لكتاب “الساق على الساق” للنهضوي أحمد فارس الشدياق مكانة رفيعة في الأدب المشرقي الذي نشأ في بلاد الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وإذ توقف نقّاد الحداثة أمام تجنيسه، قيل تارة إنه سيرة ذاتية وتارة أخرى إنه الرواية العربية الأولى أو لبنتها الأولى. إلا أنّ اللافت في هذه مسألة التجنيس هذه، غيابها عن معاصري الشدياق، والتفاتهم إلى مضمون الكتاب الفريد، خاصة من الناحية اللغوية، أمّا الدينية والاجتماعية وبالأخص تطرقه لحياته الشخصية، ونظرته إلى المرأة متمثلة في شخص زوجه الفارياقة، فقد نُظر إليها بمقاييس ذلك العصر. ودون ذاك، كان “اختلاط” الشعر بالنثر بمستلات قادمة من القواميس بالسرد بالفكاهة والنقد، أمرًا طبيعيًا، نابعًا من تقاليد كتابية تراثية راسخة لدى مثلا الجاحظ (الحيوان) أو ابن حزم (طوق الحمامة) أو أبي حيان التوحيدي (الامتاع والمؤانسة) وغيرهم بالطبع، زد على هذا تلك الكتب الصغيرة التي تتناول موضوعًا دقيقًا وغالبًا ما تصدره بلفظ “مقالة” في كذا، أو “رسالة” في كذا.
والظنّ أن غياب الدراسات التي تعنى بـ “شكل” تلك المدونات ضمن سياقها وبيئتها العربية، متضافرًا مع الاحتكاك بالثقافة الغربية وأجناسها الأدبية المختلفة، أدّيا دورًا كابحًا في الاهتمام بـ “شكل” عربي جميل، يتخذ من النثر الرفيع قالبًا طاغيًا.
وحتّى لو تراكمت مقولات من هذا النوع عن إرهاصات الرواية العربية – على الطريقة الغربية – أو الشعر غير الموزون – على طريقة قصيدة النثر الغربية أيضًا، فإن الخصب في الثقافة العربية والأصالة لدى كتّابها، ورغبتهم الحقيقية بالتطور والانفتاح والإنجاز، سيفتح المسارب الطبيعية لكتابات متميزة حداثية، لا تنقطع حقًا عن التراث، بل تنبثق من نظامه بعد استيعابه والتجديد انطلاقًا منه. كذا قيض للثقافة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وبصورة خاصّة في المشرق العربي، ظهور كتب ترتبط بوشائج قوية مع تقاليد الكتابة العربية وتفارقها في آن معًا، وكتاب (الساق على الساق) هو من أهمها ضمن هذا المعنى، وضمن سياق يقول بتأثير الشدياق الراسخ في وعي أو لا وعي كتّاب المشرق.
فاختلاط السرد بالنثر إن بسّطنا الوصف الشكلي، هو السمة الحداثية الرئيسية لتلك الكتب، وإن أضفنا إليها العامل الحاسم أي التطرّق إلى التجربة الشخصية، صار ممكنًا القول اصطلاحًا بـ “السيرة النثرية” كجنس أدبي عربي حداثي، وهي تختلف قطعًا عن السيرة الذاتية من ناحية بنيوية، فالأخيرة تمتد على زمن يقارب عمر كاتبها، وتميل إلى الخطية والتتابع في سرد واضح، بينما “السيرة النثرية” تتبع تقنيات أخرى، من أهمها بنيويًا تكثيف الحياة في برهات قليلة.
ليست هذه المقدمة الطويلة نافلة، إذ هي المدخل النقدي لقراءة ثلاثة كتب من نوع “السيرة النثرية” للشاعر اللبناني عبده وزان: حديقة الحواس، وقلب مفتوح، وغرفة أبي.
ثمة سمات مشتركة بعينها، تؤلّف مجتمعةً هيئة “السيرة النثرية”، التي لا بدّ من القول إن غالبية كتّابها في الحداثة من الشعراء، وهي تشترك مع تقنيات الكتابة الشعرين بوجود أمرين على الأقل، الأول ؛ أنا الشاعر/ الناثر القادرة على التماهي مع أنا القارئ، والثاني وجود سبب مباشر وغالبًا خارج عن إرادة الكاتب، هو دافع الكتابة ومحرّكها.
