حسونه المصباحي*
في عددها رقم 500، الصادر في الأسبوع الأول من شهر أبريل 1988 نشرت “Magazine littéraire” الفرنسية حوارا كان قد أجراه العراقي نعيم قطان الذي يكتب بالفرنسية وبعيش في كندا، مع المفكر الماركسي الكبير جورج لوكاتش (1885-1971) في أول السبعينات من القرن الماضي.
وقد دار الحوار في شقة جورج لوكاتش التي تقع في الطابق الأخير من عمارة تشرف على نهر الدانوب في العاصمة المجرية بوداباست. وفي مكتبه كانت هناك الأعمال الكاملة لكل من ماركس وهيغل، وكتب ومجلات باللغة الهنغارية، واللغة الألمانية، واللغة الفرنسية. وكان جورج لوكاتش قد تقلد منصب وزير للثقافة في حكومة امري ناجي(1). وبعد القضاء على الإنتفاضة المناهضة للحزب الشيوعي من قبل ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي وذلك عام 1956، أجبر لوكاتش على أن يمضي أشهر في المنفى في رومانيا. وفي السنوات الأخيرة من حياته، انشغل بإعداد أعماله الفكرية والنقدية الكاملة.
وفي بداية الحوار قال جورج لوكاتش : لقد شرعت في كتابة واعداد أعمالي الأساسية عند بلوغي سن السبعين. وقد يكون هناك اعتقاد بأن ثمة استثناءات بخصوص القوانين المادية. في هذا المجال أنا من أنصار أبيقور. أنا أيضا أشيخ. وعلى مدى وقت طويل بحثت عن طريقي. وقد كنت مثاليا، ثم هيغليا(نسبة إلى هيغل). وفي كتابي “التاريخ والوعي الطبقي”، حاولت أن أكون ماركسيا. وعلى مدى سنوات طويلة، عملت موظفا في إدارة الحزب الشيوعي بموسكو. وفي تلك الفترة قرأت الكثير من هوميروس إلى غوركي. وإلى حدود سنة 1930 ، كانت كتاباتي مركزة على تجارب ثقافية عشتها. ثم جاءت المخططات والمشاريع. وحتى وإن كانت تلك الأعمال قد تمّ تجاوزها، فإنها حفّزت آخرين على القيام بأعمال معينة.
ويضيف جورج لوكاتش قائلا : وقد يبدو غريبا أنه كان عليّ أن أنتظر سبعين عاما لكي أشرع في اعداد وكتابة أعمالي الأساسية. العمر ليس شيئا مهما. أنظروا مثلا إلى ماركس، هذه العبقرية الهائلة، هو لم يفلح إلاّ في بلورة ماهية طريقته. ونحن لا نجد في أعماله أجوبة على كل الأسئلة. لقد كان ملتصقا بزمنه. وأنا أستعمل طريقته فيما يتعلق بالاستيتيقا. وأنا على يقين أنه لو كان معاصرا لنا، لكان قد اهتم بالاستيتيقا وعنها كتب.
هنا يطرح نعيم قطان السؤال التالي على جورج لوكاتش : عندما كنت طالبا في جامعة هايدلبارغ الألمانية، هل تعرفت على هايدغر وعلى الشاعر ستيفان غيورغ(2)؟
على هذا السؤال يجيب جورج لوكاتش قائلا : لم أتعرف لا على غيورغ ولا على هايدغر.
يقول نعيم قطان: هل كان هذا الأخير (يقصد هايدغر) نازيا؟
يجيب لوكاتش قائلا : ليس من الضروري أن نقول ذلك. فلقد كان هايدغر نازيا. هذا أمر لا يمكن أن نشك فيه مطلقا. وعلى أية حال هو كان دائما رجعيا.
يسأله نعيم قطان. من هم أصدقاؤك في تلك الفترة؟
يجيب لوكاتش : ماكس فيبر …كنت مرتبطا به كثيرا في تلك الفترة…
ثم يضيف لوكاتش قائلا : ليس لي ثقة في توجهات الفكر المعاصر في الغرب سواء تعلق ذلك بالوضعية الجديدة أم بالوجودية. وأنا أرى أن الأكثر نجاعة وافادة هو أن نعيد قراءة أرسطو للمرة العشرين.
