1 – القبلة
(قصة وطنية!)
جاءت الجرسونة السمراء تسألني عن طلبي. نظرت إليها: انها سمراء من النوع الذي أحبه واشتهيه (والعفو على إيراد كلمة شهوة), وذات ابتسامة لطيفة. حيّتني بأدب. تأملتها قليلا – المزيد من التأمل لا يضير بالمرة. إنها جميلة. غاب الطلب عن ذهني أو سهوت لثوان. سألتني ثانية من دون عجلة أو تسرّع وهي تبتسم ابتسامة ألطف من الأولى حيث تزيد وجهها الشرقيّ الملامح جمالا على جمال عن طلبي. أقول متعثرا في أحرف الكلمات: ار.. يد.. اسبر.. سو (واعاجل) اعتذر…
تقول : ما من مشكلة. (كأنها كانت تعرف سلفا انها تصدم الزبائن من أمثالي بجمالها الباهر.)
تحضر القهوة. اسألها: هل أنت شرقية الأصل؟
تقول وابتسامتها تحتل كل تقاطيع وجهها : من أصل مغربي. لكن الكل يظن اني يمنّية الأصل (للحظات تعود إلى ذهني صورة عوفرا حازة الجميلة.)
أردد تلقائيا: جميلة.. جميلة (وأتدارك الأمر) لونك جميل جدا (ألم أقل لكم من قبل أني أحب السمراوات على وجه على الخصوص, وأحيانا الشقراوات.. أحيانا فقط !)
تشكرني ضاحكة. أعاجل بالسؤال قبل أن تغيب: هل أنت متزوجة؟
تجيب نفيا. أتابع: عندك صاحب؟
أيضا كلا؟ أشعر بسعادة.
تعود أدراجها إلى داخل المقهى. اسرح. يدور حديث بيني وبين نفسي (حديث لا بد منه): انها عزباء ولا صديق عندها, وقد تكون انسانية.
أتوقف عند كلمة «انسانية». ماذا تعني أو ماذا أعني أنا بهذه الكلمة في هذا السياق؟
هنا في هذه البلاد, كل شيء يختلف عنه في البلاد الأخرى. تماما. إذن ما الذي أرمي إليه بقولي قد تكون انسانية؟ ووجدت الجواب في الحال: أي قد لا تكون في أعماقها عنصرية وقد أصادقها. أحاول العزوف عن هذه الفكرة, لكني لا أستطيع. كيف لي ذلك وأنا أشتهيها؟! (عذرا مرة أخرى على كلمة «شهوة» التي تبطل الكثير من مفعول الإعجاب والمحبة, وتؤكد حقيقة ما يدور في داخلي وفي دمي وفي خيالي دفعة واحدة.)
أتأملها في غدوها واقترابها من الطاولات وهي تخدم الزبائن الآخرين. انها مليحة الوجه, والجسد طازج, كما لو انه خرج من التنور توا. فرن دماغي, الذي تدور فيه الدوائر ! احتسي قهوتي على مهل. هل تعطيني قبلة؟ ابتسم في سرّي. أقول لنفسي: اذهب في خيالي بعيدا, بالذات مع الجرسونات اللاتي اشتهيهنّ, لأنهنّ غالبا ما يكنّ جميلات وطازجات وشهيات. أفتح كتاب «تراتيل متوسطية» متظاهرا بالقراءة, لكني بدلا من أن استرق النظر إلى السطور, فان نظراتي تنصبّ عليها وخيالي يستعر ناشبا الشيطان خيوطه في خلاياه التي استعادت حيويتها ودفقها. أضع الكتاب جانبا. انها هي أجمل كتاب لما يكتب بعد. امكث قليلا, ثم أشير لها إني سأدفع. تحضر الحساب بكياسة. اشكرها بلطف اشعر معه انها في أعماقها تشعر بإعجابي الشديد بها. هل هي انسانية؟ لا أعرف. فجأة تسألني وأنا في حيرة من أمري وأمرها: أنت من هنا؟
أجيب: أنا من المنطقة (وامسك لساني لئلا يفضحني, إذ أردت دعوتها ذات مساء إلى جولة في سيارتي القديمة الجديدة, وبعدها أقول لنفسي : حسنا إني لم أقل. هذا الأمر يطبخ على نار هادئة جدا, وسأعود إلى هذا المقهى من اجلها. وأتابع ) جيران.من شفا عمرو.
الابتسامة العريضة لا تفارق وجهها. كأنها مصنوعة من جمال طبيعي وابتسام. شفتاها الجميلتان مكتنزتان كحبتيّ كرز (من دون أحمر شفاه وأي نوع من أنواع التجميل الأخرى. تزداد شهوتي.) ادفع وأودعها, وقبل أن أستدير اسألها: هل أنت جديدة؟
تجيب بالإيجاب. أقول لها لأغطّي على انهراقي: غالبا ما أحضر إلى هذا المقهى.