يظهر دافع الكتابة في “حديقة الحواس” مندغمًا في بنيته وأسلوبه العذب المبتكر، إذ تطغى درجة شعرية لغوية تعتمد تكثيف اللحظة بل وتثبيتها حيال حالات الاضطراب الأقرب إلى الدوامة التي يعيشها “المنهار نفسيًا”، حيث العزلة الاختيارية، والاستسلام للقنوط، والامتناع عن الكلام، والإحساس باللاجدوى، وصولًا إلى التفكير بالانتحار. فهذه الحالات الموصوفة علميًا، تغيب وتتوارى وراء لغة دقيقة شعريةأخاذة، حيث تتناسل مفردات بعينها من جملة إلى أختها، لتؤلف بمجموعها مقاطع من النثر الرفيع : “كانت سئمت هي أيضًا ولم تحتمل مرأى الهاوية التي شرعت تنبثق أمامنا، وكنا اقتربنا من الهاوية كثيرًا وغدونا كظلين منكسرين على حافة غيابنا. لكن لم تحتمل. لم نحتمل كلانا ولم نستطع أن نمضي في إنهاء حياتنا، الضئيلة حياتنا. ظلّت تخاف، ظلّت ترتجف في السر. أما أنا فكنت لأمضي في ما لم أمض به، ما لم أجرؤ على المضي به. ولم أكن لأتردد لولا رحيلها الذي فاجأني ولم يفاجئني. كنا اخترنا الأمر معًا، اخترناه صدفة في لحظة سحيقة من سأمنا.” أو كما في هذا المقطع :” وكأنني لم أنهض من موت ما. لا فرحت نفسي ولا انتزعني أمل. حتى رغبتي في الموت انكسرت مذ أقفرت وخويتُ. لا ميتًا كنت ولا حيًا. لا نهوضًا نهضت ولا رقادًا رقدت. أعييت لكثرة ما هجست موتي. وما جنيت سوى الخوف. أخذتني الرعدة وطفقت أرتجف كمن اختطفته الرؤيا ولم يغمض عينيه. قلت أعانق البياض المرتجف في عيني. قلت أقبل على الكلمات علّني أنهض من ركامي وحيدًا كنت، وحدي كنت، وحدي صامتًا لكن عينيّ مفتوحتان.” حيث يشبه التركيب النحوي لبعض الجمل، التركيبات النحوية الواردة في الكتاب المقدس، التي تسللت إلى الشعر الحديث عبر تراكم العمل الذي قام بع شعراء مشرقيون لبنانيون، وكان أوضحهم في ذلك أنسي الحاج وفضلًا عن هذه التراكيب التي استعارها الشعر الحديث، ثمة أيضًا هذا الانزياح اللغوي او الكتابة بلغة على حافة الإخبار، تأنف منه وتتجه نحو مملكة المعاني المتناسلة طبقات طبقات فجملة “إنهاء حياتنا” تخبر عن الانتحار، إلا أنها تغوص وتكاد تختفي تحت فيض النثر الشعري، المحيط بها. وهذه التقنية أيضًا مستعارة من الشعر الحديث، بل هي أحد إنجازاته، حيث ترد جملة إخبارية (غالبًا سياسية) في محيط من الجمل الشعرية، وتعطي القصيدة أو النص هنا دفقة وجدانية حارّة.
