كثير من متع الحياة وملذّاتها، وأنّه لم يأخذ إجازة قطّ، أيّ جريمة ارتكب إذا ما أراد التّنفيس عن كلّ ذلك بزجاجة شراب؟
«ولكنّه حرام،» قال الولد.
«أعرف،» ردّ برويز هازًّا كتفيه قليلًا.
«وكذلك القمار، أليس كذلك؟»
«نعم؛ ولكنّنا لسنا، لا ريب، إلّا بشر».
في كلّ مرّة أخذ فيها برويز جرعة من الشّراب تجهّم وجه الولد وعبس مستقبحًا ما كان يرى؛ جعل ذلك برويز يشرب بسرعة أشدّ؛ ولمّا كان النّادل يريد أن يسعد صديقه أحضر له زجاجة أخرى؛ أدرك برويز أنّه بدأ يسكر، ولكنّه لم يتوقّف؛ كان في وجه عليّ كلّ ما يشير إلى تقزّزه واستهجانه، كان كأنّما كره أباه.
لم يكادا يأكلان نصف الوجبة حتّى فقد برويز فجأةً السّيطرة على نفسه، فرمى بأحد الصّحون، أتاه شعور بأن ينزع القماش الذي على الطّاولة ويمزّقه؛ كان النّادل والزّبائن الآخرون يحملقون إليه، بيد أنّه ما كان ليطيق ابنه يأتيه ناصحًا، فيبيّن له الصّواب من الخطأ؛ يعرف أنّه ليس رجلًا سيئًا، فهو سليم السّريرة وحسن الطّويّة، ثمّة أمور قليلة كان خجلًا منها؛ إلّا أنّه عاش، إجمالًا، حياة محترمة.
«متى كان لديّ وقت كاف لأكون سيئًا؟» سأل عليًّا.
شرح الولد، بصوت خافت رتيب، أن برويز لم يعِش، في الحقيقة، عيشة صالحة؛ فقد خرق قواعد لا حصر لها من القرآن.
«مثل؟» سأله على نحو حاسم.
لم يحتج عليّ إلى وقت ليفكّر، كما لو كان ينتظر هذه اللحظة، فسأل أباه إن لم يستمرئ معجّنات لحم الخنزير.
«حسنًا . . ».
لم يتمكّن برويز من إنكار أنّه يلتذّ بلحم الخنزير المقدّد الهشّ الجاف المطبوخ بنار داخنة من غير لهب مع الفطر زيت الخردل والموضوع بين قطع الخبز المقليّ، فالحقّ أنّه كان يأكل هذا وجبةً للإفطار كلّ صباح.
ذكّر عليّ برويز أنّه أمر زوجته أن تطبخ له مقانق لحم الخنزير قائلًا لها، «إنّك لست في القرية الآن، هذه إنجلترا، علينا أن نتكيّف».
اشتدّ ضيق برويز وحيرته بسبب هذا الهجوم؛ فطلب مزيدًا من الشّراب.
«مكمن الإشكال،» اتّكأ الولد على الطّاولة، كانت عيناه حيّتين نشطتين أوّل مرّة في تلك الليلة، «أنّك منغمس شديد الانغماس في الحضارة الغربيّة».
تجشّأ برويز، ظنّ أنّه سيختنق، «’منغمس‘! ولكنّنا نعيش هنا».
«المادّيّون الغربيّون يكرهوننا،» قال علي، «أبي، كيف لك أن تحبّ شيئًا يكرهك؟»
«ما الجواب إذن،» قال برويز على نحو مثير للشّفقة، «حسب رأيك؟»
خاطب عليّ أباه بكلّ طلاقة، كما لو كان برويز جمهورًا مشاغبًا كان يجب إقناعه وإسكاته؛ ستكون كلمة الله هي العليا، ستصلى جلود الكفار مرّةً بعد مرّة، سيُغلَب المسيحيّون، سيُقهَر اليهود، الغرب بؤرة المنافقين والزّناة والشّاذّين ومتعاطي المخدّرات والعواهر.
وبينما كان عليّ يلقي حديثه هذا ألقى برويز نظرة إلى الخارج من النّافذة ليتحقّق أنّهما كانا في لندن.
«أمّتي عانت ما عانت، وتحمّلت ما تحمّلت، وإن لم يتوقّف الاضطهاد كان الجهاد؛(8) سنفتدي، أنا وملايين آخرين، بنفوسنا من أجل كلمتنا».
«ولكن لماذا، لماذا؟» قال برويز.
«أمّا نحن فجزاؤنا الجنّة».
«الجنّة!»
اغرورقت عينا برويز، ناشده الولد أن يتّقي الله ويسلك من السّبل سبله.
«كيف كان ذلك ممكنًا؟» سأله برويز.
«صلِّ،» قال عليّ، «صلِّ بجانبي».
طلب برويز الفاتورة، قاد ابنه خارج المطعم بأسرع ما أمكن له، لم يستطع أن يطيق الأمر أكثر من هذا؛ بدا له أنّ عليًّا ابتلع صوت شخص آخر.
وفي طريق العودة إلى البيت جلس الولد خلف السّيّارة كما لو كان زبونًا.
«ما الذي جعلك هكذا؟» سأله برويز خشية أنّه ربّما يلام على نحو ما، «هل ثمّة حدث بعينه أثّر فيك؟»
«العيش في هذا البلد».
«ولكنّني أحبّ إنجلترا،» قال برويز وهو ينظر إلى ولده في المرآة، «إنّهم يعطونك حرّيّتك، فتفعل كلّ ما تشاء».
«هنا مكمن الإشكال».
لأوّل مرّة منذ سنين ساق برويز على غير هدى، فصدم جانب سيّارته شاحنة، فانشقّت المرآة الجانبيّة؛ كانا محظوظين، فالشّرطة لم توقفهما، وإلّا فبرويز كان سيخسر رخصة القيادة ومن ثمّ عمله.
وصلا إلى البيت، خرج برويز من السّيّارة مترنّحًا، تعثّرت قدمه، سقط، أصيبت يده فكدمت، انشقّ بنطلونه، تمكّن من أن يقوم، وإن بصعوبة؛ وقف الولد ساكنًا، حتّى أنّه لم يمدّ له يده.
أخبر برويز بيتينا أنّه كان على استعداد ليصلّي إن كان ذلك ما يريده الولد، إن كان ذلك سيزيح تلك النّظرة القاسية من عينيه.
«ولكن ما لا أرضاه هو أن يأتي ابني ويقول لي إنّي سأدخل النّار!»
والطّامة الكبرى لبرويز أنّ عليًّا أخبره بأنّه سيترك المحاسبة، وحينما سأله عن السّبب أجاب متهكّمًا بأنّ الأمر كان واضحًا كلّ الوضوح.
«التّعليم الغربيّ ينمّي لدى المرء ميلًا ضدّ الدّين».
ثمّ إنّ المحاسبين يحتكّون عادةً، بحسب عليّ، بالنّساء؛ ويتعاطون المسكرات ويتاجرون بالرّبا.
«ولكنّ عملك محاسبًا يوفّر لك راتبًا جيّدًا،» ردّ عليه برويز محاولًا إقناعه، «كنت تحضّر نفسك له منذ سنين!»
قال له عليّ إنّه كان على وشك أن يعمل في السّجون مع المسلمين المساكين الذين يعتصمون بحبل الله المتين ويجاهدون من أجل دينهم ونقائهم في مجتمع ملوّث؛ وفي آخر السّهرة وبينما كان عليّ يتّجه إلى غرفة نومه سأل أباه لم لم يطلق اللحية ولا حتّى، أقلّه، الشّوارب.
«أشعر كأنّي فقدت ابني،» أخبر برويز بيتينا، «لا أطيق أن ينظر إليّ كأنّي كنت مجرمًا، لقد قرّرت ما ينبغي لي فعله».
«ماذا ستفعل؟»
«سأخبره بأن يأخذ سجّادة صلاته ويخرج من بيتي، سيكون ذلك أشقّ شيء أفعله في حياتي، ولكنّي سأقدم على فعله الليلة».
«ولكنّك يجب ألّا تتخلّى عنه،» قالت بيتينا، «فالشّبّان يقعون في مجموعات تؤمن بخرافات ومعتقدات دينيّة غريبة، لا يعني ذلك أنّهم يشعرون بالشّعور ذاته دائمًا،» كما قالت إنّ عليه أن يقف إلى جانب ابنه، ويقدّم له الدعم المعنويّ حتّى يخرج ممّا هو فيه سالمًا.
رأى برويز رأيها واقتنع بكلامها، مع أنّه تساءل شاكًّا إن كان لديه أكثر من كلّ ما أعطاه من حبّ لم يشكر عليه حتّى الآن.
على أنّه حاول أن يصبر على عين ابنه الشّزراء ولسانه الصّارم القاسي، وحاول أن يحادثه في معتقداته؛ غير أنّه إن غامر ووجّه نقدًا كان جواب عليّ دائمًا مقتضبًا مباشرًا فظًّا؛ اتّهم عليّ برويز ذات مرّة بأنّه كان «يتذلّل» للبيض؛ وأوضح له أنّه، في المقابل، لا يعاني شعورًا «بالنقص،» وأنّ العالم أرحب وأكبر من الغرب مع أنّ الغرب هذا رأى نفسه دائمًا أنّه الأرقى والأحسن.
«كيف لك أن تعرف ذلك؟ فأنت لم تترك إنجلترا قطّ».
ردّ عليّ بنظرة كان فيها ما فيها من ازدراء.
ذات ليلة، وبعد تحقّق برويز من أن لا رائحة شراب في نَفَسه، جلس برويز مع عليّ على مأدبة الطّعام في المطبخ، كان يتمنّى أن يحيّيه عليّ على اللحية التي بدأ يطلقها، على أنّ عليًّا بدا أنّه لم يلحظ شيئًا.
وقبل هذا بيوم كان برويز قد أخبر بيتينا أنّه يعتقد أنّ النّاس في الغرب يشعرون أحيانًا بخواء داخليّ وأنّهم بحاجة إلى فلسفة يعيشون بها.
«نعم،» قالت بيتينا، «نعم، هذا هو الردّ، أنت يجب أن تخبره ما فلسفة حياتك، سيفهم أنّ ثمّة معتقدات أخرى».
وبعد تأمّل مضنٍ كان برويز على استعداد أن يبدأ، راقبه الولد كأنّما لا يتوقّع شيئًا.
قال برويز، بشيء من التّردّد، إنّ النّاس ينبغي أن يعامل بعضهم بعضًا باحترام، لا سيّما الأولاد، فهؤلاء عليهم احترام آبائهم؛ بدا في لحظة أنّ ذلك أثّر في الولد؛ فتشجّع برويز وواصل كلامه؛ كانت هذه الحياة، في رأيه، هي كلّ ما في الوجود؛ وإذا ما مات المرء تعفّن في التّراب، «تنمو منّي الأعشاب والأزهار ولكنّ شيئًا ما منّي سيبقى-»
«كيف؟»
«في الأشخاص الآخرين، أنا سأستمرّ- فيك؛» بدا الولد مزعوجًا قليلًا من هذه النّقطة، «وفي أحفادك،» أضاف برويز، «ومادمت هنا فأنا أريد أن أستثمر وجودي على هذه الأرض خير استثمار، وأريدك أنت أن تفعل فعلي أيضًا».
«ماذا تعني بـ’أن أستثمر وجودي على هذه الأرض خير استثمار‘؟» سأل الولد.
«حسنًا،» قال برويز، «بادئ ذي بدء . . . أنت يجب أن تستمتع بالحياة؛ نعم، استمتع بالحياة دون أن تؤذي غيرك».
قال عليّ إن المتعة كانت «الهوّة التي لا قعر لها».
«ولكنّي لا أعني متعة كتلك،» قال برويز، «ما أعنيه هو جمال العيش!»
«أمّتنا مضطهدة في كلّ مكان في العالم،» كان ردّ الولد.
«أعرف،» دون أن يكون على يقين تمامًا من هم أمّتنا، «ولكن، رغم ذلك- الحياة إنّما للعيش!»
قال عليّ، «القيم الحقّة متأصّلة منذ مئات السّنين، وهناك من النّاس الملايين والملايين حول العالم من يشاركني رؤاي؛ أأنت تقول إنّك على حقّ وإنّهم كلّهم على باطل؟» نظر إلى أبيه نظرة كان من مبلغ ثقتها وحدّتها أنّ برويز لم يستطع قول كلمة أخرى.