يسأله نعيم قطان: هل تهتم بعلم الاجتماع؟
يجيب جورج لوكاتش: كان رايت ميللس(3) Wright Mills مهما بالنسبة لي. فلقد كان يعتني بالواقع. وفي علم الاجتماع الأمريكي، كان استثناء. وعلم الاجتماع هذا لا يرضيني كثيرا. الفصل بين علم الاجتماع وبين الاقتصاد يبدو لي أكاديميا. ولم يكن ماركس يفصل بينهما.
يقول له نعيم قطان: هناك الآن حديث كثير عن ماركس الشاب…
يرد لوكاتش قائلا : إنه ابتكار من عصرنا. التناقض الذي يتمّ البحث عنه في أعماله وهمي. ولم يكن ماركس ينقطع عن تعميق فلسفته. وكان يهتم أولا وأخيرا بالواقع. ومنذ أرسطو، كان هو الذي يركز على ما هو متوحد، أو منفصل، ليس في الكتب وإنما في الواقع. لذلك أنا أبلور أنطولوجيا اجتماعية. علم اجتماع المجموعة؟ إنه علم للتلاعب بالمجتمع. هل يمكنكم أن تفصلوا مثلا بين اليعاقبة(4) Jacobins وبين مجموعة اليعاقبة؟ في علم الاجتماع، من الضروري أن نمضي حدّ بلوغ الأساس الموضوعي للحركات. علينا أن نعالج الأحداث الكبيرة للحياة الاجتماعية في مجملها، وإلاّ كيف يمكن أن نفسر الإبتكارات العبقرية التي تنبثق في نفس الوقت في بلدان مختلفة، وفي مجالات مختلفة أيضا؟ وكيف يمكن أن نفهم الرابط بين نيوتن وبين لايبنيتز؟ الأحداث المعزولة عن بعضها البعض لا معنى لها إذا ما نحن لم نضعها في أفق شمولي.
ويتحدث لوكاتش عن الاستلاب قائلا : الاستيلاب وجد في كل الحضارات. ومنذ نصف قرن هو موجود بشكل جديد. وكثيرون هم الذين يعتقدون أن ذلك ناتج عن التطور التكنولوجي، في حين أن الدراسة الشمولية تبرز أن التقنية ليست قوة مؤسسة لذاتها، وإنما هي نتيجة حركة القوى المنتجة. وهي مقترنة بالبنية الاجتماعية. علينا إذن أن نلجأ دائما إلى الطريقة الماركسية.
يطلب نعيم قطان من جورج لوكاتش أن يعود إلى الأدب، وإلى التقنيات الأدبية الجديدة فيقول: أظن أن الأمر يتعلق بالشيء الذي نطبق عليه التقنية. لنأخذ مثلا المونولوج الداخلي عند جيمس جويس، وعند توماس مان. بالنسبة لجويس هو واقع في ذاته. أمّا توماس مان فيستعمله كطريقة في البناء، لكي يبرز شيئا آخر. وبقطع النظر عن أقنعته المتعددة، لا يزال الأدب الحديث متأثرا بالنزعة الطبيعية. وهو لا يعكس سوى صورة سطحية للحياة، من دون أن يعكس الواقع.
وماذا عن المسرح العبثي؟
يجيب لوكاتش قائلا: العبثية ليست سوى الغرابة والهزأة. وإذن ليس هناك جديد بخصوص هذه المسألة. أنظروا إلى غويا(5)، وإلى هوغارت(6)، وإلى دومييه(7). العبثية عندهم تأتي من المقارنة بين حالتين: الحالة العادية والتشوه الذي وقع لها. والغرابة لا معنى لها إن لم تكن على علاقة بما هو انساني. عند الكثير من الكتاب المعاصرين، العبثي لا علاقة له بما هو انساني. وهو معتبر كما لو أنه طبيعي. وإذا ما نحن لم نفرق بين ما هو انساني وما هو غير انساني، فإن ما هو انساني يكون قد فقد معناه. وفي النهاية نحن لا نجد سوى صورة فوتوغرافية لجانب من الحياة. وهذا شكل آخر من النزعة الطبيعية. وإذا ما كان الأمريكي اوجين أنويل كاتبا دراميا كبيرا فلأنه يقترح جدلا حيّا في العلاقات بين ما هو غريب وبين ما هو انساني. لنأخذ كاتبا آخر: الروائي خورخي سامبرون(8). هو يستعمل المونولوج الداخلي لكي يتحدث عن المعركة ضد الاستيلاب الفاشي. عند بيكت مثل هذه المعركة لا وجود لها. وهو ينسحب مهزوما أمام الاستيلاب الحديث.