تقول: انه جميل, أليس كذلك؟
أردد : فعلا, فعلا.
أودعها وانصرف بسرعة, كيلا يدور حديث ويعلق لساني في حلقي.
في سيارتي أتنهّد ( استعيد ذكرى جسر التنهدّات في ايطاليا. ليت كان عندنا جسر مثل ذلك الجسر أو جسر على نهر درينا !) أقود سيارتي على قلة من مهلي. استعيد تفاصيل الحديث السريع القليل الذي دار بيننا بحرفيته. يعجبني. إذ لا خروج عن النص, اذ عادة عندما اشتهي وانعجق اخرج كثيرا عن النص على نحو متهوّر جدا وأكون الخاسر (ما العمل؟ هنا يحببنّ الماتشو, وأنا لست ماتشو, لكن عليّ أن أداري.) أتابع بيني وبين نفسي: غدا, حتما سأعود!
في اليوم التالي أعود. لا أثر لها. اطلب القهوة من جرسونة ليست سمراء. اسأل عن جرسونة أمس. تسأل الجديدة: ايهنّ؟ أقول: تلك التي كانت امس, انها سمراء وتبدو يمنيّة. تفضحني تعابيري وشهوتي (وهذا قد يكون خروجا فاضحا عن النص !) تبتسم الجرسونة الجديدة وهي تنظر في عينيّ وتقول: انها قريبة صاحبة المطعم وكانت امس تساعدها ليوم واحد فقط. لقد عادت الى تل- ابيب (ويبدو أن الجرسونة الجديدة كانت سعيدة وهي تتلو عليّ كل تلك المعلومات!). أفكرّ : تل – ابيب؟! أنا لا أحب تل – ابيب ولا أطيقها بالمرة. أحتسي قهوتي وشعور بالامتعاض يكتنفني ويتداخل في أعماقي. أتذكرّها. ماذا لو قبلّتها؟! حتما, كنت سأكون من الخالدين وقد أبعث حيّا من مواتي. اعزّي نفسي وأنا أقود سيارتي: كم من الجرسونات الجميلات قبلتهنّ (وبيني وبينكم أكثر من ذلك !) في خيالي. لكن قبلة تلك الجرسونة السمراء ذات الابتسامة اللطيفة والجسد الطازج الحافل بالحياة كانت من أجمل القبل.
وقبل أن انهي يجب أن اعترف لكم بصراحة : أن طعم قبلتها كان طيبا ولذيذا تماما كطعم الكرز الذي أحبه والتهمه بشراهة, بالذات عندما تكون الجرسونة شهية وطازجة كتلك الجرسونة السمراء التي عادت إلى تل – ابيب, مخلّفة وراءها خيالا بديعا وطعم الكرز الشهي.
الجليل
(17 حزيران 2011)
ظهرا
2- لماذا أذهب إلى المقاهي اليهودية؟
أنا انسان يحب المقاهي. المقاهي في النمسا وباريس وهنا (يجب إلا تعقد أية مقارنة بين مقاهي باريس وفيينا وهنا. لا مكان للمقارنة, كما أن العنصرية هنا تنتشر في المقاهي كما في كل مكان, ومع ذلك أحب المقاهي.) أكتب في المقاهي أيضا, ولو طلع بيدي وكانت إمكاناتي المادية تسمح لي لأكلت في المطاعم أيضا حتى لو كان طعامهم ليس شهيا كما في البيت, وحتى لو لم يكن المطعم أو المقهى خمسة نجوم في النظافة.
يسألني البعض: لماذا تذهب إلى المقاهي اليهودية؟!
اقول: أغيّر جوا واكتب.
طبعا, لا أقول اشعر بحرية, لئلا يزعل البعض مني ويأخذوا على خاطرهم. لكني بالفعل, مع كل العنصرية المتفشية تفشّي الفاشية في هذه البلاد, اشعر بالحرية. فهناك, قلّة من الطياب وان خليت بليت. هناك قد أغازل الجرسونات الجميلات بالنظر (وهذا ما لا أقوله ولا أعترف به لأحد وحتى لكم أيها القرّاء الاعزاء!)