كانت بيتينا جالسة في سيّارة برويز ذات مساء بعد زيارتها زبونًا لها، مرّا بشابّ على الشّارع.
«ذاك ابني،» قال برويز فجأة، كانوا في الجانب الآخر من البلدة، في مقاطعة فقيرة بها مسجدان.
كان وجه برويز جادًّا صارمًا.
التفتت بيتينا لتنظر إليه، «تمهّل، تمهّل،» قالت له؛ «إنّه وسيم، يذكّرني بك، ولكن بوجه أشدّ حسمًا، ألا يمكننا أن نتوقّف، أرجوك؟»
«من أجل ماذا؟»
«أودّ أن أتحدّث إليه».
لفّ برويز سيّارة الأجرة، ووقف جنب الولد.
«إلى البيت؟» سأله برويز، «لم يزل بعيدًا».
هزّ الولد بوجه جهم كتفيه ثمّ جلس في المقعد الخلفيّ، جلست بيتينا في المقعد الأماميّ؛ انتبه برويز لتنّورة بيتينا القصيرة، ولخواتمها المتعدّدة الألوان، ولمكياج عينيها الأزرق المائل إلى البياض؛ كما أحسّ بعطرها الذي كان معجبًا به، عطرها الفوّاح الذي ملأ السّيّارة كلّها؛ فتح النّافذة.
بينما كان برويز يقود السّيّارة بأسرع ما يمكن سألت بيتينا عليًّا بلطف، «أين كنت؟»
«المسجد».
«وكيف أمورك في الكلّيّة؟ أتعمل بجدّ ونشاط؟»
«من تكونين لتسأليني كلّ هذه الأسئلة؟» قال وهو ينظر إلى خارج النّافذة، أتاهم ازدحام مروريّ، توقّفت السّيّارة.
عندئذ وضعت بيتينا يدها على كتف برويز لا داريةً ولا متعمّدةً، وقالت، «أبوك رجل طيّب، وهو كثير القلق عليك، أنت تعرف أنّه يحبّك أكثر من حياته الخاصّة به».
قال الولد، «أنت تقولين إنّه يحبّني».
«نعم،» قالت بيتينا.
«إذن لماذا يسمح لامرأة مثلك أن تلمسه بهذه الطّريقة؟»
إذا نظرت بيتينا إلى الولد بغضب فكان في نظره إليها ضعف غضبها.
قالت، «أيّ نوع من النّساء أنا حتّى أستحقّ أن يُتحدَّث إليّ هكذا؟»
«أنت تعلمين،» قال، «والآن دعاني أخرج من السّيّارة».
«كلّا، أبدًا،» كان ردّ برويز.
«لا تقلق، أنا من سيخرج،» قالت بيتينا.
«لا، لا تفعلي!» قال برويز، فتحت بيتينا الباب مع أنّ السّيّارة لم تزل تسير، رمت بنفسها وقطعت الشّارع راكضةً بعيدًا عنهما، ناداها برويز صارخًا مرّات عدّة، ولكنّها اختفت عن الأنظار.
عاد برويز بعليّ إلى البيت دون أن يقول له شيئًا؛ ذهب عليّ إلى غرفته مباشرة؛ لم يستطع برويز أن يقرأ الجريدة ولا أن يشاهد التّلفاز ولا حتّى أن يجلس، ظلّ يصبّ الشّراب لنفسه ويجرعه، زجاجة وراء زجاجة.
وأخيرًا ذهب إلى الدور العلويّ ومشى، ذهابًا وإيابًا، خارج غرفة عليّ؛ وعندما فتح الباب في النّهاية وجد عليًّا يصليّ؛ لم ينظر إليه الولد حتّى بلمحة خاطفة.
ركله برويز غير مرّة، ثمّ سحبه بقميصه وضربه، سقط الولد، ضربه برويز ثانيةً، دمى وجه الولد؛ كان برويز يلهث، كان يعرف أنّ كلّ ذلك لا ينال منه، إلّا أنّه واصل ضربه إيّاه؛ لم يدفعه الولد عنه ولا ردّ بشيء، ولا كان ثمّة خوف في وجهه، ولا زاد على أن قال بشفته المشقوقة، «من منّا المتطرّف إذن الآن؟»
ll ألف سنة من الصّلوات الطّيّبة
إيؤون لي(9)
إيؤون لي قاصّة وروائيّة أمريكيّة من أصل صينيّ، ولدت في بكّين عام 1972، وانتقلت إلى أمريكا عام 1996 للدراسة؛ نالت في عام 2005 مجموعتها القصصيّة «ألف سنة من الصّلوات الطيّبة» جائزة فرانك أوكونور العالميّة للقصّة القصيرة، وفي عام 2006 حصدت المجموعة ذاتها ثلاث جوائز: جائزة بين/همنغواي وجائزة الكتاب الأوّل للـ«جاردين» وجائزة كتاب كاليفورنيا.
* * * *
عالم صواريخ؛ هذا ما يخبر السّيّد شي به النّاس إن سألوه عن مهنته في الصّين؛ متقاعد؛ هذا ما يضيفه من التّواضع إن أنس منهم الدهشة؛ تعلّم السّيّد شي العبارة من امرأة في أثناء استراحة في رحلة له في ديترويت؛ فعند محاولته شرح عمله لها اضطرّ إلى الرسم، فإنجليزيّته عجزت عن إبلاغ مراده، «عالم صواريخ!» صرخت المرأة وهي تضحك بصوت عال.
النّاس الذين يلتقيهم في أمريكا ودودون أصلًا، ولكنّ البادي أنّهم عند معرفتهم ما مهنته يزدادون ودًّا؛ لذا يعجبه أن يكرّر الكلمتين إذا ما كان ذلك ممكنًا؛ مضى على زيارته لبنته في هذه البلدة في وسط غرب أمريكا خمسة أسابيع، تعرّف على عدد من الأشخاص في البلدة، فالأمّهات يلوحن له وهنّ يمشين بأطفالهنّ في العربات، وثمّة زوجان كبيران في السّنّ يحيّيانه دائمًا، يأتيان الحديقة ماسكًا أحدهما يد الآخر كلّ صباح السّاعة التّاسعة، هذا ببدلته وهذه بتنّورتها، يقفان له، يكلّمه الزّوج دائمًا، أمّا الزّوجة فكلّها ابتسامة؛ كما تأتيه امرأة تسكن في دار المتقاعدين التي يفصلها عنه مجمع سكنيّ واحد فقط، إيرانيّة الأصل، بالغة من العمر سبعة وسبعين عامًا، أكبر منه بعامين فقط؛ ومع أنّ كليهما لا يتحدّث إلّا قليلًا جدًّا من الإنجليزيّة فإنّهما لا إشكال لديهما في فهم أحدهما الآخر؛ لذا سرعان ما صارا صديقين.
«أمريكا بلد طيّب،» تقول عادةً، «يعملون الأولاد مال غني» .
الحقّ أنّ أمريكا فعلًا بلد طيّب، تعمل بنت السّيّد شي كأمينة مكتبة في قسم شرق آسيا في مكتبة الكلّيّة، وتكسب في السّنة الواحدة ما كان يكسبه في عشرين.
«بنتي، هي أيضًا عمل مال كثيرات جدًّا».
«أنا أمريكا أحبّ، طيّب بلد، لكلّ النّاس».
«نعم، نعم؛ عالم صواريخ أنا في الصّين، ولكن جدًّا فقير، عالم صواريخ، تعرفين؟» يقول السّيّد شي ويداه تصعدان على نحو حادّ.
«أنا أحبّ الصّين، بلد طيّب، عتيق جدًّا،» تقول المرأة.
«أمريكا بلد شابّ، مثل ناس شباب».
«أمريكا سعيد بلد».
«الشّبّان أكثر سعادةً من الكبار سنًّا،» يقول السّيّد شي، ثمّ يفطن إلى أنّ كلامه هذا كان استنتاجًا متعجّلًا، فهو الآن في هذه اللحظة أسعد من أيّ لحظة يذكرها ممّا مضى من حياته؛ والمرأة التي كانت أمامه، هذه التي تحبّ كلّ شيء سواء أكان ثمّة مبرّر أم لم يكن، تبدو سعيدة أيضًا.
تنفد ذخيرتهما من الإنجليزيّة أحيانًا، تتحوّل هذه إلى فارسيّة مختلطة ببعض كلمات إنجليزيّة، يجد هذا محادثتها بالصّينيّة صعبًا؛ تأخذ بزمام الأمور، تواصل الحديث منفردةً به لعشر دقائق أو عشرين؛ يومئ برأسه ويطلق ابتسامة وراء ابتسامة، لا يفهم جلّ ما تقوله، ولكنّه يشعر أنّ سرورها في التّحدّث إليه سروره في الاستماع إليها.
يبدأ السّيّد شي في التّوق إلى الصّباحات التي يجلس فيها في الحديقة منتظرًا إيّاها؛ «المدام» هي الكلمة التي يناديها بها، إذ لم يسألها عن اسمها قطّ؛ تلبس «المدام» ألوانًا يرى أنّها لا تتزيّن بها امرأة كانت في سنّها ولا امرأة أتت من حيث أتت هي، الأحمر والبرتقالي والأرجواني والأصفر؛ تحكم ربط شعرها بزوج من مشبكين معدنيّين، أحدهما على شكل فيل أبيض والآخر طاووس بلوني الأزرق والأخضر، يشبكان شعرها المنحسر على نحو غير ثابت يذكّره ببنته طفلةً صغيرةً- قبل أن ينمو شعرها كاملًا، مع فراشة بلاستيكيّة تتدلّى متهدّلة على جبهتها؛ يريد السّيّد شي للحظة أن يخبرها كم يشتاق للأيّام التي كانت فيها بنته صغيرة والحياة ملآنة بالأمل، ولكنّه على يقين قبل أن يبدأ أنّ إنجليزيّته ستحول دون تحقيق مسعاه، ثمّ إنّه ليس من دأبه أن يتكلّم عن ماضيه.
تأتي بنته في المساء، يعدّ شي العشاء، أخذ دروسًا في الطّبخ عقب وفاة زوجته قبل بضع سنوات، وظلّ منذ ذلك الحين يتعلّم فنّ الطّهي بالحماسة ذاتها التي تعلّم بها الرّياضيات والفيزياء عندما كان طالبًا جامعيًّا؛ «كلّ منّا مولود بمواهب أكثر ممّا يعرف،» يقول على وجبة العشاء، «لم أتخيّل قطّ أنّ للطّبخ موقعًا عندي، ولكن هأنذا أبلي بلاءً أحسن ممّا تخيّلت».
«نعم، رائع باهر جدًّا،» تقول بنته.
«وعلى النّحو ذاته،»- ينظر إلى بنته نظرة خاطفة- «توفّر لنا الحياة من أسباب السّعادة أكثر ممّا نعي، يجب علينا أن ندرّب أنفسنا للبحث عنها».
لا تردّ بنته، ورغم افتخاره بطبخه وبما تغدق عليه بنته من مديح فإنّها لا تأكل من أكله إلّا الأقلّ القليل، وإن فعلت كان ذلك من باب تأدية الواجب ليس إلّا؛ يقلقه أن يرى أنّها غير متحمّسة للحياة الحماسة التي ينبغي لها؛ لها أسبابها، لا ريب، فقد تطلّقت مؤخّرًا بعد زواج طال سبع سنين، وذهب صهره السّابق إلى بكّين للأبد بعد الطّلاق؛ لا يعرف السّيّد شي ما الذي ذهب بسفينة زواجهما وصدمها بصخرة مختفية، ولكن أيًّا كان السّبب فإنّه لا يمكن أن يكون خطأها؛ فقد خلقت لتكون أمًّا جيّدة، لها صوت رقيق وقلب رؤوف، مطيعة، بهيّة المحيا، نسخة مصغّرة من أمّها؛ عندما اتّصلت به بنته تخبره عن طلاقها ظنّ السّيّد شي أنّها في ألم لا يمكن التّخفيف منه؛ فطلب منها أن يأتيها إلى أمريكا لمواساتها ومساعدتها على تجاوز مصابها، رفضت، بدأ يتّصل بها يوميًّا، يرجوها ويناشدها، صارفًا راتب تقاعد شهر كامل على فاتورة المكالمات الطّويلة المسافة؛ وافقت أخيرًا عندما أعلن لها أنّ أمنيته في حفل ميلاده الخامس والسّبعين أن يرى أمريكا؛ كذبًا كان كلامه هذا، ولكن الكذب كان سببًا مقنعًا؛ فأمريكا تستحقّ أن تُرَى، بل إنّ أمريكا ستجعله شخصًا جديدًا: عالمًا للصّواريخ، محادثًا لبقًا، أبًا حنونًا، رجلًا سعيدًا.