لا يمكن للسيرة النثرية أن تنساق وراء السرد والإخبار، إذ إن الخطية في الزمن، والكتابة المتسلسلة في السرد، تخرجانها من خصوصيتها، إذ هي ليست سيرة ذاتية تسرد حياة كاتبها، بل هي مجموعة من البرهات أو اللحظات المنتقاة لا بسبب أنها حاسمة أو غرائبية أو ذات دلالة، بل لأنها تشرّع الباب أمام “أنا الناثر/ الشاعر” كي يمتحن أفكاره وأوهامه وخيالاته وتأملاته. والكلمة الأخيرة تأملات هي الأهم. من هنا يستدعي وازن إلى سيره النثرية شخصيات أدبية وفكرية ودينية الخ، من بعدما استعمل حادثة شخصية كعتبة أولى، وفي كلام آخر ينطلق عبده من الشخصي الواقعي، من لحظة محددة، يبلورها باستدعاء “نموذج أعلى” خاص به، قبل أن يصقلها بأفكاره وتأملاته الخاصة المنفتحة دومًا على الثقافات الإنسانية، كما في هذا المقطع البديع من “غرفة ابي” : “لا أخفيك أيها الأب أنني لم يصدمني كتاب في مقتبل العمر مثلما صدمني كتاب “هكذا تكلّم زارادشت”. عندما قرأته للمرّة الأولى هزّني وجعلني اضطرب لأيام. أكثر ما صدمني فيه حينذاك إعلان زارادشت موت الاله. كان هذا الموت موتاً للأب الإلهيّ، كما فهمته في حينه. أعلن نيتشه في هذا الكتاب موت الاله جهاراً، بلا تردّد ولا خشية. كانت حربنا الأهلية حينذاك في أوج احتدامها. وكان الرب يُقتل كلّ يوم وينهض كلّ يوم. كان ينقصني إعلان نيتشه هذا لأتيقن أنني أصبحت يتيم الرب مثلما كنت يتيم الأب. مات أبي السماوي”. أو مثلًا هذا المقطع :”أكره الأنا المريضة بذاتها، الأنا المتضخمة، الأنا التي تجعل من نفسها المحور والدائرة، الأنا الفائضة… كم كرهت هذه الأنا لدى المتنبي، التي هي القبل والبعد، المبتدى والمنتهى… هذه الأنا المتغطرسة، المنتشية بنفسها، الأنا النبيّة، الأنا الإلهية الفارغة من الألوهة. وعلى خلاف أنا المتنبي، أحببت أنا المتصوّفة، الأنا المسحوقة بألوهيّتها، الأنا المجروحة بالضوء، الحاضرة من شدّة غيابها، الممتزجة بالـ “هو”، المحترقة شوقاً الى الإمحاء… كم تسحرني الـ “هو” عندما تحلّ محل الأنا. يصبح المتكلم غائباً للحين، يتكلم بغيابه، يتكلم غيابَه، يصبح آخر مجهولاً أو معلوماً… لكنني لم أتمكّن يوماً أن أسمّي نفسي هو، أن أقتل هذه الأنا المقتولة أصلاً. هذه الأنا التي أكرهها بمقدار ما انسحق بها. هذه الأنا التي تبعث فيّ النار الخبيئة، نار الأبد الذي يخفيه الكائن في دخيلائه”.
ومما لا شك فيه إن هذه التقنية إن صح التعبير، التي تقلل من أهمية الشخصي في السيرة النثرية، وتنفتح نحو الإنساني العميق، تؤدّي دورًا كبيرًا في التماهي بين أنا السيرة النثرية، وأنا القارئ. شيء مشابه لما يحدث في الشعر، حيث القصيدة “الصحيحة” لو صح القول، هي التي تسمح بتماهٍ مماثل، من حيث هي تخاطب وجدان القارئ، عقله وقلبه في آن معًا. وتؤدّي من جهة أخرى، إلى إغناء نص السيرة النثرية بكل ما يخطر في البال من أفكار وتأملات قادمة من أجناس مختلفة، كذا يحضر إن أراد: الشعر، الشؤون اللغوية، الهواجس الدينية، الفلسفة الخ.. فيتوسع مدى النص، من حيث هو منفتح في آن واحد على عالمين شاسعين ثريين، الداخلي منهما متمثّلاً بـ “أنا” الكاتب، والخارجي متمثلًا بكل ما يشغفه ويُعمل تفكيره، ونتيجة لتضافر ذلك مع التخفيف من الحوادث الشخصية (حادثة اليتم مثلًا تفتح أسئلة وتؤلّف مقارنات)، يستطيع القارئ التماهي مع الكاتب، حيث إن تجربته الشخصية (للقارئ) ستصير صدى للأفكار التي استلّها الكاتب وأغناها بالتأمّل والثقافة. كذا يمكن النظر إلى “قلب مفتوح” جملةً، إذ إن الدافع الواضح لكتابته حادثة واقعية شخصية: جرح