* كانت عين كل منهما على الآخر وإن تظاهرا بغير ذلك.
* إذا أردت دعم ماتيس لمشروع ما فاذكر أمامه ان بيكاسو يقف مع المشروع وبالعكس.
بيكاسو : إن ماتيس يعرف انه من المستحيل علي أن لا أفكر فيه, حيث إن بيني وبينه الرسم, وبعد كل ما يمكن أن يقال وي فعل فان ذلك يجمع بيننا.
ماتيس: إن بيكاسو هو الشخص الوحيد المخول لان يتحدث عني بالسوء.
بيكاسو: ترك ماتيس لوحات نسائه إرثا في ذمتي, والآن لم يعد بيننا, فان أحدا ما يجب أن يواصل ما كان يقوم به.
ماتيس لبيكاسو: أريدك أن تقوم بهذا العمل لانه من المستحيل علي أن أقوم به بنفسي وستنجزه أنت أفضل مني.
بيكاسو: إن ماتيس لم يرسم لوحة قبيحة أبدا .
بقدر ما في معرض Interpreting Matisse Picasso من إثارة وغنى, بقدر ما ينطوي على مشاق جمة لمنظميه بالدرجة الأساسية, ولمتابعيه من أمثالي ممن يحاولون أن يقدموا عنه فكرة سريعة وشاملة في الوقت ذاته وتصلح أيضا للنشر في جريدة أو كتيب, والصعوبة لا تكمن في ضيق المادة المعروضة وصعوبة الوصول الى مصادر البحث فيها, بل على العكس بسبب سعتها وغناها.
فكرة المعرض الأساسية هي العلاقة العضوية المتينة المفترضة بين فن ماتيس وبيكاسو وافكارهما ومناهجمها, واقتراح أن أيا منهما لم ينتج ما انتجه من دون تأثير من الآخر, ولتبيان ذلك لابد من الاستعانة بكم كبير من الشهادات والدراسات التي انجزت عن كل واحد منهما, بالاضافة طبعا إلى اللوحات والمنحوتات وكتابتهما الشخصية وأقوالهما لوسائل الإعلام وللأصدقاء وغير ذلك, لكن هذا الأمر ليس بالسهولة التي يبدو عليها, أولا للسبب الآنف الذكر, وثانيا: لأنه من العسير رصد كل من الرجلين ومتابعة مصادر تأثره ومواضع تأثيره بصورة شاملة ومؤكدة, فكل منهما كان غزير الانتاج واسع الاضطلاع ذا علاقات متشعبة ومصادر لا حصر لها, وكان مشهورا في حياته وفي صلب الحركة الفنية والثقافية عموما, كانا متداخلين بها ومتشابكين ومتفرعين ولا يمكن في حالتهما رصد مصدر الفعل وعكسه بسهولة إلا في المواضع والحالات الشديدة البروز.
إن صيغة معرض بهذا المستوى ومن قبل هيئة فنية بارزة (التيت العصري) هي تذكير ودعوة لإعادة فحص تلك العلاقة, خصوصا وأن ماتيس وبيكاسو عاشا في الوقت والمكان نفسهما والتقيا الأشخاص ذاتهم وخضعا للمؤثرات ذاتها, وعلى رغم أن فارق العمر بينهما هو 12 عاما (ولد ماتيس في 31/12/1869 وبيكاسو في 25/10/1881), إلا أنهما درسا الفن في الوقت ذاته تقريبا , أواخر القرن التاسع عشر, وكان المنهج التعليمي الذي اتبعه كل واحد منهما يشبه الآخر إلى درجة كبيرة على رغم انهما درسا في مكانين مختلفين.
