بحسب كتاب سيرته ،أمثال ريتشارد المان، شرع جيمس جويس في كتابة الشعر في سنوات الشباب. وبعد أن انتقل إلى مدينة ترياستا الإيطالية لينشغل بكتابة أثريه الشهيرين”صورة الفنان في شبابه”، و”أوليسيس”، لم ينقطع جويس عن كتابة الشعر وكأنه يرغب في أن يخفف عن نفسه عبء النثر، وتعقيدات السرد، وعسر التقنيات الفنية. وكذا كان حاله في زيوريخ ،وفي باريس. وفي ملاحظات دونها في باريس في ربيع 1903، كتب يقول:” هناك ثلاثة شروط للفن، الغنائي، والملحمي، والدرامي. الفن الغنائي هو الذي يقدم الفنان من خلاله الصورة العلاقة الفورية مع نفسه. والفن الملحمي هو الذي يقدم الفنان من خلاله الصورة من خلال العلاقة الوسطية مع نفسه ومع الآخرين. أما الفن الدرامي فهو الفن الذي يقدم الفنان الصورة من خلاله في علاقة فورية مع ا لآخرين”. وقد استعاد جويس هذه الملاحظات المستوحية من أرسطو في الفصل الرابع من “صورة الفنان في شبابه”، ليجعل منها “نظرية جمالية”. وقد أشار بعض النقاد إلى أن العملين الأولين لجويس،أي مجموعته الشعرية”موسيقى الغرفة”، و”صورة الفنان في شبابه”، تنسجمان مع الفترة الغنائية ، في حين تتوافق روايه” أوليسيس” مع الفترة الملحمية. أما عمله الأخير” يقظة فينبغن” فتعكس الفترة الدرامية.
وحسب كتاب سيرته أيضا ،كان جيمس جويس قارئا نهما للشعر. ولعله تعلم اللغة الإيطالية ليقرأ بها “الكوميديا الإلهية” في نصها لأصلي لأنه كان يفضل دانتي على ميلتون. وبين عامي 190 و1902، سعى جويس إلى ترجمة بول فرلين الذي كان يحفظ البعض من أشعاره عن ظهر قلب. كما أنه كان يبدي إعجابا كبيرا بالشاعر الإيطالي دانيزيو.
ويقول الفرنسي بيار ترولييه، أن الشعر كان “القيمة الثابة” بالنسبة لمن كتب لزوجته نورا بارناكل عام 1904 يقول:” إن فكري يرفض مجمل النظام الإجتماعي الحالي والمسيحية والعائلة، والفضائل المكرّسة، والطبقات الإجتماعية والنظريات الدينية”. ويضيف بيار ترولييه أن هدف جويس منذ البداية كان “دخول عالم الأدب من باب الشعر”.
قصائد من “موسيقى الغرفة ”
-1-
أوتار في الأرض وفي السماء
تعزف لحنا لطيفا معا
أوتار قرب النهر
حيث تتجمّع أشجار الصفصاف .
على طول الماء تُعْزَفُ الموسيقى
الحب يهيم على وجهه
في هذه الأماكن،
أزهار شاحبة على معطفي،
أوراق على شعري.
بهدوء يَعْزفُ
وباتجاه الموسيقى ينحني،
أصابعه تتحرك في كل مكان
على الآلة الموسيقية.
-2-
الغسق الأرجوانيّ
يزرقّ، يزرقّ أكثر فأكثر،
اللمبة تسْكُبُ شعاعا أخضر باهتا
في أشجار الشارع.
البيانو القديم يعزف لحنا
بدبعا وبطيئا ومُبْهجا
مُنحنية على الملامس المصْفَرّ
هي تميل إلى هذا الجانب.
