يحتل الكاتب السوري حنا مينه مكانة بارزة في تاريخ الرواية العربية الحديثة، بما قدمه مينه على امتداد أكثر من ستة عقود من روايات ناهزت الأربعين رواية قدمت المجتمع السوري بسماته الاجتماعية وتحولاته السياسية منذ الحرب العالمية الثانية والنضال ضد الاستعمار طلبًا للاستقلال، وصولاً لمطلع الألفية الجديدة.
تنتمي كتابة حنا مينه إلى التيار الواقعي الذي يقدم الواقع بما فيه من مآسٍ وجدل وصراعات وتحولات اجتماعية، فضلاً عما يتبدى من تجليات أيديولوجية في روايات حنا مينه تلقي بظلالها على حركة السرد وتؤثر في مساره الدرامي.
يبدي حنا مينه في بناياته السردية اهتمامًا بالغًا بهيكلة شخوصه الروائية الذين يغلب عليهم أنهم ذوات إشكالية تجابه أقدارًا معاندة ورياحًا مضادة لرغباتهم وطموحاتهم، فما بين أحلام مجهضة وتحديات شاقة تتأرجح شخوص حنا مينه في تذبذب عنيف ومتاهة وجودية كبرى تستغرقهم.
في رواية «الشمس في يوم غائم» يتبدى تمرد الشاب الصغير ذي الثمانية عشر عامًا على أسرته الأرستقراطية كتمظهر من تمظهرات الثورة على السلطة البطريركية ورفض هينمة الآباء من جيل صاعد في خضم تحولات كبرى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فيخرج الابن عن نطاق الخضوع لوالديه خصوصًا لائذًا بمعلم الموسيقى و»الخياط» الذي علمه رقصة «الخنجر»، فيقول الصوت السارد للشاب:
ومع الأيام، وإلى جانب العيبين اللذين اكتشفهما معلم الموسيقى في شخصي، اكتشفت، أنا لذاتي جملة عيوب، أبرزها أنني ابن غير عاقل لعائلة عاقلة جدًا، وأنني جامح النزوات، شديد الانفعال، أكره ما يحبه أهلي، وأريد شيئًا أجهل ما هو، وأنني في نظر والدي، لا أصلح لعمل مجيد ونافع، مثل إدارة الأملاك وتنميتها، وهي المهمة التي كان يعدني لها، ويعلق آمالاً عليها.
في روايات حنا مينه يبرز جدل دائم حد الصراع في كثير من الأحيان بين الأجيال؛ لاسيما جيل الشباب والأبناء بتمرده وتطلعه للتغيير، وجيل الآباء المحافظ برؤاه الكلاسيكية ووعيه المحافظ، وهيمنته ومحاولته قمع المختلف معه من الآراء والاتجاهات.
ويتجلى الجدل الاجتماعي الدائر في رواية «الشمس في يوم غائم» من خلال إيثار الفتى «رقصة الخنجر» التي يمارسها «الغجر» على ما فيها من مخاطر بالغة تصل حد الهلاك والموت، على «رقصة التانغو» التي تفضلها عائلته وأبناء طبقته الأرستقراطية، وفي هذه المفاضلة بين «رقصة الخنجر»، و»رقصة التانغو»، يمتزج الواقعي بالرمزي، والأسطوري، كما هو سائد في كتابة حنا مينه التي تسعى لتقديم الواقع بما فيه من صراع وغرابة تستحيل قانونًا لواقع حافل بالمتناقضات، حد المألوفية، إذ بات مألوفًا هذا التناقض الوجودي الذي يؤجج صراعًا اجتماعيًّا لا ينتهي.
وبقدر ما ينطلق سرد حنا مينه من الواقع الاجتماعي فإنّه يعمل على كشف الخلفيات الثقافية لهذا المجتمع، مسرح السرد، كما في وصف الفتى لاستقبال بلدته المـتأخرة حضاريُّا لفرقة موسيقية:
…فقد أفلست فرقة طرب جاءت بلدتنا على الساحل، لأنّ النظّارة، وكلهم من الرجال انقسموا حيالها فريقين: فريق تحرّش بفتيات الفرقة، والآخر صفّر للعازفين، ثمّ تطوّر ذلك إلى معركة بالأيدي والكراسي، فأوقفت الفرقة عملها، لقناعتها أنّ الوقت لا زال مبكرًا على بلدتنا لتتذوق الموسيقى بدون تصفيق وتصفير وخبط أرجل ورقص بالخيزرانات.
