أرق الموت بال الانسان ، وشغل تفكيره المصير المحتوم الذي أثار في اعماق نفسه المضطربة تساؤلات حائرة عن جدلية الموت والحياة. وسر الفناء، وغاية الزوال. وقد عبرت ثقافات الشعوب ، وفلسفاتها ، وأساطيرها عن قضية الموت بمستويات مخلفة ونقلت كثيرا من التصورات عن طبيعة العدم والبقاء. وكان الشعر من بين الفنون الابداعية قد حل خطرات فكرية ، وتأملات ذهنية اطلقها الشعراء تعبيرا عن حقائق الوجود وبانوراما الحياة والفناء.
والشاعر الجاهلي عني بأمر الموت كسائر الناس ، ومضى به تأمله الفكري الى ادران حقيقة الحياة. في قصرها ومحدودية أيامها، فهي كالكنز تنقص ، ولا تزيد كما يقول طرفة بن العبد:
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الايام والدهر ينفد
وبدت له الحياة كثوب معار في اشارة الى عدم امتلاكها، ومن طبيعة الاشياء المقارة أنها لا تدوم ولا بد ان يستردها من أودعها. وعندئذ فان مصير الانسان الى زوال ، وان قدره ان يسلك درب المنية ، ويلحق بالذين سبقوه كما تخبر بذلك سعدى بنت الشمردل اذ تقول :
ولقد علمت بأن كل مؤخر
يوما سيبل الاولين سيتبع
ولقد علمت لو ان علما نافع
ان كل حي ذاهب فمودع
والانشغال بالموت اوقد في نفس الشاعر جذوة قلق لا يسكن ، أفسد عليه متعة الحياة ، وكدر صفوها. اذ صار الشاعر يخشى ان يصرعه الموت في أية لحظة وان يباغته الردى في غفلة ، ما دامت سهامه مشرعة لا تخطر، من تصيب ، وادراك الموت بحد ذاته يتجل في التفكير بالمال الذي يصير اليه الشاعر حيث سيصبح منزله العامر حفرة موحشة ، لا مؤس فيها ولا أنيس. حفرة تسفي عليها الرياح يهجع فيها جثة هامدة ، لا تسمع ، ولا تجيب ، انه الشعور بالعدم المطلق كما عبر عنه المثقب العبدي اذ قال :
ولقد علمت بأن قصري حفرة
غبراء يحملني اليها شرجع
فبكى بناتي شجرهن وزوجتي
والأقربون الي ثم تصدعوا
وتركت في غبراء يكره وردها.
تسفي علي الريح حين أودع
حتى اذا وافى الحمام لوقته
ولكل جنب لا محالة مصرع
نبذوا اليه بالسلام فلم يجب
أحدا ، وصم عن الدعاء الأسمع
* حتمية الموت:
ولعل الفكرة التي تشير اليها الابيات السابقة تؤكد مفهوم الحتمية ، فالموت
حقيقة ثابتة ، وقضاء مقدر ، لا مهرب منه ، ولا منجاة.
والشاعر الجاهلي كان مدركا هذه الحقيقة ، وكان على يقين واسخ بأن الموت منهل يرده الجميع ، ولا يمكن للمرء أن ينجو من سهامه ، او يظفر بالخلود لمال او جاه او سلطان :
إني وجدك ما تخلدني
مائة يطير عفاؤها أدم
ولئن بنيت لي المشقرفي
هضب تقصر دونه العصم
لتنقبت عني المنية ان
الله ليس لحكمه حكم
وقد تحدث عن هذه الحقيقة اكثر من شاعر ، فهذا طرفة يجد الانسان مقيدا بحبال المنية ، ولا خلاص له منها ، ولا فكاك :
لعمرك ان الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرض وثنياه باليد
وذاك ابو أؤيب الهذلي يتأمل الحياة من حوله ، وكيف تفك المنية بالناس ولا تجد بينهم من يقوى على رد غائلة الموت ، فلا التمائم تنفع ، ولا التعاويذ تجدي انها قوة الحتمية المعلقة اذ يقول في صيغة من الواقعية ، والاستسلام العاجز:
واذا المنية أنشبت اظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
وبلغ الاستسلام الى هذه الحتمية درجة من الاعتقاد بأن الموت سيطال الانسان ، ولو صعد في السماء او احتمى في القلاع والحصون ، فلابد أن تناله اسباب المنايا كما يرى زهير بن ابي سلمى اذ يقول :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
ولو رام أسباب الراء بسلم
ومناقشة كرة الحتمية من جانب آخر قد تمنح الانسان حرية في الاختيار فمادام الموت قدرا مضروبا، ومحددا فان خشية أسبابه لا تهب المرء خلودا، فلماذا لا يفشى الانسان ساحات الوغى ، ولماذا لا يرحل في الارض ، ويطوف بين الاصقاع ؟ بل لماذا يستكين مستسلما والموت حين يأتي لا علاقة له بهذا او ذاك من الأسباب :
ألم تعلمي الا يراخي منيتي