كان من بنته إذا تعشّت أمران: إمّا أن تذهب إلى غرفتها لتقرأ فيها وحدها، وإمّا أن تخرج بسيّارتها وترجع في وقت متأخّر من الليل؛ يسألها السّيّد شي إن كان له أن يذهب معها، يرافقها لمشاهدة الأفلام التي يتخيّل أنّها تشاهدها وحيدةً، إلّا أنّها ترفض بأدب ولكن بصرامة؛ من المؤكّد أنّه لا يليق بامرأة، ولا سيّما إن كانت مولعة بالتأمّل مثل بنته، أن تقضي وقتًا طويلًا جدًّا خارج البيت؛ يبدأ بالكلام ويكثر منه ليعالج وحدتها، فيسألها عمّا لا يراه من حياتها، فيقول لها، كيف كان يومها في العمل؟ جميل، تردّ مجيبة؛ لا يثبطه ردّها الفاتر، فيسألها عمّن تعمل معهم، أأكثرهم إناث أم ذكور؟ كم أعمارهم؟ وإن كانوا متزوّجين ألديهم أطفال؟ بم تتغدّى؟ وهل تتغدّى وحدها؟ يسألها عن جهاز حاسوبها والكتب التي تقرؤها، عن زملائها القدامى في المدرسة، عن الأشخاص الذين يظنّ أنّها لم تعد تحادثهم خجلًا من الطّلاق، يسألها عمّا تخطّط لمستقبلها آملًا أن تقدر خطورة وضعها وضرورة معالجته عاجلًا؛ فالنّساء في سنّ زواجهنّ عند بلوغهنّ العشرين أو أوائل الثّلاثين مثل ليتشية(10) قطفت من الشّجرة، كلّ يوم يمرّ عليهنّ يجعلهنّ أقلّ طراوةً وأوهى جذبًا، ثمّ إنْ هي إلّا أيّام بل سويعات، حتّى يفقدن قيمتهنّ، فيُتخلَّص منهنّ بسعر التّصفية.
يعلم السّيّد شي من القدر ما يكفيه لئلّا يذكر سعر التّصفية، ولكنّه لا يسعه إلّا أن يقدّم محاضرة فيما للحياة من فائدة وثمرة، وكلّما أكثر الكلام زاد إعجابه بنفسه صابرًا حليمًا؛ إلّا أنّ بنته لا تتحسّن، وإنّما تقل كلّ يوم وزنًا وتزداد صمتًا؛ وعندما لا يجد بدًّا من أن يقول لها إنّها لا تستمتع بحياتها كما ينبغي لها تردّ عليه، «وكيف لك أن تخلص إلى هذا؟ فأنا أستمتع بحياتي جيّدًا».
«ولكن هذا كذب ليس إلّا، فالإنسان السّعيد لن يكون هادئًا هكذا أبدًا».
ترفع رأسها من صحن الأرز، «بابا، أنت فيما مضى كنت صامتًا شديد الصّمت، تذكر ذلك؟ ألم تكن سعيدًا حينها؟»
ولما كان السّيّد شي غير مهيّأ لصراحة وجرأة كهذه كان غير قادر على الرّدّ؛ ينتظر منها أن تعتذر إليه وتغيّر الموضوع، كما يفعل النّاس ذوو الأخلاق الحميدة عند إدراكهم أنّهم إنّما يحرجون الآخرين بأسئلتهم؛ ولكنّها لا تدعه يفلت منها، فعيناها المفتوحتان تمامًا الشّديدتا الصّرامة خلف النظّارة تذكّرانه بها صغيرةً، فعندما كانت في الرّابعة أو الخامسة من عمرها كانت تلاحقه في كلّ لحظة ممكنة وتلقي عليه أسئلة وتطالبه بأجوبة؛ كما ذكّرته عيناها بأمّها، ففي مرحلة ما من زواجهما كانت تحملق إليه بالنّظرة السّؤولة هذه منتظرةً منه جوابًا لم يمتلكه.
يتنهّد، «لا شكّ أنّي كنت دائمًا سعيدًا».
«أرأيت، بابا؟ هذا ما كنت أرمي إليه، فالمرء منّا يمكن له أن يكون سعيدًا وهادئًا في آن واحد، أليس كذلك؟»
«لمَ لا تتحدّثين إليّ عن سعادتك؟» يقول السّيّد شي، «كلّميني أكثر عن عملك».
«أنت لم تتحدّث عن عملك أيضًا، أتذكر ذلك؟ حتّى عندما كنت أسأل».
«عالم صواريخ، تعرفين كيف كان الأمر، فعملي كان سرّيًّا».
«أنت لم تتحدّث كثيرًا عن أيّ شيء،» تقول بنته.
يفتح السّيّد شي فاه، ولكنّه لا يرى كلمات تخرج منه، وبعد لحظة طويلة يقول، «أنا أتحدّث الآن أكثر ممّا مضى، أنا أتحسّن، أليس كذلك؟»
«بلى، بالطبع،» تقول بنته.
«هذا ما تحتاجين إليه أنت، تحدّثي أكثر،» يقول السّيّد شي، «وابدئي الآن».
إلّا أنّ بنته تبدي حماسة أقلّ ممّا كان يتوقّع، تنهي الأكل بسرعة بهدوئها المعتاد وتغادر الشّقّة قبل أن ينتهي هو من أكله.
يقرّ السّيّد شي للمدام في الصّباح التّالي، «البنت، إنّها ليست سعيدة».
«بنت، شيء جميل أن تكون لك بنت،» تقول المدام.
«إنّها مطلّقة».
تهزّ المدام رأسها، وتبدأ الحديث بالفارسيّة، السّيّد شي على غير يقين إن كانت المدام تعي ما يعنيه الطّلاق، فامرأة كان حبّها للحياة بهذه الجسارة لا بدّ وأن جنّبها زوجها وربّما أولادها كلّ مكروه في الحياة؛ ينظر السّيّد شي إلى المدام ووجهها أناره كلامها وضحكها، فيكاد يحسدها على حيويّتها، تلك التي تفتقر إليها بنته الأصغر منها بأربعين عامًا؛ تلبس المدام اليوم تنّورة برتقاليّة ساطعة بصور قردة أرجوانيّة اللون تتشقلب وتكشّر عن أسنانها، وعلى رأسها لحاف بالنّقش نفسه، امرأة شرّدت عن موطنها، ولكنّها سعيدة، لا ريب، بتشرّدها؛ يحاول السّيّد شي أن يتذكّر ما يعرفه عن إيران وعن تاريخها الحديث؛ كلّ ما يستطيع أن يخلص إليه، من القليل الذي يعرفه، هو أنّها لا بدّ أن تكون امرأة سعيدة الحظّ؛ محظوظ هو أيضًا، مع كلّ وجوه النّقص، صغيرها وكبيرها؛ كم رائع، يفكّر السّيّد شي، أنّ تسنح له وللمدام، كليهما من عالم مختلف ويتكلّم لغة مختلفة، هذه السّانحة ليجلسا ويتكلّما تحت شمس الخريف الدّافئة.
«نحن نقول في الصّين Xiu bai shi ke tong zhou» يقول السّيّد شي عند توقّف المدام عن الكلام؛ يحتاج المرء إلى صلوات ثلاثمائة سنة حتّى تتاح له فرصة عبور نهر مع أحدهم في القارب نفسه؛ يفكّر في شرح ذلك للمدام باللغة الإنجليزيّة، ولكن ما الفرق بين اللغات في كلّ الأحوال؟ فالمدام ستفهمه مع الترجمة أو دونها، «ولمّا نرانا قد التقينا هنا وتكلّمنا- فلا بدّ أنّ الأمر قد تحقّق بعد مدّة طويلة من الصّلوات الطيّبة،» يقول للمدام بالصّينيّة.
تبتسم المدام مبديةً موافقتها.
«ثمّة سبب لكلّ علاقة، هذا معنى المثل؛ الزّوج والزّوجة، الآباء والأبناء، الأصدقاء والأعداء، والغرباء الذين تلتقينهم على حين غرّة في الطّريق؛ يتطلّب الأمر صلوات ثلاثة آلاف سنة من أن تضعي رأسك مع رأس من تحبّين على الوسادة؛ أمّا الأب والبنت؟ ألف سنة؛ ربّما، فالنّاس لا ينتهي بهم المطاف أن يكونوا آباءً ولا بناتًا هكذا من غير سبب؛ هذا أمر لا ريب فيه؛ أمّا بنتي فهي لا تفهم ذلك، أغلب الظّنّ أنّها تراني مزعجًا، وتفضّل أن أصمت. لأنّها هكذا رأتني دائمًا، لا تفهم أنّي لم أتكلّم معها ولا مع أمّها كثيرًا لأنّي كنت عالم صواريخ عندئذ، كلّ شيء كان سرّيًّا، نحن عملنا طيلة الوقت، وعندما حلّ المساء أتى حرّاس الأمن وأخذوا منّا جميع كرّاساتنا وأوراقنا، ووقّعنا على حافظات الأرشيف؛ هذا كان عمل اليوم بأكمله؛ لم يؤذن لنا قطّ أن نخبر أهالينا عن عملنا، فقد دُرِّبنا على ألّا نتحدّث».
المدام كلّها آذان مصغية، يداها على قلبها، لم يجلس السّيّد شي قطّ بهذا القرب من أيّ امرأة كانت في سنّه منذ وفاة زوجته، وحتّى عندما كانت زوجته حيّة لم يتحدّث إليها هكذا قطّ؛ يشعر بأنّ عينيه ثقيلتان، تخيّلي أنّه يسافر نصف العالم قاصدًا بنته، ساعيًا إلى تعويضها ما حرمها منه من كلام عندما كانت في سنّ أصغر، فلا يلقاها إلّا غير مبالية بكلماته؛ تخيّلي، مدام، أنّ غريبًا لا يعرف لغته يستمع إليه ويفهمه أكثر منها؛ يمسّد السّيّد شي عينيه بإبهاميه، لا يجب على رجل في سنّه أن يطلق العنان لمشاعر غير صحّيّة، يأخذ أنفاسًا طويلة، ويضحك قليلًا، «لا ريب أنّ ثمّة أسبابًا لعلاقة سيّئة أيضًا- لا بدّ وأنّي صلّيت فاتر الهمّة لألف سنة لأجل البنت».
تهزّ المدام رأسها بكلّ وقار، إنّها تفهمه، يدرك السّيّد شي ذلك، ولكنّه لا يريد أن يثقل كاهلها بهمّه غير المهمّ؛ يحكّ يديه كأنّما يريد أن ينفض عنهما غبار الذّكريات، «الحكايات القديمة،» يقول بأحسن ما لديه من إنجليزيّة، «الحكايات القديمة ليست مثيرة».
«أنا أحبّ الحكايات،» تقول المدام وتبدأ في الكلام؛ ينصت السّيّد شي بينما هي تبتسم طيلة الوقت؛ ينظر إلى القردة المكشّرة عن أسنانها في رأسها وهي تتمايل صعودًا وهبوطًا عندما تبدأ في ضحكة صاخبة.
«محظوظون نحن،» يقول بعد أن تنتهي من محادثتها، «ففي أمريكا بإمكاننا أن نتكلّم عن أيّ شيء».
«أمريكا طيّب بلد،» تهزّ المدام رأسها موافقة، «أنا أحبّ أمريكا».
قال السّيّد شي في ذلك المساء لبنته، «التقيت هذه المرأة الإيرانيّة في الحديقة، أرأيتها أنت؟»
«كلّا».
«ينبغي لك أن تلتقيها يومًا ما، إنّها متفائلة كثيرًا، قد تجدينها مصدر إلهام لك للوضع الذي أنت فيه».
«أيّ وضع أنا الذي فيه؟» تسأل بنته دون أن ترفع عينيها عن طعامها.
«أخبريني أنت،» يقول السّيّد شي، عندما لا تأتي بنته بشيء يواصلان به محادثتهما، «أنت تمرّين بوقت مظلم».
