ايريكا فيشر – ليشته
ترجمة وتقديم: مروة مهدي*
مفهوم الأدائية وإشكاليات الترجمة إلى العربية
تبقى عملية الترجمة عملية مركبة ومعقدة، ذات أبعاد متعددة، منها ما هو لغوي، ومنها ما يخرج عن إطار اللغة ويتجاوزها، إلى ما وراء الكلام، أيّ إلى الشفرة الثقافية المخبأة وراء السطور، والتي ترتبط بالضرورة بالسياق الثقافي والحضاري الذي خرج منه النص الأصلي من جهة، وبالسياق الثقافي والحضاري الجديد، الذي يحوي النص الجديد المُترجم، ليتحرك النص الأصلي إلى حيز الحياة في هيئة جديدة – من جهة أخرى-.
وبناء عليه؛ تَعظم إشكالية النقل من لغة إلى أخرى، في حال نقل المفاهيم الفلسفية والاصطلاحية، خاصّة المرتبطة بسياقات فكرية وتخصصات معينة. حيث يُعدّ المصطلح تكثيفا لأفكار مركبة ومشاهدات خاصّة داخل حقل معرفي ما، وبالتالي يتطلب وضع ترجمة للمصطلح، معرفة كاملة وإلماما بتداعيات المصطلح وتاريخه، ومراحل تطوره ونماذجه التطبيقية، التي تعيش في حال من الحراك المستمر، إذّ لا تقف عند حدود جامدة، بل تتعامل دائما مع أطر وتفسيرات وتداعيات جديدة، تتطور من داخلها وبها، حيث تستلهم المصطلحات مع تكرار استخدامها معاني وآفاق ثقافية وتخصصية جديدة، حتى لدى مُطلِقها نفسه، ليكون نقل المصطلح إلى لغة أخرى، أكثر تعقيدًا من نقل الكلمة أو المعاني السياقية، وبسبب البنية الاصطلاحية المعقّدة والمركبّة في نظرية “جماليات الأداء- نظرية في علم جمال العرض”، واجهتُ – كمترجمة – عددا كبيرا من الصعوبات، لنقل النصّ المتفرّد للمنظرّة الألمانية (ايريكا فيشر- ليشته)، من اللغة الألمانية إلى العربية.
– كتاب “جماليات الأداء Ästhetik des Perfomativen ” ومأزق الترجمة:
ينبني كتاب “جماليات الأداء”، على شبكة من المصطلحات المترابطة والمتداخلة والمركبة، والمرتبطة – في الوقت نفسه – بالسياق الثقافي الأوروبي، وبفترة “منعطف العرض”؛ أيّ الفترة الزمنية التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، وانتشرت فيها أشكال مغايرة من العروض، اختلفت في طبيعتها عن عروض المسرح المعتادة، حيث تخلّصت من الدراما، ومن التمثيل، وبدأت في طرح العرض باعتباره فنا متمايزًا ومستقلًا ومنفصلًا عن فنون الأدب والدراما.
لم يكن ممكنا تحليل مثل هذه العروض، بالأدوات النقدية الكلاسيكية، ولا من خلال المصطلحات النقدية المتعارف عليها، لذا سعت مؤلفة الكتاب – (ايريكا فيشر- ليشته) إلى بناء معمار اصطلاحي مختلف، يتماشى مع الطبيعة الجديدة للعروض التي انتشرت في أوروبا في نهايات القرن الماضي، وتعمدت الضَرب بقوانين ومفاهيم المسرح التقليدي عرضَ الحائط، فتحرّرت تماما وبجرأة كبيرة من جميع القواعد المسرحية المعهودة. ومن ثَّم انطلقت المنظّرة لتسحب عددا من المصطلحات والمفاهيم من عالم فلسفة اللغة، لتنقلها إلى عالم فنون العرض، كدعائم لعدد من المفاهيم النقدية، التي تأسست عليها نظرية جماليات الأداء، بهدف توصيف جماليات هذه العروض، التي لم يكن لها وجود يُذكر في الكتابات النقدية المعاصرة.