يبرز سرد حنا مينه في رواية «الشمس في يوم غائم» صراعًا اجتماعيًّا ثقافيًا بين أكثر من قوة وطبقة ثقافية على أكثر من صعيد؛ حيث الصراع بين ثقافة بازغة تحاول أن تجد مكانًا لها، تتمثل في فرقة الموسيقى بشكلها الحداثي، وقتها، في مقابل ثقافة راسخة تتمثل في ثقافة تلقي الموسيقى والفن عمومًا وفقًا للمعطيات القديمة التي تعتمد على الانفعال الصاخب من المتلقين ومشاركة الفرقة الموسيقية في اللعبة، وثقافة ثالثة راديكالية تتمثل في عدم تقبل وجود المرأة في عمل فني وأداء جمالي، لذا نجد التجسيد المشهدي لما هو واقعي عند حنا مينه كاشفًا في ثناياه عن الجدل الثقافي والصراعات بين القوى الثقافية والاجتماعية في المجتمع.
وإذا كانت لشخوص روايات حنا مينه رمزية تتمثل في أنّ هؤلاء الشخوص يتجاوزون فردانيتهم ليمثلون طبقات اجتماعية وكيانات ثقافية متعددة في المجتمع، فإنّ للأحداث والوقائع رمزية أخرى تتجاوز الصورة المشهدية المباشرة، كما في مشهد من رواية «المصابيح الزرق» يحكي عن سير الشاب الصغير «فارس» ذي السبعة عشر عامًا بشوارع بلدته بعد الإعلان عن اندلاع الحرب العالمية الثانية التي ستقحم بلاده فيها:
ذهب مساء يطوف في الشارع، فاستقبلته ريح الخريف بنواحها وغبارها، وواجهه ظلام يضرب رواقه على كل ما حوله، فلا يستبين من الشارع سوى مصابيح زرق قاتمة، يخالها الرائي منابر بعيدة يلفها ضباب كثيف، والمدينة غارقة في وجوم، وصفير الحراس قد اشتد، ومن على الأرصفة يسمع وقع الخطى خلال الظلام، في سير خائف إلى البيوت.
يبدو سرد حنا مينه متعدد الطبقات الدلالية بين الدلالة المباشرة المتمثلة في أحداث الحكاية ووقائعها المبثوثة عبر الحكاية، ودلالة أخرى رمزية، إذ تستحيل الوقائع بدلالاتها المباشرة إلى كناية عن معانٍ أخرى يمسي المشهد بمثابة تأشير مجازي عنها، فريح الخريف هنا تشير إلى آثار الحرب السلبية التي تواجه الفتى اليافع والمدينة، أمام الظلام والضبابية فيرمز لانعدام الرؤية وقتامة المجهول الذي تنتظره المدينة.
في سرد حنا مينه يتعالق ما هو فردي بما هو كلي، وما هو اجتماعي بالسياسي، والشخصي بالأيديولوجي؛ ففي رواية «صراع امرأتين» يحتدم التنافس ويشتد الصراع بين «شكوس»، و»غنوج الزرقا» على مستويين: أحدهما سياسي، وطني، حيث الصراع على الزعامة أو الحضور في حارة الشحاذين بعد قيام غنوج الزرقا بقتل الكابتن روجيه، الضابط الفرنسي، والآخر شخصي عاطفي حيث التنافس بين المرأتين على رجل، «حمداش»، فيقول السارد:
كان حمداش، باللذة أو دونها، قد وقع، حقيقة، في حبّ شكوس، دون أن يقطع حبه لغنوج الزرقا. إنّه الآن، بين امرأتين: شكوس القوية، الجبّارة، المندفعة بغير هوادة في كل شيء، …وغنوج الزرقا التي افتدته، بإقدامها المثير للعجب، على قتل الكابتن، روجيه، رغم كل ما ألحقه بها حمداش من إهانات، ورغم وصفه إياها بالخائنة جنسيًّا ووطنيًّا، واعتدائه عليها بالضرب، جزاء الفدية التي ألحقت بها حول تعاطيها مع الفرنسيين، ومن حق غنوج، بعد هذه التضحية، ألا تُنبذ، وأن تبقى أثيرة لديه، وأن ينقذها، ولو بالمزاج، من الوضع الذي هي فيه، بعد خروجها من السجن، وفي هذه الحال يصبح زوجًا لامرأتين، تسعى كل منهما أن تصطفيه لنفسها، في صراع مرير بينهما، لن يهدأ حتى تنتصر إحداهما على الأخرى.
