(وعمل الوهم من طباعهم اذا ارادوا حدوث حادث صرفوا همتهم اليه ومازالوا به حتى حدث) القزويني
"اثار البلاد واخبار العباد"
هذه الرواية هي بمثابة البحث الخيالي / الواقعي عن علاقة الانسان بالمكان ، حدود هذه العلاقة هي الجغرافيا، أما مجالها فهو التاريخ . يجمع فيها بين جغرافية المكان الروائي، وتاريخ احداثها، خيال خصب ، وذاكرة تراثية تزدحم بالمفارقات والاحداث . هي رواية قال عنها «صلاح فضل » انها "مقصوصة من قماش اسطوري، لا يمثل الواقع المباشر، ولا اللحظة التاريخية المنتهية ، بل تقع فيما وراء الزمان والمكان ، وهى محملة بالتأملات الرمزية الخصبة في طبيعتها فلا يكاد يخلو مشهد ولا لحظة من محاولة اقتناص الما وراء وادراك السر، فالشمس رمز، ومكان الغروب رمز، والبشر رمز، والواحة ومملكة الطير وسرادقات العكاكيز، لكنها صفوف من الرمز المؤطر في ميثولوجيا اشواق الوجود" (فضل 1992)هذه الرواية في رأينا اقرب ما تكون الى ما اطلق عليه «حسني زينة » اسم "جغرافية الوهم " مستفيدا مما اشار اليه المستشرق الفرنسي "اندريه هيكل " حين قال «لماذا لا نأخذ (نصوص الادب الجغرافي الاسلامي) باعتبارها تشكل كلا، هادفين الى استعادة العالم الذي كانت تحسه وتدركه وربما تتخيله وجدانات ذلك العصر…. والفرص في هذه النصوص للمشاركة في رؤيتها للعالم (زينة ، 17) المكان في "جفرافيا الوهم" ليس متجانسا دالان خصائصه لا تتعلق بجسم موجود ولا بنقطة ارتكاز يرجع اليها، والناس العائشون في عالم "جغرافيا الوهم" لا يدركون ان عالمهم وهمي، وربما لم يدرك ذلك كتاب هذه النصوص أيضا (زينة ، 12) .
ماذا يفرق الاعمال الابداعية الحديثة التي حاولت استلهام روح نصوص جغرافيا الوهم العربية عن تلك النصوص القديمة ؟ هل الخيال ؟ هل الثقة ؟ هل الاساطير؟ لا نعتقد ان اي عنصر من العناصر السابقة كاف بمفرده للتمييز بين نصوص "جفرافيا الوهم" التراثية القديمة ونصوص جغرافيا الوهم الادبية الحديثة . فكل هذه النصوص – قديمها وحديثها – يشتمل على خيال وتهريمات واساطير واحلام ولفة مجنحة احيانا وباردة وصفية تقريرية احيانا اخري، ومن ثم لابد من اضافة عنصر اخر قد يكون فيه مفتاح التفرقة او التمييز بين هذين النمطين من النصوص ولعل كلمة «التاريخ » قد تتضمن جزءا هاما من هذا المفتاح ، فتاريخ «جغرافيا الوهم» التراثية غالبا ما يكون تاريخا جزئيا محدودا متعلقا بمكان بعينه وزمان بعينا (هو الماضي ) حتى ولو كان هذا التاريخ غارقا في الحوارق والاساطير، اما تاريخ «جغرافيا الوهم» الادبية فغالبا ما يكون تاريخا كليا، يجمع بين الماضي والحاضر، باحدى عينيه ينظر الى الماضي، وبالاخرى ينظر الى الحاضر، ونظرته الى الحاضر أقوى من نظرته الى الماضي، بل تكاد نظرته الى الماضي تكون من اجل توجيه ومساعدة العين التي تنظر الى الحاضر وجعلها اكثر دقة في الرصد واكثر عمقا في الفهم والمتابعة .
فارق آخر يتمثل في أن العين التي تقوم بعملية الوصف في جغرافيا الوهم التراثية غالبا ما تقوم بالتركيز على الظاهري والخارجي ونادرا ما دخلت الى اعماق هواجس الانسان واحلامه وطموحاته وصراعاته وجنون انفعالاته ، بينما تقوم العين الواصفة الراصدة المصورة في جغرافيا الوهم الادبية الحديثة بالدخول الى حالات اللاوعي والاحلام واضطراب التفكير واختلاط الشعور بالزمان والمكان ومن ثم فهي رؤية اقرب الى الكلية ، رؤية لا تستغنى أبدا عن منظور «جفرافيا الوهم التراثية» بل هي تبدأ منها وتعتمد عليها وتتناص معها، لكنها تخرج منها الى أفاق أرحب ، آفاق يصبح عندها الاديب المبدع شبيها بـ "يانوس" اله البوابات في الميثولوجيا الرومانية ، ذلك الذي ينظر الى الداخل من البوابات والى الخارج منها، ومن ثم فهو يرمز الى النظر الى الماضي والى الحاضر، الى الداخل والى الخارج، الى القدوم والى الرحيل ، الى الحياة والى الموت .
استفاد «جمال الغيطاني» في "هاتف المغيب " على نحو واضح من "جفرافيا الوهم" العربية كما تمثلت في كتابات القزويني وغيره من الرحالة والجغرافيين العرب لكنه خرج من حدود تلك النصوص التراثية الى فضاء عملية الابداع الادبي فقدم هذا العمل الذي يمتزج فيه التاريخ بالجغرافيا، والحاضر بالماضي، والابداع بالاتباع ، والادراك بالاحلام بالاساطير، والأصوات بالمشاهد بالملامس ، بالطعوم ، بالمذاقات الظاهر بالباطن ، الشرق بالغرب ، والمحدود بالمطلق.
ومحلة نحو المغيب :
"ارحل " هذه هي الكلمة المفتاح التي تقف وراء الحركة الظاهرية والباطنية في «هاتف المغيب» حين يهز الهاتف الباطني أركان ووجدان احمد بن عبدالله داعيا وموجها له نحو الرحيل ، حين يبزغ في وجدانه ويشرق في عقله هذا الامر الكوني العلوي السفلي في لحظة سديمية لا يدري ما اذا كانت يقظة كاملة او نوما كاملا، ام مرحلة برزخية هي بين النوم واليقظة . "ارحل" تهز وجدانه وتزعزع كيانه ولا يدري ما يفعله سوى ان يطيع الامر صاغرا ويبدأ رحلته العجيبة الغريبة المليئة بالمفاجآت والافكار والمشاهد والرؤى والحس الاستيهامي التهويمي الموغل في التخييل والذي يضع هذه الرواية في قلب الاعمال الابداعية العربية المتميزة التي تبحث عن "البصرى" وتستوعب "السمعي وتستغرق كثيرا في الشمي واللمسي والتذوقي وتخرج من كل ذلك لتقيم وتضع رحالها في قلب ارض المتخيل الاستيهامى الغرائبي.
"ما يعرفه الان بعد بلوغه بلاد المغرب ان خروجه تم فجرا (11) في الفجر بدأت رحلة "احمد بن عبدالله الجهني المصري" نحو الغرب … بدأت في وقت يرتبط ببزوغ الضوء في يوم يرتبط بالفهم والعلم (الاربعاء).. بدأت في وقت يرتبط بالانبعاث والتجدد واليقظة من النوم والعمل والسعى وهو وقت ربطه يونج (المحلل النفسي الشهير) بالابداع وبتحويل مناطق اللاوعي المختلطة والمتداخلة الى وعى ابداعي… وهو وقت يرتبط فكريا بمرحلة الشباب التي هي مرحلة يميل الانسان فيها ال التخلص من الافكار غير المفيدة والسعي نحو افكار وخبرات مفيدة تؤدي الى المزيد من الفهم للذات وللواقع وللحياة وللكون بشكل عام .. الفجر قد يكون اللحظة التي يتبين فيها الخيط الابيض من الخيط الاسود ومن ثم يبدأ الصوم .. تبدأ الرحلة الروحية بعد انتهاء الانغماس الجسدي.. اللحظة المناسبة للادراك والفهم .. التخلي عن المعلومات … وقد تكون ايضا هي اللحظة المرعبة التي يفارق فيها الانسان «الاحبة» ويسعى نحو مصير مجهول لا يدري عنه شيئا..