تقول ايريكا فيشر- ليشته في الفصل السابع:
“عند تأسيسي لجماليات الأداء بناء على مفهوم العرض، عمدتُ إلى توسيع نطاق العرض، ليشمل جميع أنواع العروض، منذ منعطف العرض في ستينيات القرن الماضي، ومع ظهور وسائل إعلامية جديدة، انبثقت أنواعا جديدة من العروض، وسادت داخل ثقافتنا، في مجالات السياسة والرياضة والمهرجانات والفعاليات الثقافية، لم تدّعي تلك الأنواع الجديدة من العروض كونها عروضا فنية، ولكنها فتحت إمكانيات جديدة للمسرحة، ومجالات جديدة لجماليات الحياة المعيشية، وكأنها طرق ووسائط جديدة لسحر العالم” (الترجمة العربية، ص. 319).
وتؤكد المؤلفة هنا، على ارتباط المصطلحات المستخدمة بالثقافة الأوروبية، وبتاريخ عروض بعينها، وبفترة زمنية محددة، مما يُعّقد من عملية ترجمة المصطلحات إلى العربية، نظرا لعدم وجود نماذجَ تطبيقية أو مماثلات سابقة، يمكن الاستناد إليها في الثقافة العربية، لفك التباس التأويلات الممكنة للمصطلحات المستخدمة. استدعت المنظّرة أحد أهم العروض الأدائية، ليكون مثالا تطبيقيا حيًا يكشف مرجعية المفاهيم، والمصطلحات المصّاغة لفك شفرات عروض فترة “منعطف العرض”، وأقصد هنا عرض “شفاه توماس” لجَدَة فنون الأداء (مارينا ابراموفيتش)، والذي جرى تقديمه في قاعة للفن التشكيلي، عام 1974م في مدينة اننسبروكه، حيث تعمدتْ المؤدية تقديم ذاتها كإنسانة، وهدفت إلى خلخلة قواعد التلقي المسرحي، ليقف المتفرج مشدوها لا يعرف هل ما تفعله مارينا بجسدها أمامه واقعًا أم وهما. (انظر: الترجمة العربية، ص. 17).
تعمدت المنظّرة وصف عرض “شفاه توماس” بالتفصيل، قبل الدخول إلى متاهات التنظير، ليكون المرجعية الأساسية لفهم جماليات العروض الأدائية، ومن ثَّم ارتكزت عليه ليكون رفيقا وفيا لتنظيراتها، عبر صفحات الكتاب. أيّ أن المصطلحات الجديدة صار لها مرجعية تطبيقية واضحة في العقل الغربي، على العكس من الثقافة العربية، التي ربما لم تنتشر فيها العروض الأدائية، بنفس النسبة والكثافة التي حدثت في أوروبا، لأسباب متنوعة، ليس هنا مجالا للخوض فيها.
وفيما يلي سوف أقف على المصطلحات الثلاثة التالية: “الأداء”، و”حلقة التغذية الذاتية المرّتدة”، و”القوة التحويلية للعرض”،لأنها تُعّد الأعمدة الجوهرية التي وقفت عليها نظرية جماليات الأداء، وذلك بهدف تفكيك الخلفيات اللغوية والفلسفية التي اعتمدتها المنظّرة، وعمدت على تكثيفها، وعلى تطوير تداعياتها لتكون أدوات عملية في يد الناقد والدارس لفنون الأداء. كما سأحاول الوقوف عند الصعوبات التي واجهتني في أثناء ترجمة المصطلحات السابق ذكرها، نظرا للاختلاف الواضح بين طبيعة اللغة الألمانية المنحدرة من الأصول الجرمانية، وبين اللغة العربية السامية، بالإضافة الى الشفرات الثقافية والتاريخية المغايرة – كما ذكرنا أعلاه-.
– مصطلح “الأداء Performative “:
دارت نقاشات طويلة بين الباحثين العرب في مجال دراسات العرض حول ترجمة كلمة Performative المأخوذة بوضوح عن كلمة Performance والتي تترجم بكلمة “العرض” في العربية. فضّل النقاد المغاربة استخدام لفظة (الفرجة) لترجمة كلمة Performative، في حين تبدو لفظة (الأداء) أكثر قبولا في المشرق العربي، لترجمة المصطلح نفسه. ولفك الالتباس الحاصل، الذي يمكن أن يفرزه استخدام مفردات مختلفة لترجمة المصطلح، نعود لأصله اللغوي، حيث أفردت المؤلفة نفسها الفصل الثاني من الكتاب، لصك المصطلح، وطرح طُرق سَحبه من مجال فلسفة اللغة إلى مجال النظرية المسرحية، لأنها استندت إلى تنظيرات عالم اللغة (جين أوستن)، الذي يعود إليه فضل الاستخدام الأول لكلمة performative.