قعودي، ولا يدني الوفاة وحيلي
مع القدر الموقوف حتى يصيبني
حامي لو ان النفس غير عجول
* شمولية الموت:
ويتفرع ئ الحتمية معنى الشمولية. فالموت يساوي بين الناس كافة ، وبذلك تبرز عدالته التي لا تؤثر في نفاذ احكامها مكانة المرء او منزلته بين القوم. فالموت لا يترك احدا كما يخبرنا طرفة :
أرى الموت لا يرعي على ذي قرابة
وان كان في الدنيا عزيزا بمقعد
وفي شمولية الموت يتحقق نوع من العزاء بالمساواة ، حيث تزول الفوارق ، وتلفى الامتيازات وهذا ما يخفف من أثر وقع الموت على النفوس ، ويبدو تقبل هذه النتيجة مرضيا بعض الشيء. فالانسان الحي حين يتأمل قبور الموتى يجدها واحدة في مظهرها، فأنت لا تميز بين قبر شجاع ، او قبر جبان ، ولا بين قبر بخيل او قبر كريم لأنك كما يقول طرفة :
ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
وفي اطار فكرة الحتمية وما ينقب عنها من شمولية أصبح التفكير بالخلود ضربا من المستحيل الذي لا طاقة للانسان به ، ولا معلمه ، واصبحت نظرة الانسان الى الموت تتسم بالواقعية وذك من خلال تأمله في. مصير الاولين ، الذي كون في وجدانه قناعات راسخة عبر عنها بصيغة التساؤل او الاستفهام اذ قال :
فكيف يرجي المرء دهرا مخلدا
وأعماله عما قليل تحاسبه
ألم تر لقمان بن عاد تتابعت
عليه النسور ثم غابت كواكبه
* اللذة والموت
وفي ظل هذه الحقائق التي كونها الشاعر الجاهلي عن طبيعة الموت ، وحتميته ، وشموله ، أيقن ان مواجهة الموت باللذة هي شكل من اشكال التعبير من وجوده، ولهذا دعا الى فلسفة او طريقة وجودية في العيش تقوم عناصرها على تحقيق أكبر طاقة ممكنة من المتع الحسية. التي يرد بها على الموت ، ويبادر بها المنية :
فان كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
على أن مفهوم اللذة لا يقتصر على المتعة الحسية التي تخلق السعادة او البهجة في النفس فالشاعر الجاهلي اذ يطلب المتعة الجسدية ، فإنه يشير من جهة أخرى الى اللذة المعنوية التي تحققها أفعال هيبة كالشجاعة ، والكرم ، وبذل المعروف ، فهو، يحرص ان يشتري في حياته الحمد، والثناء، لأن ذلك يحقق له متعة في حياته ، ويبقر أثره حيا بعد مماته كما يقول عروة بن الورد مخاطبا امرأته :
ذريني ونفسي أم حسان انني
بها قبل الا أملك اليبيع مشتري
احاديث تبقى والفتى غير خالد
إذا هو أمسى هامة تحت صير
وحين نتأمل دوافع الخوف من الموت كما عبر عنها الشعر الجاهلي ، نجدها تنطق من ادراك الشاعر ان الموت يحول بين الانسان ، والملذات الحسية والمعنوية ، ولولا أن الموت يحرم الانسان منهما لما وجد الشاعر رهبة في مواجهة المنية :
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصر يوم الدجن ، والدجن معجب
ببهلنة تحت الطراف المعمد
ولا يغيب عن البال أن الحاح الشاعر الجاهلي على اتنزاع الملذات ، واغتنام المكرمات يصور اعتقاده باستحالة الخلود من جهة ، وعدم الايمان بالحياة بعد الموت من جهة ثانية فهو ومن خلال رؤية وثنية ، مادية يؤمن بالحاضر المدرك على حساب
المستقبل المجهول وهذا ما عبر عنه طرفة اذ قال :
كريم يروي نفسه في حياته
ستعلم إن متنا غدا أينا الصدى؟
* الموت النفسي:
وخطاب الموت في الشعر الجاهلي لا يقتصر على موت الجسد فحسب فهنالك نلمح اشارات الى معنى الموت النفسي ، وقد ناقش اكثر من شاعر هذه الفكرة ، وقارنوا بين موت الجسد، وموت النفس ، وبدا لهم ان موت النفس أقسى ، وأشد مرارة من فناء الجسد على نحو ما يذكر عدي بن وعلاء الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت
انما الميت ميت الاحياء
انما الميت من يعيش ذليلا
سيئا باله ، قليل الرجاء
والمعنى الذي يريده الشاعر هنا ان الذليل عاجز من تحقيق وجوده ، اذ هو مسلوب الارادة والحرية ، وهو بالتالي لا يختلف من الميت ، بل يزيد عليه في معاناته ، واحساسه بالدونية ، والاذلال لانه حي، ويعيش بين الناس.