«كيف لك أن تعرف أنّها ستنير طريقي في الحياة؟»
يفتح السّيّد شي فاه، ولكنّه يعجز عن أن يجد جوابًا، يخاف إن شرح لها أنّه والمدام يتكلّمان لغتين مختلفتين فإنّ بنته ستفكّر فيه رجلًا وهن عقله من الكبر؛ ما ائتلف مع المنطق في وقت ما بدا فجأةً منافيًا له من زاوية أخرى؛ تحبط بنته أمله فيها، بنته التي يشاركها اللغة ولكنّه لم يعد قادرًا على أن يشاركها لحظة عزيزة عليه؛ يقول بعد توقّف طويل من الكلام، «حسنًا، لا ينبغي للمرأة أن تسأل أسئلة مباشرة كسؤالك هذا؛ المرأة الصّالحة تراعي الآخرين وتعرف كيف تكلّمهم، وتجعلهم يتكلّمون».
«أنا مطلّقة؛ إذن فأنا لست، لا شكّ، امرأة صالحة حسب رؤيتك».
لا يعير السّيّد شي كلام بنته هذا أيّ اهتمام، ظانًّا أنّها تتهكّم به من غير وجه حقّ، ولا تبدي له أيّ احترام، «كانت أمّك نموذجًا للمرأة الصّالحة».
«وهل نجحت في جعلك تتحدّث؟» تسأله بنته وعيناها في عينيه وتبدوان أشدّ افتراسًا ممّا يعرف عنهما.
«لم تكن أمّك هكذا قطّ، لم تكن تحبّ التّحدّي والمواجهة».
«بابا، أنت أوّلًا اتّهمتني أنّي شديدة الصّمت، فبدأت أتكلّم، وها أنت تقول الآن إنّ طريقة كلامي خاطئة».
«لا يقتصر الكلام على أن تسألي فقط، الكلام يعني أن تخبري النّاس كيف تشعرين تجاههم وتشجّعيهم على أن يخبروك كيف يشعرون تجاهك».
«بابا، منذ متى صرت إخصّائيًّا؟»
«أنا هنا لمساعدتك، وأنا أبذل قصارى جهدي،» يقول السّيّد شي، «أنا لا بدّ لي أن أعرف لم انتهى بك المطاف إلى الطّلاق، لا بدّ لي أن أعرف أين مكمن الخطأ، وكيف لي أن أساعدك في الحصول على الشّخص الأنسب لك زوجًا في المرّة القادمة؛ أنت بنتي، وأنا أريدك أن تكوني سعيدة، لا أريدك أن تلدغي من جحر واحد مرّتين».
«بابا، لم أسألك من قبل، ولكن كم تنوي البقاء في أمريكا؟» تسأل بنته.
«حتّى تتعافي».
تقف بنته، تصرّ سيقان الكرسيّ كاشطةً الأرضية.
«نحن، الاثنين، العائلة الوحيدة الآن لكلينا،» يقول السّيّد شي كأنّما يناشدها، ولكنّ بنته تغلق باب غرفة نومها قبل أن يقول المزيد؛ ينظر السّيّد شي إلى الصّحون التي بدا أنّ بنته لم تقترب منها؛ مكعّبات أكلة «توفو» المقليّة محشوّة بفطر مفروم والروبيان والزنجبيل وتشكيلة من براعم نبات الخيزران، والفلفل الأحمر، والبازلّاء؛ مع أنّ بنته تمدح طبخه كلّ مساء فإنّه يشعر بفتور ذلك المدح؛ لا تعرف أنّ الطبخ صار صلاته، وهي لا تستجيب لصلاته.
«لو كانت زوجتي حيّة لأبلت بلاءً حسنًا في بثّ شعور البهجة والسّرور في نفس البنت،» يقول السّيّد شي للمدام في صباح اليوم التّالي؛ يطمئنّ أكثر إلى محادثتها بالصّينيّة، فيسترسل قائلًا، «كانتا قريبتين جدًّا لبعضهما؛ لا يعني ذلك أنّي لم أكن قريبًا منهما، كنت أحبّهما كثيرًا وأعزّهما؛ ولكنّك إن كنت عالم صواريخ فإنّ هذا لا بدّ منه؛ كنت أقضي نهاري في العمل وليلي في التّفكير فيه، كان كلّ شيء سرّيًا، لذا لم أستطع مشاركة أسرتي ما كنت أفكّر فيه؛ ولكنّ الزّوجة، كانت الزّوجة أكثر النّاس فهمًا وتقديرًا لي في العالم كلّه، كانت تعرف أنّي كنت مشغولًا بعملي، فلم تكن تقطع حبل أفكاري، ولا كانت تدع البنت تزعجني؛ أعرف الآن أنّ ذلك لم يكن أمرًا صحّيًّا للبنت، كان ينبغي لي ألّا آتي بنفسي العاملة إلى البيت، كنت شابًّا، لم أفهم ذلك؛ والآن البنت، ليس لديها أيّ شيء تقوله لي».
حقًّا، كان خطأه ألّا يعوّد نفسه على الحديث مع بنته، ولكنّه يبرّر نفسه هكذا: في وقته ذاك، رجل مثله، مصطفًى من القلّة القليلة للعمل على قضيّة نبيلة، كان لا بدّ له أن يرجح عمله على أهله، أمر مشرّف ومحزن، ولكن شرفه أنبل من حزنه.
تخبره بنته على طاولة العشاء في ذلك المساء أنّها وجدت شركة سياحيّة تتحدّث بالصّينيّة تنظّم رحلات إلى ’السّاحل الشّرقيّ‘ و’السّاحل الغربي،‘ «أنت هنا لتلقي نظرة على أمريكا؛ لذا أرى أن تذهب في جولات سياحيّة قبل قدوم الشّتاء، هذا أفضل شيء يمكنك فعله».
«أهي مكلفة؟»
«أنا سأدفع، بابا، فهذا ما أردته لعيد ميلادك، أليس كذلك؟»
إنّها بنته في نهاية المطاف، تذكر أمنيته وتودّ تحقيقها، ولكنّ الشيء الذي لا تفهمه أنّ أمريكا التي يريد هي البلد الذي تعيش فيه بنته حياة زوجيّة سعيدة؛ غَرَف لها شيئًا من الخضار والسّمك ووضعه في طبقها، «عليك أن تأكلي المزيد،» يقول لها بصوت حنون.
«إذن سأتّصل بهم يوم غد وأحجز لك الجولات».
«لا أخفي عليك أنّي أرجّح أنّ بقائي هنا فيه خير لي، فأنا رجل كبير في السّنّ الآن، لم تعد لي قوّة كبيرة للذهاب في جولات سياحيّة».
«ولكنّك لن تجد هنا كثيرًا ممّا يثير النّظر».
«لمَ لا؟ هذه هي أمريكا التي أحببت أن أرى؛ لا تقلقي؛ فأنا لديّ أصدقائي هنا، لن أسبّب لك كثيرًا من الإزعاج».
يرنّ الهاتف قبل أن تجيب عليه بنته، تردّ على الهاتف وتذهب تلقائيًّا إلى غرفة نومها، ينتظر خبطة الباب القويّة، لا تردّ أمامه إطلاقًا على الهاتف حتّى لو كان المتّصل شخصًا غريبًا يريدها أن تشتري بضاعة له عبر الهاتف؛ وقد جاءتها مكالمة قبل بضعة أسابيع، فتحدّثت بصوت خافت ولمدّة أطول من المعتاد؛ كان عليه أن يجتهد لئلّا يضع أذنه على الباب ويستمع؛ ولكنّ البادي أنّ لديها أفكارًا أخرى هذا المساء، فقد تركت باب غرفة نومها مفتوحًا.
يسمعها تتحدّث في الهاتف بالإنجليزيّة، كان صوتها أحدّ ممّا عهده، فهي عادة ما تتحدّث بسرعة وتضحك، لا يفهم كلماتها، ولكنّ الأدهى أنّه لا يفهم سلوكها؛ فصوتها، صوتها الحادّ كثيرًا، العالي كثيرًا، الوقح كثيرًا، بغيض غاية البغض لأذنيه، حتّى أنّه يشعر في لحظة كأنّما يلمح اتّفاقًا جسدها عاريًا، كأنّما يرى شخصًا غريبًا كلّ الغرابة لا البنت التي يعرفها.
يرمقها عند خروجها من غرفتها؛ تعيد وضع سمّاعة الهاتف، تجلس على الطّاولة دون أن تقول كلمة؛ يرقب وجهها للحظة ثمّ يسألها، «مع من كنت تتحدّثين بالهاتف؟»
«صديق».
«صديق أم صديقة؟»
«صديق».
ينتظر منها مزيدًا من الشّرح، ولكن البادي أنّها لا تنوي شيئًا كهذا، وبعد لحظات يقول لها، «هذا الرّجل- أهو صديق خاصّ؟»
«خاصّ؟ نعم، بالطّبع».
«كم ’خاصّ‘ هو؟»
«بابا، ربّما يقلّل هذا من قلقك عليّ- نعم هو خاصّ جدًّا، أكثر من صديق،» تقول بنته، «إنه عشيقي، أيعطيك ذلك سببًا تطمئنّ به أكثر؛ فحياتي، إذن، ليس بتلك التّعاسة التي ظننت».
«أهو أمريكيّ؟»
«إنّه أمريكيّ الآن، ولكنّه أصلًا من رومانيا».
إذن فقد ترعرع الرّجل، أقلّه، في مجتمع اشتراكيّ؛ يفكّر السّيّد شي محاولًا أن ينظر إلى الأمر نظرة تبعث على التّفاؤل، «أتعرفينه جيّدًا؟ أيفهمك- من أين أنت وما ثقافتك- حسنًا؟ تذكّري لا يمكنك أن ترتكبي الغلطة ذاتها مرّتين، عليك أن تكوني هذه المرّة حذرة غاية الحذر».
«نحن يعرف أحدنا الآخر منذ وقت طويل».
«وقت طويل؟ الشّهر ليس بوقت طويل!»
«أطول من ذلك، بابا».
«شهر ونصف شهر على أكثر تقدير، أليس كذلك؟ اسمعي، أعرف أنّك تتألّمين، ولكن يجب على المرأة ألّا تندفع كثيرًا، ولا سيّما إذا ما كانت في وضعك أنت؛ النّساء المهجورات- إنّهنّ يخطئن كثيرًا في وحدتهنّ».
ترفع بنته رأسها وتنظر إلى الأعلى، «بابا، لم يكن زواجي كما تظنّ أنت، فأنا لم أُهجَر».
ينظر السّيّد شي إلى بنته، لها عينان ناصعتان بالصّراحة والتّصميم، يكاد يريد منها في لحظة أن تعفيه عن مزيد من التّفاصيل؛ ولكن مثل بقيّة النّاس، إن بدأت بالكلام عجز عن إيقافها؛ «بابا، نحن تطلّقنا بسبب هذا الرّجل؛ أنا من هجره، إذا أردت استخدام هذه الكلمة».
«ولكن لماذا؟»
«تحدث أشياء تعكّر الحياة الزوجيّة، بابا».
«’تكفي للزّوجين ليلة واحدة في السّرير ليحبّ أحدهما الآخر لمائة عام.‘ أنتما كنتما
متزوّجين لسبع سنين! كيف لك أن تفعلي ذلك بزوجك؟ ما الإشكال الذي واجهتماه، إلى
جانب علاقتك الصّغيرة هذه وأنت متزوّجة؟» أن تكون بنته زوجةً غير وفيّة بعد تربيته لها
كان آخر ما يمكن أن يخطر بباله.
«لا ضرورة للحديث في هذا الأمر الآن».
«أنا أبوك، ولي الحقّ أن أعرف،» يقول السّيّد شي وهو يخبط الطّاولة بيده.
«كان إشكالنا أنّي لم أتحدّث كفايةً لأجل زوجي، كان في شكّ دائم بسبب صمتي،
فظنّ أنّي إنّما أخفي شيئًا منه».
«كنت تخفين عشيقًا منه».
تتجاهل بنت السّيّد شي كلامه هذا، «كلّما ألحّ في سؤاله لي أن أتكلّم ازددت رغبةً أن أصمت أكثر وأكون وحدي؛ أنا لا أجيد الكلام، كما ذكرت أنت».
«ولكن هذا كذب، فقد تكلّمت توًّا بالهاتف بوقاحة لا تصدّق! أنت تكلّمت وضحكت مثلما تفعل عاهرة!»
تنظر بنت السّيّد شي، مصعوقةً بحدّة كلامه وفورة غضبه، إليه طويلا قبل أن تجيب بصوت أنعم، «الأمر مختلف، بابا، نحن نتحدّث بالإنجليزيّة، وهذا أسهل عليّ، فأنا لا أجيد الصّينيّة».
«هذا عذر سخيف!»