لقد كان إيجاد اللفظة ضروريًا لدى أوستن، لأنه قدم اكتشافًا ثوريًا في فلسفة اللغة، وهذا الاكتشاف يقوم على فكرة أن التفوه اللفظي لا يهدف فقط إلى وصف التصرفات أو السلوك، ولكنّه يعني أيضًا إجراء، أو فعل، أو أداء، معروض. فإلى جانب التفوه اللفظي للغة، موجود أيضًا التفوه الأدائي لها، وما يميز الجانب الأدائي للغة هو أنه يَفرض وجود فعل، أو إجراء مصاحبٍ للتفوه اللفظي. فعندما يقذف رجل بزجاجة نحو مؤخرة سفينة وهو يقول في الوقت نفسه: “سأعطي هذه السفينة اسم الملكة إليزابيث”. أو عندما يقول رجل في أثناء مراسم الزواج: “لقد قبلت بك زوجًا لي”، أو أن يقول المسؤول في نهاية مراسم الزواج: “أعلنكما زوجًا وزوجة”، فهذه الجمل أو التصريحات ليست مجرد وصفًا لمواقف بعينها – لذا لا يمكن أن نصفها بأنها صحيحة أو خاطئة- بل تكمن أهمية هذه التصريحات في أنها تخلق واقعًا اجتماعيًا جديدًا، فهذه السفينة تحمل من الآن اسم الملكة إليزابيث، والسيد (س) والسيدة (ص) قد أصبحا منذ هذه اللحظة زوجين. فالتفوه بهذه الجمل قد غير العالم، لأنّ هذه الجمل لا تُخبر فقط، ولكنها تَفصح أيضًا عن إجراءات، وتشير إلى أفعال سلوكيةٍ لما تفصح عنه.
ما الذي قامت به ايريكا فيشر – ليشته؟
لقد سحبت مصطلح الأداء إلى عالم جماليات العرض، لتصبغَه بمنظور جَمالي مُغاير، من خلال المقارنة بين (العرض) و (الأداء)، حيث لا يستند الأداء إلى النص المستخدم والمُعِّد مسبقا؛ النصّ الذي يمكن استخدامه مرارا وتكرارا، بل يتوّلد فقط في هنا / الآن، التي تتولد مع الحضور الجسدي المتزامن للعارضين والمتفرجين، وبالتالي يُخلق الاداء لمرة واحدة، ولا يمكن استعادته أو تكراره. 1
أيّ أنّ الأداء هو عملية تتولد بين المشاركين، بسبب المشاركة في الممارسة ما بين اللاعبين والمتفرجين، ومن داخل ردود أفعالهم، فهو ليس مجرد عرض لنص مُعّد مسبقا، يَرجع إليه النقاد وباحثي الأدب، بل هو فاعلية تتم ما بين اللاعبين والمتفرجين، أي أنّ الأداء ليس عملاً فنيًا مستقلاً بوجوده عن العارضين وعن المتفرجين، وإنما حدثًا اجتماعيا، يتورط فيه كل الحضور، حيث لا يجد المتفرج فيه موضوعًا محددًا يمكن أن يتلقاه مرارًا، ويفسره ويقوم بتأويله، بل يجد نفسه يعيش موقفًا حيًا، مكانيًا وزمانيًا وجسديًا مع اللاعبين، وبالتالي يكون علم جمال العرض هو علم للعروض التي تتولد من داخل النشاط الجسدي للاعبين ومتفرجين، من دون نص مُعّد مسبقا، ولا أدورا ممثلة، وبالتالي من دون وهم أو إيهام.، أي أنّ الأداء هو واقع يتخّلق في اللحظة التي يشترك فيها العارضَ والمتفرج الحضور الجسدي، في لحظة زمنية توحدهما، وفي داخل مكان يجمعهما.