ارتبط الفجر في ذهن وذكريات "احمد بن عبدالله " بالموت والحياة .. بموت ابيه وامه وخاله وعمته وايضا بميلاد الكثير من معارفه .. ارتبط الفجر في فكره ووجدانه بالحرب و" طلب العلم، ومطالعة آيات العالم من جمال وتفرد، ورؤية جبال وبحار وانواع حيوان وغريب نبات، وامتزاج لحظات وتفرد اوقات ، يفلت بعضها فيبقى مع صاحبه ولا يفني الا معه ، سفر من اجل العبادة وزيارة الاولياء، الاحياء منهم والاموات (12)" بعد ليلة من الارق بالحلم يجىء الهاتف الباطني«ارحل» فيصحو احمد بن عبدالله مفزوعا وحيدا، ومجردا من اي مساعد منفرج الحدقتين في حلقه مشروع دمع ولسوف تلازمه تلك السمة ، فلكم أصفى فيما بعد الى معنى تردد مرارا خلال رحيله ، عندما يقول له من يطلبون التحديق صوبه "تبدو وكأنك على وشك البكاء ولكنك لا تبكيه، حتى بعد بدء الابتسامة الدائمة لم ينمح أثر تلك الدمعة المطلة أبدا ولكنها لا تخرج (14)" يصحو "احمد بن عبدالله" وتكتمل يقظته ويوقن ان "المقام هنا انتهى" وان ما استمر حتى الان انقطع وان «الدار الامنة التي اقام فيها لم تعد له» وان «الرحيل دب داخله قبل سريان حركته (15)» يتغلب عليه الهاتف ويغلبا فيجد نفسه منقادا مستسلما لسطوته يتحرك في حالة تشبا التنويم الى «موضع تغيب فيه الشمس ( 14)». يمضي الى موضع يرتبط بالاكتمال .. لكنه يرتبط ايضا بالظلمة والمجهول والموت … موضع يرتبط بالخريف ويموت الشمس وبوسط العمر.. اليه تبدأ رحلة "أحمد بن عبدالله".. رحلة تمر عبر الصحراء والواحة والاقليم حتى تصل الى الغرب او المغرب حي اخر حد العمار اليابس .. على حافة المحيط الاعظم، بحر الظلمات (5)».
يحكي "احمد بن عبدالله" أخبار رحلته الغريبة "لجمال بن عبدالله " «كاتب بلاد الغرب» ويكون الحكي وسيلة لتخفيف شعور جمال بن عبدالله بالعجز (لانه مقعد) فيتوحد مع احمد، يتوحد معه في الخيال وفي الواقع ، وتصبح رحلته رحلته ورحيله رحيله "لم يكن رحيله الا رحيلي مدارجه مدارجي، اوقن انه جاء الى الدنيا لحظة وفادتي انه فطم حبا وسعى معى، وعندما بزغ الهاتف لبيت في ثباتي واستجاب عبر رحيله ، لذلك غيابه غيابي بعينيه اتطلع (34)".
تبدأ رحلة «احمد بن عبدالله » التي يحكيها لجمال بن عبدالله اذن عند الفجر من الشرق وتنتهي عند الخريف في الغرب .. كان الهاتف الباطني «ارحل » علامة على انتهاء مرحلة النوم والغفلة وبداية مرحلة اليقظة والادراك والفهم والعلم ، مرحلة رأى فيها «احمد بن عبدالله » وسمع وشم وتذوق ولمس ، واحب وكره وعرف وفهم وادرك وتخيل وشطح وتذكر وتواجد واوجد ووجد ورحل وعاش ومات .
غادر "احمد بن عبدالله " القاهرة فجرا، "مضى مضطربا، قصير الخطى، مودعا بعينيه الجدران والنواصي والمحال التي وقف عندها وتلك التي اعتادها (15)" ودع الابواب المغلقة والمواربة والواجهات والمباني والمآذن والقباب والمقاهي والدكاكين وقرأ الفاتحة لسيدنا الحسين وتوسل اليه وبثه همه و«مضى صوب الخليج ، الازهر سامق ، مسجد الغوري رقبته ، البيوت المستكينة ، وذاكرة الحواري الهاجعة تتململ ، أولى المشرق ظهرة ، عبر القنطرة الخشبية . جمال مصطفة بارعة مثقلة واحمال يتوقف قبل ان يقدم،. القوافل لا تنطلق من هنا، الموضع لم يعرف كمحط للتجار (16).
مع هذه القافلة الغريبة تبدأ هذه الرحلة الغريبة، رحلة نحو مدن متخيلة ، ومن خلال جغرافيا الوهم حين يقول "احمد بن عبدالله " للرجل شبه الملثم الذي سأله عن وجهته "اسافر مع الشمس " يتهلل وجه الرجل ويقول له "اهلا بالكريم ابن الكريم " وحين يتساءل احمد دهشا هل تعرفني يقول الرجل شبه الملثم بلهجة غامضة : "لا ولكني اتوقعك ".. هنا تبدأ لفة الايماءات والايحاءات والرموز الغامضة ، تبدأ لفة الغياب والمستور والباطن والمكبوت وتنفتح بوابات صور ومشاهد ورؤى غريبة وغرائبية . هل كان "احمد بن عبدالله " يسافر مع الشمس ام كان يرحل معها كي يكتشف شمسه الخاصة الموجودة في داخله ؟ ان الرحلة هي النشاط الاساسي للشمس عبر السماء (الطموح – التفوق ) والنهار (شباب اليوم )، حركة دورية دائرية في الزمان والمكان ، والرحلة نشاط يرتبط بالمغامرة والرغبة في الاكتشاف والتغيير… فما الذي اكتشفه "احمد بن عبدالله "؟ وما الذي تغير فيه ؟.
عوالم اسطورية :
تزخر رواية "هاتف المغيب " بعوالم اسطورية لعب الخيال الابداعي دورا كبيرا في تكوينها، وحتى ان كانت بعض مفردات هذا العالم موجودة في التراث لدى القزويني (آثار البلاد وأخبار العباد) أو ابن بطوطة أو غيرهما من مؤلفي قصص الاعصار والبلاد وعجائب المخلوقات ، فان هذا العمل تكوين ابداعي جديد وفريد. ونكتفي فيما يلي بالاشارة الى بعض مكونات هذا العالم حيث ان هذه المكونات يصعب الاحاطة بها في دراسة واحدة :
(ا)بشر اسطوريون :
تزخر رواية هاتف المغيب بالبشر ذوى الملامح والخصائص الاسطورية المفارقة للمعتاد والتي تجترح العادات وتكشف عن الكثير من الغرائب . من ابرز هز» الشخصيات نجد "قصاص الاثر" هذا الرمز – الانسان او الانسان – الرمز الذي يمتلك قدرة كلية ويتجاوز الزمان والمكان ، خالد ابدا لا يريم ، يقال انه عاش زمن الرسول (ص) وانه حارب " تحت لواء الصحابي" ابو لبابة الانصاري "عند زحفه غربا (99)" وانه "حارب في بلاد ما وراء النهر، قاد جمعا من الصوفية لقتال التنار، وهم ينشدون ذاكر ين اسم الله (69)" ويقال انه "كان اخر المنسحبين من غرناطة قبل تسليمها الى ملك قشتالة ( 70)" وانه من "حفظه الواحة ، وجوده يضمن تدفق الماء من العين ، ويدرأ عنها الاخطار المجهولة من الصحراء، كثبانا رملية كانت أو قطاع طرق ، او جيوشا مجهولة الهوية ( 70 )" هو رجل قديم قدم الدهر يقول عنه " حافظ الانساب " انه "اطول عمرا من اي تقدير، وعندما حارب في بدر وأحد لم يكن غضا او في مقتبل العمر، انما كان مكتملا، قادرا، يبدو إنه شهد عام الفيل ونام ليلتين في قصر غمدان ، كما رأى العمال يضعون اساس الخورنق (73)" هذا الرجل الاسطو ري كان قادرا على التعرف ددعلى اثار الاقدام في الصخور والرمال ، في الارض اليابسة او اللينة بعد مرور ثلاثة شهور على حدوثها، حتى مع هبوب الرياح العاتية التي تنقل ذرات الرمل وكثبانها من موضع الى اخر (74) كان قصاص الاثر ايضا قادرا على رؤية أثار الحشرات والزواحف ومعرفة انواعها واتجاهاتها. وكان اكثر اهتماما بآثار اقدام البشر، كان يستخدم حواسه الخمس بشكل اجمالي بحيث يتعرف على اثار الرجال والنساء والبيض والسود والطوال والقصار والبدنه، وذوى الوزن المنخفض ، العذراوات والثيبات ، بل كان يستطيع تقدير المسافات التي قطعها كل هؤلاء الافراد والكائنات حتى يصلوا الى الواحة التي كان يقيم فيها، وكان قادرا ايضا على معرفة حالات سيرهم من سرعة او بطء، وحالاتهم المزاجية والجسمية من فرح او أسى ومن حزن او بهجة ، ومن تعب او راحة ، ومن لهفة او يأس ، كان يستطيع "بحاسة سمعه أن ينذر بالعاصفة قبل وقوعها، ويحذر من رياح الهبوب قبل وصولها، ويحدد أشد الأيام حرارة ، وليال الصقيع غير المتوقعة ( 74)" كائن كلى مكتف بذاته متفرغ لغزل الصوف والاهتمام بأمور الناس في الواحة ، تنبرك به النساء خاصة العاقرات منهن ويعتقد الناس أنه مازال قادرا على الانجاب ، يساعد الجميع ويرفض مساعدة الجميع له الا حفيدته التي تجاوزت المائة من عمرها، يقال أنه يرضع النخلة -أمه أدلا يسمع له صوت ، اذ يفرغ يبدو على شفتيه المبلولتين ، مايشبه اللبن المخفف بالماء (71).