روح خجولة، عينان وقورتان يدان
لهما رغبة الإصرار في التيهان-
الغسق يتجهّمُ،
أزرق مختلطا بنيران الأورجواني
-3-
في ساعة الليل حيث يستريح الكونُ،
أنت الذي تُرَاقبُ السماوات متوحدا بنفسك،
هل تسمع الريح،والزفرات المختلفة
للقيثارات التي تعزف لكي يفتح الحب
من النهار الطالع الأبواب المضيئة؟
وهل أنت حين ينام الكون،
الكائن الوحيد
المنتصب لكي تسمع القيثارات تعزف
للحب وهو يتقدم أو لذاك السابق،
والريحَ التي تجيب منشدة الصدى
إلى أن يشعّ النهار بنوره؟
اِعْزفي أيتها القيثارات المتخفية ،
للحب، لا بد من ذلك،
هو الذي طريقه في السماء مُلْتَهب
في الساعة التي فيها
يختلط النور
بالموسيقى اللطيفة في الهواء
هناك في الأعالي
وفي الأرض البعيدة.
-4-
حين تتقدم النجمة في السماء،
خجولة، طاهرة، لا مُتَعزّية،
اسْتَمعي في المساء الذي ينوس
إلى المغني وهو في أول طلعته..
الندى يُقَطّعُ إيقاعا في صوته
وإذا ما أتى للغناء، فلكي يغني لك.
لا تحْني جبينك الحالم
عندما يهبط الليل ويناديك،
لا تفكري: ولكن أيّ مُغَنّ
يتحرّشُ بقلبي بأغنيته؟
كوني شاعرة بأنشودة العاشق،
فأنا الذي أغني في هذه اللحظة.
-5-
اِنْحَني من النافذة
يا صاحبة الخصلات الذهبية،
أنت التي سمعتك تنشدين
أنغاما مرحة.
كنتُ قد طويت صفحات كتابي
القراءة أرهقتني،
وكنت أراقب اللهبَ
يتراقص على الأرضيّة الخشبية.
أهملت كتابي،
تخلّيتُ عن عزلتي
لأنني سمعتك تغنين
في قلب الليل.
ومن دون أن تكفي عن إنشاد
ألحان مرحة،
اِنحني من النافذة
يا صاحبة الخصلات الذهبية.
-6-
حبي بالثوب القصير
يمضي خلَلَ أشجار التفاح،
حيث الرياح المرحة ترغب كثيرا في الركض مرفوقة.
هنا الرياح المرحة في الأغصان
تغازل الخميلة،
حبيبتي ببطء تنحني
تجاه الظلال على الحقل.
عندما تكون السماء من الخزف
على الأرض التي تضحك، تعيد حبيبتي ، خفيفة،
بيدها ثوبها.
-7-
من الذي يمرّ وسط الغابة الخضراء
وقد زيّنها الربيع كلها؟
من الذي يمضي خلَل الغابة البهيجة
ويجعلها أكثر بهجة؟
من الذي يجوبُ تحت الشمس
طرقات خبيرة بخطواته السريعة؟
من الذي يمضي تحت الشمس اللطيفة
بخطواته الطاهرة ؟
الطرقات خلَلَ الغابة كلها
تلمع بنار هادئة ومذهّبة –
لمن تحت الشمس
تزيّنت الغابة بأفضل زينة؟
آه، لحبيبتي الصادقة النزيهة
تزيّنت الغابة بأجمل زينة-
لحبيبتي النزيهة الصادقة
الشابة والجميلة فعلا.
-8-
أمضي لتعلمي بكلمات لطيفة
أنني قادم إلى سيدتي،
أيتها الريح التي تغني دائما
قصيدة عرس بديعة.
أسرعي على الأراضي المُعْتَمَة،
وهبي على البحر،
لا البحار ولا الأراضي باستطاعتها أن
تسلبني حبي الغالي.
والآن أيتها الريح، إذا ما أنت سمحت،
إمضي لتعرفي بنفسك،
أدخلي حديقتها الصغيرة
وغني عند نافذتها.
غني: رياح الأعراس تهب،
بالحب وها منتصف النهار
وقريبا سيكون حبيبك عندك
مسرعا سيكون عندك.
-9-
حمامتي، جميلتي،
اِنهضي، إنهضي!