أما الجمهور البريطاني فقد اعتاد على متابعة سلسلة من عروض المؤسسات الكبيرة (تيت, التيت العصري, الناشونال غاليري, رويال أكاديمي وغيرها), التي يبدو أساسها إعادة عرض ما هو موجود أحيانا في المتاحف البريطانية المختلفة أو تجميع معروضات متاحف متفرقة في بريطانيا وخارجها, بمعنى آخر, عرض مادة قديمة بمسوغات ومداخل جديدة, بعضها ينطوي على اكتشافات جديرة بالثناء والاعجاب وبعضها لا يخرج عن إطار الرغبة في الاستمرار في العروض (من هنا حذر بعض الكتاب في الصحف البريطانية من انتشار نزعة الفبركة وتلفيق المناسبات والمبررات), ويتذكر الجمهور هنا معرض لوحة »المستحمون« لسورا والأعمال المعاصرة والسابقة واللاحقة لها التي تأثرت أو أثرت فيها, وذلك بالتالي جزء كبير من اللوحات الانطباعية وغير الانطباعية التي يراها المرء في مناسبات واماكن أخرى مختلفة, وأيضا معرض المرآة في فن عصر النهضة والضوء من رمبرانت الى بيسارو وكيتاج في رحاب سيزان وأساتذة آخرين, ونسيج الرؤية (الستائر والأزياء في الرسم)- وهو معرض في الطريق إلينا- وفان غوغ وغوغان, مشغل الجنوب… إلى آخره, حيث كل واحد من هذه العروض بالنسبة لبعضهم, خصوصا المؤسسات العارضة والمنظمين, هو بمثابة دراسة جديدة وبحث من أجل استكشاف جوانب مهملة أو مجهولة في أعمال معروفة, وإعادة نظر تحت ضوء مختلف في تلك الأعمال, وبالتالي »من أين نأتي بأعمال لم يسمع عنها الناس من قبل? «.
يصف بعض النقاد ومتابعي الفن والفنانين تلك العروض بأنها إعادة بيع وتسويق سلعة سبق وان بيعت مرارا من قبل, وأنه لا طائل فنيا خلفها ولا مبرر لها سوى الجانب التجاري الذي هو مبرر إلى حد ما لابقاء الصالات الكبيرة على قيد الحياة. ويتساءل هؤلاء ان كان الاقبال الشديد على المعرض الأخير سيعطي مبررا لمعارض أخرى لا أحد يستطيع الجزم بحاجة الجمهور لها, عن بيكاسو وبراك مثلا , بيكاسو ودالي, بيكاسو وميرو وماتيس وسيزان, ماتيس وبول كلي, ماتيس وغوغان إلى ما لا نهاية له من العروض.
بعض هذه العروض واهي المبررات, وبعض الأسباب لا يكفي لمثل هذا الضجيج, والأدلة كثيرة منها في دليل معرضنا اياه, يقول: »كان تأثير كل من بيكاسو وماتيس على بعضهما قويا نظرا لصلتهما الوثيقة ببعضهما على الأقل في البداية. وحتى عندما كانا لا يلتقيان, فإن كلا منهما كان يراقب عمل الآخر, ويعرف آخر توصلاته«. من يجرؤ على تحدي ذلك القول? ولكن كم من الحقيقة فيه, ألا ينطبق على العلاقة بين فنانين كثيرين?… إلى آخره.
لم تكن علاقة بيكاسو بماتيس حميمة ودافئة مثل علاقة بيكاسو بجورج براك أو ماتيس بجارلس كاموين, وعلى رغم أنهما عرفا بعضهما على مدى نصف قرن حتى وفاة ماتيس عام 1954, وشهدت تلك العلاقة فترات انقطاع لم يسع أي منهما لكسرها بالاتصال بالآخر (لا توجد صورة فوتوغرافية تجمعهما معا ), لكن قد يصح القول أيضا انه حتى لو ضاقت حدود العلاقة بين الرجلين على المستوى الشخصي, فان علاقة حقيقية نشأت بينهما على الصعيد الفني, وكان لكل منهما تأثير واضح على عمل الآخر, وان تحت الخلافات الظاهرية الواضحة للعيان, توجد صلة عميقة نسيجها التأثير المتبادل والمواقف المتشابهة, كما تقول اليزابيث كاولنغ في تقديمها المعرض, وهي اختارت لوحتين قريبتين لبعضهما لغلاف كتاب التقديم, ونقلت عن ماتيس كلاما مؤثرا لتأكيد ذلك, إذ قال عام 1948:
»التقيت مرة في الشارع ماكس جاكوب وقلت له إذا لم أكن أقوم بما أقوم به الآن (في الرسم) فساختار أن أرسم مثل بيكاسو, يا إلهي, ما أغرب ذلك! قال ماكس, هل تعلم ان بيكاسو قال لي الشيء ذاته عنك«. أما بيكاسو فقد اختصر العلاقة بينه وبين ماتيس في حديثه إلى صديقهما المشترك اندريه فيرد: »إن ماتيس يعرف أنه من المستحيل علي أن لا أفكر فيه, حيث إن بينه وبيني الرسم, وبعد كل ما يمكن أن يقال وي فعل, فان ذلك يجمع بيننا«.
