عابراً قرون الزمن، متوسلاً وثائق لم تكن موجودة، ناظرا بعينِ تتعدى حدود الزمكان، بحثا عما يمكن له أن يواري سوءة الفقد والغياب لأقوام، هو منهم، لم تجد من ينقب في آثار ما قدموا وحققوا، بعد أن ركنت إلى اللا-شيء، وتهاوت قلاع حضارة، رأى فيها أنها تستحق أن ينفخ في رمادها الروح، فبين بقايا ذاك الرماد، ما زالت نار متقدة، قادرة على العطاء، لها من حضارة اليوم نصيب، أغفله آخرون، عن عمد تارة، أو بسبب غياب أدوات البحث التي يمكن لها أن تعينهم على استخراج مكنونات تلك الحقبة تارات أخرى؛ فكان تاريخ العرب قبل الإسلام بأجزائه العشرة، بداية استعادة الهوية التي سعى آخرون لطمسها، ومرحلة استكشاف ما كان شاهدا على ما صار لاحقا بعد ذلك، يوم أن جاء الإسلام وغرس قيمه في نفوس حضارة، رغم كل ما قيل عنها، وما قدح بحقها، فلقد أعمل الدكتور جواد علي مشرطه في جسد أمة كانت تنوء بحمل تاريخها المشوه، ليستأصل شأفة التشويه، ويعيد للعرب بريقا أريد له أن يخبو.
يبدو أن للنشأة الأولى تأثيرا، كان ما زال في قطار عمره الصغير، يوم أن بدا وكأن مؤرخا صغيرا في داخله يكبر، فكان يقرأ ويكتب بانطباعية مجردة، وصولا إلى محطة النهاية التي وصل إليها قطار المؤرخ جواد علي، بعد أن أزال غبار التشويه عن جسد أمة وحضارة، رفض لها أن تكون في خانة الجاهلية، فاستعاد سيرتها الأولى، العرب ما قبل الإسلام، لتكون تلك الفصول معينا لكل من أراد أن يعرف أو يعايش تاريخ أمة كانت ومازالت حاضرة.
ما بين أزقة الكاظمية والأعظمية، كانت النشأة الأولى، مدينتين بغداديتين، ما يجمع بينهما أكثر بكثير من الحدود الطائفية التي عرفتهما سابقا ولاحقا، حيث ولد في عام 1907، بالكاظمية التي انتقلت إليها أسرته قادمة من محلة الشيخ بشار في الكرخ، ثم عاد إلى الأعظمية بعد ذلك دارسا في كلية الإمام الأعظم.
شكل هذا التنوع بين أعرق مدينتين في بغداد، الكاظمية والأعظمية، وهذا الانتقال بين قلاع الطائفتين الشيعية والسنية، ثراءً كبيرا في عقلية جواد علي، فهو لم يكن وحيد الرواية، ولا وحيد الينبوع، وإنما شرب من كل الينابيع، وهو أمر يبدو أنه شكل وعيا مبكرا، بعدم الركون لرواية دون أخرى، ولا لمشهد دون آخر، ولا تسليم مطلق بهذا أو ذاك.
في سيرته الأولى الكثير مما يستحق أن يحكى، فلقد ولع المؤرخ صغيرا بكتب التاريخ، وكان إن اجتهد وألف أول كتاب في حياته، وبعد ما يزال صغيرا، ففي عام 1927 ألف كتابا في «التاريخ العام» استحق عليه ساعة هدية قدمها له وزير الأوقاف آنذاك محمد أمين باش أعيان، ليمهد الطريق له بعد ذلك للسفر إلى ألمانيا، وهناك بدأت علاقته مع قراءة التاريخ بطريقة واعية تترسخ.
درس مؤرخ العراق في الجامعة الألمانية، عام 1933 أبان قوة وجبروت النازية وقتها، والتقى بكبار المؤرخين الألمان، وهناك سجلت له مدرجات الجامعة، سجالات تاريخية مع كبار المؤرخين النازيين، فكان لسانا عربيا مبينا، لم تخالطه في تاريخ أمته عجمة مستشرق، أو نبرة مهزوم خائف، كما نشرت له مجلات ألمانية عددا من المقالات استرعت انتباه زعيم النازية وقتها، أدولف هتلر الذي دعاه إلى مؤتمر الحزب النازي.
“المهدي وسفرائه الأربعة» كانت أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة هامبورج بألمانيا، وهي الأطروحة التي كتبت باللغة الألمانية، حصل بعدها على شهادة الدكتوراه عام 1939، ولعل لهذا التاريخ حضور ليس في سلسلة الزمن الأكاديمي للمؤرخ وحسب، وإنما حتى في الأطر الفكرية التي أسهمت في تشكيل عقلية المؤرخ الفتي، فمنذ أن عاد من ألمانيا مطلع الأربعينات من القرن الماضي، والرجل يتبنى سياسيا موقف ألمانيا، فساند ثورة مايس بالعراق عام 1941 وهي الثورة التي اشعلها ضباط في الجيش العراقي موالون لألمانيا ومواقف الزعيم أدولف هتلر.