«بابا، إذا نشأت وتربّيت على لغة لم تعبّر بها قطّ عن مشاعرك كان الأسهل أن تتبنّى لغة أخرى وتتكلّم فيها أكثر، إنّها تجعلك شخصًا آخر».
«أأنت تلومينني وأمّك على زناك؟»
«أنا لم أقل ذلك، بابا».
«ولكن أليس هذا ما قصدته؟ نحن لم نحسن صنعًا عندما ربّيناك على الصّينيّة، فقرّرت أن تجدي لك لغة أخرى وعشيقًا آخر بعدما وجدت نفسك غير قادرة على التّحدّث إلى زوجك بأمانة عن زواجكما».
«أنت لم تتحدّث قطّ، أمّي لم تتحدّث قطّ، عند معرفتكما أن ثمّة إشكالًا في حياتكما الزّوجيّة؛ وأنا تعلّمت ألّا أتكلّم».
«لم يكن ثمّة إشكال بيني وبين أمّك، وإنّما كان كلانا صموتًا من حيث الطّبع».
«ولكن هذا كذب!»
«كلّا، ليس كذبًا، أعرف أنّي أخطأت عندما كنت شديد الانشغال دائمًا بعملي، ولكن عليك أن تفهمي أنّي كنت قليل الكلام بسبب مهنتي».
«بابا،» تقول بنت السّيّد شي وفي عينيها شفقة، «أنت تعرف أنّ هذه أيضًا كذبة، فأنت لم تكن عالم صواريخ قطّ؛ أمّي كانت تعرف ذلك، أنا كنت أعرف، النّاس كلّهم كانوا يعرفون».
يحملق السّيّد شي إلى بنته وقتًا طويلًا، «لم أفهم ما تعنين».
«ولكنّك تعلم، يا بابا، أنت لم تتكلّم قطّ عمّا كنت تفعل في مكان عملك، هذا صحيح، ولكن النّاس الآخرين- النّاس تكلّموا عنك».
يحاول السّيّد شي أن يجد كلمات يدافع بها عن نفسه، ولكنّ شفتيه ترتجفان دون أن تحدثا صوتًا.
تقول بنته، «أنا آسفة، بابا، لم أقصد إيذاءك».
يأخذ السّيّد شي أنفاسًا طويلة ويسعى إلى ربط جأشه وحفظ كرامته؛ فالأمر ليس بالصّعب، فقد كان هذا دأبه طيلة حياته: أن يظلّ هادئًا في وجه المصاعب؛ «أنت لم تؤذيني، وإنّما كنت، كما قلت، تقولين ما هو حقّ؛» يقول ذلك ويقوم، وقبل أن يعود إلى غرفة النّوم الخاصّة بالضّيوف تناديه وتقول بصوت خافت، «بابا، سأحجز لك غدًا الجولات السّياحيّة».
يجلس السّيّد شي في الحديقة منتظرًا المدام ليودّعها، فقد طلب من بنته أن تدبّر له أمر سفره من سان فرانسيسكو بعد عودته من جولاته السّياحيّة في أمريكا، سيبقى له من الوقت قبل مغادرته أسبوع كامل، ولكن ليس لديه الشّجاعة ليتكلّم مع المدام إلّا مرّةً واحدةً أخيرة فقط، ليوضح لها ما قال لها من أكاذيب حول نفسه؛ لم يكن عالم صواريخ، كان قد درّب أن يكون، وقد كان فعلًا لثلاث سنوات من الثّماني والثّلاثين سنةً قضاها في المؤسّسة؛ من الشّاقّ جدًّا لشابّ أن يظلّ صامتًا بشأن عمله، يتدرّب السّيّد شي على قول ذلك في ذهنه؛ عالم صواريخ شابّ، فخر كهذا، مجد كهذا، أنت أردت أن تشارك شخصًا الإثارة والحماسة وحسب.
كان من أراد مشاركته إحساسه- قبل اثنين وأربعين عامًا- تلك البنت- ذات الخمسة وعشرين عامًا- التي كانت تعمل عنده على ماكنة التخريم، «المخرّمون،» كما كان يطلق عليهم في تلك الأيّام، أولئك الذين حلّت محلّ مهنتهم منذ مدّة طويلة أجهزة الحاسوب الأكثر تقدّمًا؛ يفتقد السّيّد شي من كلّ ما اختفى من حياته أكثر ما يفتقد مخرّمته؛ «الاسم ييلان،» يطلق السّيّد شي كلامه هذا في الهواء بصوت عال؛ وشخص ما يحيّي الاسم بالسّرور والابتهاج؛ تمشي إليه المدام بسلّة من أوراق نبتة خريفيّة، تلتقط واحدة منها وتسلّمها إلى السّيّد شي، وتقول، «جميلة».
يفحص السّيّد شي الورقة، عروقها حتّى أشدّ أغصانها صغرًا والظّلال المتفاوتة للأصفر والبرتقالي؛ لم يحدث قطّ أن رأى العالم مفصَّلًا هكذا، يحاول أن يتذكّر الأطراف الرّقيقة والألوان الباهتة التي تعوّد رؤيتها؛ إلّا أنّه، مثل مريض يعاني إعتام عدسة العين، يجد كلّ شيء حادًّا ومضاءً، مروّعًا ولكن ساحرًا جاذبًا؛ «أريد أن أخبرك بشيء،» يقول السّيّد شي بينما يتهلّل وجه المدام بابتسامة مشرقة تائقة؛ يغيّر السّيّد شي مكانه في الدّكّة ويقول بالإنجليزية، «لم أكن عالم صواريخ».
تومئ المدام برأسها بثبات، ينظر إليها السّيّد شي، ثم يصرف النّظر عنها، «لم أكن عالم صواريخ بسبب امرأة؛ الشّيء الوحيد الذي فعلناه كان الكلام؛ لا عيب في الكلام، قد تظنّين، ولكن لا، الكلام بين رجل متزوّج وفتاة غير متزوّجة لم يكن مقبولًا، هكذا كئيبًا كان عالمنا في ذلك الوقت؛» نعم «كئيب» هي الكلمة الأنسب، وليست الـ»مجنون،» كما يقول الشّبّان عند حديثهم عن ذلك الوقت؛ «يريد المرء منّا أن يتحدّث دائمًا، حتّى لو كان الصّمت جزءًا من تدريبنا؛» الكلام، هذا الشّيء العامّ الفطري، فلننظر كم أدمنه النّاس! بدأ كلامهما من استراحة الخمس الدقائق في المكتب، ثمّ جلسا لاحقًا في المقهى وتكلّما طيلة استراحة الغداء، تكلّما عن أملهما وحماستهما للتّاريخ العظيم الذي كانا يشاركان فيه، تاريخ صنع أوّل صاروخ لأمّهم الشّيوعيّة الشّابّة.
«وإذا ما بدأت بالكلام تكلّمت أكثر فأكثر؛ كان الأمر مختلفًا عن الذّهاب إلى البيت والكلام مع زوجتك، إذ لم تكن ثمّة ضرورة لإخفاء أيّ شيء، تحدّث كلانا عن حياته بالطّبع؛ الكلام مثل ركوب حصان غير ملجوم، لا تعرفين أين ينتهي بك المطاف، ولا تجدين نفسك مضطرّة إلى أن تفكّري فيما يؤول إليه أمرك؛ هكذا كان كلامنا؛ ولكن لم تكن بيننا علاقة غرام مثلما قالوا؛ لم يقع أحدنا في حبّ الآخر قطّ». يقول السّيّد شي، ثمّ يشعر في لحظة أنّه مشوّش البال بشأن كلماته؛ أيّ نوع من الحبّ هذا الذي يتكلّم عنه؟ لا ريب أنّهما كان يحبّ أحدهما الآخر، ولكن لم يكن حبّهما على نحو ما ظنّوا شاكّين- فقد أبعد نفسه عنها بعدًا دلّ على تقيّده بالحدود واحترامه لها؛ لم تلتقِ أيدهما قطّ لمسًا- كان حبًّا تكلّما به بحرّيّة، حبًّا التقت به روحاهما- ألم يكن هذا حبًّا أيضًا؟ ألم تنهِ هكذا بنته زواجها، بسبب كلّ ذلك الكلام مع رجل آخر؟ يغيّر السّيّد شي مكانه من المقعد، ويبدأ بالتّعرّق رغم نسيم أكتوبر البارد؛ أصرّ أنّهما كانا بريئين عندما اتّهما بأنّ غرامًا كان بينهما، طالب بإعادة النّظر في قضيّتها عند إرسالها إلى بلدة قرويّة؛ وُعِد ببقائه في منصبه على أن يقرّ بغرامه على الملأ، وينتقد نفسه على فعلته؛ رفض مؤمنًا بأنّه إجحاف بحقّه، «لم أعد بعد الثّالث والثّلاثين من عمري عالم صواريخ؛ لم أشارك قطّ في أيّ بحث أو دراسة بعد ذلك؛ ولكن كلّ شيء في العمل كان سرّيًّا، فلم تعرف زوجتي؛» أقلّه هذا ما كان يظنّه حتّى البارحة؛ عيّن في أدنى منصب كان يمكن أن يعيّن فيه رجل بخبرته- زيّن المكاتب في أيّام حفل ميلاد الزّعيم مايو والحزب الشّيوعي، نقل الأوراق والكرّاسات في عربة ذات عجلات من مجموعة بحثيّة إلى أخرى، جمع أوراق وكرّاسات زملائه في المساء، سجلّها بأسمائهم، ووضعها في خزانة الملفّات بحضور اثنين من حرّاس الأمن؛ حافظ على كرامته في العمل، ذهب إلى بيته بشخصيّة عالم صواريخ مشغول فكرًا بعمله، التفت عن الأسئلة التي كانت في عيني زوجته حتّى اختفت في أحد الأيّام؛ شاهد بنته تكبر، وكان شأنها شأن أمّها، هادئة متفهّمة، بنت طيّبة، امرأة طيّبة؛ اثنان وثلاثون؛ عمل مع اثنين وثلاثين حارسًا خلال عمله، رجال في مقتبل أعمارهم في زيّ العمل، يحملون على أحزمتهم حافظات سلاح خالية، ولكنّ الحراب على بنادقهم كانت حقيقيّة.
ولكن لم يكن لديه في كلّ الأحوال خيار آخر، القرار الذي اتّخذه- ألم يكن من باب الوفاء لزوجته وللمرأة الأخرى؟ كيف كان له أن يقرّ بعلاقة الغرام ويؤذي زوجته الطيّبة ليبقى عالم صواريخ أنانيًّا- أو، الخيار الأبعد احتمالًا، يتخلّى عن مهنته وزوجته وبنته البالغة من العمر عامين من أجل رغبة لم تكن بذاك القدر من الوقار ولا الهيبة، رغبة الحياة مع امرأة أخرى؟ «ما نضحّي به هو ما يجعل الحياة ذات هدف ومعنًى،»- يقول السّيّد شي الجملة التي طالما ردّدت في تدريبهم، يهزّ رأسه بقوّة، إن عشت في بلد أجنبيّ أعطاك أفكارًا غريبة عنك؛ يتفكّر؛ ليس صحّيًّا لرجل في عمره أن يتفكّر طويلًا وينبش ذاكرته، فالرّجل الصّالح عليه أن يعيش في اللحظة التي فيها؛ يعيش مع المدام، الصّديقة العزيزة التي تجلس الآن جنبه على المقعد وترفع له يدها ماسكةً في الشّمس المشرقة ورقة شجرة جنكو(11) بلون ذهبيّ كان آية الجمال.
ll المخــــــــرّب
ها جين(12)
هاجين قاصّ وروائي وشاعر أمريكيّ من أصل صينيّ؛ ولد في إقليم لياونينج الواقع في شمال الصين عام 1956، وهاجر إلى أمريكا في أواخر الثمانينيّات؛ من مجموعاته الشعرية «مواجهة الظلال» (1996) و»حطام» (2002)؛ ومن مجموعاته القصصيّة «محيطٌ من الكلمات» (1990) و»تحت العلم الأحمر» (1997) و»سقوط جيّد»؛ ومن رواياته «انتظار» (1999) و»حياة حرّة» (2007): فاز بجوائز عدّة منها جائزة فرانك أوكونور العالميّة للقصّة القصيرة (1996) وجائزة بين/همنغواي (1997) وجائزة الكتاب الوطنيّ عام (1999).