حفل سرد حينا مينه بتصوير لعوالم الحارة، خصوصًا «حارة الشحاذين»، التي جاءت عنوانًا لإحدى رواياته، لتمسي الحارة حلبة للصراع الوجودي الكبير وتمثيلاً له، ودائمًا ما يحمل الأشخاص والجماعات في سرد حنا مينه غلالة إيديولوجية، ويمتزج الذاتي بالموضوعي، ويبدو، هنا، أن كتابة حنا مينه تعمل على تغريب الواقع المحكي عبر السرد، فيمسي الواقع بغرائبيته أقرب إلى الأسطورة. وفي رواية «صراع امرأتين» يبدو أنّ الصراع الدرامي بين امرأتين مزدوجًا حيث يتعلق الفعل الاجتماعي والسياسي لطرفي الصراع بالشخصي المتمثل في سعي المرأتين من أجل الاستحواذ على «حمداش».
وفي رواية امرأة تجهل أنّها امرأة، آخر روايات حنا مينه، تسرد حكاية لقاء «نمر صاحب» الصحفي ذي الثلاثة والثمانين عامًا، بالسيدة الأربعينية، «رئيفة وجدان»، التي ينقذها نمر في سفرة على الحدود التركية السورية من مصادرة رجل الجمارك لأموالها، ثم يتخذها مديرة لأعماله ويتزوجها، فتصور الصياغة السردية تردد نمر في الاتصال برئيفة:
كان نمر قد قرر، في سريرته، أن يهتف إلى السيدة رئيفة وجدان، وكل هذه الحيرة كانت مصطنعة، غير مبررة، إنّها ضحك على الذات، إرضاء لغرورٍ، تمسك فاضح بكبرياء رجولة غاربة، وفي المآل: خوف من تجربة! «لماذا تريدون إدخالي في التجربة» صاح السيد المسيح في وجه الفريسيّين الذين قالوا له «إذا كنت ابن الله حقًا، فألقِ بنفسك من فوق الهيكل!» نمر، بكل بساطة، خاف التجربة قبل أن تكون التجربة، لا يريد إلقاء نفسه من فوق الهيكل، ولكن من ذا الذي زعم أنّ هناك هيكلاً، أو هناك تجربة؟ البصيرُ البصيرُ، ينقاد كالضرير أمام الأنثى… ما أعجل الإنسان، وما أغباه، عندما يشمر ثيابه قبل وصوله إلى النهر! وكان هذا الغبي هو نمر صاحب بذاته، فقد شمّر ثيابه، ليس قبل الوصول إلى النهر، بل قبل معرفة ما إذا كان هناك نهرٌ أصلاً.
تعمل الصياغة السردية، لدى حنا مينه، على إقامة موازاة استعارية بين الوقائع المحكية والأسطورة؛ كما في تمثيلها لموقف خوف «نمر صاحب» من أن يخوض تجربة الاتصال بالسيدة «رئيفة وجدان» برفض المسيح أن يخوض تجربة مع الشياطين أن يلقي نفسه من فوق الهيكل، لكن في لعبة التمثيل الأسطوري التي يستعير فيها سرد حنا مينه أسطورة ما تمثلاً لواقعة أو حدث درامي ما، لا يكون استلهام الأسطورة بنحو مطابق على الحدث، وإنما تعمل الصياغة السردية على إبراز بعض تخالفات للحدث المحكي عن الموقف الأسطوري المستعار. كما تشبِّه الصياغة السردية نفس الواقعة لتردد «نمر» في الاتصال برئيفة بإسراع الإنسان بخلع ثيابه قبل بلوغ النهر أو قبل معرفته بوجود نهر أصلاً، فتعمل الصياغة السردية بتعديد التمثيلات التي يُشبه بها الحدث السردي في تراكب تصويري يمنح سرد حنا مينه أبعادًا شعرية مضافة لأبنيته الحكائية وأردية مجازية تسربل القوام الدرامي لوقائع السرد.
والسرد عند حنا مينه يتجاوز الموقف المباشر إلى دلالات مرموز لها عبر الوقائع والأحداث، فيقول السارد في رواية «امرأة تجهل أنّها امرأة» عن «نمر»:
خرج إلى الشارع، توقف أمام باب الفندق، يذهب يميناً أم يساراً؟ ضحك في سره وقال: «أيها الشقي، أمضيت عمرك في اليسار، فهل يعقل، بعد كل هذا العمر، أن تذهب يمينًا.
ثمة انتقال من الموقف المباشر، المتعلق بالحدث، المفاضلة في اتجاه السير بين اليمين واليسار، إلى التأكيد على الموقف الأيديولوجي للذات في توجهها الحياتي وممارساتها السياسية باختيار اليسار مبدأ لها، وتعمل مثل هذه المراوحات على إنعاش الإيقاع السردي وربط الحدث بالأيديولوجيا التي تؤثر فيه وتوجهه.
رضا عطية *