لقد شهد الفنّ في أوروبا منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، عروضا أدائية متنوعة، مثلت اتجاها لا يمكن تجاهله نحو فكرة “العرض Performance”، التي أفرزت ما يمكن تسميته (اتجاه فني) نحو فنون العرض والأداء، حيث بدأت الحدود المعهودة بين الفنون تتماهى شيئًا فشيئًا، وتراجعت القواعد المسرحية المعهودة، وساد الميل إلى خلق حدث، بدلاً من خلق عمل فني. وتحقق ذلك في هيئة ما نسميه “الأداء”. عمدت فيشر – ليشته إلى قراءة نتاج هذا الاتجاه، من أجل الإمساك بطبيعة الجماليات الفنية الجديدة، التي تولدت من داخل “منعطف العرض”، ومن ثَّم سعت إلى فك عناصرها وتحليلها، من خلال مقارنتها مع جماليات العرض المسرحي التقليدي. لم يكن السعي لتقديم المعاني والمضامين إلى المتفرج (موضوعات، وأفكار، ومشاعر، وحالات روحية لشخصية درامية …الخ)، التي تُقدم لهم من قبل الممثلين – أولوية في فنون الأداء- بل كانت الأولوية هي معايشة الأجساد الواقعية داخل الأماكن الواقعية، وخلق حدث يشترك فيه الجميع.
انتشر مصطلح الأدائية بشكل واسع في أوروبا، في المجال الثقافي والمسرحي، وتم سحب مصطلح “الأداء” شيئا فشيئا إلى مجال العلوم الثقافية، فأفرز ذلك عددا من الأسئلة، التي تطرحها فيشر – ليشته، وتحاول الإجابة عليها: ماذا يمكن أن يفهم تحت المنظور الأدائي للثقافة؟ ما الذي يعنيه مصطلح “الأدائية” تحديدا في مجال الدراسات الثقافية؟ حيث تتعرض إلى تاريخ النظريات الأدائية وعلاقتها بالعرض، ثم ترصد الخصائص العامة للأدائية، التي ظهرت في مجال الأبحاث الفنية والثقافية، من خلال الاقتراب من الظواهر والعمليات الثقافية من منظور الأدائية، والبحث في الظواهر الثقافية.
– “حلقة التغذية الذاتية المرتدة Die autopoietische Feedback-Schleife”:
يُعّد مصطلح “die autopoietische Feedback – Schle ife” من المصطلحات الأكثر إشكالية في الكتاب المقدم، والذي تمت ترجمته في الإنجليزية إلى” the autopoietic feedback loop”، وهو مصطلح محوري في نظرية فيشر – ليشته، والترجمة الحرفية له لا تعبر عن محتواه الحقيقي، حيث يعود المصطلح إلى علم الإنسان وعلم البيولوجيا، كما يستخدم بشكل واسع في مجال علم الاجتماع، ويشير إلى نظام يقوم على التكاثر أو التناسل الآلي، مثل نظام الخلية الحية، فيُنَظمُ ذاتُه بذاتِه، أي نظام مبدع لذاته دون تدّخل من سياقات خارجية، مشيرا إلى عملية الإنتاج الذاتيّ التي تتم داخل المنظومات الحيّة، بهدف الحفاظ على النوع، وإلى سلسلة من العمليات التي تحوي سلسلة من التحولات في العلاقات بين الوحدات المكوّنة للسياق، مما يعني علاقة جدلية بين بنية ووظيفة هذا النظام. لقد اُستخدم هذا المصطلح من قبل المنظِّرة، لوصف النظام الجدّلي بين المشاركين داخل سياق العرض، الذي يتطور من تلقاء ذاته بين العارضينَ والمتفرجين، أي أنه نظام تلقائي لا يمكن التنبؤ به أو التخطيط له، كما أنه يسير في شكل دائري مغلق على ذاته.
وفي سياق الكتاب، سوف يتم شرح مصطلح die autopoietische Feedback-Schleife” بشكل تدريجي، ليصل إلى اكتمال معناه مع نهاية القراءة. لقد قمت بترجمته كالآتي: “حلقة التغذية الذاتية المرّتدة” في محاولة للامساك بكل عناصر النظام المشار إليه، والذي يسير في شكل حلقة مغلقة بين العارضينَ والمتفرجين، ليقوم بتوليد نفسه بنفسه، وبشكل متداول ومتبادل ومرتد بين الأطراف المشاركة في السياق. وربما تكون كلمة “حلقة” غير دقيقة تمامًا لترجمة كلمة “Schleife” الألمانية، ومعناها “شريط ملفوف”، أي أنه لا يمثل شكلاً دائريًا تماما، بل يقترب أكثر من الشكل الحلزوني واللولبي، لكنني اخترت كلمة حلقة هنا للإيحاء بانغلاق النظام على ذاته، على أمل أن تَبرز صفة “المرتدة” هذا الإيحاء بشكل أو بآخر. لقد حاولت الوصول إلى تركيبة لغوية تُعطي المعنى، وتوحي في الوقت نفسه بالمقصود من المصطلح، الذي أجد أنه لا بد من فهمه لفك وفهم نظرية جماليات الأداء في مجملها.