اذهب إلى المقاهي اليهودية لسبب بسيط جدا (ولا ابسط من هيك) أولا لأشوف وجه ربي وأغذي نظري بالنساء الجميلات والجرسونات. ولا سبب آخر. الفرق, كل الفرق, يكمن في النسا. وهذا هو السبب الوجيه الذي يجعلني ويستحثني على الذهاب إلى تلك المقاهي. أما السبب الآخر, فاني اشعر ببعض الحرية وبتخفّف من الضغوط. وإذا ما قوبلت بوجوه عنصرية او فاشية (على أن معظمهم كذلك) فاني لا أتورّع عن شتمهم في سيارتي (إذ ليس من قبيل الأدب أو الكياسة أن اشتمهم في وجوههم ! فنحن شعب مؤدب جدا.)
وعلى وجود النساء الجميلات (ولو رائحتهنّ أو أجسادهنّ أو كل حضورهنّ) وعلى وجود خيالي المستعرّ كالجحيم, فان الجلسة في المقهى تكون مختلفة جدا. فالاختلافات تكمن حتى في التفاصيل الصغيرة والبسيطة جدا. فكم بالحري تكون في التفاصيل الكبيرة أمثال الوجوه المليحة والأجساد المنعوفة والجمال الحرّ؟! فأنا أهوى كل تلك التفاصيل. لهذا السبب وحده تجدني أو بالأحرى تجد سيارتي تقود نفسها بنفسها إلى المقاهي اليهودية – ربما كانت هي الاخرى تشعر ببعض الراحة بين السيارات الفارهة, لأن اليهود هم الرأسمال – وسيارتي من طراز قديم جدا, وربما كانت هي الأخرى تتغذى بالنظر أيضا إلى السيارات الجميلة الجديدة (هل هذا صحيح أيتها السيارة الهرمة؟ تجيب إن نعم وتضحك ضحكة بلهاء) حتى السيارة يا ربي مندفعة مثل هذا الاندفاع الغريزي؟!
عندما أغازل احداهن وترد بجفاصة اشتمهم جميعا وأقول انهم عنصريون. هل هم عنصريون حقا؟ جدا جدا. ومع ذلك, اذهب إلى المقاهي اليهودية على نحو اعتذاري أحيانا, مترفّعا عن عنصريتهم الباذخة, محاولا الحفاظ على انسانيتي من عدوى كل العنصريات.
(17 حزيران 2011)
بعد الظهر
3 – أمجد
صديقي امجد انسان متعصّب أحيانا وليس دائما – وهذا لحسن الحظ, فالتعصّب داء وبيل. في صوته وفي رنة كلماته وفي ملامح وجهه اسمع دائما عتابا متواصلا كان قد صارحني به في السابق بمثل قديم لا أومن به بالمرة ولا اعتبره إلا من قبيل التعصب وحتى العنصرية الفجة:»من طين بلادك حط على خدادك.» ويلضمه بمثله الثاني المفضل:»اللي ما بوخد من ملتو بيموت في علتو». ولحسن حظي اني دائما كنت اضرب عرض الحائط بكثير من السخافات (إذا لم تكن قد فعلت ذلك, فعليك أن تبدأ الآن في الحال: الضرب بعرض الحائط بكل السخافات الكثيرة جدا والخروج من شرنقتها) كما اني لم أمت في علّتي ولا مات غيري في عللهم, لأنه لحسن حظي أيضا وأيضا ان العلل البشرية كثيرة جدا.
ذات مرة قال لي امجد الذي يصون عائلته الصغيرة كبؤبؤ عينه: «النمساويون عنصريون, لا بل أكثر الناس عنصرية على وجه الارض. (واستدرك في الحال) على الأقل هذا ما سمعته من الكثيرين.» قلت له: «في مجال العنصرية يسبقهم الاسرائيليون.» أضاف امجد ورنة من الأسف في صوته: «أهلك ولا تهلك» (يجب أن اعترف أن امجد موسوعة من الأمثال التي نسيت أو تنوسيت في زمن حداثة التخلّف. ومع أن امجد ليس مسنّا, لكنه يحب أحيانا أن يشعر انه كبير جدا في السن وان نفسياته تقارب نفسيات ختيار ابن مائة سنة.
أمنّت على كلامه: صحيح.
قال: تحب التلّهي والذهاب إلى المقاهي اليهودية (ثم نظر في عينيّ نظرة ملامة) وهل.. ما اسمها صديقتك أو زوجتك في النمسا؟
قاطعته: صديقتي (ب).
تساءل ليحرجني : وهل هي عربية أو من دينك؟
قلت : لا دين لها. وإذا كنت تقصد انها نمساوية فقط, فهي فلسطينية قدي وزيادة.
اسقط في يده. استغرب الجواب وأشاح بوجهه ونظر إلى البوفيه المركونة في الصالة, وبدا محرجا بعض الشيء. قلت له: أن تكون فلسطينيا لا يعني أن لا تنفتح على العالم وتعيش في قبو خوفا من أي تغيير. قد يؤدي الخوف من التغيير إلى الانقراض في الحياة. ان تكون فلسطينيا أن تكون نفسك.
