جمال الطبيعة المحصورة بين «الباسيفيك» و«الآنديز» لا مثيل له. وسيذكرني هذا الفضاء المتخم بالروعة بغوطة دمشق، كثيراً. بدمشق وضواحيها. وبخاصة نور الشمس التشيلية ذات اللون الفضي. ذلك النور الباهر الذي يبدو وكأنه أنعكس للتو على رقرقات «بردى». يؤكد ذلك الإحساسَ الخارقَ بالسعادة، مشهدُ قمم «الآنديز» المكللة بالثلوج. وأصير أتملّى الفضاء بأبهة وكأنني أفيق قبل الفجر تحت أقدام «جبل الشيخ».
قبل أن نأخذ الطائرة للذهاب إلى أقصى الشمال التشيليّ، حيث الصحراء الكونية العظمى تطاول سلاسل الجبال المتدرِّجة من أقصى الشمال إلى آخر نقطة في جنوب الكون، سنتغدى في مطعم «لا فاشيتا إيشا»(البقرة المستلقية)، بالقرب من كروم العنب، وكهوف النبيذ، المتمركزة حول «سانتياغو».
في الصحراء القَحول هبطنا.
في الصحراء التشيلية الشديدة الجفاف، هبطنا في مطار «كالاما». مطار أُنشئ لاستقبال عمال مناجم النحاس والمعادن الأخرى في أعلى الصحراء. وعندما حطت الطائرة وخرجنا تذكرت الكلمات الأولى من رواية «إبراهيم عبد المجيد»(البلدة الأخرى): “ وفجأة رأيت الصمت”.
كانت الشمس تميل للغروب مثل فتاة عاشقة تلقي برأسها على كتف حبيبها. وحبيب هذه الشمس هو الجبل. الجبل الذي يحيط بالقارة مثل أفعى تمد ذيلها إلى ما لا نهاية. وفجأة، أقف. لا أتبع الماشين. أشرب المنظر كله مثل ماء عذب يدلقه الظامئ فوقه ولا يرتوي. أقف طويلاً. أرى إلى الغروب الآخذ بالنزول من أعالي الكون. وأتساءل : هنا أيضاً تغرب الشمس؟ بعد أن قطعنا الكوكب الأرضي من المشرق إلى المغرب ، نقع في الغروب، أيضاً؟ ولكن أين هي «العين الحمئة»؟
يمشون، وأقف.
أريد أن آكل الأرض.
أمام مشهد الغروب الصحراوي الآسِـر تخيفني تفاهة الوجود.
وأعرف أن هذا هو مكاني.
الصحراء التشيلية! تعالوا ترَوا عجباً. هذه الصحراء الآسرة ليست من عجائب الدنيا، وإنما هي من عجائب الكون. ضوء، وزمرد، وياقوت. ألوان صحراوية خرافية تنقلها الريح الجافة مثل لَهَب منثور. الأفق بعيد. السماء في متناول اليد. الأرض تتلَوّى بغنج تحت أشعة الشمس الساكنة في قبة الكون.
الكائن هنا ليس في معزل عن عناصر الكون الأخرى، وإنما هو جزء منها. يحس بنفسه مثل هذا الحجر المرمي، ولكن في مكانه. عبقرية الوجود لم تعد الكلمات قادرة على التعبير عنها، وإنما البصر الذي يرتئيها.
الوقت عصراً. الفضاء ممتلئ بالضوء. والضوء يحمل آلاف الإشارات. وأكاد أتساءل: ما حاجة الكائن إلى كل هذا القدر من الروعة؟
حتى السُكون يغدو حركة.
غمام أوروبا عوّدنا على العتمة حتى في النهار. وهنا نكتشف بعداً آخر للطبيعة: البعد الضوئيّ. أو البعد «النورانيّ» بالمعنى الصوفي البسيط. وهو شيء خارق. لأن النور ينبثق من القاع. يتفرّق بلا تمييز في الفضاء. يشمل أنحاء المرئيات، كلها، بالتساوي وكأنه موكل بإنارة هيئاتها ليغدو وجودها غير قابل للإفلات منه.