النخلة هي رمز أسطورى للانتصار على الموت ، وهى شجرة الحياة ، والتجدد الذاتي، وهي الشجرة الوحيدة التي لا تسقط أوراقها، بل هي تحصل على لحاء جديد كل شهر (أو كل سنة )، ويظل اللون الأخضر معها طيلة حياتها . وهي تظل تثمر حتى تموت وهى أنثوية وذكرية في نفس الوقت ، ويقال أن طائر الفينق يولد ويموت وينبعث مرة أخرى منها . وهي رمز للنار الابداعية المتجددة ، وللحب ، للخصوبة والوفرة والأمومة . وكلمة " تمر" العبرية تعني نفس ماتعنيه كلمات " عشتار" "وعشتروت " و "فينوس " وما يرتبط بها من تجدد وانبعاث وديمومة ، وغالبا مأتم تمثيلها في الاساطير من خلال سبعة فروع ترمز الى الخصوبة والى الشهور السبعة التي يمكن أن يولد عندها الطفل . وهى أخيرا رمز للشرف وللحياة وللكرم وللعدالة وللحيوية الجنسية وللصداقة وللبركة ، وللحكمة كما أنها رمز الأنيميا (الجانب الأنثوي في الرجل ) عند يونج .
كان قصاص الأثر ممثلا لكل هذه الصفات وزيادة ، كان رمزا للخلود وللحماية وللحياة وللتجدد وللخصوبة وللبركة "كان ماثلا بوجوده المادي بينهم ، لكنه خارج الزمان ، لا يطل عليه أحد .. حضوره قائم بذاته ، فلا يقارن به أحد، ولا يقاس بعمره زمن ، أو ظاهرة نادرة الحدوث ، أو ميلاد طفل أو موت عزيز (78)".
كان قصاص الأثر رمزا قادرا ومعتقدا متغلغلا في أعماق أفكار ووجدان سكان الواحة ، كانوا يعتقدون أنه يقي الواحة من نضوب ماء عين "عذارى" التي يعتمدون عليها في حياتهم ، وأنه يقي الواحة هجمات الرمال والرياح ، وأنه يحميهم من هجمات أعدائهم خاصة سكان الفسطاط الذي يمثل خطرا دائما موشكا بالنسبة لهم . يكاد يرمز قصاص الآثر الى الزمن والى الخلود ، الى الزمن الخالد بكل ما يمثله من بناء وهدم واعادة بناء ، وبما يمثله من اكتمال ومن تعدد احتمالات ، ومن انتصار على كل عوامل الفناء والعدم والنقص والكذب والخوف وضيق الأفق " قصاص الآثر" هو عقيدة الخلود للانسان وللابداع وللخير، وهو استمرارية فتمناها، ونسعى اليها، وبدونها يحل الخوف والفزع والضياع ويحيط الفناء بكل شيء. قصاص
الاثر هو رمز قوس عربي اسلامي، ودعوة الى توحيد الأمة والمحافظة على عرقها الايجابي الخير وحما يته من الضياع .
من الشخصيات الأخرى اللافتة للنظر في هذه الرواية شخصية الحضرمي (أو الحضرموتى) ، دليل القافلة التي خرج " أحمد بن عبدالله " معها من القاهرة ، هذا الذي ( أي الحضرمى) تجول عبر العالم ، وأتقن العلم بالنجوم والمواقيت " كان قادرا على تحديد الاتجاه بالحس ، اذا تطلع الى السماء من أي موضع ، متحرك أو ثابت ، يدرك الموقع حتى لو اعتلا الفضاء بالغيوم الثقال ، يعرف حركة الظلال في النهار المأهول والخلاء الخرب ، وبالتالى تحديد الوقت بدقـة (35)".
يعرف الحضرمي مواعيد هبوب الرياح ومواعيد صمتها، المواضع الخطرة فى الجبال والشهاب وحركات النجوم ، يعرف علامات "السحاب الممطر والغيوم المحلقة ، والبروق الصادقة التي يعقبها قطر (38) " يعرف أنواع الرياح واتجاهاتها ومساراتها، واتجاهات القبلة باختلاف الأمكنة ، يعرف علامات الجدب وعلامات الخصوبة ، ويعرف شمار الجهات الأربع ومواعيد قطافها، يعرف الجزر الغربية وقمم الجبال والشواطىء، يعرف علامات الزلازل والبراكين وأنواع الزواحف والضوارى والنباتات ، يعرف كل شىء عن البحر والبر والجو، يعرف البلدان ويعرف أسماء البشر وألقابهم وسلالاتهم ، وهو دائما جامد الملامح متجهم الحضور لكنه كلى القدرة والمعرفة وكأنه الصورة الموازية الصحراوية لصورة قصاص الأثر المقيمة فى الواحة ، لكنها على كل حال ، ليست صورة على نفس الدرجة من الخلود، يصمت الحضرمى كثيرا "لكن صمته هذا لم يكن صمتا أو انفلاقا، انه يصفى الى مسارات الرياح ، أو بوادر عاصفة مقبلة لم تلح نذرها بعد، أو سحب ممطرة ، موعدة ، لم تبد، أو يصفى الى درجات في باطن الأرض العميقة ، أحيانا يركع فجأة كالمصلى ، يلصق أذنه بالأرض ، يعتدل ليقرر في حسم . هنا صلصلة (41)"
قصاص الأثر اذن هو رمز لتجاوز الممكن والمحدود الى آفاق المستحيل والكلى ، هو رمز آخر يجترع المعجزات ويأتي بالعجائب ويحيط بالكلى ، ويتجاوز كل مظاهر النقص والقصور فى الحواس والقدرات البشرية . هو رمز للمعرفة وللعلم الكامل الكلى المكرس لخدمة الآخرين .
اضافة الى شخصي "قصاص الأثر" و «الحضرمي» توخز هذه الرواية بالعديد من الشخصيات المثيرة للاهتمام . منها على سبيل المثال لا الحصر شخصية التنيسي المولع بالنساء وشخصية "القيم " وشخصية "أحمد بن عبدالله " بطل هذه الرواية وشخصية "جمال بن عبدالله " مدون سيرته والعديد من النساء الأسطوريات الرامزات الى الخصوبة والتجدد والامتلاء بالخير والبركة ، هناك أيضا رجال يتحولون الى نساء، ونساء يتحولن الى رجال ورجال يرضعن اولادهن بعد موت امهاتهم ونساء اشد صلابة من الرجال هناك رجال يتزوجون الطيور والاسماك ونساء كالالهة من نسل الطيور، ملوك وشعوب ، مسيطرون وأتباع ، عوالم من الخلق لا حصر لها ، ولا زمان يحدها، أو مكان يحويها، موجات وراء موجات ، وأحلام وراء أحلام، وعوالم يتبعها عوالم ، ورؤى تعانقها رؤى، ومن كل ذلك تتشكل أساطير هذه الرواية، وتبنى معتقداتها، ويتكون عالمها.