ويعني مصطلح “حلقة التغذية الذاتية المرتدة” في مجمله، التفاعلات الجارية بين العارضين والمتفرجين، التي تعتمد على ديناميكية العرض وتفرزها أيضًا، مثل عملية تطور الحياة بمعناها الواسع، بمعنى أن العرض هو نظام يعتمد على التنظيم الذاتي لنفسه، ليتم التلقي المتبادل بين الأطراف المشاركة، وبمعنى آخر أن العارضين يتلقون من المتفرجين، وفي الوقت نفسه يتلقى المتفرجون منهم، ليتم دمج كلا الجانبين في نظام جديد ينشأ بينهما، لا يمكن التنبؤ به أو التخطيط له، وذلك التطور إنّما يجري في شكل حلقي لولبي مستمر.
توجه الرؤية الإخراجية “حلقة التغذية الذاتية المرّتدة” دون أن تستطيع السيطرة عليها، أو تحديد مسارها بشكل مؤكد، باعتبارها عملية تخطيط وتجريب وتثبيت لمجموعة من الاستراتيجيات، التي تعتمد على مادية العرض، بهدف إفراز الأداء. وبالتالي تظهر العناصر المادية كحاضر في هنا / الآن، ليتم خلق موقف يفتح المجال والفضاء للتصرفات والسلوكيات غير المخطط لها، ليتخّلق نظام مغلق على ذاته، يحوي الأداء بداخله، من خلال حراك مستمر وغير موجه، يتشكل في لحظة آنية، ويتحرك باستمرار من داخل العناصر المادية المختلفة، كالحضور الجسدي للمشاركين، والفضاء الذي يحتويهم، فتتحول الحدود ما بين العارضين والمتفرجين وبين الصالة والخشبة، وبين الفرد والجماعة، أو بين الفن والحياة إلى عتبات بينية، بفعل “حلقة التغذية الذاتية المرتدة” تلك، أي أنّ الحدود تتماهي وتتشابك وتفقد بالتالي سطوتها.
“القوة التحويلية للعرض Transformatorische Kraft der Performance “:
يُعّد مصطلح القوة التحويلية للعرض – في تصوري – المصطلح الأساسي الذي يربط عناصر جماليات الأداء في سلسلة متماسكة، بحيث يكتمل السياق النظري للتجربة الجمالية الخاصة، التي تبلورت في فترة “منعطف العرض” في أوروبا. حيث ظهرت شروط جديدة للتجربة الجمالية مع دخول القرن الحادي والعشرين.
اعتمدت فيشر – ليشته في سياق جماليات الأداء، تصور (فوكس) عن إمكانيات التحويل والتغير التي تملكها العروض، حيث تربط قوة التحول في المسرح بقوة التحول في أنواع العروض الأخرى مثل حالة الطقس الإنساني، في وقت كان هذا الموضوع جديدا على المجال الأكاديمي.
لقد تم التعامل مع الطقوس باعتبارها أحد أنواع العروض التي تملك قوة التحول، مما ساعد فن المسرح العودة إلى مفهوم القوة التحويلية الذي فقده خلال القرن التاسع عشر، ومن ثم توجه المسرح إلى نموذج الطقوس التي تفرز الحالة الانتقالية للتحول حالة “البين بين”، الذي يُصيب المشاركين لتتغير حالتهم قبل الطقس عن حالتهم بعده، لِمَ في الطقوس من قوة تحويلية مؤثرة على الإنسان.
ويرتبط مفهوم القوة التحويلية للعرض بمفاهيم تخص (جماليات الأثر)، كما يرتبط في الوقت نفسه بمفاهيم كلاسيكية مثل (التطهير) و (التغريب)، وغيرها من المفاهيم التي تتصل بتوصيف التجربة الجمالية في المسرح، وتقوم على تحليل قدرات العروض على إحداث التغيير والتحول الروحي – وربما المجتمعي- التي قد يرفضها بعضهم ويرجوها بعضهم الآخر، إذّ يتحقق الخطر من التحوّل أو الأمل فيه، تحت شروط معينة في أثناء العرض، وهي شروط تخص الحضور الجسدي للاعبين والمتفرجين معا، مما ينقلنا إلى مساحة أخرى تخصّ طبيعة التلقي، والأثر الذي يتركه العرض على نفوس المتفرجين.