ثمة الجبل، والصحراء، وذوائب الشجر، والزواحف البَرّاقة، والتراب، ونثار المعادن، كلها تتلَقّى القدر نفسه من الضوء. ولكل حسب مساحة كيانه، وحاجته.
هنا، في بداية هذه الصحراء الخرافية، ننسى البعد الجمالي للضوء، لأنه يبهرنا على الفور من قوته، ومن شدة استيعابه للبصر. لكأنه يَلْقُف العَيْن قبل أن تحط على المرئيات.
حُدَيْبات الهضاب العالية، الأقرب إلى الشمس، والأبعد من الأفق، وحدها تفلت من حصار الضوء، وتُلقي ببعض ظلالها على الأرض. وللظلال مهمة ترْسيمية. إنها توحي للرائي بمدى العظمة التي تتمتّع بها هذه الهضاب الصاعدة نحو الغيم. وأصير أُتمتِم : لتحل نعمة الله على هذه الصحراء.
«كالاما» مدينة ــ مهجع. بنايات مصطنعة للنوم. إقامات ملونة من الإسمنت في أعالي الكون. يؤمها عمّال المناجم والمشردون. وهي قد أُنشئت بالقرب من واحة صغيرة، لاقيمة لها في هذا الفضاء المحترق بالنور. فيها توقفنا، لنأكل شيئاً، ولنرتاح قليلاً قبل أن تبتلعنا الصحراء من جديد. فوقها، تماماً، في الأعلى قليلاً، أشتات من جبال الآنديز التي تاهت في هذه الصحراء العظمى، قبل أن يلتقِطَها المحيط..
ما يشفع لهذا العدم الخلاّق هو الضوء المفعم بالحياة. ضوء تراه يتحرك أمامك، وكأنه يدلُّك على الطريق. طريق الجحيم الغارق في الجَمال. إنه نور الرب الذي صَبَّه على الصحراء. ضوء يوحي للكائن بأنه أقرب ما يكون إلى الأعلى. ولولا الخشية من الحاضرين لتَكلَّم مع الغيب. وتكلَّم مع ذلك. ولكن هل لكلام القلب صدى؟ وأي صدى يمكنه أن يقاوم مثل هذا الجَلال؟ وأصير أُثرثر بمتعة حسية، متوجهاً إليه: «ترَيَّثْ قليلاً، فالضوء قادم».
سر هذه الصحراء اللامثيل لها يمكن في التواطؤ المعقود بين «الآنديز»، وبين «المحيط الهادي»، وبين هذه الصحراء، نفسها. إنه تواطؤ ثلاثيّ الأبعاد، وهو لذلك يقتضي منا الكثير من التمعّن لإدراكه.
إنها صحراء قاحلة. قاحلة بشدة. حتى الزواحف لا تسكنها، أو تكاد. نَوْؤها شديد الجفاف، إلى درجة أنك تحس بأغشيتك المخاطية تغدو مثل الرُقَع اليابسة. فمك، وأنفك، وأشياؤك الأخرى، كلها، تجفُّ وكأنها عُرِضَتْ على نار هادئة، ولمدة طويلة. ولشساعتها، فإن مناخها متباين ومختلف بشكل كبير.
إنها صحراء بلا واحات، بلا أحياء «مرئية»، أو زواحف، ولا يؤمها من الطَيْر سوى اللقالق الوردية (فلامانْ روزْ). وبعد أيام من السير فيها والإقامة لَمْ أرَ إلا ثُعَيْلِباً واحداً هزيلاً جاء يبحث عن الفتات الذي خلَّفْناه. «ثعلبي الجميل» ظل يربض في مواجهتنا، منتظراً بفارغ الصبر، أن نترك المكان. ومن أجله تركناه. أكثر من مرة، كنت أصعد الأعالي، ضارباً في الفضاء بحدة بصري، باحثاً عن زَوْل أو مآل ، دون جدوى. لا شيء يملأ فضاء هذه الصحراء العظمى سوى الريح، والغبار الناعم، والجفاف.