الندى سقط
على فمي وعلى عيني، انظري.
الرياح المثقلة بالروائح تنسج
أنغاما من الزفرات المتعبة:
إنهضي، إنهضي !
يا حمامتي، يا جميلتي!
أنا أنتظر عند شجرة الأرز،
يا أختي، يا قلبي، تعالي إليّ.
حمامتي ذات النهد الأبيض
نهدي سيكون وسادتك.
الندى سقط
مثل الحجاب على رأسي،
آه يا جميلتي آه يا حمامتي،
إنهضي، إنهضي!
-10-
آه يا قلبي، اِستمعْ من فضلك
إلى قصة العاشق .
إن سرّ غمّ الرجل
هو خيانة الأصدقاء.
سوف يدرك عندئذ
أن أصدقاءه كانوا مزيّفين
وأنه لا يتبقى في النهاية من الكلمات المعسولة
سوى ركام من الرماد.
لكن هناك واحدة
ستذهب إليه
ولن تفعل شيئا سوى مُغَازلته.
سيضع يده تحت دائرة نهدها الناعم.
الذي تذوّقَ مرارة الغمّ
عليه الآن أن يهدأ ويستريح.
-11-
في غابة الصنوبر المظلمة
لننمْ يا حبيبتي،
في الظلّ العميق النضر
في قلب النهار.
كم هو ناعم أن ننام هناك،
وكم ناعم أن نمارس الحب،
هناك حيث غابة الصنوبر الفسيحة
وقد تحولت إلى سفينة شراعية.
قبلاتك الناعمة المتدفقة
ستكون أكثر حلاوة
تحت الزوبعة الطريّة
لخصلات شعرك.
هناك في غابة الصنوبر،
في قلب النهار،
تعالي معي الآن،
يا حبيبتي الحنونة،
اِسرعي.
-12-
هو الذي مات مجده ولم يجد
روحا تتوافق مع روحه،
بين الأعداء المزدرين، المغتاظين،
هو الذي يتعلق بالنبل القديم،
مكابرا لا يقاسم لا حياته ولا مصيره-
ولا رفيق له سوى حبيبته.
-13-
كان ذلك قرب “دونيكارناي”
عندما كانت الخفافيش تطير من شجرة إلى شجرة،
كنت وحبيبتي نمشي.
ناعمة كانت كلماتها وهي تتحدث إليّ.
على جانبينا كانت ريح الصيف
تمضي هامسة- يا لفرحها-
لكن أكثر نعومة من نَفَس الصيف
كانت القبلة التي وهبتني أياها.
-14-
طوال النهار، أسمع خرير المياه
وهي تتأوه،
حزينا مثل الطائر البحري الذي يمضي
وحيدا
مستمعا إلى الرياح تصرخ باتجاه المياه
ذات النشيد الرتيب.
الرياح الرمادية، الرياح الباردة
تعصف بشدة
هناك حيث عليّ أن أمضي،
أسمع الصخب الذي تحدثه الأمواج
في الأسفل، بعيدة،
في النهار، في الليل،
أسمعها في الأسفل،
وهي تتدفق وتنحسر .
-15-
أسمع هجمة جيش على الصُّقْع،
صاعقة خيول تغوص ،
والزبد على قوائمها:
في لاماتها السوداء، مكابرة،
نحن نرى الفرسان
ماسكين بالأعنّة بازدراء، والسياط في الريح.
هم يصرخون في الليل
بأسمائهمن أسماء المقاتلين:
أئن في نومي حينما أسمع ضحكهم يدور.
شعلة من نار تخترق الليل وتبهر،
وهم يطرقون القلب ، يطرقونه مثل سندان.
وهم يرجون شعورهم الخضراء منتصرين:
يخرجون من البحر ويصرخون
وهم يركضون على الشاطئ.
ألم تكن أبدا عاقلا يا قلبي، لذا أنت تيأس؟
حبيبتي،حبيبتي، حبيبتي،
لم أنت اهملتني؟
تقديم وترجمة: حسونة المصباحي *