كما يرتبط مفهوم التحول بالتجربة الجمالية في سياق جماليات الأداء، وبفكرة الحدود والعتبات وبتجارب البين بين التي تؤدي إلى تحقيق التحول من حالة إلى أخرى، حيث تفترض جماليات الأداء أن التجربة الجمالية بالمعنى الأدائي – باعتبارها تجربة بين بين- إنّما تعتمد القوة التحويلية للعرض كمحور أساسي لها، كما يمكن تطبيقها على كل أنواع العروض المسرحية، التي تنتمي لمذاهب مختلفة، وكذلك على العروض المسرحية في الثقافات الأخرى، وربما على أنواع العروض غير الفنية.
خاتمة:
تعتمد نظرية جماليات الأداء في مجملها على سلسلة مترابطة من المصطلحات – كما ذكرنا سابقا – التي تعمدت فيشر- ليشته التأصيل لها لغويا وتاريخيا، كما أرادت تتبع خطوات استخدامها كمفاهيم في سياقات علمية وبحثية أخرى، لتكشف عن حدودها وتداعياتها المغايرة في النظريات المسرحية التقليدية. كما تعمدت الدقة التامة في الاستخدامات المختلفة للمفاهيم الفلسفية، بما يتسق مع المنظور الأدائي الذي تنطلق منه في تحليلاتها للعروض والنماذج التطبيقية، التي اختارتها. فنجدها – على سبيل المثال – تستبدل مصطلح “العمل الفني” بـ “أحداث” – ليس بالمعنى الأرسطي، بل بمعنى الممارسة- وتتطرق إلى مصطلحات تم استخدامها بالفعل في مجال النقد والتنظير مثل الحضور الجسدي، وبناء الجماعة، وتبادل الأدوار، والتجسيد، والفضاء، والصوت، والفجوات الزمنية…الخ، ولكنها تعيد تعريفها وتستخدمها بحساسية شديدة في سياق مغاير، لتُلهم أو تمنح المصطلحات أبعادا أخرى.
لم تضع ايريكا فيشر- ليشته تعريفات مباشرة للمفاهيم والمصطلحات التي استخدمتها، بل وظفتها ببساطة في سياقات بعينها، كما استدعت لها نماذجَ تطبيقية، وأسهبت في شرح الأبعاد التاريخية والثقافية لنشأتها في الحقول العلمية المختلفة. كما استطردت في توضيح حدود استخداماتها، دون أن تضع المعنى المباشر للمصطلح بين قوسين، مما يستدعي من القارئ، ربط الأجزاء المتشظية في فصول الكتاب لفهم نظرية جماليات الأداء، إذّ تتكون مع القراءة – شيئا فشيئا – صورة ذهنية عن مفاهيم تبدو متداولة وبسيطة، لكنها مترابطة ومتداخلة بشكل مرّكب يصعب فكه، إلا من داخل الإطار الذي يحتويها. بمعنى أن صعوبات الترجمة قد تولدت – في رأيي- من عدم تعوّد القارئ العربي على أسلوب الكتاب المقدّم، الذي يعتمد على تجميع أجزائه – التي تبدو متناثرة – لفهم المعاني المتخفية وراء الكلمات، ولكشف الترابط الحيوي داخل السياق النظري، لأفكار المنظّرة الألمانية فيشر- ليشته.
1 صدر عام 2012 كتاب أخر لايريكا فيشر ليشته تحت عنوان (الأدائية)، ويتمحور حول التأسيس لمصطلح الأدائية مقارنة بمصطلح المسرحانية/ المسرحة، داخل السياق الثقافي الأوروبي، حيث تم الترويج للمصطلح تدريجيا ليتحول إلى مفهوم أساسي في مجال العلوم الثقافية، وفي مجال البحث العلمي في ألمانيا، مما أثبتت بشكل لافت للنظر القدرة الهائلة والمنتجة لمصطلح “الأداء”، في الخطاب العلمي للثقافة – كما تقول فيشر ليشته- .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الكتاب من مراجعة: أ. د. ناهد الديب- صادر عن المركز القومي للترجمة – القاهرة، 2012 .