«أنا تعبت.. فالرحلة عسيرة طويلة، والتاريخ مثل بقايا سد مأرب وغار حراء وليل بغداد العباسيين»، بهذه الكلمات، يلخص الدكتور جواد علي، مشقةَ وعناءَ رحلتهُ، فهو يحفرُ في عملهِ الصخر، كي يُخرجَ لنا تاريخ العرب قبل الإسلام، من الهامش، إلى الصدارةِ، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كابدَ شيخ المؤرخين العرب قرابة أربعين عاماً من العمل المضني حتى أنجزَ موسوعَتهِ «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» بعشرة مجلدات، عدا عن موسوعته الأولى «تاريخ العرب قبل الإسلام» بثمانية مجلدات.
لا تقف أهمية مؤلفات الراحل علي، عند عتبات «الجمع» لما قالهُ المؤرخون الأوائل، أو دوّنُوه من أحداث، ولا بإحاطتهِ الموسوعية في حفظ ذاكرة العرب، من الطمسِ؛ وإنما تذهبُ بعيداً في صياغة سرود التاريخ في سياق الحدث كما تمَّ، بعدَ أن يفنِّدُ الرواياتِ المغلوطةِ، ويتفحص الأخرى، ويقومُ بغربلتها، ونقدها نقداً موضوعيًّا محايدا، عبر تحققه من المعلومات الواردةِ في مصادرها المختلفة، وبلغاتها المتعددة.
ربما من بين عشرات، أو مئات المؤرخين العرب في العصر الحديث، نجد أن جواد علي «المؤرخ الضرورة»؛ لأنه قدَّمَ نتاجاً موسوعيًّا، اختص في تاريخ العرب قبل الإسلام، وليس أبحاثا، ودراسات متفرقةٍ، تناولت جانباً، وأغفلت جانباً آخر، أو عدة جوانب، الأمر الذي جعل من مؤلفات الراحل مرجعاً لكلٍّ باحثٍ، حتى أن المعادلة تغيرت لدى المستشرقين، فأصبحوا ينقلون عنهُ، ويقولون «قال الدكتور جواد علي كذا وكذا».
يرسمُ جواد علي، في تصريحاته، وكتاباتهِ، صورةً قد تفسرُ الدافع لديه لتحمل عناء البحث، عقوداً متواصلةً، لتأليف موسوعتيه الشهيرتين، إذ يقول «من العار علينا أن نكون عالة على الغرب في كل أمر. حتى في الكشف عن تأريخنا القديم».
بعدَ أن أنهى جواد علي رحلته في «تاريخ العرب قبل الإسلام»، أخذَ في تأليف أعمال جديدةً، كان منها «تاريخ العرب في الإسلام – السيرة النبوية»، وكتاب «الصلاة في الإسلام»، وله أيضا «موارد تاريخ الطبري»، وهو بحث موسع نُشر على حلقات في مجلة «المجمع العلمي العراقي»، وجمع لاحقاً وأصدرته وزارة الثقافة والإعلام السعودية عن إصدارات «المجلة العربية»، كذلك له «التاريخ العام» (بغداد 1927 )، «أصنام العرب» (بغداد 1967)، «معجم ألفاظ المسند»، و«المهدي المنتظر وسفراؤه الأربعة» وهي رسالته في الدكتوراة (هامبورج 1938)، وقد كتبت باللغة الألمانية وترجمها إلى العربية الدكتور الجزائري أبو العيد دودو عام 2005م، وطبعها في مدينة كولونيا بألمانيا، وله مع الدكتور احمد سوسة والأستاذ بهجت الأثري خارطة الإدريسي المعروفة بـ (صورة الأرض) وطبعت عام 1951م، إلى جانب مئات المقالات والأبحاث المتفرقة.
ونظراً إلى جهودهِ، ودورهِ المبدع، ومنجزهِ العميق في كتابة التاريخ العربي قبل الإسلام على وجه التحديد، إلى جانب نتاجه الذي يتسم بالموسوعية، والموضوعية، فتحت مجلة نزوى ملفاً شاملاً استحضرت فيهِ أعمال وحياة المؤرخ العربي العراقي الراحل الدكتور جواد علي؛ إنساناً، ومؤرخاً، ومفكراً أسهم بجهودهِ الفردية في إرساء قواعد علمية لكتابة التاريخ ضمن منهجٍ صارمٍ، ورفد حركة البحث في العالم العربي بموسوعتين، هما «تاريخ العرب قبل الإسلام» بثمانية مجلدات، و«المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» بعشرة مجلدات.
أكدت الشهادات المنشورة في هذا الملف، كمقالاتٍ، ودراساتٍ، على أهمية منجز «شيخ المؤرخين العرب»؛ فهو «صاحبُ الآراء العلمية الموضوعية التي تبتعد عن السرد والسطحية»، كما يراهُ مدير مركز المخطوطات- مكتبة الإسكندرية د. مدحت عيسى، فيما يؤكد الكاتب والصحفي أن لمؤرخنا الراحل «لسان عربي مبين، لم تخالطه في تاريخ أمته عجمة مستشرق، أو نبرة مهزوم خائف».
الأكاديمية والباحثة د. حياة الحويك العطية ترى أن عمل علي الموسوعي «كشف ووثق وجمع سيرة كاملة لتاريخ العرب قبل الإسلام تثبت أن هذه الجزيرة العربية لم تكن بلاد بدو رحل بلا حضارة ولا تاريخ، وإنما هي تاريخ ممالك عظيمة وقديمة، تعود إلى مراحل الحضارة البشرية الأولى».
و«لو لم يكن عند المؤرخ العلامة جواد علي (ت 1987) طول صبر، وباع في التَّدقيق، ما حدب أربعين عاماً على تأليف سِفره «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»(10 مجلدات وصدر بـ 13 مجلداً أيضاً). ذَكر جواد علي، في مقدمة سِفره المذكور، أنه تحمل المشقة بمفرده لم يعنه عليه أحد، وهنا تكمن قوة التَّأليف، لأن العمل البحثي سيناله الضَّعف لو قامت به جماعة أو لجنة، فلكلِّ باحث طريقته ومنهجه في إدارة بحثه»، وفق ما ينقل لنا الباحث د. رشيد الخيون في حديثهِ عن منهج الراحل في «موارد تاريخ الطبري».
الكاتب والصحفي إياد الدليمي ينوهُ أن جواد علي حذر من «النظرة القسرية إلى التاريخ، وأن على المؤرخ أن لا يقتصر على الجوانب السياسية وشمول كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية بالاهتمام».
أعد الملف وقدم له: محمد محمود البشتاوي*