طيور ونباتات وحيوانات :
يوجد في هذه الرواية ما يشبه وحدة الوجود بين الانسان والطيور والنباتات والحيوانات، إضافة الى عناصر الطبيعة الأخرى.
تحضر الطيور في هذه الرواية على أشكال متتابعة وتساهم بدورها في تشكيل الفضاء الخاص بعالمها. تحضر في هذه الرواية طيور الهدهد، والسمان ، والبلبل والقطا والقمري والباز والأخضر والأبهق والأزرق والراهب ، وأبو دينار وغيرها من الطيور المعروفة أو غير المعروفة ، وبعضها يقيم علاقات مع البشر أو يقيم البشر علاقات معه . فوالد " التنيس " آمر القافلة التي خرج معها " أحمد بن عبدالله مثلا " "انفرد بعلم نادر أخذه أبا عن جد، اعتبر الحجة والمرجع فيه ، وقيل أنه لا يوجد مثيل له في ديار الاسلام ، وتردد أن ثمة شخصا واحدا ليس غير علم ببعض ماعنده ، لكنه مقيم في بلاد الأفرنج ، بجزيرة قبرص ، كان الوالد الكريم عالما بالطيور المهاجرة ، التي يبدأ قدومها الى بر مصر مع حلول الخريف ، أرض الجزيرة أول ما تلامس هذه الطيور بعد رحلة شاسعة المدى عبر البراري والبحار، كنان يمكنه تحديد اللحظة التي سيحط فيها أول الطير، الأسراب تتقدمها فرادى، لم يخب توقعه قط ، يعرف مواعيد كل منها (26)".
لم يكن والد "التنيس " يعرف أنواع الطيور ومواعيد قدومها ورحيلها فقط ، بل كان يعرف حالاتها المزاجية والانفعالية ، ونظام حياتها ، وتشكيلات طيرانها ، وطبقات أصواتها وأغانيها، ومن بين هذه الطيور تعلق بطائر خاص عندما يحين زمان وصوله تدب في اوصاله الحيوية والفرح، طيور صغيرة الحجم زرقاء الريش جميلة المنظر، تستخدم في تحسين العلاقات بين الدول، لكنها تموت اذا وضعت في قفص ، أو اذا لم تستطع الطيران في خط مستقيم ، وكأنه طائر الحرية الذي لا يقبل القيود أو الخيانة أو المساومة . كان والد " التنيس " عارفا بمنطق الطير وأقاليمه وكأنه " فريد الدين العطار" أو كأنه النبي سليمان ، لكن أغرب ما تردد عنه هو زواجه من الطيور ذات الملامح الآدمية وهو " كلام عجيب ، لم ينفه الواحد ولم يؤكده " و"قد جلبت عليه هذه المعرفة وهذه الحكايات غضب الولاة وأجبر على مفارقة " تنيس "
التي لم يخرج منها قط (31)" ثم ان هذا الاب قد حزن بعد ذلك ، ومات فجأة ، فوق سطح البيت ، وبعد ذلك توقفت الطيور عن الحط في الجزيرة بعد رحيله ، ثم ضاقت الجزيرة على من فيها فرحلوا عنها على أمل ان يلتقوا مرة أخرى بعد سبع سنوات .
الطيور هي رمز للحرية والحركة الطليقة وللانطلاق في الزمان والمكان وهى ترتبط بالشمس والفصول والحياة والموت والخلود والطموح والابداع ، وهى ايضا رمز للروح ، ففي بعض الاساطير والرسوم الفرعونية تشاهد الطيور (الكا) التي ترمز الى الروح وهى تخرج من افواه الموتى.
عندما يصل " احمد بن عبدالله " الى الاقليم يحدثه قيم الاقليم عن ان " بناء " من مصر جاء الى الاقليم وبنى ما لا يمكن رؤيته في اي مكان آخر، وعند وصوله الى الاقليم " ظللته اسراب من طيور القطا والمازور البحري نادرة الوجود، والنقاد، والهدهد، والهزار وانواع شتى يستحيل اجتماعها في وقت واحد، فما البال عندما تتقارب في سرب ؟ يتبادل بعضها الحط على كتفه ، والالتصاق بوجنته ، والهمس في اذنيه ، وتنقيا شعره مما علق به من شوائب الطريق (154)" كانت هذه الطيور وكأنها تحتفي به تكريما لذكرى والده "المصري حافظ الطير" الذي اقام له القوم في الاقليم ضريحا رمزيا اعترافا به وتكريما له . إنها فكرة العود الابدي والتكرار، والزمن الدائري، والتناسخ ، والحلول ، والخلود، وكلها مكونات مميزة لهذا العالم الاسطوري.
تحضر الطيور بتشكيلاتها والوانها في مواضع عديدة من " هاتف المغيب " وتساهم مع غيرها من الموتيفات في بناء الاسطورية الخاصة بعالم هذه الرواية .
إضافة الى الطيور فاننا نرى في هذه الرواية لعديد من النباتات والا شجار والزهور، نرى زهر " البلسان " السحري الذي اختفى من العالم كله "ولم يعد باقيا منه الا اثنتا عشرة شجرة يتم استخلاص زيوتها في ليلة اكتمال القمر، ويختص بذلك خمس فتيات عذرا وات لم يمسسهن رجل ، ولم ينكشفن قط على ذكر، ولو جرى عكس ذلك تجف الشجرة وتذبل ويستحيل استعادتها لنضرتها (24)". زيت البلسان ثمين نادر يحفظ في خزائن السلطان ويهدى منه ملوك الارض ويخطب ودهم ، زهر البلسان يطيل العمر، ويجدد القوى، ويرتبط بالطقوس والنبوءات والأحلام والخلود.
إضافة الى زهرة البلسان الموجود في جزيرة "تنيس" هناك ايضا تلك الشجرة الهائلة الموجودة في مدينة " بلخ " وهى شجرة "قديمة ، نادرة ، هائلة الاغصان ، غليظة الجذع جدا، لابد من اربعين رجلا مفرودي الايدي ، متشابكي الاصابع ، ليمكن الاحاطة بها دائريا، ثمارها مختلفة، كل غصن يظهر نوعا، منها ما يشبه السمسم، وأخر في حجم البطيخ ، ثمة حبات صغار في حجم اللوبيا، اذا تناول الانسان واحدة صباح كل يوم على الريق لمدة عامين فلا يمـرض ابدا (74)".
شجرة مدينة "بلخ " تجعل العاقر تحمل بالذكور والمسافر يعدو الى وطنه واهله ، وثمارها شفافة لا ترى، ومن ثم فهي شجرة اقرب الى عالم الحلم منها الى عالم الواقع ، مثلها في ذلك مثل زهر البلسان .
تحضر في الرواية اشجار النخيل والتين والزيتون والتوت والنبق والكتان والنعناع ، القنب الهندي، والريحان الفارسي، وشقائق النعمان وغيرها من الزهور والنباتات والا شجار، تحضر في صفاتها الغريبة، وخصائصها الفريدة ، ورموزها العجيبة ، وعوالمها التي تتجاوز ما عرفه العالم من صفات وخصائص ورموز للنبات والاشجار والزهور.
تزخر هذه الرواية بالحيوانات ايضا، منها على سبيل المثال لا الحصر الجمال والفيلة ، وذلك الحيوان الغريب الذي "هو وسط بين الجمل والحصان " وتزخر بالاسماك كما يرد ذكر الزواحف والحيوانات الاليفة المتوحشة ، والبشر الذين يشبهون الحيوانات والحيوانات التي تشبه البشر. وفي القصر – في المملكة – كانت هناك الاسود والفهود والدببة والزراف والغزلان والافيال ، وكل هذه الكائنات تساهم ، مع ماسبق ذكره من البشر والطيور والنباتات، في تكوين المفردات الاسطورية الخاصة المميزة لعالم هذه الرواية .