كان الأصدقاء يعرفون اهتمام ومتابعة كل من الفنانين الكبيرين لعمل الآخر, ولو عن بعد, يفهمون ذلك ويلعبون على مشاعر المنافسة والفضول والرغبة الشديدة في معرفة رأي الآخر التي تختفي تحت قناع من اللااهتمام, لهذا إذا أراد أحد هؤلاء الأصدقاء أن يضمن دعم ماتيس مشروعا ما, فانه من المفيد دائما أن يذكر أمامه ان بيكاسو وافق على المشروع نفسه وبالعكس, وان أي شخص ينال حظوة عند أحد الفنانين, فهو ينالها عند الآخر, وكان من الخطأ أن يحاول أي شخص التقرب لاحدهما بانتقاد عمل صاحبه وإنتقاصه, وعن ذلك سجل الأب ام. أي. كورتريه في دفتر مذكراته يوم التاسع من تشرين الأول (اكتوبر) عام 1948:
»أخبرت ماتيس بينما كان يعمل على انجاز تصميم كنيسة الدومينكان في فينس, ان بيكاسو يشعر بالدفء تجاهه لدرجة أنه تأثر جدا عندما شاهد صورته (بيكاسو) مثبتة بمسمار الى رف الكتب المتحرك إلى جانب سريره (سرير ماتيس): نعم انه الشخص الوحيد المخول لأن يتحدث عني بالسوء- رد ماتيس- يوما ما سمع بيكاسو شخصا يقول: ربما من أجل التقرب منه- لقد رأيت للتو لوحة قبيحة لماتيس, فاستدار بيكاسو بشكل مفاجئ, وقال: أنت على خطأ, ماتيس لم يرسم لوحة قبيحة أبدا«.
منذ بداية حياتهما الفنية كان احساس كل واحد منهما حقيقيا بأهمية الدور الذي سيلعبه الآخر في تاريخ الفن وفي تاريخه هو, وربما تعدى هذا الاعتبار شخص الآخر الى فنانين آخرين, وبالامكان تذكر أمثلة وحكايات عن علاقة ماتيس بفنانين شباب معاصرين له في تلك الفترة وكذلك بيكاسو, لكن لا أحد يدعي أن أيا من الاثنين اقتصر تأثيره وتأثره على الآخر, سوى أن المناسبة تحدد البحث والأمثلة.
في صيف عام 1906 رسم ماتيس صورة شخصية له بلحية كثيفة وقميص بحارة مقلم اشتراه من (كوليور) قرية الصيادين, حيث رسم الصورة وفيها ينظر باتجاه المشاهد بمزيج من التحدي والفضول المجبولين بالقلق, ومع أن ألوانها قوية ومشبعة هنا وهناك, فإنه أعطى جل اهتمامه لايجاد انطباع بوجود كتلة ثلاثية الأبعاد ذاته وجود قوي, وربما لهذا السبب رسم الرأس أكبر من الحجم الطبيعي وبالغ بتضييق الكتفين (وهي علامات يمكن رصد انتقالها إذا ما صعبت ملاحظة التعابير والانفعالات) والنتيجة كانت تعبير إصرار عنيف وثقة في وجه المشاهد وفي وجه عالم لا يبدو انه جدير بالثقة ان لم يكن معاديا .
في صورته الشخصية التي رسمها بيكاسو لنفسه بعد صورة ماتيس ببضعة أشهر عام 1907 بدا وكأنه يداعب مشاهده بحدقتيه السوداوين حيث البؤبؤ الأيسر غائم بارتباك والآخر يحدق بغموض, ومثل ماتيس رسم الرأس كبيرا , أكبر من الحجم الطبيعي, وأحل العين المسيطرة في مركز القماشة لجلب أكثر ما يمكن من الانتباه وكان رسم الصورة متزامنا مع اكتشاف بيكاسو لما اسماه بـ»النحت القبلي«.
وهنا تدخل أيضا قصة علاقته مع ماتيس, فتبعا للأخير, فانه هو المسؤول عن اكتشاف بيكاسو لـ»النحت الأسود« أو »الزنجي« في خريف 1906, حيث اشترى ماتيس منحوتة صغيرة لرجل افريقي جالس من تاجر تحف, وحدث ان كان بيكاسو موجودا عندما عاد ماتيس بالتمثال فتدارساه معا , وبقي الأمر كذلك ستة أشهر أخرى قبل أن يمر بيكاسو بتجربة أكثر إثارة وتأثيرا بمشاهدته لمنحوتات المتحف الاثنوغرافي في باريس حيث ترك »النحت الأسود« أثرا مميزا عليه.