انضم العائد حديثا إلى وطنه إلى الثورة الفتية ضد الوجود البريطاني في العراق، وما أن فشلت الثورة حتى تم اعتقاله ونقله إلى سجن في مدينة الفاو العراقية الواقعة أقصى جنوب الوطن، قبل أن يتم الافراج عنه ليكمل مسيرته التعليمية في وزارة المعارف العراقية، ليتدرج حتى يصل إلى أمين سر لجنة التأليف والنشر، والتي كانت نواة لتأسيس المجمع العلمي في العراق الذي انبثق عام 1947، ليكون أحد أعضائه.
كانت مجلة المجمع العلمي العراقي نافذة المؤرخ جواد علي لنشر أبحاثه ودراساته المتخصصة، فلقد نشر فيها أكثر من 50 بحثا ودراسة، حملت بين ثناياها العديد من الآراء التاريخية التي اشتهر بها، وكانت بمثابة مرجعية هامة لكل باحث في هذا المجال.
ظل قلمه وعلمه حاضرا في العديد من الأبحاث التي كتبها ونشرها، حتى عاجله الموت في العام 1987، فتوفي ببغداد ودفن فيها، حاملا معه أسرار النبوغ التي شكلت إضافة نوعية هامة لعالم التأليف في مجال التاريخ.
كان جواد علي منذ أن بدأ يتلمس طريقه في مجال التاريخ، شاعرا يعظم المهمة التي يسير فيها، فهو ما بين مؤلفات مستشرقين مجتزأة، وما بين مؤلفات عرب بقيت تراوح مكانها، غير قادرة على استجلاء الماضي بصورة واعية، فخلطت بين الديني والتاريخي حتى أنتجت فكرا مشوها، وتاريخا ناقصا.
وإذا كان «العرب قبل الإسلام» قد رسم خطا تاريخيا مميزا لمسيرة تلك القبائل والتي ظل تاريخها متناثرا ومنثورا بطريقة أقرب إلى الانطباع منه إلى التوصيف التاريخي الموثق، فإن جواد علي نقل العرب من الجاهلية إلى ما قبل الإسلام، فالجاهلية بوصفه مصطلحا دينيا كان يشير إلى طبيعة حال تلك القبائل العربية، ظل لصيقا بها، وتوسع حتى صار الكثير من المؤرخين يقعون في خلط فاضح بين الجاهلية بمفهومها الاصطلاحي الذي يشير إلى عدم معرفة عرب ما قبل الإسلام بالأديان، وبين الجاهلية كمفهوم حضاري.
بالمطلق لم يكن الأمر بريئا إلى هذا الحد، فكتابات المستشرقين، ثم المؤرخين العرب المتابعين، ارتاحوا لـ «الجاهلية» في وصف عرب ما قبل الإسلام، لما فيه من انتقاص من قيمة تلك القبائل، هذا أولا، ولأنه أيضا مصطلح يظهر نوعا من التعالي في كيفية التعامل مع هذه الحقبة الهامة، لما له من تأثير حتى على فهم الإسلام كدين سماوي، فيما بعد.
يشرح جواد علي منهجه في كتابة التاريخ فيقول من بين ما يقول إن «التاريخ يستمد وحيه من واقع الظروف التي صنع فيها وذلك بعد تحليل وعمل فكر وإحاطة بالروايات وبالوثائق الواردة عن الحادث».
ولا يغادر جواد علي منصة التاريخ إلا بعد أن يدون واحدة من أهم المقولات التي تحدثت عن كيفية توثيق التاريخ فهو يرى ضرورة أن لا يرضخ المؤرخ لمدرسة معينة من المدارس التي تفسر التاريخ وفقا لديانتها وعقيدتها في تفسير التاريخ، لأن التاريخ لرأى معين معناه إننا نزيف ونحور التاريخ ونصوغه وفقا لعقيدتنا الضيقة، فهنا إخضاع لحكم جامد يتنافى مع ضرورات المنهج العلمي في تفسير التاريخ».
يحذر جواد علي من النظرة القسرية للتاريخ، وعلى المؤرخ أن «لا يقتصر على الجوانب السياسية وشمول كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية بالاهتمام».
انتقل العرب من الجاهلية إلى عرب ما قبل الإسلام، لم يكن ذاك من قبيل الصدفة، ولا من قبيل الانحياز القومي، أو ما شابه، وإنما كان بفضل عبقرية مؤرخ، رسم حدود التاريخ بمشرط جراح، وأخضع تفاصيل حقبة غابرة لمنهج دقيق، وظل وفياً له طيلة عمره البحثي، فأنصف أباء وأجداد حملة الإسلام الأوائل، ونفى عنهم صفة » الجاهلية» بمعناها المسيء، وأسهم في تغيير النظرة ليس لـ«عرب ما قبل الإسلام » وحسب، وإنما أيضا لعرب الإسلام، ممن حملوا لواء هذا الدين العظيم ونشروه بين مشارق الأرض ومغاربها.
إياد الدليمي *