باركها الله.
سلاسل جبال الآنديز هي، حسب علماء الجيولوجيا، أحدث الجبال على الكوكب الأرضي (حوالي ٦٢٠ مليون سنة) منذ أن انحَسَر عنها المحيط الهادي. طولها حوالي ٦٠٠٠ كيلو متر، والقسم التشيلي منها حوالي ٤٣٠٠كيلومتر. تنحدر من أقصى الشمال إلى آخر نقطة من الأرض في القطب الجنوبي. وتعتبرهذه الجبال الأسطورية ُلْحـمَة القارةالأمريكية وسُداها. وهي مليئة بالبراكين. هناك المِئات من البُؤر البركانية فيها. منها ما هو ناشط، ومنها ما هو الآن في حالة كُمون. علماء البراكين لم يعودوا يستعملون، اليوم، كلمة «بركان خامد»، لأن أي بركان يمكن أن يستيقظ في أي وقت.
صفائح الرقيم على طول الطريق الذاهب من مدينة المناجم : «كالاما»، إلى حاضرة « سان بيدرو دي آتاكاما»، في قلب الصحراء، حيث سنستقر بعض الوقت، تعيدني إلى أُصولي. وأشعر بالسعادة، على العكس من الأوربيين، لإحساسي المفاجيء بأنني قادم من لا مكان. من الصحراء. من الصحراء العربية، وهذه بعض منها. أنا، إذن، في «مكاني».
أوه! ما هذه الفضاءات اللامتناهية، وهذه الإضاءات الكونية التي تحتفل بالتراب؟ ولماذا تبدو الشمس في فرحتها، وبهائها الأزليّ، وهي لمْ تترك منذ أول النهار سمت الكون؟
لون القاع ذهبيّ. وهو كذلك في الصحارى الأخرى، ربما. ولا بد أن لذلك علاقة بالنور. بنور الشمس الذي تردُّه الأرض إلى مصدره بعد أن ترتوي منه.
هنا لا تغرب الشمس، وإنما تظل تمشي بهدوء نحو فضائها الأحمر.
على الطريق الهابط نحو «سان بيدرو» إحدى مدن الصحراء التشيلية، يشرح لنا الشَرّاح : “ انظروا، ذاك هو البركان المقطوع الرأس”. ونكاد نشهق عَجَباً! لكنه يتابع : “ تقول الأسطورة الهندية إن البركان «الفحل» الذي لا يحب أن يعلو عليه أحد، أو شيء، قطع رأس هذا، وجعله « أصْـلَم» على شاكلة هضبة عالية، مستوية الرأس، لا قُمَّة لها، وإنْ ظلَّتْ تنفث الدخان”.
ونتساءل، ويجيب : “ تقول أساطير الهنود، سكان البلاد الأوائل: إن البراكين هي التي ُتسَيـِّر أمور الكوزموس. وهم لذلك يقدسونها. يقدسون براكين جبالهم : «جبال الآنديز» التي ترونها الآن تمر أمامكم كالسراب. كسراب بعيد لا تدركون منه سوى سِماته العابرة كالبرق. أنظروا، الآن! وننظر. لا، يقول: انظرواً شمالاً ، يحدد. وننظر. “ذاك هو البركان القاطع للرؤوس”.
وفي أقصى الأفق البعيد نرى، بالفعل، قمة هائلة العلو. دخانها يصعد عمودياً نحو السماء. وهي محاطة بقمم أخرى أقل منها رفعة وعلوّاً، ولا تنفث إلا القليل من الدخان. لكأنها تخشى من سورة غضبه القاطعة للرؤؤس إنْ هي أكثرَتْ.