* * * *
كان السّيّد شوؤ وعروسه على مأدبة الغداء في الميدان التّجاريّ أمام محطّة موجي للقطار. كان على الطّاولة التي بينهما قنّينتان من الصّودا تنزّ منهما رغوة سمراء وصندوقان من الورق فيهما أرز وخيار مقليّ قليًا خفيفًا ولحم خنزير. «فلنأكل،» قال لها، وكسر الأطراف المتّصلة للعيدان. أخذ شريحة من لحم الخنزير في طبقات من الشّحم، ووضعها في فمه. وبينما كان منشغلًا بالمضغ ظهرت بعض التجعيدات على فكّه النّحيل.
جلس على طاولة أخرى كانت على يمينه شرطيّا السّكّة الحديديّة يشربان الشّاي ويضحكان. بدا أنّ الرّجل البدين الذي كان في منتصف عمره كان قد قال لطيفة إلى رفيقه الشّابّ الطّويل ذي الجسم الرّياضيّ. كان الشّرطيّان يسترقّان النّظر إلى طاولة السّيّد شوؤ بين حين وآخر.
فاحت من الهواء رائحة شمّام فاسد. ظلّ بعض الذّباب يطنّ فوق وجبة الزّوجين. كان مئات النّاس يتدافعون إمّا ليصلوا إلى المنصّة وإمّا ليستقلّوا حافلات إلى مركز المدينة. وكان باعة الخضار والفواكه ينادون بأصواتهم الكسِلة لجذب الزّبائن، حملت حوالى اثنتا عشرة امرأة شابّة يمثّلن الفنادق المحلّيّة إعلانات تعرض الأسعار اليوميّة وكلمات حجمها حجم راحة اليد مثل وجبات مجّانيّة، وتكييف الهواء، وعلى النّهر. وفي وسط الميدان وقف تمثال الزّعيم مايو الإسمنتي. كان فلّاحون يقيلون عند قدميه، كانت ظهورهم تستند على الجرانيت الدّافئ ووجوههم تستقبل السّماء المشمسة. جثم سرب حمام في يد الزّعيم وذراعه المرفوعة.
كان طعم الأرز والخيار جيّدًا، أكل السّيّد شوؤ على مهل، بدت على وجهه الشّاحب علامات إرهاق. كان سعيدًا أنّ شهر العسل قد انقضى أخيرًا، وأنّه وعروسه في طريقهما إلى هاربِن. كان قلقًا على كبده خلال إجازة الأسبوعين هذه، فقد عانى التهابًا حادًّا قبل ثلاثة أشهر، كان خائفًا من أن يعود إليه ثانيةً. على أنّه لم تكن ثمّة أيّ أعراض شديدة رغم أنّ كبده لم تزل كبيرة وناعمة بعض الشّيء. كان، إجمالًا، راضيًا مطمئنًّا على صحّته، فقد كان قادرًا حتّى على تحمّل توتّر شهر العسل. الحقّ أنّه كان في طريقه إلى استعادة عافيته. نظر إلى عروسه تخلع نظّارتها السّلكيّة وتدلّك جذر أنفها بأطراف أصابعها. اكتسى خدّاها الشّاحبان عِقَدًا من العرق.
«أأنتِ بخير، حبيبتي؟»
«بي صداع، لم أنم البارحة جيّدًا».
«ما رأيك أن تأخذي حبّة أسبيرين؟»
«ليس الألم بتلك الشّدّة. غدًا الأحد؛ بإمكاني أن أنام أطول، لا تقلق».
وبينما كانا يتحادثان قام الشّرطيّ البدين من الطّاولة التي جنبهما ورمى بكوب من الشّاي تجاهما، فابتلّت أحذية كليهما فورًا.
«من مثيري الشّغب،» قالت بصوت خافت.
قام السّيّد شوؤ، وقف على قدميه، صاح بصوت عال، «الرفيق الشّرطيّ، لمَ قمت بذلك؟» مدّ ساقه اليمنى ليريه حذاءه المبتلّ.
«قمت بماذا؟» سأل الرجل البدين بصوت أجشّ قويّ وهو ينظر إلى السّيّد شوؤ شزرًا، في حين أنّ الشّابّ كان يصفّر ويهمهم.
«انظر، أنت كببت الماء على أقدامنا».
«أنت تكذب، أنت من بلّل حذاءه بنفسه».
«الرفيق الشّرطيّ، دورك تثبيت النّظام ونشر الأمان، ولكنّك آذيتنا عمدًا. لم تخرق قانونًا كان على عاتقك حمايته؟» بينما كان السّيّد شوؤ يقول كلامه هذا احتشد حوله جمع من النّاس.
قال البدين للشّابّ وهو يلوّح له يده، «هيّا بنا نقبض عليه».
مسكا بالسّيّد شوؤ وقيّدا يديه في الرّسغ؛ فقال صائحًا صارخًا، «لا يمكنكما أن تفعلا بي هذا. هذا منافٍ كلّ المنافاة للعقل والمنطق».
«اسكت!» سحب الرّجل مسدّسه، «بإمكانك أن تستخدم لسانك في مقرّ قيادتنا».
أضاف الشّرطيّ الشّابّ، «أنت مخرّب، تعرف ذلك؟ أنت تخالف القانون وتخرق النّظام».
بلغ خوف العروسة مبلغًا، فجمدت، ولم تستطع قول شيء يُفهَم؛ كانت قد تخرّجت للتّوّ من الكلّيّة، متخصّصةً في الفنون الجميلة؛ لم تكن قد شاهدت الشّرطة تلقي القبص على أحدهم، كلّ ما استطاعت قوله كان، «يا للهول، أرجوكما، أرجوكما!»
كان الشّرطيّان يجرّان السّيّد شوؤ، ولكنّه رفض أن يذهب معهما، وتمسّك برِجْل الطّاولة صارخًا، «علينا أن نستقلّ القطار، لقد اشترينا التّذاكر من قبل».
لكمه الرجل البدين على صدره، «اسكت، فلتذهب سدًى تذكرتك؛» ضرب بالطّرف الغليظ للمسدّس يد السّيّد شوؤ، فتركت الطّاولة فورًا؛ جرّه الرّجلان معًا بعيدًا إلى مركز الشّرطة.
أدرك السّيّد شوؤ أنّه لا خيار لديه إلّا أن يذهب معهما، فمال برأسه إلى عروسه وقال لها بصوت عال، «لا تنتظريني هنا، اركبي القطار. وإذا لم أعد يوم غد الصّباح فأرسلي لي أحدهم ليُخرِجني».
هزّت رأسها مغطّيةً فمها الباكي براحة يدها.
وبعد أن فكّ الشّرطيّان أربطة حذاء السّيّد شوؤ، حبساه في خليّة خلف مركز شرطة السّكّة الحديديّة. سُدَّت النّافذة الوحيدة في الغرفة بستّة قضبان فولاذيّة؛ كانت تقابل ساحة واسعة بها بضع أشجار صنوبر. تعلّقت وراء الأشجار أرجوحتان بإطار حديديّ تتأرجحان بحركة خفيفة في النّسيم. كان ثمّة في مكان ما في المبنى ساطور يقطع على إيقاع منتظم. لا بدّ وأن يكون ثمّة مطبخ في الطّابق الأوّل، فكّر السّيّد شوؤ.
كان من مبلغ تعبه الشّديد أنّه لم يستطع أن يقلق على نفسه وفيما سيفعلون فيه. استلقى على السّرير الضّيّق بعينين مغمضتين. لم يكن خائفًا، فالثّورة الثّقافيّة الصّينيّة قد انتهت من قبل. والحزب روّج مؤخّرًا لفكرة أنّ المواطنين كلّهم سواسية في عين القانون؛ والشّرطة ينبغي أن تكون نموذجًا يحتذي به عوام النّاس في الالتزام بالقانون؛ ربّما لن تؤذيه الشّرطة إن ربط جأشه وناقشهم بالمنطق.
أُخِذَ في وقت متأخّر من المساء إلى قسم التّحقيقات في الطّابق الثّاني؛ وفي طريقه لقي في السّلم الشّرطيّ الذي عامله بخشونة. ابتسم الرّجل، أدار عينيه النّاتئتين الجاحظتين وأشار بأصابعه عليه كما لو يطلق النّار عليه بمسدّسه، بيضة سلحفاة!(13) قال السّيّد شوؤ في خلده سابًّا شاتمًا.
ما إن جلس السّيّد شوؤ في المكتب حتّى تجشّأ، فأتت راحة يده فمه، فغطّته. جلس أمامه في الجانب الآخر من الطّاولة الطّويلة رئيس القسم ورجل آخر كان وجهه يشبه وجه حمار. كانت على سطح المكتب الزجاجيّ حافظة أوراق بها معلومات عن قضيّته. تعجّب أنّ أوراقًا عدّت ومعلومات جمعت بشأنه في غضون سويعات. أعاد التّفكير بالموضوع فتساءل إن كانوا يحتفظون دائمًا بملفّ عنه. كيف كان ممكنًا حدوث هذا؟ فقد عاش وعمل في هاربن، بعيدًا بأكثر من ثلاثمائة ميل، وكانت هذه مرّته الأولى في مدينة موجي.
كان رئيس قسم التّحقيقات نحيفًا أصلع، وبدا رزينًا ذكيًّا. تعاطت يداه الرّشيقتان مع أوراق الحافظة كما لو كان باحثًا يحاضر في إحدى الجامعات. جلس على يسار السّيّد شوؤ كاتب شابّ بلوح على ركبته وقلم حبر أسود في يده.
«اسمك؟» سأل الرئيس وهو يقرأ، على ما يبدو، من استمارة.
«شوؤ ماجوانج».
«العمر؟»
«أربع وثلاثون».
«المهنة؟»
«محاضر».
«مكان العمل؟»
«جامعة هاربن».
«الوضع السّياسي؟»
«عضو في الحزب الشّيوعي».
وضع الرّئيس الورقة على الطّاولة، وبدأ يتكلّم، «أنت جريمتك التّخريب، وإن لم تترتّب عليها حتّى الآن آثار وخيمة. ولكن لمّا كنت عضوًا في الحزب فإنّك يجب أن تعاقب فوق جنايتك. فقد فشلت في أن تكون مثالًا للعوامّ، وأنت-»
«عفوًا يا سيّدي،» قاطعه السّيّد شوؤ.
«ماذا؟»
«أنا لم أفعل شيئًا. رجالك هم مخرّبو نظامنا الاجتماعيّ، فقد رموا بشاي ساخن على قدميّ وقدمي زوجتي. والصّواب أن توبّخهم على فعلتهم هذه إن لم تعاقبهم».
«كلامك هذا لا أساس له. فأنت لا شهود لك، كيف لي أن أصدّقك؟» قال كأنّما كان عالمًا يضع حقائق أمامه.
«هذا دليلي،» رفع يده اليمنى، «رجالك ضربوا أصابعي بمسدّس».
«هذا لا يثبت كيف تبلّلت قدماك؛ أضف إلى ذلك أنّك بإمكانك ضرب أصابعك بنفسك».
«ولكنّي قلت الحقيقة،» استشاط السّيّد شوؤ غضبًا، «مركزك للشّرطة ينبغي له أن يقدّم لي اعتذارًا. فتذكرتي للقطار انتهت صلاحيّتها، وأحذيتي الجلديّة الجديدة أتلفت، وأنا متأخّر عن مؤتمر لي في عاصمة الإقليم، أنتم يجب أن تعوّضوني على كلّ ما سبّبتموه لي من ضرر. لا تحسبوني مواطنًا عامًّا يرتجف عند عطسكم؛ أنا باحث وفيلسوف وخبير في المادّيّة الدّيالِكتيكيّة،(14) وإذا لزم الأمر فبإمكاننا إمّا أن نناقش ذلك في جريدة ذي نورث إيسترن ديلي، وإمّا أن نذهب إلى محكمة للشّعب في بكّين، أخبرني، ما اسمك؟» أخذته الحماسة لأن يطيل في محاضرته الرّنّانة هذه، والتي لا يمكن القول عنها إنّها تافهة، فقد أفادته في مواضع عدّة.
«لا تخدعنا بكلامك هذا،» قال ذو وجه الحمار مقاطعًا، «فقد رأينا كثيرًا من أمثالك، بإمكاننا أن نثبت بسهولة أنّك مذنب؛» ثمّ دفع أوراقًا نحو السّيّد شوؤ، «إليك شيئًا من كلام الشّهود».