في حوار مع اندريه مالرو بعد سنوات عدة, تذكر تلك الزيارة الأولى للمتحف باعتبارها حدا فاصلا في حياته (فيما يأتي من سطور شيء خارج موضوعنا ولكنه ليس من دون فائدة), إذ قال:
»لم تكن الأقنعة منحوتات مثل غيرها من المنحوتات, لا أبدا , كانت أشياء سحرية, لم يكن السود سوى وسطاء… كانوا ضد كل شيء, ضد الأرواح الخطرة غير المعروفة, نظرت الى تلك التمائم وتبينت انني أيضا كنت ضد كل شيء, أنا أيضا اعتقد أن كل الأشياء مجهولة ومعادية«.
لكن هل تحول الاعجاب والاحساس بخطورة الآخر وتقدير موهبته إلى علاقة شخصية? لم يتوصل ماتيس وبيكاسو لبناء نوع من الانسجام الودود والشخصي بينهما على رغم أن علاقتهما شهدت في بعض الفترات لقاءات مستمرة وزيارات متبادلة, وبقي الجانب العقلي هو السائد في تقبل كل منهما الآخر, لكن ذلك ليس كل شيء, فكلما ازداد المرء اطلاعا على خفايا تلك العلاقة, تبدى له أنها أكثر تعقيدا مما ظن أولا, وان فيها ظلالا خفية ودرجات كثيرة تمس مختلف طبقات شخصية كل منهما ونفسيته, خصوصا وأن أيا منهما لم يكن مثالا للشخصية البسيطة والسهلة.
تطور هذا المركب من التقدير والاعجاب وربما الحسد في اعتبار كل منهما الآخر عند بيكاسو إلى أشكال مرضية بعد وفاة ماتيس في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1954, ابتداء من رد فعله المباشر عند سماعه الخبر الذي اتخذ شكل نوبة من الرعب, رفض معها الاقتراب من الهاتف, مثلا, للرد على عائلة ماتيس التي أرادت أن تسمع شيئا من التعاطف مع مصابها, أو كلمات أسف ومواساة من صديقه بيكاسو مباشرة. لم يذهب إلى التشييع, كتبت صديقته فرانسوا غليوت: »اعتبر بيكاسو وفاة صديقه نوعا من الخيانة فقد أحس أن ترك وحيدا«, وصار يعتقد أنه مريض هو نفسه, وتحول هذا الاعتقاد الى وسواس مصحوب بالخوف من المجهول, فاعتزل الناس, وفي 21 تشرين الثاني, أي بعد 18 يوما على وفاة ماتيس, مر عليه رونالد بتروز ليتعشى معه, فوجده لا يزال راقدا في فراشه: »كان حزينا ويبدو صغير الحجم متغضن الوجه, أكثر شحوبا مما كان عليه قبل اسبوع ولا يستجيب للحديث«.
مر تأثير وفاة ماتيس على بيكاسو بأطوار متعددة, فقد تلبسه في البداية احساس بالمسؤولية الفنية والأخلاقية ازاء صديقه وتراثه الفني لخصه جوابه على ملاحظة أحد الأصدقاء عن بعض التخطيطات التي رسمها بيكاسو مباشرة بعد موت ماتيس, حيث أشار الصديق الى أنها تشبه كثيرا تخطيطات ماتيس, فأجابه بيكاسو من دون أن يشعر بأي نوع من الاهانة ولم يأخذ الكلام باعتباره تجريحا لمشاعره: »نعم أنت على حق, ولكن الآن بينما لم يعد ماتيس بيننا, فإن أحدا ما يجب أن يواصل ما كان يقوم به, ألا تعتقد ذلك«.
تلبس الشخصية هذا سرعان ما حل محله نوع شديد من »حوارات ما بعد الموت«, تعدت شؤون حياته العادية إلى عمله الفني, وظهر ذلك جليا في سلسلة اللوحات الخمس عشرة التي انجزها على هدى لوحة »نساء الجزائر« لديلاكروا, إذ أكمل أول اثنين منها في 13 كانون الأول (ديسمبر) 1954, أي بعد ستة اسابيع على وفاة ماتيس, وكان تأثير لوحات النساء التي رسمها الأخير, بمؤثرات شرقية, شديدة الظهور واضحا جليا في لوحات بيكاسو, وهو ما أكده ردا على ملاحظة صديق: »نعم أنت على حق, فقد ترك ماتيس بعد وفاته لوحات نسائه ارثا في ذمتي, أما لوحاتي هذه فتمثل رؤيتي للشرق حيث لم أذهب الى هناك أبدا«.