جغرافيا الوهم
لا يتحرك البشر والحيوانات والطيور والزواحف ، ولا توجد النباتات والكائنات الاسطورية المختلفة في هاتف المغيب في الفراغ ، بل يوجدون في اماكن مختلفة هي اقرب الى ما يسميه ميكيل وحسنى زينة بجغرافيا الوهم .. في هذه الرواية نجد القاهرة وجزيرة " تنيس " والصحراء والفسطاط والواحة والمدن المعلقة وعين " عذارى" والمملكة او الاقليم وجزيرة " تنيس " والمقهى والبيوت والقصور والمقاهي وغيرها من الاماكن ذات الملامح الخاصة لكنها الموضوعة في نفس الوقت على حدود المكان وعند اطراف الزمان .
نصوص جغرافيا الوهم هي مجموعة من الكتابات التي ينطبق عليها -كما يشير حسنى زينة – معيار او اكثر من المعايير التالية :
(1) احتواء النص على موضع لا وجود له اصلا.
(2) احتواء النص على رؤية وهيمة لموضع موجود فعلا.
(3) احتواء النص على احداث وهيمة في موضع موجود فعلا (زينة ، ص 14).
وبالطبع ليس هناك ما يمنع ان نضيف الى ما سبق عنصرا رابعا من عناصر جغرافيا الوهم وهو ان يحتوى النص على رؤية وهمية لموضع لا وجود له اصلا. على كل حال ، فان مقاربة نص هاتف المغيب تكشف لنا عن وجود رؤية وهمية لاماكن غير موجودة (الواحة والاقليم او المملكة مثلا) اكثر مما تكشف لنا عن احتواء النص على رؤية وهمية لأماكن موجودة فعلا (القاهرة وبلاد الغرب او المغرب مثلا) فالأماكن الموجودة او التي تكاد تكون موجودة يردها الكاتب من خلال عين هي اقرب ما تكون الى العين الواعية المدركة الراصدة المدققة ، بينما الاماكن غير الموجودة او التي كانت موجودة يردها الكاتب من خلال عين الوهم وعين الخيال وعين التصور. ومن الامتزاج بين هاتين العينين : عين الواقع وعين الوهم او الخيال ، ينشأ عالم هذه الرواية ويتشكل .
جغرافيا الوهم " العربية " تتميز كما يشير حسني زينة بغلبة الاماكن الوهمية المتعلقة بالمياه العذبة . قبل ان يصل " احمد ابن عبدالله " الى الواحة كان قد عرف ورأى قصصا كثيرة عن الماء ودوره الكبير في حياة الناس : عرف قصصا كثيرة عن البحر "هذا اليم تنتظره الاراعي العطشى الشبقة ، لكنه اغلق بيوتا كانت عامرة ، عندما ينقلب قارب صغير ويحمل عائلة باكملها، وما يأخذه النهر لا يرده (36)" ومن خلال الحضرمي عرف علامات " الجذب والنماء، وغور مياه الارض وكيفية الاستدلال على شحه او غزارته (38)" كذلك فان الحضرمي "له على علامات السحاب الممطر، والغيوم المحلقة ، والبروق الصادقة التي يعقبها مطر (38)"، من اعجب ما راه احمد بن عبدالله في رحلته تلك العين العذبة الباردة التي تجاورها عين ماء أخرى حمئة ساخنة ، وايضا تلك الحكاية عن الرجل الذي جاء هاربا من الوادي وطلب منه اهالي الواحات الا يستحم في العين الحارة ثم انه تجرأ مرة واستحم فيها فمات ثم اصبح اختفاؤه مرتبطا بالجنس لدى نساء الواحة وايضا حكاية الرجل الذي توفيت زوجته في الصحراء وتركت له وليدا صغيرا فارسل الله الحليب الصافي الى صدره فارضع ابنه ، وحكايات واحداث كثيرة ترتبط بالماء في حالات تدفقه وانهماره او في حالات جفافه ونضوبه ، وهكذا فان هذه الرواية هي ذات رؤية مائية تتحرك ما بين الماء والصحراء أو بين الماء والصحراء او بين الخصوبة والجفاف .
في الواحة ارتبطت " عين عذاري" بالحب والميلاد والتكاثر والاستمرار، وبجوارها قابل "جمال بن عبدالله " امرأته ، وعلى ضفافها حملت ابنه الذي لم يره . البداية والنهاية مرتبطان بعذاري، على ضفتيها يتم العرض ، فاذا طقت الشرارة واتقدت الجمرة ، يبدأ وقوف كل منهما على خبايا الاخر، هنا قرب الماء اصل كل حي ومنشأ الواحة (7)".
الماء هو مصدر كل امكانيات الوجود، وهو السائل المرتبط بكل اشكال التحقق كما كان "افلاطون" يقول . وهو يرتبط رمزيا بالام العظيمة او الام الخالدة ، رمز الكلية والاكتمال والصورة الاولية الخاصة بالحياة عند يونج ، وهى صورة ترتبط بتحقيق الذات والمحافظة على هذه الذات وهى كذلك صورة ترتبط بالتوالد والتكاثر والحب ، لكنها ترتبط ايضا بالموت والدمار، فمن الماء يمكن ان تخرج ايضا الحرارة والبرق والكهرباء. يرتبط الماء في جوهره اذن بالحياة والخصوبة والتجدد وبالتدفق المستمر للوعن وللاوعي، للظاهر (سطح الماء) وللباطن (اعماقه ) والانغماس في الماء قد يرمز الى البحث عن سر الحياة او الوجود والى ما يحيط بهذا الوجود من اسرار غامضة .
في مقابل الواحة " وعين عذاري" هناك الفسطاط الذي هو عالم غامض حلمي سحري يدرك بالصوت اكثر مما يدرك بالصورة ، فكان اقرب الى الثكنة العسكرية التي لا تكف ابدا عن الحركة وعن الاستعداد لحروب ولغز وات لا تحدث .
وعلى الرغم من وقوع الفسطاط ضمن دائرة البصر بالنسبة لاهال الواحة ، فانهم يتحاشون ذكره او النظر اليه ، هو موجود بداخلهم اكثر مما هو موجود بخارجهم ، هو شبه ذلك العدو الوهمي الذي تخيله بوتراني فى روايته الشهيرة "صحراء التتار" بالتدريج اصبح الفسطاط جزءا اساسيا من حياة سكان الواحة ، اي تغيير فيه ينعكس بالخوف او التوق او الدهشة او الهلع ، مواعيد طعام سكان الفسطاط اصبحت معروفة بالنسبة لسكان الواحة ورتب سكان الواحة مواعيد طعامهم بما يتفق مع مواعيد طعام جنود الفسطاط ، كل ما يحدث في الفسطاط من حركة او ما يصدر منه من صوت او ضوء كان ينعكس بشكل او بآخر في سلوك وأفكار ومشاعر سكان الواحة ، هو مكان ارتبط بالخوف والمجهول والغامض وغير المدرك والموشك على المداهمة ، ومن ثم فهو اقرب الى عالم الوهم منه الى عالم الواقع ، الى عالم الحلم منه الى عالم الادراك أو المعاينة .
يتصل بجغرافيا الوهم بدرجة كبيرة تلك المدينة المعلقة التي شيدها البناء المصري "ابن حافظ الطير" إذ شيد مدينة جميلة ، صغيرة ، معلقة في الفراغ ، وفي الوقت عينه فوق الارض ، والبحر، في كل الجهات ، مدينة فريدة لامثيل لها، تبدو لكل شخص في اي وقت ، سواء كان في الصحراء المقفرة ، أو البقاع العامرة ، في البحار والانهار، في اي مكان ، اي جهة ، اينما وليت الوجهة يمكن استحضارها ثم دخولها والاقامة . لكن .. هذا غير متاح لاي شخص ، انما لابد من توافر درجة معينة من المعرفة والالمام بأجناس الطيور.. ليس العلم المجرد ولكن المقصود هو الاحساس بها وادراك كواهنها (156)" . هذه مدينة اقرب الى الحلم والاسطورة "الى عالم المتصوفة وعباقرة الخيال ، هي مدينة تكاد تكون موجودة داخل الانسان . اكثر من كونها موجودة خارجه " هي مدينة العلم والفهم الكلي ، المدينة التي سافرت اليها طيور فريد
الدين والعطار والحكماء ، مدينة الله التي سعى اليها اغلب المتصوفة .