ذهل السّيّد شوؤ بعبارات كتبت بخطوط يد مختلفة، كلّ يفيد أنّه صرخ في الميدان لجذب الانتباه، ورفض أن يمتثل لكلام الشّرطة. وكانت إحدى الشهود عرّفت نفسها كوكيل شراء من مصنع لبناء السّفن في شنغهاي. اضطرب شيء في معدة السّيّد شوؤ، شعر بألم يصعد في أضلاعه، أصدر أنينًا لم يكد يسمع لضعفه.
«والآن عليك أن تعترف بأنّك مذنب،» قال الرّئيس، «مع أنّ الجريمة شنعاء فإنّنا لن نعاقبك بشدّة، على أن تكتب نقدًا ذاتيًّا ووعدًا أنّك لن تقوم ثانيةً بما يخلّ بالنّظام العامّ. هذا يعني أنّ إذن إطلاق سراحك يعتمد على موقفك تجاه جريمتك».
«أنت تحلم في يقظتك،» قال السّيّد شوؤ صارخًا، «لن أكتب أيّ كلمة، فأنا بريء، أنا أطالبكم برسالة اعتذار أريها لجامعتي سببًا لتأخّري».
ابتسم المحقّقان كلاهما ابتسامة كان فيها ما فيها من ازدراء واحتقار، «حسنًا، لم نفعل شيئًا كهذا قطّ من قبل،» قال الرئيس وهو يأخذ نَفَسًا من السّيجارة.
«إذن فلتكن هذه أوّل مرّة، وسابقة يتمثّل بها».
«لا داعي إلى فعل شيء كهذا، فنحن كلّنا ثقة أنّك ستمتثل لرغباتنا،» نفخ الرّئيس عمودًا من الدّخان في وجه السّيّد شوؤ.
وما إن أمال الرّئيس رأسه قليلًا حتّى تقدّم حارسان ومسكا بذراعي المجرم، بينما واصل السّيّد شوؤ كلامه وقال، «سأرفع تقريرًا في حقّكما إلى إدارة الإقليم، ستدفعان ثمن هذا كلّه! أنتما أسوأ من الشّرطة العسكريّة اليابانيّة».(15)
سحباها إلى خارج الغرفة.
بعد مأدبة العشاء التي تكوّنت من طبق من الثريد وكعكعة من الذرة وقطعة من نبتة الكرنب بدأت أعراض الحمّى على السّيّد شوؤ، أخذ يرتجف من البرد ويعرق بشدّة، أدرك أن نار الغضب قد أتت على كبده، وأنّه على الأرجح ساءت صحّته مرّة أخرى؛ لم تكن هناك أيّ أدوية؛ فحقيبته كانت قد تركت عند عروسه؛ كان الآن وقت مشاهدة التّلفاز الملوّن وشرب شاي الياسمين ومشاهدة أخبار المساء إذا ما كان في البيت؛ كان الوضع موحشًا كثيرًا لا أنس فيه، كان المصباح فوق السّرير الخاصّ بالشّخص الواحد مصدر الضّوء الوحيد، وهو ما مكّن الحرّاس من مراقبته في أثناء الليل؛ وكان قد طلب منهم قبل دقيقة جريدة أو مجلّة ليقرأ، ولكنّهم رفضوا طلبه.
كانت الضوضاء تأتي عبر فتحة الباب الصّغيرة. بدا أنّ رجال الشّرطة المناوبين كانوا يلعبون الورق أو الشّطرنج في المكاتب القريبة. كان صراخهم وضحكهم يسمع بين حين وآخر، وكانت أكورديون(16) كأنّما تسعل في زاوية بعيدة من المبنى. نظر السّيّد شوؤ إلى الورقة والقلم الجافّ اللذين تركهما له الحرّاس عندما أخذوه من قسم التّحقيقات، فتذكّر المثل القديم، «كلّما أكثر الباحث الجدال مع جنود لقيهم زاد كلامه تشوّشًا». كم كان سخيفًا كلّ هذا. لمس شعره الكثيف بأصابعه.
شعر ببؤس، مرّر يده على معدته باستمرار. الحقّ أنّ استياءه كان أشدّ من خوفه، فإذا رجع إلى بيته وعمله كان عليه أن ينجز ما تراكم عليه في غيابه- ورقة بحث كان ينبغي أن تُنجَز في موعد أقصاه الأسبوع القادم، وعشرات كتب كان عليه قراءتها تحضيرًا للمقرّرات التي سيدرّسها في فصل الخريف.
كان هناك ظلّ شخص ينتقل جيئة وذهابًا عبر فتحة الباب، اندفع السّيّد شوؤ مسرعًا نحو الباب، وصرخ قائلًا من خلال الفتحة، «الحارس الرفيق، الحارس الرفيق!»
«ماذا تريد؟» ردّ صوت بخشونة وجفاء.
«أرجو أن تخبر قادتك بأنّي مريض جدًّا، فأنا أعاني مرضًا في القلب والتهابًا في الكبد، وقد أموت هنا إذا ما أبقيتموني هكذا دون أدوية».
«لا قائد مناوبًا في إجازة الأسبوع، عليك أن تنتظر حتّى الاثنين».
«ماذا؟ تعني أنّي سأبقى هنا يوم غد؟»
«نعم».
«سيتحمّل مركزكم مسؤوليّة ما قد يحدث لي».
«نحن نعلم ذلك، هدّئ من روعك، لن تموت».
ربّما كان من المفارقة أن ينام السّيّد شوؤ جيّدًا في تلك الليلة رغم أنّ المصباح الذي فوقه كان مضاءً كلّ الأوقات، وفراش القشّ الذي نام عليه كان خشنًا ومليئًا ببراغيث. كان خائفًا من حشرات القرادة والبعوض والصراصير، وأيّ نوع آخر من الحشرات ما عدا البرغوث وبقّة الفراش. فقد ذهب ذات مرّة مع أعضاء هيئة تدريس جامعته وموظّفيها الإداريّين إلى الريف لمساعدة الفلّاحين في حصاد محاصيلهم مدّة أسبوع. كان زملاؤه يسخرون منه، فقالوا له مازحين إنّ البراغيث لا تستطيب مذاقه، لأنّها لا ترى فيه لحم إنسان، فجميعهم ابتلوا بمئات اللدغات إلّاه.
ما كان أشدّ إثارةً للدهشة له الآن أنّه شعر بأنّه لم يفتقد عروسه كثيرًا، بل إنّه تهنّأ بالنّوم وحيدًا، ربّما لأن شهر العسل استنزفه، فكان بحاجة إلى راحة أكثر.
كان الفِناء الخلفيّ هادئًا في صباح يوم الأحد. انساب ضوء الشّمس الباهت بخفّة عبر أغصان الصّنوبر. كانت بعض العصافير تنطّ على الأرض وتمسك بحشرات اليسروع والدعسوقة. تنشّق السّيّد شوؤ، ماسكًا بالقضبان الفولاذيّة، هواء الصّباح الذي كان به نكهة لحم. لا بدّ وأنّه كان ثمّة مطعم أو كشك لبيع اللحم المطبوخ. ذكّر نفسه أنّه ينبغي له ألّا يهوّل أمر هذا الحبس، وأتت ذهنه جملة كتبها الزّعيم مايو إلى صديق كان قد أدخل في المشفى: «ولمّا كنت هنا من قبل كان بإمكانك أن تستثمر ذلك خير استثمار».
كان مأتى رغبة راحة البال خوفه من أنّ التهابه قد يتفاقم؛ حاول أن يربط جأشه وألّا يدع الضّيق يتسلّل إليه؛ على أنّه كان على يقين أنّ كبده ستنتفخ، فحرارته لم تزل كما كانت. قضى يومًا كاملًا على السّرير وهو يفكّر في ورقته البحثيّة حول ماهيّة التّناقضات؛ كان يفور غضبًا بين حين وآخر، فيسبّ ويشتم بصوت عال، «ثلّة من الهمج!» أقسم إنّه سيكتب مقالًا عن تجربته هذه فور خروجه؛ ينبغي له أن يعرف أسماء بعض رجال الشّرطة.
آل يومه إلى يوم مريح في جلّ أجزائه. كان واثقًا من أنّ جامعته سترسل أحدهم لإنقاذه؛ كلّ ما كان عليه الآن هو أن يهدّئ من روعه وينتظر صابرًا، فالشّرطة ستفرج عنه، عاجلًا أم آجلًا، مع أنّهم لا علم لهم أنّه قد يرفض الخروج ما لم يكتبوا له اعتذارًا؛ اللعنة على المشاغبين المجرمين أولئك، فقد طلبوا من الطّعام أكثر ممّا كان بإمكانهم أن يأكلوا!
عندما استيقظ صباح يوم الاثنين كانت الشّمس قد أشرقت؛ كان أحدهم يتأوّه في مكان ما، كان الصّوت قادمًا من الفناء الخلفي؛ قام السّيّد شوؤ من على سريره، وقف عند النّافذة بعد أن تثاءب طويلًا وركل البطّانيّة الرّثّة مرارًا وتكرارًا؛ كان في وسط الفناء رجل ربط بصنوبر، كان معصماه قد قيّدا حول الجذع من الخلف، كان يتلوّى ويسبّ ويشتم عاليًا، ولكن لم يكن هناك شخص آخر في الفناء؛ بدا الرّجل مألوفًا للسّيّد شوؤ.
حدّق السّيّد شوؤ وعيناه مغمضتان نصف إغماضة، فصُدِم، فقد عرف الرّجل؛ كان فينجِن، أحد من تخرّج مؤخّرًا من قسم القانون في جامعة هاربِن؛ كان السّيّد شوؤ قد درّس مقرّرًا قبل سنتين في المادّيّة الماركسيّة وكان فينجِن ممّن سجّل فيه. ياااه كيف لهذا المسكين أن ينتهي به الحال هنا؟
ثمّ خطر في باله أن فينجِن لا بدّ وأن أرسلته عروسه إلى هنا؛ يا لها من امرأة بلهاء! لا همّ لها سوى قراءة روايات أجنبيّة؛ كان قد توقّع أنّها ستتكلّم مع قسم الأمن الخاصّ بالجامعة، والذي كان حتمًا سيرسل كادرًا له هنا؛ لم تكن لفينجِن وظيفة رسميّة، فقد اشتغل في مؤسّسة قانون خاصّة لم يكن بها إلّا محاميان؛ والواقع أنّ المؤسّسة الخاصّة هذه لم يكن لها من المهام إلّا ما كان على شاكلة شؤون سرّيّة عائليّة لنساء ورجال يشكّون أنّ شركاءهم يخونونهم؛ شعر السّيّد شوؤ بموجة من الغثيان تأتي عليه.
أكان عليه أن يصرخ لطالبه ليخبره بأنّ أستاذه كان قريبًا منه؟ قرّر ألّا يفعل ذلك، فهو لا يعرف ما قد حدث؛ لا بدّ وأنّ فينجِن قد تشاجر مع الشّرطة حتّى يجلب على نفسه عقوبة كهذه؛ على أنّ ذلك ما كان ليحدث لو لم يأت فينجِن لإنقاذه؛ عليه أيًّا كان الأمر كان على السّيّد شوؤ أن يفعل شيئًا، ولكن ماذا عساه أن يفعل؟
بدا أنّه سيكون يومًا شديد الحرارة، تمكّن من رؤية بخار أرجوانيّ يتلألأ ويرتفع من على الأرض بين أشجار الصّنوبر؛ يا له من مسكين، جاء في خلده، حينما رآه يرفع طبقًا من غراء الذرة إلى فمه ويرشف منه، ثمّ يأخذ لقمة من الكرفس المملّح.
أتى أحد الحرّاس ليأخذ الطّبق والعيدان، سأله السّيّد شوؤ عن أمر الرّجل الذي في الفناء الخلفي. «إنّه قال لرئيسنا ’قاطع طريق،‘« قال الحارس. «يزعم أنّه محاميّ أو شيء من هذا القبيل؛ ابن أرنب متغطرس».
بدا الأمر جليًّا الآن للسّيّد شوؤ أنّ عليه يفعل شيئًا من أجل من أتى لإنقاذه؛ ولكن قبل أن يأتي بطريقة ما لمساعدته اندلع صراخ من الفناء الخلفي، أسرع نحو النّافذة، رأى شرطيًّا طويلًا يقف أمام فينجِن ودلوًا حديديّة على الأرض، كان الشّرطيّ الشّابّ الرّجل نفسه الذي اعتقل السّيّد شوؤ قبل يومين؛ قرص الرّجل أنف فينجِن، ثمّ رفع يده، مبقيًا إيّاها في الهواء لبضع ثوان، ثمّ صفع المحاميّ على وجهه؛ وبينما كان فينجِن يئنّ رفع الرّجل الدلو، وسكب ما بها من ماء على رأسه.