استفزه الكلام, فقال مدافعا عن عالمه الضيق الخائف المهزوز: أنت تعرف وجهة نظري. أنا فلسطيني حتى النخاع.
قلت بهدوء وثبات: وأنا أيضا.
ونظر إليّ نظرته تلك التي كلها ملامة وشكوكية, ثم أضاف ممازحا: أنت تبصبص إلى اليهوديات كثير.
ضحكت: أحب جمال بعضهنّ وأجسادهنّ الغضة. (ثم استرسلت في ضحك نحيل) ماذا يأكلون يا أخي؟!
قال ضاحكا طبعا, الهريسة مثلنا.
لم اعلّق بشيء, سوى ان سألته بهدوء: أما زلت كعادتك تذهب عند فتيات الرفقة؟
ضحك وقال : أنا متزوج منذ أكثر من عشرين سنة وابني صار شابا (من الجدير ذكره, وللأمانة والإنصاف, أن صديقي امجد المتزمّت عندما كنت لا أملك سيارة في السنين العجاف الماضية كنا نذهب معا في سيارته عند فتيات الرفقة الروسيات المثيرات.) هنا علا صوت أمجد: أنا مثل أولئك الناس (ونظر إليّ بملامة لا بل استطيع القول بشماتة كبيرة) الذين يتزوجون أجنبيات ولا يتزوجون ويظلون سرّك مرّك عند فتيات الرفقة؟! فسكت.
في بحر نهار اليوم الثالث لعودتي من النمسا جاء امجد يزمّر لي ببوق سيارته القديمة مؤهلا مسهلّا كما لو لم يرني منذ سنوات, على أني أمس كنت في ضيافته ونزل علي نزلة لئيمة. سألني بلهف:
– هل تعتبر نفسك كوزموبوليتيا؟
فوجئت واستنكرت باستغراب : أنا؟!
سأل فرحا: إذن, لماذا اشعر انك كوزموبوليتي؟
ضحكت كما لم اضحك من قبل وقلت: هو… (وأشرت الى عضو في جسدي) كوزموبوليتي فقط.
قهقه امجد وقال : ربما هو عندي كذلك.. (وأضاف وهو يضحك ضحكته الطبيعية بانشراح) ما رأيك أن نسترجع ذكرياتنا ونذهب الليلة لزيارة فتيات الرفقة؟ (وشجعني) اعرف مجموعة كل واحدة أجمل من الاخرى. ما رأيك؟
ضحكت: ايش عدا مما بدا؟! امبارح نزلت علي وقمت القيامة, مع اني اعرف من دون ما اشوف انك ما زلت تذهب لوحدك عند فتيات الرفقة الروسيات بحجة المساجات. أليس كذلك؟
قال ضاحكا وهو ينظر حوله وحواليه (مع اننا كنا نجلس في سيارته ولا أحد معنا) : اوعك تبهدلني وتعزّر علي.
اغتظت: اذن, لماذا محاضرة الامس يا واطي؟!
قال : رفع عتب.
سألت غاضبا: عن من؟!
قال مترددا: لو كانت المسألة القومية محلولة في داخلي لكان شعوري مختلفا.
سألت وأنا مستغرب جدا لا بل مصعوقا من هذه التحاليل الممجوجة التي لا أعرف من أين يسمعها ويلصقها في جمله وكلماته عنوة, فتكون ناشزة جدا ولا معنى لها: ايش يابا؟!
تردد متظاهرا بالغشمنة : تعرف مرات تخطر لي أفكار كبيرة.
قلت وأنا العب لعبته: اذن, كيف صرت مرة واحدة كوزموبوليتيا؟!
قال وهو يضحك: هذا الجانب الكوزموبوليتي مريح. هذا ما أردت قوله. الزواج مقبرة.
وفي تلك الليلة ذهبنا عند فتيات الرفقة. تأملت امجد وسألته: كيف تشعر؟
ضحك وقال: كثيرا ما كنت اذهب في العشرين سنة الماضية عند فتيات الرفقة بسريّة. (وضحك) أرجوك لا تبهدلني! (وأضاف) دائما مجدرة مجدرة, الراحة في التغيير.
نظرت إليه بلوم وتقريع : هل أنت الآن فلسطيني؟!
أجاب كالملدوغ : أنا؟! هذا لا يتعارض بالمرة.
وتناسيته للحظات, لأشعر بفراغ ما يزحف في داخلي ويرعبني (هذه البلاد مليئة بالخواء الداخلي), وان امجد ربما كان أو هو أناي الأخرى, واني لوحدي تماما.
(17 حزيران 2011)
بعد الظهر