والموت المعنوي الذي نبه اليه الشعراء الجاهليون يشكل منعطفا خاصا في ادراك معاني الموت ، ونلاحظ أن الاهتمام بفكرة موت الروح اخذت اهتماما واسعا في نقاشات الفلاسفة ، وتأملات المفكرين ، وأصبحت هذه الفكرة موضوعا أساسيا خاصة لدى شعراء الرومانسية الذين تفنوا بالرود وموتها في قصائدهم الشاكية ، ومناجاتهم الذاتية.
وتجدر الاشارة الى ان الموقف من الموت لم يكن ثابتا. فهو يتبدل من طور الى آخر، وكما وجدنا اكثر القصائد الجاهلية تصور كره الموت ، وتعبر عن الرغبة في الحياة ، ودوامها فان بعض النصوص تحمل موقفا آخر، يبدو من خلاله الشاعر وقد ضاق بالحياة ، فهو يشكو طولها،
ورتابتها المملة بلا معنى.
وغالبا ما تكون هذه التحولات مرتبطة بأطوار نفسية ، وزمنية يمر بها الانسان ولا سيما حين تداهمه الشيخوخة ، ويصل الى مرحلة ارذل العمر، وما يصاحب ذلك من تغير الزمان وتبدل الاقران ، وعندئذ تفقد الحياة معناها، ويصاب المرء بالسأم ، ويشعر ان حمل الحياة أصبه عبئا ثقيلا كالذي نجده في قول المستوغر بن ربيعة :
ولقد سئمت من الحياة وعلوها
وازددت من عدد السنين مئينا
مائة أتت من بعدها مئتان لي
وزددت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقى الا كما قد فاتنا
يوم يكر ، وليلة تحدونا
ولعلنا مما سبق نكون قد وقفنا على جانب من خطاب الموت في الشعر الجاهلي ، وقفة موجزة بدا لنا من خلالها ان الشاعر الجاهلي قد ساغ لنا رؤيته للموت على انه حتم ، يشمل الناس كافة ، ولا مطمع للانسان في خلود يرتجى.
وكانت تلك التصورات والتأملات التي عبر عنها الشاعر الجاهلي وثيقة الصلة بالحياة البدوية وبينتها الفكرية التي تقوم على التجربة ، دون التوغل في متاهات الفكر، والمناقشات الفلسفية العميقة التي تبحث في عالم الموت الغامض والمجهول. ولهذا لا نجد غوصا في طبيعة هذه الظاهرة ولا تصورا عن امكانية الانتصار على الموت بالبعث. والحياة الثانية كما جاء في الديانات التوحيدية وهذا ما جعل صورة الموت قاتمة ، ورحلة الموت نهائية لا عودة لغائبها، وبذلك يمكن أن ندرك عمق الجزء النفسي الذي يسري في اعماق الشاعر الجاهلي في مواجهة فكرة الموت ، والتعبير عنها في قالب مز الحكمة الشعرية ، والخطرات التأملية المتشحة بالقلق ، وهواجس الخوف والاضطراب.
أحمد الحسين (كاتب من سوريا)