تمت احداث كثيرة في هذه الرواية في الصحراء، بل ان الكثير من الاماكن التي تزخر بها الرواية هي اماكن صحراوية في المقام الاول ، ومن هذ0الاماكن على سبيل المثال لا الحصر: الواحة ، الفسطاط ، الاقليم . الصحراء هي المكان الذي يتم من خلاله الرحيل ، لكنها ايضا مكان الاكتمال والهدوء. هي المكان المقابل او النقيض للماء، هي مكان لصراع الحياة والموت، هي مكان يحدث فيه احيانا الاتحاد بين العوامة والقوة والخصوبة الجسدية وبين الفساد الاخلاقي، لكنه مكان يحدث فيه ايضا التطهر والوحى. الصحراء ترتبط بالتراب والرمال والموت ، هذا الموت قد يكون موتا معنويا اكثر منه موتا ماديا، قد يكون موتا لطغيان الشهوات ومن ثم حضورا للوعي، موتا للجهل ، ومن ثم حضورا للعلم والمعرفة، موتا للانشغال بالصغائر، ومن ثم مزيدا من الاهتمام بالقضايا الكلية ، موتا للانشغال بالذات وانبعاثا للاهتمام، بالمجموع .
نعتقد ان رحلة "احمد بن عبدالله " من القاهرة ، عبر الصحراء، مرورا بالواحة والفسطاط والاقليم ، وحتى بلاد الغرب او المغرب ، كانت رحلة لاكتشاف الذات ، رحلة ترمز الى عبوره لبحر الحياة : وتغلبه على الصعوبات والمشكلات التي كانت تعوق اكتماله وتمنع فهمه الكلي للوجود وللحياة ، رحلة عبر فيها من النقص الى الاكتمال ، ومن الجهل الى المعرفة، ومن ثم تحولت هذه الذات الى ذات تتحرك في فضاء الحرية بعد ان كانت ذاتا منغلقة في اطار الضرورة : لقد عرف "احمد بن عبداته "، ومن خلاله عرف "جمال بن عبدالله "، ومن خلاله عرف "جمال الغيطانى" ومن خلاله عرفنا ان الفروق والحواجز الموضوعية بين الشرق العربي والمغرب العربي هي فروق مصطنعة وهمية ، وان الوحدة العربية هي الحل المثالي والضروري لكل ما يعانيه العرب الان من مشكلات وانهيارات وتخلف لقد عرفوا وعرفنا ان تاريخنا وجغرافيتنا تزخران بالعديد من البدائع والجواهر، وان كل ما نحتاجه هوان نرفع الغطاء ونكشف الستار عن هذا الدر المكنون في تراثنا الذي يمكن ان يغيب اذا تغافلنا عنه او نسيناه ، وهذا العمل الابداعي بمثابة " الهاتف " الذي ينبهنا ويوجهنا نحو الكشف عن هذه الكنوز وابرازها قبل ان تسقط في اعماق "المغيب " ومن ثم فهو بقدر ما يؤكد وحدة الوجود بمعناها الصوفي ، فهو يشير ايضا، وبطريقة فنية ، الى وحدة سكان هذه المنطقة من العالم ، او الى ضرورة هذه الوحدة رغم كل شيء.
ارقام سحرية .
تلعب الارقام في هذه الرواية دور التعويذة او الطلسم ، او البعد السحري الذي تتحرك من خلاله وحوله الاحداث ومن بين الارقام الكثيرة التي تزخر بها الرواية سنكتفي بالحديث عن الرقم 7 والرقم 40.
يحضر الرقم (7) في هذه الرواية في مواضع عديدة ، فهو يشير في بداية الرواية الى الاخوة السبعة الذين بنوا سفينة عظيمة ثم اختفوا وصار غيابهم مثلا، كما ان "احمد بن عبدالله " عندما يصل الى بلاد المغرب كان يحمل معه سبعة كتب عتيقة . كما انه بعد ان وصل ظل مجتمعا مع "الشيخ الاكبري" لمدة سبعة ايام ، والاخوة سكان جزيرة "تنيس " عندما ضاقت عليهم الجزيرة خرجوا منها واتفقوا عل ان يلتقوا فيها بعد سبع سنوات . وكان الحضر موتي يرتدي خاتما يقوم بتأمين القافلة فكان د،لا يقترب منها عقرب لمسافة أميال سبعة من النواحي كافــة (42)". وسكان الواحة "لم يستقبلوا ضيفا منذ سبعة اجيال (59)" وذلك قبل ان يصل اليهم "احمد بن عبدالله ". والتقا ليد التي توارثها القوم في الواحة لم يطبقوها منذ سبعة اجيال ، منذ نزول أخر غريب على الواحة (62) ولا يتأخر ميلاد أي طفل بعد وفاة احد سكان الواحة اكثر من اسبوع ، والطفلة الجميلة التي ماتت في الواحة واطلق عليها والدها اسم " ابنة الموت" ماتت وهى في السابعة من عمـرها. ومجلس كبير الواحة يحضـره " سبعة من عقـلاه القوم (801)" وبعد الشهر السابع من حمل زوجته يجىء النداء لـ "احمد بن عبدالله " بان يرحل . و" جمال بن عبدالله " يضاجع المرأة الهندية "سبع مرات " وكان في استقبال "احمد بن عبدالله" عند وصوله الى المملكة سبعة رجال وسبع نساء. وكان الاقليم "يحوى سبع مقاطعات ، وسبعين مدينة، وسبعمائة محلة ، وثماني واحات (133)"، كما انه يصل الى عاصمة الاقليم بعد اسبوع، ومركز المدينة يسمى "ميدان البراري السبعة "(205)" وكان من يسمح لهم بركوب هودج الاماني مع دداحمد بن عبدالله بعد ان تولى حكم المملكة "يرشهم الخدام بالعطور السبعة الشافية (26)"، وكانت في القصر غرفة تسمى "المرايا السبع (234)" وسبعة من اركان الدولة ولدوا اناثا ثم تحولوا الى ذكور. وهناك في القصر درجات سبع مؤدية الى الشرفة الدائرية حيث لا يسمح بالوقوف الا للحاكم المطلق . وهكذا، فاننا نجد ان هذا الرقم يتكرر كثيرا، وما ذكرنا" هو بعض تكرارات هذا الرقم في الرواية وليس كلها، فما مغزى هذا الرقم ؟.
رمزيا وميثولوجيا يتكرر هذا الرقم في اساطير عديدة من الشعوب وكان العرب يسمون قديما "بالسباعيين " كذلك يشير هذا الرقم الى ايام الاسبوع السبعة والى السماوات السبع ، والاراضي السبعة ، وحالات القمر السبعة ، والوان الطيف ، والسلم الموسيقي السباعي، والقراءات السبع للقرآن الكريم ومراحل التصوف السبع ، المؤدية الى التنوير والاشراق ، وهى المراحل التي كانت رموزا شائعة في الفكر العرفاني والغنوصي والكيميائي القديم ، وهو رقم يشير ايضا الى فكرة الائمة السبعة في التراث الاسماعيل الشيعي، والى الخطوات السبع التي كان على العارف ان يخطوها بنفسه حتى يصل الى هدفه ، حيث يبلغ شجرة المعرفة بعد الخطوة السابعة ، وتحدث ابو نصر السراج في كتابه "اللمع " عن المقامات السبع "التوبة – الورع – الزهد التام – الفقر – الصبر على المكاره والبلايا – التوكل – الرضا" ويشير هذا الرقم ايضا الى الاودية السبعة التي تسلكها الطيور في طريقها الى "السيمرغ "، حتى تمثل في حضرته وتتحد به في وحدة شهودية ، وهى اودية الطلب – العشق – المعرفة – الاستفناء -التوحيد – الحيرة – ثم الفقر والفناء، وذلك لدى فريد الدين العطار في "منطق الطير".