كان بيكاسو يعرف جيدا – وأشار الى ذلك في مواضع كثيرة- كيف أن ماتيس متغلغل في أعماله التي أنجزها بعد وفاته (وفاة ماتيس طبعا), ليس فقط في سلسلة ما بعد ديلاكروا, ولكن في مجمل انتاجه لتلك الفترة, يظهر ذلك أحيانا في بعض مظاهر اللوحة وجودها العام أو في روحيتها والأحاسيس التي تحيط بها وأحيانا في تكوينها وبنائها وتفاصيل بصرية كثيرة فيها.
في طور آخر من أطوار تأثير موت ماتيس عليه, صار بيكاسو يحاوره ويجادل كما لو كان حيا يقف إلى جانبه. وفي الأشهر اللاحقة لموت صديقه تعمق اكتشافه المفجع لضخامة خسارته: »يجب أن نتحدث الى بعضنا بأكثر مما نستطيع, فعندما يموت أحدنا تبقى أشياء لا يستطيع الحي أبدا أن يقولها لأي شخص آخر«. تنسب غيلوت الكلام السابق لكليهما بيكاسو وماتيس وبالتأكيد بالنسبة لبيكاسو فقد توقف هذا النوع من الحوارات الاخاذة الى الأبد ومن دون أدنى شك بقي الكثير مما لم يقل.
احساس الخسارة هذا ينضح من كل بقعة في لوحات بيكاسو (المرسم) والتي انجزها على دفعتين في خريف 1955 وربيع 1956, والتي كلما تطورت ونمت, تكرست مثل فرشاة متطاولة لماتيس الذي لم يورث بيكاسو بموته لوحات النساء فقط, ولكن موضوع مرسم الفنان أيضا .
وبعد, هل أرادا تحقيق علاقة أعمق ببعضهما, وهل كان ذلك ضروريا , هل حاولا أم لا على رغم كل ما رأيناه من تعلق أحدهما بالآخر, وإذا كانا فشلا في مد أرضية من الألفة والحميمية بينهما وكان شكل علاقتهما الذي عاشاه خمسين عاما هو غير ما أراداه, فكم كانا مختلفين?
تختصر صورتان منفصلتان التقطتا لبيكاسو وماتيس عامي 1915 و1926 على التوالي الكثير من الملاحظات والحكايات التي ذكرها صحفيون وكتاب وأصدقاء عن الخلافات الظاهرية بين الرجلين الشابين- وهي بقيت هكذا حتى النهاية- وافتراق عادات وسلوك وطبائع كل منهما عن الآخر.
فبينما احتفظ ماتيس بهيئته الأنيقة حتى آخر أيامه وبمظهر رسمي ملحوظ: لحية مشذبة, شعر رأس مصفف بعناية, بدلة أنيقة غالبا وكان يعمل بمنهجية وبمكان ظاهر الترتيب, فيه أشياء جميلة وت حف وأقمشة ملونة (استلهم الكثير منها في أعماله), يفكر بدقة ويكتب بعناية عن أفكاره ولوحاته, وتؤلف كتاباته الكثيرة عملا مهما لا يمكن الاستغناء عنه عند دراسة أعماله (ماتيس), مثلما بقيت حياته الخاصة بعيدة عن الأضواء.
على عكس ذلك, كان بيكاسو معتدا بأسلوبه البوهيمي لمعظم حياته وترعرع في جو من الفوضى والارتباك, في مشاغل مكتظة بأكداس من الصور, والتماثيل ملقاة بلا اكتراث حيثما يوجد مكان والأرضية مغطاة باعقاب السجائر وقصاصات الورق وآنية الألوان والفرش المتيبسة, بينما شؤونه الغرامية لا يزال جديد قصصها يظهر حتى الآن ليزيد من تشوش صورة علاقاته بالنساء التي هي مشوشة أصلا, كما جعل حياته الشخصية مباحة تقريبا , وكان في خمسينيات القرن الماضي نجما إعلاميا . وإذا كان كثير الانتاج ومتنوعه, فانه كان في الوقت ذاته يكره التنظير حول الفن وحاول ما في وسعه تجنب شرح عمله ومقاصده من ورائه, وكثيرا ما جاءت أقواله عن الفن متناقضة ومتباينة, وباختصار كان ماتيس منفتحا صريحا فيما يخص عمله الفني, كتوما في شؤونه الخاصة بينما فعل بيكاسو العكس.