هل هذا موقف سياسي؟
يرد لوكاتش على هذه الملاحظة قائلا : أبدا. هناك كاتب آخر أنا معجب به كثيرا، أعني الأمريكي توماس وولف. أعماله معركة ضد الإستيلاب في الحياة الأمريكية. وأنا معجب أيضا بويليام ستايرون(9) وبالزا مورانتي(10) التي أعتبرها أكثر موهبة من البرتو مورافيا. وأنا لا أعظّم ولا أجل هنا لا تقنية ولا ايديولوجيا. ما أنا أدافع عنه هو استقامة الانسان وأنا أعارض كل أدب يؤدي إلى تدمير وتخريب هذه الاستقامة. وأنا لا أنكر قيمة جويس أو بروست. فالأول ملاحظ رائع، وبروست كاتب هام جدا. وأعماله ستظل مؤثرة في الأدب لأننها نجد فيها جدلا بين الماضي والحاضر. وهذا يسمح لنا بأن نضع الاستيلاب في مكانه. لكن علينا أن نلاحظ أن الماضي لن يكون له معنى حقيقي إلاّ إذا ما كان له تأثير على المستقبل. وأنا لا أتحدث فقط عن المجتمعات، وإنما أنا أتحدث أيضا عن الأفراد. هذا البحث عن الزمن المفقود هو عمل رجل ليس معنيا بالمستقبل. المصدر الحقيقي لعمل بروست يوجد في الفصل الأخير من رواية” التربية العاطفية” لفلوبير عندما يشرع فريديريك مورو في تذكر ماضيه.
وماذا عن سارتر؟
عن هذا السؤال يجيب لوكاتش قائلا : إنه رجل كثير الحيوية. وأنا بتّ أفهمه أكثر من ذي قبل بعد أن قرأت “الكلمات”. يا له من عمل بديع !. إنه يفسر هذا الرجل الذي لم تكن له أبدا علاقة بالواقع. وأنا أنتظر أن يصطدم سارتر بالواقع. وقد كان جريئا خلال الحرب الجزائرية. أما كفيلسوف فإنه لم يحقق تقدما منذ” الكينونة والعدم”. وهو قريب من الماركسية. لكن عنده ضعف. فعندما تجبره الحياة على تغيير وجهة نظره، هو لا يرغب في أن يغيرها جذريا. وهو يريد أن يوهمنا بأنه يؤمن بالتواصل. وفي كتابه “نقد العقل الجدلي” هو هو يتقبّلُ ماركس، لكنه يريد أن يُصَالحه مع هايدغر. لاحظوا التناقض. هناك سارتر رقم 1 في الصفحة الأولى، وسارتر رقم 2 في نهاية نفس الصفحة. يا له من التباس في الفكر وفي الطريقة ! …
يطرح عليه نعيم قطان السؤال التالي: هل تعتقد أن على المثقف أن يلعب دورا؟
يجيب لوكاتش: لقد أفسد الوجوديون المسألة. نحن لا نختار لا تاريخ الولادة، ولا مكانها. ونحن نقول لا أو نعم للواقع الموجود رغما عنا. الانسان كائن “مجيب”. والأمر يتعلق به إن قال نعم أم لا. لكن ليس مُخَيّرا أن يقول نعم أو لا للواقع كما هو موجود. وهذا الواقع هو واقع اليوم. والأمر لا يتعلق بي ولا بغيري أن تكون هناك سيارات في الشارع، وأن يحبّ هذا أو ذاك زوجته، أو صديقة جدته. الاختيار الوحيد هو أن ألاّ تقطع الشارع، أو ان لا تحب زوجتك. العلاقة بين الحرية الداخلية وبين الضروريات الخارجية معقدة للغاية. ولم ينكر ماركس الاختيار. وهذا يبدأ بالعمل : على البنّاء أن يختار الحجر. وهذا الاختيار هو الذي يحدد إن كان عمله جيدا أو سيئا. لكن علينا أن نختار بين حجرين وليس بين الحجر والبرونز. ومسألة الحرية والضرورة الاجتماعية تعالج