انه رمز الاكتمال والدائرة المكتملة والانجاز والمبادرة والتطهر والحكمة ، وهو ايضا رمز للحركة عبر الزمان والمكان وصولا الى المطلق والكلي ، الى الأمن والاستقرار والراحة وحسن المال ، وهو ما سعى نحوه "احمد بن عبدالله "، واليه ارتحل . اما الرقم 40 فهو رقم يرتبط بالاربعين يوما التي ينبغى ان تمضيها المرأة بعد الولادة حتى يمكن لزوجها ان يتصل بها، ويرتبط ايضا بطقوس جنائزية احتفالية خاصة بشعائر مرور ار بعين يوما على وفاة احد الاشخاص . وهو رقم يرتبط ايضا بسن الاربعين ، عمر النضج والنبوة ، هو رقم ارتبط في الاساطير بالعواصف والفيضانات وفي الاساطير المصرية القديمة كانت فترة موت وغياب "اوزيريس " هي فترة صوم مقدارها اربعون يوما، وظل موسى عليه السلام فوق الجبل اربعين يوما حتى سمع صوت الله .
استغرقت رحلة "احمد بن عبدالله" مع القافلة أر بعين يوما وقد قال عنها انه "ما من مرحلة اكتملت فيها غربته منذ خروجه مثل تلك الايام الاربعين ، اذ يستعيدها يخشى، كأن مجرد احتمال عودتها بالخاطر مما يخيفه (49)" .. كذلك فانه عندما يصل المملكة يظل في عزلة لمدة ار بعين يوما بعدها يبدأ في ممارسة مهامه كحاكم للمملكة ، وأيضا فان "احمد بن عبدالله" يمشى في نهاية الرواية وحيدا لمدة اربعين يوما، "منقطعا عن الخلق تماما، بدأ ظهور نخيل ، اشكال غريبة من الصبار، تغير لون الرمال من صفرة الى حمرة ايقن انه على وشك بلوغ علاقة فارقة خاصة عندما رأي طيورا محرمة (288)"..
يحضر الرقمان "سبعة " و" اربعون " كرقمين يرمزان الى الحياة والى الموت، الى الحركة والى السكون ، الى المتعة والى الالم ، الى الشباب والى الشيخوخة، الى الحلم والى الواقع، ومن امتزاجهما يتشكل عالم زاخر بالدلالات والاحتمالات .
"بارودي" صناعة الزعيم :
"البارودي" مصطلح نقدي يشير الى "المحاكاة التهكمية لنص ادبي او اثر فني او سمات مميزة لشخصية معروفة ، بحيث تراعى خصائص الاسلوب الاصلي او مميزات هذه الشخصية ، ويكون ذلك بقصد الاضحاك ، ليس لما فيه من تهكم او سخرية ، وانما لبراعة ما فيه من تقليد، وهكذا فان هذا المصطلح قد يشير الى المحاكاة التهكمية " لنص ادبي كأن أقلد اسلوب "شكسبير" او شخصية "دون كيشوت" من خلال المبالغة في اظهار خصائصهما بغرض الوصول الى دلالة اكبر من موقف الاضحاك الناتج عن المحاكاة ، او ان اقوم بمحاكاة تهكمية لشخصية واقعية لا بهدف السخرية منها في المقام الاول بل بهدف اتخاذ موقف مضاد منها، ومن كل ما تمثله من تصرفات وافكار، وقد كان "جمال الغيطاني" هنا كما اشار "صلاح فضل" يعتمد على المرجعية التاريخية القريبة في وصف اجراءات تحويل الشخوص الحاكمة الى
اساطير متألهة".
كما ذكرنا فان كاتب هذه الرواية بقدر ما هو مشغول بجغرافيا الوهم بقدر ما هو مشغول بتاريخ الواقع ، ويتجلى انشغاله هذا بتاريخ الواقع على ابرز وجه في تلك الفصول التي تدور في المملكة بعد وصول "أحمد بن عبدالله " اليها، فهذا الانسان الذي لا تربطه ايه صلة عضوية أو وظيفية بسكان المملكة يستقبل استقبالا اسطو ريا، ويتم تنصيبا زعيما، ويفصل الكاتب كثيرا في تصوير طقوس تكوين الزعيم وصناعته ، وهى طقوس تنجح في النهاية في جعله اقرب الى الزعماء الملهمين (او الكارزما) الذين على شاكلة "نابليون" و"هتلر" و"موسوليني" وهم زعماء بقدر ما احاط شخصياتهم من سحر وغموض وجاذبية بقدر ما احاطت نهايتهم من مأسوية وفشل وانهزام ، وهكذا فاننا نجد هذا الزعيم المصنوع يهرب من سلكته اثناء انشغالها الكبير بالاستعداد للحرب وملاقاة الاعداء تحت وطأة هاتف باطني يدعوه دوما للرحيل .
اصبحت اشاراته محسوبة ، وكلامه بقدر، وحركاته مبرمجة ، وابتسامته مصنوعة بعملية جراحية بحيث يظل مبتسما طيلة الوقت "ابتسامة فريدة ، تميز رأس البراري، ابن الشمس ، صاحب النفحة، عن سائر الخلق، سفورها الدائم يكسف العيون الجوارح يهدىء الخواطر اذا اضطربت، يحل المشاكل اذا تعثرت ، يثير الانس والطمأنينة ، بعد ظهورها، واستتبابها، يبدأ الرسامون عملهم (163)". وايضا "حركة دماغي ابطأ، لا التفت الا بقدر، ولا اكثر من التطلع فوقي او حتى تحتي، ومعظم الامر الى الامام، وباتجاه نقطة محددة ، حتى قيل ان اعتى الرجـال قلبا واثبتهم فؤادا لا يقدر على مواجهة عيني الا لحيظـات، بعـدها لابد ان يطـرق (169)".
من خلال التركيز على الصوت والنظرة والحركة والابتسامة واشارات الايدي واشكال التحية، ومن خلال طقوس المبايعة والاقوال المأثورة للزعيم وهتاف الجماهير، واجهزة آمنة، والموسيقى النحاسية ، والاغاني الحماسية وديوان الرئاسة ، وغير ذلك من الطقوس تتم صناعة الزعيم وبعد ان كان "احمد بن عبد الله " يسخر في داخله ويكاد يقهقه مما يحدث له ، فانه تدريجيا يتقمص الدور ويصبح زعيما نموذجيا من زعماء العالم الثالث العسكريين الذين يتجسسون على شعوبهم ويدخلون حتى الى غرف نوم رعاياهم ، ويهدرون طاقات بلادهم ، ثم يهربون عند اول تحد او مواجهة خارجية ، انها شخصيات ضعيفة الانا والانتماء، ومن ثم تبالغ في اظهار قوتها الخارجية ، من خلال طقوس ومراسيم وقوانين واحتفالات خارجية مرسومة بدقة مصنوعة بعناية . وعندما يخرج الزعيم عما هو مرسوم له ، عندما يخرج على النص تظهر طباعه البدائية ويتجلى جهله .
في الرواية إدانة واضحة لكل ما هو ضد حرية الانسان ، واستنكار واضح لعمليات القمع والاستبداد والاستهانة بكرامة الشعوب وفيها تذكير بحقوق الاقليات ، وادانة لعمليات التلصص التي يقوم بها البصا صون الذين ادانهم الغيطاني سابقا في روايته الفذة "الزيني بركات ". في الرواية تشخيص لحالة الوعى الجمعي الذي يغيب أو يغيب او يسمح لقلة بتغييبه ، في فيفقد حقوقه ، ويفقد مبررات وجود» وفيها رصد لهذا التاريخ المستمر من الظلم والقمع والاستبداد في المشرق والمغرب وفيها دعوة واضحة الى الديمقراطية والحرية . ومن خلال رصد الجانب السلبى المظلم للمكان (الظلم والاستبداد والتخلف ) والدعوة الى انبعاث الجانب الايجابي المضى، (العدل والحرية والديمقراطية ) يتشكل تاريخ المكان الذي رصدته هذه الرواية والذي حلمت به ايضا.