«هذا سيحميك، أيّها الصّبي، من أيّ ضربة للشّمس، سأعطيك المزيد على رأس كلّ ساعة،» قال الرّجل صارخًا.
أبقى فينجِن عينيه مغمضتين، غير أنّ وجهه السّاخر أبان أنّه كان يجاهد في منع لسانه من سبّ الشّرطي، أو ربّما الأرجح أنّه كان يبكي في صمت؛ عطس، ورفع وجهه، وصرخ قائلًا، «دعني أذهب للتّبوّل».
صاح الرّجل موبّخًا، «تريد أن تبول؟ هيّا، هيّا، بُلْ في سروالك».
رغم ذلك كلّه لم يقل السّيّد شوؤ أيّ كلمة ولا أحدث صوتًا، وإنّما وقف قابضًا الأعمدة الفولاذيّة بيديه كلتيهما؛ كانت أصابعه بيضاء؛ التفت الشّرطيّ، وألقى نظرة إلى نافذة الخليّة، كان جزء من مسدّسه في قِرابه، والجزء الآخر المكشوف منه يلمع في الشّمس؛ خار الشّرطيّ كالثّور، وبصق على الطّرف الغليظ من السّيجارة، ورماها على الأرض، ثم داسها برجله.
ثمّ انفتح الباب، وأومأ الحرّاس للسّيّد شوؤ أن يخرج، ذهبوا به مرّة أخرى إلى قسم التّحقيقات في الطّابق العلويّ.
كان في المكتب الرجال أنفسهم، إلّا أنّ الكاتب كان جالسًا هذه المرّة خالي اليدين؛ وما إن رأى الرئيس السّيّد شوؤ قال له، «ها أنت هنا ثانيةً، تفضّل بالجلوس».
وبعد جلوس السّيّد شوؤ لوّح الرئيس بمروحة حريريّة بيضاء وقال له، «أنت ربّما رأيت محاميك؛ إنّه شابّ لا تهذيب له؛ لذا لقّنه مديرنا درسًا في دورة تدريبيّة قصيرة مكثّفة في الفناء».
«ما تفعلونه غير قانونيّ، ألا تخافون من أن تُنشَر صوركم في الجرائد؟»
«كلّا، لسنا خائفين، ولا حتّى في التّلفاز؛ ماذا عساك فاعل من غير ذلك؟ نحن لا نخاف من أيّ خبر تخترعه، سنسمّيه ’حكاية؛‘ ما يهمّنا هو أن تتعاون معنا، وهذا يعني اعترافك بجريمتك».
«ماذا لو لم أتعاون معكم؟»
«سيواصل في تلك الحالة محاميك تعليمه تحت الشّمس».
كاد يفقد توازنه من حالة إغماء أتت عليه فجأة، مسك بذراعي الكرسيّ ليثبّت نفسه، لدغه ألم في الجزء العلويّ من معدته، فخدّره؛ أصيب بالغثيان، أخذ رأسه يرتجف؛ كان على يقين أنّ الالتهاب أخذ أخيرًا يهاجمه؛ كان الغضب يتأجّج في صدره، فشعر به مضغوطًا مسدودًا.
استأنف الرّئيس كلامه، «واقع الأمر أنّك لست حتّى ملزمًا أن تكتب نقدك الذّاتي، فجريمتك مذكورة بكلّ تفاصيلها هنا، كلّ ما نحتاج إليه هو توقيعك».
قال السّيّد شوؤ وهو يكبح جماح غضبه، «دعني ألقي نظرة».
بابتسامة متعجرفة متكلّفة، سلّم له الرّجل ذو الوجه الشّبيه بوجه حمار ورقة كانت تحمل الكلمات الآتية: «أنا أقرّ بموجب هذا أنّي قمت في الثّالث عشر من يوليو بمخالفة القوانين العامّة في محطّة القطار في موجي، وأنّي ضربت بالمنطق السّليم والرّأي السّديد عرض الحائط حينما وجّه لي رجال الشّرطة في المحطّة إنذارًا؛ عليه فأنا أتحمل مسؤوليّة إلقاء القبض عليّ؛ وبعد يومين متتاليين في الحبس تبيّن لي الوجه الرّجعي لجريمتي؛ من هنا فأنا سأسعى من الآن فصاعدًا بكلّ ما أوتيت من عزم وإرادة إلى تهذيب نفسي وإلى ألّا أقترف جريمة من هذا النّوع ثانيةً».
شرع صوت يصرخ في رأس السّيّد شوؤ، «كذب، كذب!» ولكنّه هزّ رأسه، وأخمد الصّوت بقوّة؛ وسأل الرئيس، «إذا ما وقعت على هذه هل ستفرجون عنّي وعن محاميّ؟»
«سنفعل ذلك، لا ريب،» كان الرئيس ينقر على حافظة الأوراق الزّرقاء- كان ملفّاهما عليها.
وقّع السّيّد شوؤ باسمه، وختم بالإبهام تحت توقيعه.
«أنت الآن حرّ طليق،» قال الرئيس والابتسامة تعلو محياه وسلّمه قطعة من الورق لتنظيف إبهامه.
كان من مبلغ مرض السّيّد شوؤ أنّه لم يقم من على الكرسيّ من المحاولة الاولى، ثمّ ضاعف من جهده ووقف على قدميه؛ مشى مترنّحًا خارج المبنى لملاقاة محاميه في الفناء؛ شعر كما لو كان ثمّة قنبلة في صدره؛ ولو كان بمقدوره لأزال مركز الشّرطة برمّته، ولاستأصل أسر رجال الشّرطة كلّهم؛ مع أنّه كان يعرف أنّه ليس ممّن يقدمون على فعل شيء كهذا فقد حسم أمره أن يفعل شيئًا.
«أنا أعتذر إليك من كلّ هذا التّعذيب، فينجِن،» قال له السّيّد شوؤ عندما التقيا.
«لا عليك، إنّهم وحوش،» أزال المحاميّ بأصابعه المرتجفة رقعة من التّراب من على جاكيته، لم يزل الماء يقطّر من تحت بنطلونه.
«فلنذهب الآن،» قال المدرّس.
عند خروجهما مباشرة من المركز لمح السّيّد شوؤ كشكًا للشّاي، مسك فينجِن بذراعه وذهب به إلى المرأة العجوز التي كانت على الطّاولة، «كوبان من الشّاي الأسود،» قال لها مسلمًا إيّاها ورقة واحدة من يووان.(17)
شرب كلاهما كوبًا آخر بعد الكوب الأوّل، ثمّ اتّجها نحو محطّة القطار؛ ولكن قبل قطعهما خمسين ياردًا أصرّ السّيّد شوؤ على أخذ طبق من حساء إذن الشّجرة(18) عند أقرب كشك للطّعام، فوافق فينجِن، قائلًا لأستاذه، «أرجو ألّا تعاملني ضيفًا».
«لا أعاملك ضيفًا، فأنا فعلًا أريد أن آكل شيئًا».
ذهب السّيّد شوؤ بمحاميه من مطعم لآخر قرب مركز الشّرطة؛ كان كأنّما يموت جوعًا، ولكن في كلّ مطعم مرّا عليه لم يطلب أكثر من طبقين من الطّعام؛ تعجّب فينجِن لمَ لا يجلس أستاذه في مكان واحد ويأكل فيه ملء بطنه.
اشترى السّيّد شوؤ معكرونة، وفطيرة لحم، وعصيدة، وحساء الدجاج في أربعة مطاعم، على التّوالي؛ وبينما كان يأكل ظلّ يقول بفكّين مغلقين، «ليتني أستطيع قتل الأوغاد كلّهم!» اكتفى في المكان الأخير بأخذ رشفات قليلة من الحساء فقط دون أن يتذوّق مكعّبات الدّجاج والفطر.
كان فينجِن محتارًا من أمر أستاذه، فقد بدا له شرسًا شديدًا، يتمتم لنفسه بما بهم من الكلام وغمض، كان وجهه ممتلئًا امتعاضًا واستياءً، وبه تجعّدات مشدودة؛ كانت المرّة الأولى التي شعر فيها فينجِن أن السّيّد شوؤ رجل دميم.
في غضون شهر أصيب أكثر من ثمانمائة شخص بالتهاب حادّ في الكبد في موجي، ومات في إثره ستة أشخاص كان من بينهم طفلان، لم يعرف أحد كيف بدأ الوباء.
الهوامش
1 – لشرح مفصّل لهذه الفكرة انظر إصداري القادم المتكوّن من ثلاثة أجزاء، يتضمّن الجزء الأول المعنون بـ»إلى ما قبل بابل» قصصًا مترجمة من سياقات أحادية اللغة، أمّا الجزء الثاني المعنون بـ»إلى ما بعد بابل» فهو يتضمّن قصصًا مترجمة من سياقات متعدّدة اللغات والثقافات؛ أمّا الجزء الثالث المعنون بـ» كلّنَا تَرْجمَة وتَراجمَة» فهو تحليل للقصص انطلاقًا من فكرة أنّ الفهم ترجمة، وأنّ الإنسان، سواءً أكان أحاديّ اللغة أم متعدّد اللغات، مترجِم في التحليل الأخير؛ سيصدر الكتاب العامّ القادم.
2 – My Son the Fanatic لـ Hanif Kureishi ، (نشرت القصّة أوّل مرّة عام 1997).
3 – البنجاب: إقليم في جنوب آسيا يقع في كلّ من الهند وباكستان؛ تجمع سكّان الجزء الباكستاني من الإقليم بالجزء الهندي اللغة والإثنيّة، ويفصلهم الدين؛ فبنجابيّو الباكستان مسلمون في حين أنّ جلّ بنجابي الهند من طائفة السّيخ، (المترجم).
4 – مدينة في بنجاب الباكستانيّة؛ كانت لاهور في الفترة ما بين 1856 و1898 عاصمة دولة المغول الهنديّة الوارد ذكرها في هامش حول «الخطبة في شجرة السدرة،» (المترجم).
5 – «مولوي» كلمة تنسب إلى «المولى» ويحال بها في شبه الجزيرة الهنديّة وبلاد فارس وبعض بلدان العالم الإسلاميّ إلى المطّلع على علوم الدّين والخبير فيها أو إلى من أتى بشيء من هذه ودرّس الدّين، (المترجم).
6 – «مُلّا» كلمة يحال بها في شبه الجزيرة الهنديّة وبلاد فارس وبعض البلدان الإسلاميّة إلى المتديّن، ربّما كان أقرب معادل دارج لها في شبه الجزيرة العربيّة هو كلمة «المطوّع،» (المترجم).
7 – هكذا في النّصّ الأصلي، Poppadom: رقائق متبّلة من الخبز الآسيوي، Abrams (ibid: 3037).
8 – تظهر الكلمة هكذا مائلةً في النّصّ المصدر jihad لكونها أجنبيّة عن النّصّ الإنجليزي، (المترجم).
9 – A Rocket Scientist لـ Yiyun Li
10 – lychees فاكهة مداريّة صينيّة، (المترجم).
11 – ginkgo شجرة نادرة في الصّين واليابان، يعتقد أنّها تساعد على تقوية ذاكرة لدى من كبر سنًّا، (المترجم).
12 – Saboteur لـ Ha Jin (Xuefei Jin) (نشرت القصّة أوّل مرّة عام 1996.)
13 – عبارة تعني في اللغة الصّينيّة زوج الزّانية، أو الرّجل الغبي، (المترجم).
14 – من أقانيم الفلسفة لدى كلّ من كارل ماركس (1818 – 1883) وفريدرِك إنجِلز (1820 – 1895) والتي عارضا بها المثالية الديالكتيكيّة للفيلسوف الألماني جورج هيجل (1770 – 1831)، (المترجم).
15 – احتلّت اليابان أجزاءً من الصّين في حرب جرت بينهما في الفترة ما بين 1937 و1945، إلّا أنّ الصّين استردّت جميع أراضيها إثر استسلام اليابان في نهاية الحرب العالميّة الثّانية؛ ستجد جانبًا من المعاناة الإنسانيّة النّاجمة عن هذه الحرب في «زوجًا من التّذاكر» لآمي تان في الجزء الثّاني، (المترجم).
16 – آلة موسيقيّة (المترجم).
17 – عملة الصّين الرّسميّة (المترجم).
18 – Tree ear وجبة فطيرة صينيّة آسيويّة (المترجم).