ضمن أفق تطور تاريخي. إنه مسألة جدلية. اعتبار الحرية على مستوى غامض وتجريدي يقود إلى مواقف خاطئة. وأنا أعارض البيروقراطي عندما يتدخل غي الأدب. وأنا لم أتردد في إدانة الستالينية (نسبة الى ستالين) كتحريف للماركسية، وقدمت محاضرة للدفاع عن هذه الأفكار. ليس من حقنا أ ن نتحدث عن الحرية إذا ما نحن لم نقم بتحليل الوضع الاجتماعي. أنا مع حرية الكاتب، لكن علينا أن نتفاهم. فعندما نمنع كاتبا في بلد اشتراكي من التعبير عن أفكاره، أقف أنا معارضا ومستنكرا ذلك. لكن لا يعني أنني أتقبل الحرية بمفهومها الرأسمالي. شابا، فهمت هذا الدرس. ولفترة قصيرة كنت ناقدا للدراما في جريدة كبيرة. ولم تعجب مقالاتي رئاسة التحرير فتركت عملي غير آسف. وأنتم تعرفون مثلما أنا أعرف أن حرية الصحافة نسبية. البيروقراطية التي تهدد الكاتب والصحافي في البلدان الاشتراكية هي شكل من اشكال التلاعب العنيفة. وأشكال التلاعب هذه موجود أيضا في البلدان الرأسمالية. وإذا ما أردنا أن نتحاور حول هذه الأشكال، فإن الجدل قد يكون له معنى آخر، لكني لا أقبل ذلك الزعم الذي يقول بإن الحرية موجودة في البلدان الرأسمالية وغائبة في البلدان الاشتراكية. أنا ضد الحوار التجريدي. الماركسية تقودنا دائما إلى ما هو موضوعي وملموس.
هوامش:
-1: سياسي مجري (1896-1958) تولى رئاسة الوزراء لفترتين. وتمت الاطاحة بحكومتة بعد انتفاضة 1956 . وبعد عامين تم إعدامه بتهمة الخيانة العظمى.
-2: شاعر ومترجم وناشر ألماني (1868 و1933). ولا سيما عن الفرنسية التي أتقنها. وكان واحداً من مرتادي ما كان يسمى بـ «سهرات الثلاثاء» من حول الشاعر مالارميه. وقد بدأ نشر أشعاره حين كان بعد في العشرينات من عمره، ثم أسس وحرر مجلة أدبية اشتهرت في حينه «بلاتر فور داي كونست». كما أسس وأدار حلقة أدبية عرفت بـ «جورجكرايس»، وضمت بعض أبرز وجوه الأدب والشعر الألماني في زمنه، وحملت أفكاراً سياسية وغيبية معلنة. وكان من بين أفراد الحلقة الكونتيسة فاني زور فنتلوف، التي كانت، في بعض الأحيان تنتقد أفراد الحلقة في كتاباتهم وسلوكهم. أما جورج فكان معروفاً بأفكاره الرجعية ودعوته الى العزوبية الدائمة .
-3: هو شارل رايت ميلس (1916-1962) عالم اجتماع أمريكي كبير اشتهر بدراسته عن النخب المثقفة المنفصلة عن الجماهير
-4:شكل نادي اليعاقبة—الذي اتخذ الاسم الرسمي «جمعية أصدقاء الدستور»—الاستجابة الأكثر راديكالية على المأزق الثوري في فترة روبسبير؛ وهي هزيمة قوى الرجعية، فقد وجدوا أنفسهم مضطرين لاتخاذ إجراءات راديكالية، تشمل: الرقابة على الأسعار، ومصادرة المواد الغذائية، وفترة العنف التكتيكي التي ستعرف باسم «عهد الإرهاب». ومع أنه في البداية اشتمل النادي اليعاقبي على ممثلين أكثر اعتدالا، إلا أن الجناح الراديكالي الملتف حول روبسبيير—المعروف باسم المونتاجارد—أصبح في النهاية هو الاتجاه السائد بين صفوف اليعاقبة