ملاحظات ختامية :
حاولنا في هذه الدراسة ان نرصد بعض الملامح المميزة لرواية هاتف المغيب الروائي العربي من مصر "جمال الغيطاني" وتظل الجوانب التي اشرنا اليها في هذه الدراسة تحتاج ال المزيد من البحث والدراسة كما ان هناك بعض الابعاد الاخرى التي مازالت تحتاج الى الاستكشاف والاستقصاء ونذكر منها:
(1) التناسخ والتحولات :
فالشخصيات التي تختفي في بعض مواضع الرواية تعاود الظهور في مواضع اخري، فمثلا شخصية "قصاص الاثر" كلما اختفت من مكان ، او من عصر، عاودت الظهور في مكان اخر، وفي عصر اخر، كما ان والد "التنيس " واخرته الذين اختفوا يعاودون الظهور في اماكن أخرى تخلد ذكراهم ، من يختفى في الشرق يظهر في الغرب ، ومن يغيب في الغرب يظهر في الشرق ، ويرى "جمال بن عبدالله " في "احمد بن عبدالله " صورته الاخرى الغائبة، توأم روحه ومثال عقله ووجدانه (زمنه المصري في مقابل زمنه المغربي).
وهكذا فانه لا شىء يفني، وتضم وحدة الوجود الشرق والغرب في اتحاد أبدى لا ينفصم رغم مظاهر الغياب الظاهرة . وفي الرواية ايحاء بان هذه الذات الكلية المنشطرة متعددة الاشلاء تحتاج الى المزيد من الجهود والبحث من اجل تجميع هذه الاجزاء المتفرقة وتوحيدها مرة اخرى.
(2) الاعلام والرؤى:
تلعب الاحلام والرؤى دورا كبيرا في تشكيل عوالم هذه الرواية ففي مثل هذه اللحظات كان يجىء الهاتف "ارحل " وهى لحظات او "لحيظات " وصفها الكاتب بأنها "يصعب تحديدها، اذ تتحول الافكار الى صور لا رابط بينها، تبدو متسقة في البداية لكنها سرمحان ما يفلت عتالها، تتضاءل ، تتحول الى مساحات معتمة ، متصلة ، تتخللها رؤي تتلاشي مع اليقظة (49)"..
ويصف "احمد بن عبدالله " تلك الليلة القديمة التي جاءه فيها اول هاتف بانها ليلة اصابه فيها الارق ثم جاء" الهاتف ددعندما بدأ خوض المسافة الفاصلة بين اقول اليقظة والايغال في النوم، اذ تتميع الجمادات وتتداخل الاوقات ، تتوالى الصور المبهمة ، يمتزج الحنين بالتوقع بالامل في الاتي، باستنفار العزم وعقد النية ، وبزوغ ندم على ذنب مجهول بدر منه يوما (13)"..
هكذا كان الهاتف يأتيه دوما بين اليقظة والنوم ، قبل الايغال في النوم ، او بين النوم واليقظة، جاءه الهاتف في البداية في مطلع شبابه فارتحل ثم جاءه عندما صادق "الحضرمي" وتعلم منه وكاد ان يتوحد معه فارتحل ، ثم جاءه عندما اوشكت امرأته على الولادة في الواحة ، ثم عندما كانت مملكته تستعد للحروب في المملكة ، وفي كل مرة جاءه الهاتف فيها ما بين اليقظة والنوم، كان يصحو ويرتحل ، ويترك شيئا عزيزا عليه قريبا من قلبه ، ترك القاهرة في المرة الأولى، وفي المرة الثانية ترن الحضرمي، وفي المرة الثالثة ترك زوجته وابنه ، وفي المرة الرابعة ترك ملكه وسلطانه ، وهكذا.
وفي الرواية مشاهد احلام كثيرة واشارات كثيرة لاحلام الطيران في الهوا ء، او السباحة تحت الماء، اضافة الى احلام التذكر للطفولة وللقاهرة ومقاهيها وشوارعها، وكلها تشى برغبة عميقة استولت على عقل ووجدان "احمد بن عبدالله" ودفعته دوما الى تجاوز الممكن ومقاربة المستحيل .
(3) اللاوعي الجمعى السلبى:
في فصل "العكاكزة " يصف "احمد بن عبدالله" ما رآه من حالات اضطراب الوعى وفقدان الارادة لدى هؤلاء الناس الذين انفصلوا عن العالم فجلسوا يأكلون ويشربون ويتساندون ويرقصون وينغمسون في الملذات وكلهم كانوا اداما يمسكون او يستندون او يضعون الى جوارهم تلك العكاكيز الخشبية ، مع انهم صحيحو البنية ، خطوهم سليم (277)"..
في هذا المجتمع الحسب الرجال ليونة النساء، واكتسبت النساء خشونة الرجال، هو ليس تحولا عضويا كما كان الحال في المملكة ، بل تحول بالفصال والخصائص ، انعكست الادوار وانقلبت المعايير، الرجال لم يعودوا يشعرون بأية نخوة او شهامة او غيره على زوجاتهم او بناتهم أو اخواتهم . والشرطي اصبح هو السارق ، والطبيب اصبح يقتل المريض بدلا من ان يشفيا، وقام الحيوان بدور الانسان ، والانسان بدور الحيوان ، لم يعد هناك قانون ، ولا ميثاق اخلاقي ولا ضوابط ولا معايير، ومن ثم يرحل "احمد بن الله " سريعا عن هذا المكان ، يرحل دون هاتف باطني، يرحل اختياريا في مقابل مرات رحيله الاخرى التي كانت كلها اجبارية وذلك لانها كانت رحيلا عن اماكن يحبها او اشخاص يعشقهم .
(4) علاقة الزمان بالمكان:
انشغل "الغيطاني" في هذه الرواية كثيرا بعلاقة الزمان بالمكان ، ففي الرواية مقاطع عديدة تركز على رصد حالات اضطراب الوعى بالزمن وتأثير ذلك على مسار الاحداث وعلى انفعالات الشخصيات وافكارها، هذا الوعى المضطرب او المتغير بالزمن ينعكس بالضرورة على ادراك المرء للمكان . يقول "احمد بن عبدالله " من رحيلي الطويل ايقنت ان العمارات والخطط ليست ما تبدو، لكنها ما تحوي وتخفى ايضا، ما جرى فيها عبر ازمنة مندثرة مولية ، طاوية لكل شىء، صغر او عظم ، ليست القاهرة ما تلوح للعابي، او المقيم الغافل ، انما ما جرى لها وفيها، وعند الانسان الفرد ربما لا يكتمل المكان الا برحيله الى موضع اخر فيرى الاول على البعد (257)". ويقول "جمال بن عبدالله " "الفناء الذي كان يبدو رحبا نسيما اقطعه جريا اقبل ان تحل عبي المحنة التي اقعدتني هذا الفناء ضاق على مداه ، الغرفة الداخلية التي ولدت بها لم تعد تعنى شيئا ادخلها كثيرا فلا اذكر ذلك ، واذا خطر لي فكأنما يمت الى شخص اخر، كأنني اطالع تاريخا قديما يخص غيري ، مع غياب احباب وتلاشى عادات تبدلت الجدران مع انها لم تهدم وتغيرت الابواب مع انها لم تخلع ، وتباعدت او تدانت الغرف مع انها لم تتحول . لكن .. ثمة ما يستعصى على الرصد. ما لا يمكن ان اعبر عنه بكلمات يؤكد ان المكان ينتقل في ثباته وان لزمته ، يرحل عنك وترحل عنه وان اقمت فيه عمرك ( 240- 241)".
ان المكان رغم ثباته الخارجي يتغير في داخل الانسان بسب مرور الوقت وبسبب خبرات المعاناة والالم ، فعندما يختلف الزمن او يضطرب او لا يكون كما نهوى، عندما لا يكون زماننا ليس كما نهوى ونتمنى يختلف مكاننا ويضطرب ويضيق ويحاصر الوعى ويخنقه ايضا، ومن ثم يلجأ الانسان الى الخيال لإيقاف اضطراب الزمان ولتحريك حدود المكان وتوسيعها، ومن ثم تظهر الازمنة الدائرية التي تحاول ان تهرب من الفناء وتلامس الخلود، وتظهر جغرافيا الوهم التي تحاول ان تضيف الى المكان الموجود الضيق اماكن جديدة مليئة بالاخيلة والتهريمات . لكنها اخيلة وتهريمات دائما ما تعود بنا الى الواقع ، بكل ما يشتمل عليه هذا الواقع من جغرافيا وكل ما مر عليه من تاريخ .
ـــــــــــــــــ
* الارقام الواردة بين القوسين تشير إلى الصفحات التي اخذنا منها هذا الفقرات من رواية "هاتف المغيب ".
شاكر عبدالحميد: ناقد واستاذ علم النفس بجامعة القاهرة.