مادي جراء عملية القلب المفتوح، بيد أن وازن يعيد فتح قلبه مجازًا لينظر في جروحه، ندوبه، أحلامه، ذكرياته. فمن الملموس والمحموس إلى المجاز، فيكتب عن الجرح في الروح، عن علاقته بجروح المسيح، عن أبعاده ودلالاته وآثاره المرئية منها وغير المرئية، حيث تحف اللمحات الفلسفية في كل ما يكتب : “الجروح تصالح بين حطام الجسد وضوء الروح المنبث من الداخل”. وينطبق الأمر عينه على الليل، حيث يبدع وازن في وصف مراتبه إن صح التعبير: “النافذة هي شقيقة الليل، أطل منها على سمائه” أو “الليل هو الكائن وقد أضحى وحيدًا أو لا أحدًا أو الآخر الذي لم يكنه إلا سرًا”، أو “الليل يحمل مؤنثه في روحه”. أو كما في هذا المقطع البديع الذي يبدأ بالمشي، ويحلق نجو المجاز والاستعارات الكبرى، خلواً من أي سرد أو إخبار :” كان المشي أشبه بالهروب إلى الأمام الذي لا وراء له، الامام الذي لا يمكن الوصول إليه مهما طال المشي. كان المشي أشبه بالعزاء. أمشي ولا أفكر، الأفكار هي التي تفكرني أو تفكر عني، وكنت أدعها تجوب رأسي لتحلق من ثم كسرب من النوارس سودًا وبيضًا. أنظر من حولي بعينين غائمتين ولا أبصر، لا انتبه لما انظر إليه. إنه المشي فقط، إنها الحياة تختصرها قدمان لا يحل بهما تعب، وعينان بنظرات مكسورة كمرأة سفكت للحين”
تبقى نقطة مهمة، إذ يلفت النظر أن السيرة النثرية كما في كتب عبده وازن هذه، أو غيره، تكاد تكون حكرًا على الشعراء. فأهل الرواية والمسرح وغيرهما، يكتبون عادة السيرة كما هي سيرة ذاتية. من هنا فإن السيرة النثرية، مطرح ممتاز لقراءة تقنيات شاعرها أيضًا، وفي حال وازن، يعيننا منهج النقد النفسي الذي ابتدعه الفرنسي شارل مورون، في تعيين أسطورة وازن الشخصية. فقد انتبه مورون إلى شبكة استعارات تستحوذ على مخيلة مالارميه وتظهر في آثاره، وتؤلف بنى خاصة، فحددها ودرس العلاقة بينها. وإذ طور فرضيته، ظهرت في كتابه الشهير: “من الاستعارات الملحة إلى الأسطورة الشخصية”، وأعطت النقد النفسي قوة، راجت في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم. احتفظت فرضية مورون على الدوام بإشعاعها، نظرًا إلى أنها تدخل القارئ والناقد معًا إلى منطقة أثيرة سحرية في الأدب: العالم الداخلي للكاتب، وما يموج به من هواجس ووساوس، تشتبك مع الإلهام، ثم تمرّ عبر مصفاته الأولية، قبل أن ترضخ للانضباط، وتمسك بالكاتب حتى التلابيب، والنتيجة عمل أدبي، يؤنس الناس، ويرفع البشري فيهم -والأوهام أيضًا- ويرنّ كقيم ومثل عليا، شيء هو المتعة وأحوالها.
فوضع نصوص عبده “فوق بعضها”، يفضي إلى استعارة ملحّة يهجس بها في شعره وفي سيره النثرية معًا: إنها العين، لا بوصفها ماكينة للإبصار (بتعبير فيريليو)، بل بكل وظائفها: تبصر، تنظر، ترنو، تحدق، تغمض، تنغلق، تقفل، تنام وتحلم. يكفي ربما أن يستعيد المرء عناوين بعض دواوينه الأولى: “العين والهواء” و”أبواب النوم”، أو أن يعيد قراءة حفنة الجمل هذه من سيره النثرية: “صامت، لكن عيناي مفتوحتان”، “لكن، لم تكن تغيب. حاضرة دومًا في عينيها اللتين لا تغمضان”، “لا تفتح عينيها لأنها لم تغمضهما، “وكانت في أحيان تعصب عينيها كي لا ترى”، “العين هي بوابة الحلم، العين التي تبصر وهي مغمضة”، وغيرها مما يقع في منطقة آسرة على الحافة بين الشعر ونثره، بين الإخبار وسرده، بين البوح وسرّه كتابة حميمة تفصح عن الشخصي بقدر ما يرغب الهاجس الثقافي، ويحف بها أبدًا بعد إنساني عميق، مرهف، يتيح للقارئ الركون في السيرة النثرية كما لو أنها قصيدة صافية مجللة بلغة شعرية نثرية أخاذة.
ديمة الشكر *