لم يكن الهنود يفرِّقون بين عناصرالطبيعة والحياة. أقصد بين الأشياء والفكر. أو بين المرئي والمجرد. أو بين ما هو كائن، وما يمكن له أن يكون. هل «تعمَّقْتُ» كثيراً؟
عناصر الطبيعية التي نسميها نحن «جامدة»، هي بالنسبة إليهم عوامل أساسية، وحتى «عاقلة». وهم لا يفرِّقون كثيراً بين وجودهم ووجودها. فالحجر عندهم ليس هو الحجر عندنا. أقصد أن إعتبارهم له يختلف عن إعتبارنا. هم يعتقدون بأن للأشياء فاعليّة وكياناً. لكل «شيء» حجم، ومساحة فعل خاصة به. له مجال تأثيره، تماماً، مثل الكائن الذي «يدبُّ» على قدمين. إنْ لَمْ يكن «الشيء»، أو «العنصر الأولي» أكثر أهمية وفاعلية من البشريّ. ولذلك كانوا يحترمون عناصر الكون، ويقدسونها، ويعبدون بعضها.
كانوا يعتقدون أن البراكين التي تنفث دخان نيرانها الجوّانية، إنما تعبّر عن عنف كامن في أعماقها. عنف جدير بأن يهدد الطبيعة، ويفني الكائنات. لذلك كانوا يخشون غضبها كثيراً، ويحجّون إليها مقدسين، ومتقرّبين زُلْفى.
العالَم عندهم ليس هو جُموع البشر البائس الذي يزحف كالديدان أمام هذه القمم العملاقة. وإنما هو مجموع عناصر الكون. فذرة الرمل، مثلاً، ليست أقل أهمية من غيرها. ولكي يكون الكائن منسجماً مع ذاته، كما كانوا يعتقدون، لا بد أن يكون منسجماً مع عناصر الكون الأخرى، وإلا فإنه يسعى إلى الخراب. ظلّوا كذلك إلى أن جاء الفكر الديني التوحيدي، على أيدي الغزاة القادمين من «الشرق الأوروبي»، ليدمّر ثقافتهم : «ثقافة التلاؤم العميق بين الكائن وبين عناصر الكون»، ويبيد حضارتهم المسالمة بعمق.
علامات
في التشيلي اُكِتشفتْ أقدم مومياء في العالم، تعود إلى حوالي ٨٠٠٠ سنة قبل الميلاد.
تشتهر البلاد بمناجم النحاس العديدة والغنية بالمعادن الأخرى آيضاً. ومناجم النحاس التشيلية هائلة. قطرالواحد منها عدة كيلومترات، وعمقه أيضاً. العمل فيها مستمر طيلة اليوم، وكل أيام السنة بلا توقف. عدد العمال فيها يقدر بعشرات الألوف. أممها «أليندي» عام ١٩٧١، وكان ذلك أحد أسباب موته.
فيها أكبر بركان في العالم.
وعلى أرضها توجد أعمق حفرة في الأرض.
وفي أعالي جبال « الآنْديزْ» توجد أعلى بحيرة، وأصغرها، على سطح الكوكب الأرضي، بالقرب من «البيرو».
« سانتياغو دي تشيلي» ستة ملايين. طولها ٦٠ كيلومتراً، وعرضها ٤٠كم. أحياؤها الفقيرة ومدن الصفيح، تحيط بها وتمتد إلى مالانهاية. أُنشِئتْ حول نهر «مابوشو». وهو نهر صغير يشبه نهر«بَرَدى» في «دمشق». ماؤه وَحْليّ، أحمر، وسريع الجريان. ينحدر من جبال «الآنديز» جارفاً مخلفات التربة الغنية بنثار المعادن والأملاح. وهو ما يعطيه هذا اللون الَّلحْميّ الخاص، وذاك الملمس الثخين. لكأن ماءه مخلوط بالشوكولاته .
حول «سانتياغو» تتمركز مزارع العنب، وكهوف الخمور العملاقة التي أنشأها المستعمرون الأوائل. وهي اليوم تحتوي على أشهر الخمور وأعذبها. ومنها كهوف «دونْ مالْكيورْ»، وكهوف «كونشا إيْ تورْ».
* نص من رحلة إلى التشيلي.
خليل النعيمي