عندي، كانت زيارة القطر الشقيق عمان، تعني أول ما تعني فرصة لقاء الرجل النبيل، والشاعر الكبير الشيخ عبد الله بن علي الخليلي، فقد انعقدت بيني وبينه عروة وثقى من مشاعر المحبة العميقة، منذ شرفت بلقائه -أول مرة- في خريف 1979 لم يكن قد نشر شيئا من شعره بعد، وكانت وسائل الأعلام الخليجية آنذاك في شغل عن أمثاله، وهو ما جعلني احتشد لمشروع طوح، هو برنامج تليفزيوني ينقب ويغوص لتقديم (لاليء من الخليج) عن الشخصيات ذات العطاء الطيب في ميادين الأدب والفكر والفن والعمل العام في منطقة الخليج والجزيرة العربية.
لم يكن في ذهني، وأنا اسعى إليه بحماسة – إلا معرفة محدودة لكن دالة، استقيتها من نبذة موجزة، كتبها عنه الأديب الكبير عبدالله الطائي في كتابه الرائد (الأدب المعاصر في الخليج العربي).
واستقبلني الشيخ في بيته بمودة، وسرعان ما وجدتني في حالة توافق حميم، كأننا أصدقاء من قديم.
كنت أراه شيخا نبيلا، تكسوه هالة خفية من مزيج من المهابة والبهاء، والطيبة والوداعة، والفطرة والسماحة ورحابة الفكر والجلال. وقد لفت نظري واسرني ايمانه بقيمة الكلمة، واعتزازه بالشعر، ابداعا ورسالة ومسؤولية، الامر الذي جعله حساس الضمير، شديد التدقيق فيما يقول. ولقد ظللت في أعماقي مشفقا عليه من مظاهر انحسار مجد الشعر العربي، ومظاهر امتهان الكلمة والشعر، شكلا ومضمونا، على أيدي كثير من المحدثين. ولهذا لم أعجبا كثيرا -وان كنت حزنت كثيرا-
حين فاجأ الحياة الثقافية في عمان، وأعلن بقصيدته الرائعة (الاستقالة) الانسحاب من ميدان الشعر.
في ذلك اللقاء الاول، راح الشيخ – بصوته الخفيض الوديع – يرحب ويتحدث ويفضي بتواضع ومحبة، كأني صديق قديم، واقترح ان نصور الحوار المطلوب في مدينته الاثيرة الجميلة (سمائل) ورأيت في ذلك مزيدا من التقريب والمحبة، ولما طلبت – على استحياء – شيئا من اوراق شعره أنقله أو أطلع عليه، مد يده بمخطوطة ديوانه المجلدة، قائلا بلطف: هي لك، حتى يأتيك الديوان مطبوعا.
فيما بعد ذلك بسنوات، وفى الشيخ بوعده، وبعث الى في القاهرة بديوانه (وحي العبقرية) مع الصديق العزيز الذي شاركني حب الشيخ، الاديب الاستاذ احمد الفلاحي. ولكنني – حتى الآن – افضل الرجوع دائما الى المخطوطة التي اتنسم فيها عبيره الطيب، وتتراءى لي من بين سطوره ذكرياتي معه، وصوره البهية، ومظاهر فضائله السامية.
في (سمائل) الجميلة الخضراء، لا أنسى تقريبه الحميم لي حيث اوقفني الى جواره في المسجد، وهو شيخ بني رواحة، وأشركني في تلقي العزاء في وفاة أحد ابناء القبيلة.
وفي (سمائل) وتحت ظلال النخيل، وحولنا تنساب جداول أحد الافلاج الثرة، والخضرة ممتدة الى الافق، جرى بيننا الحوار التليفزيوني، الذي كان أول حوار شامل معه يذاع على شاشات الخليج، وكان اشبه بكشف عظيم عن لؤلؤة ثمينة، وكان له صدى طيب واسع في الامارات، وغيرها من اقطار الخليج، الامر الذي حدا بي، فعدت بعد فترة الى عمان، وسعيت مشتاقا الى الشيخ، واجريت معه حوارا تليفزيونيا آخر، كان له ايضا اثر جميل، وتقبله الناس احسن قبول.
كان اللقاء الثاني مع الشيخ الجليل فياضا بالمحبة والفرح، لكن أسى عميقا سرى خفيا الى نفسي، لما لاحظته من نذر اعتلال صحته، وشكواه تأثير ذلك قراءته وكتابته.
وأذكر من هذا اللقاء أني لاحظت أن ذاكرته تحفظ محفوظات من شعر غيره أكثر من شعره، وأبديت ذلك مداعبا، فتبسم وقال. نعم ذاكرتي تحفظ شعر غيري، اما شعري فتحفظه اوراق.
××
في زيارة عمل أخرى بعد ذلك، حاولت باشتياق أن أراه، لكن بعض الاصدقاء المقربين اخبروني باشتداد وطأة المرض عليه، مفضلين ان اجنبه الانفعال تأثرا بزيارتي له، فترسب في القلب أسى مرير، واكتفيت بمتابعة انبائه، وارسال التحيات وطيب التمنيات له من بعد، وتلقى السلام منه مع الاصدقاء، حتى صدمني نبأ رحيله الجلل.
رحم الله شاعر عمان الاكبر، وابرز رموزها الثقافية الشيخ عبدالله بن علي الخليلي، الذي كان بحق جماعا لكل ما تسوقه الادبيات من فضائل أهل عمان، من سعة علم، وثراء ادب، وتضلع من اللغة، وكرم خلق، ورقة عاطفة، وسماحة فكر.
ونرجو ان يكون من مظاهر تكريم ذكراه ان تجمع كتاباته الكاملة من اشعار وقصص ومقامات، لتكون بين ايدي محبيه والاجيال المتعاقبة زادا ثقافيا قيما وجميلا وصفحة مشرفة من سفر عطاء عمان السخي للتراث العربي القديم والحديث.
عبدالوهاب قتاية ( كاتب واعلامي من مصر)