لكن هناك من المضطلعين من أشار إلى وجود أمر آخر خفي يجمع بين الرجلين ويكون جزءا من الآصرة القوية بينهما, وهو أن هدوء ماتيس وثقته بنفسه لم تكن غير قناع لاضطرابه الحاد وارتباكه وبلبلة روحه وخوفه الذي جعله ضحية أرق أبدي- كما اعترف هو- وان كونه روحا مضطربة جعل منه في الواقع أقرب كثيرا إلى بيكاسو مما يبدو الأمر من الخارج.
وربما هناك أمر آخر ساهم في ضمهما دائما الى بعضهما وتقريبهما من بعضهما وألح على كل منهما لينظر في الآخر, وهو أن نقاد الفن بعد الحرب العالمية الأولى دأبوا على مقارنة الاثنين ببعضهما باستمرار, حقا كان ذلك أم باطلا , مثلما كان تقديمهما باعتبارهما ولدا متعارضين فعل العكس وزاد ارتباطهما الخفي, وفضولهما ازاء بعضهما.
على خلفية مثل هذه العلاقة الشائكة الطويلة التي لم يكن يبدو هناك فكاك منها تطور نوع من التماهي بين الفنانين, تشرحه رسالة كتبها ماتيس منتصف ليلة الثامن من أيلول (سبتمبر) 1947 وقد تعذر عليه النوم:
»الليلة أشعر بقناعة تامة أن بيكاسو يجب أن يرسم فريسكو (جدارية جصية) حقيقية في متحف انتيب (…). أنا واثق انك ستنجز عملا طويلا وستنجز ذلك ببساطة شديدة, اريدك أن تقوم بهذا العمل لأنه من المستحيل علي ان أقوم به بنفسي وستقوم به أنت أفضل مني, أرجوك أن تفكر بالأمر, ان هذا شيء مهم للجميع, وأرجوك ان تعذر الحاحي عليك ولكني أؤدي واجبي«.
في شكليهما وتصرفاتهما مع الناس يبدوان مختلفين كثيرا ويتركان انطباعين متباينين تحدثت عن ذلك عشيقة بيكاسو أيام تعرفه إلى ماتيس, فرنانده اوليفيه في كتاب مذكراتها:
»لا يوجد ما هو جذاب بشكل خاص في بيكاسو عند النظرة الأولى, مع ان تعابيره التي تبعث على الاستغراب تجبر المرء على الانتباه اليه وبذلك من المستحيل عمليا تصنيفه الى فئة معينة من الناس, لكن ألقه ولهيبه الداخلي الذي يشعر به المرء تمنحه نوعا من الجاذبية… كان بيكاسو صغير الحجم, داكن اللون, متين البنية قلق ومقلق بعينيه الخارقتين العميقتين الكئيبتين الثابتتين بفضول, كانت ايماءاته خرقاء وله يدا امرأة رث الهيئة وغير مرتب الهندام وخصلة شعر سوداء لماعة تشق جبهته الذكية والعنيدة, كانت ملابسه ملابس نصف متشرد ونصف حرفي وكان شعره الطويل بافراط يغطي ياقة سترته المتهالكة«.
»أما بالنسبة الى ماتيس فهناك شيء ما شديد الألفة في مظهره الاعتيادي ولحيته الذهبية الكثيفة حيث يبدو رجل فن كبير ومسنا ومع ذلك كان يختفي خلف نظارتيه السميكتين, أما تعابير وجهه فهي مبهمة لا تفصح عن شيء, لكنه يتكلم من دون توقف حالما ينتقل الحديث الى الفن, يجادل, يؤكد يجهد لكي يقنع, لديه وضوح فكري مذهل: دقيق, مختصر وحكيم اعتقد أقل بساطة بكثير من الصورة التي يريد أن يظهر عليها«.
وحسب فرنانده فان »الجد ي والحذر« ماتيس كان مسؤولا عن الجملة المشهورة في وصف علاقته ببيكاسو: »نحن مختلفان كما يختلف القطب الشمالي عن الجنوبي«.
(يقام معرض ماتيس وبيكاسو في التيت الحديث في لندن, ينتقل بعدها الى باريس ثم نيويورك).
يوسف الناصر
فنان تشكيلي يقيم في لندن