هز دامس ذيله ورفس صحن السبانخ بالجبنة، ونبح في وجه خادمه حتى سقط الخادم صريعا، سمع سيد القوم نباحه غناء، فهب من، وامتطى صهوة (الاسكوتر) الأبجر، وتقدم جنده الى حيث دامس يزمجر وينثر العويل، ترجل السيد من على صهوة أبجره، وانحنى حيث دامس يعرض أنيابه التسعة وقرب من فمه الطبق تلو الآخر من البوفيه المفتوح الذي أعده الخادم الصريع. لكن دامس أمعن في غيه، وزم فمه، وتحول النباح الى أنين يفطر القلب ويهز الجوانح، كهزات ذيل دامس المسكين الذي انبطح عند قدم سيد القوم، وأغمض عينيه ولون رأسه، فلا هو يأكل أو يشرب، ولا هو يستخدم حمام العطور المستوردة من ضواحي باريس أو من المدن العائمة.
ظل دامس على هذا الحال سبعة أيام بلياليها، فلا نباحه نباح، ولا أنينه أنين، ولا بحلقته في حريم كلاب الحي، بحلقة. هجم الهم والغم على سيد القوم لما ألم بصديقه الودود من كآبة وأسى، ولم يجد أمامه إلا أن يرسل في الأحياء من ينادي على الأحياء والأموات، الرجال والنساء، الصغار والكبار، من يسمعون الصوت، ومن تصلهم الأصداء: يا أهل المدينة، يا أهالي المدن البعيدة والعميقة، يا كل من يتفكرون، يعلن الأمير السندسي الهمام، سليل النبلاء والأشراف، صاحب المقام الرفيع والجليل، عزيز قومه وحبيب شعبه، الآمر بأمره، رويشد الأزمري، ابن أبي عددان النحاس، صاحب التاج الناري، والصولجان العنتري، يعلن على ملأ الأصدقاء والأعداء، انه قد اشتد الحال البائس بصاحبه الحميم دامس، فمرض مرضا غربيا عجيبا، ولم يقدر أطباء القصر ومنجموه على شفائه، وعليه، فان من يجد في نفسه الكفاءة والقدرة على إعادة العافية والنباح الصحح لدامس، أن يتقدم الى قصر الأمير المنيف، فإذا صار شفاء دامس على يديه باذن الله، كان حسن العطاء من نصيبه، وإن لم يكن، صار مصيره غياهب السجون، أو الى قرار مكنون. يا أهل المدينة…
من الناس من لوى بوزه ومشى، ومنهم من استنكر الحديث كله، ومنهم من تنكر في ثوب طبيب مداو، ثم اختفى. أحدهم، شد الى القصر رحاله، أجلس "دامس " في غرفة ظلماء، وانحبس معه ثلاثة أيام طوال لم يطلب خلالها ماء ولا زادا، ثم خرج يطلب لقاء الأمير، الذي صار في حال عسير، فأذن له في الحال على أن يكون الوجل والخضوع لباسه، وحسن الحديث والأدب الجم غلاف كلامه، فلما حضر المجلس، وتحسس لهفة الأمير على "دامس " وشغفه عليه نطق وقال: "أعلم يا مولاي السعيد، إن "دامس " لعاشق ولهان، ولن يعيد حاله الى ما كان عليه إلا جمعه مع محبوبته، وسالبة لبه، على أن يكون ذلك – يا مولاي خلال أيام معدودات، وإلا فان "دامس " هالك لا محالة، سعد الأمير بنبأ عشق صديقه الذي طالما رفض الزواج، لكنه عجب أن تكون أحدى كليبات الحي قد حركت بدامس كل هذا الحب، فسأل الطبيب هل يعرف تلك الحبيبة، فأجاب:
"نعم يا مولاي، لقد أعدت قراءة كتبي السحرية، ونثرت التعاويذ في ماء من بئر آشوري جافة، اسقطت الماء على رأس دامس ثم جمعته في إناء شرب منه حامورابي شربته الأخيرة، سلطت على سطح ضوء من مصباح علاء الدين، فظهرت صورتها جلية أمامي…، يا مولاي، انهاء العزباء، القطة النمرية لسيدة الصون والعفاف، صاحبة الرفعة، جيداء المرقطة، ابنة الامبراطور عامر ذي الصدغين، المهيمن على المعمورة القريبة، من مملكتكم قد كانت الجيداء في رحلة اختلاء بالهواء على ظهر جوادها، مرت من أمام دياركم يا مولاي، فما كان من العزباء، إلا أن كشفت ستار الهودج وصارت تموء بصوت شجي، فسقطت الرؤية والصوت في قلب دامس فأصابه المرض والهزال لأنها توارت عنه سريعا وكأنها لمح البصر. عجب الأمير لهذا الحديث، فحك رأسه بعدما رفع العمامة، ثم قام وقعد، ثم أعاد القيام والقعود، فهو يعرف كره الجيداء لصنف الذكورة كله، وانها اختارت لنفسها قطة تشاركها الكره نفسه، ولن يسقط هذا الرفض من نفس العزباء حتى ترضخ وتختار لنفسها زوجا من خيرة رجالات كوكب الأرض.
وهل من كوكب الأرض من هو اشد منه بأسا وقوة ؟ وهل أصلح منه زوجا لأميرة الحسن والدلال جيداء المرقطة ؟ ضحك الأمير ملء فيه حين وصلت الجيداء الى عقله وتخلخلت دماغه، فما ان تصير له الجيداء حتى تصير العزباء لدامس الحبيب… دون مقاومة.
جهز الأمير رويشد الأزمري سبعا وتسعين ناقة من النوق البيض، على ظهر كل منها سبعة صناديق من أرض الأعاجيب الهندية القديمة ملأها بالجواهر والحلي ونفيس الأحجار الكريمة. وفي ركاب القافلة، يسير سبعمائة عبد أسود وسبعمائة جارية جلبن من اقاصي الأرض لخدمة سيدة الدلال والرفعة (الجيداء) شد الأمير رحاله ورجالات القوم والأقوام الموالية إلى حيث يعتلي ذو الصدغين عرش بلاده السعيدة،
عرض الأزمري مطلبه على صاحب الجلالة الامبراطور، وجاء بالحاشية التي لقنت كيف تحترم سيدتها القادمة والتي انحنى عبيدها وجواريها لرؤية القطة (العزباء) تلهو بفئران مكممة الأفواه، معصوبة الأعين، مكتوفة الأيدي والأرجل…
تململ ذو الصدغين في عرشه وضحك كثيرا لمنظر الأزمري ذليلا، طالما سمع عن سطوته وجبروته واطماعه التي لا تحدها حدود ثم قال:
0لا تطلع شمس على مملكتي يا أزمري إلا وأكثر من خاطب لابنتي يزورون القصر، ولا تغيب الشمس إلا وتأخذ معها الخاطب وأذيال بؤسه تجر وراءه، لا أظن ابنتي سترضى بك دون غيرك من الأباطرة والسلاطين والملوك ".
هل نطمع من صاحب الجلالة أن يرسل من يسأل فتنة الزمان، صاحبة الصون والعفاف، الرأي في أمرنا… فإننا أصحاب قوة ونفوذ وسلطان على باقي البلاد، فاذا ما ذهب المرسال الى الجيداء في حظيرة النوارس، تطعم طيورها قطع الكافيار وما ان سمعت الجيداء خبر رويشد الأزمري حتى هاجت وماجت وقذفت بفتاحة العلب الذهبية، فشقت رأس نورس مسكين، وأعلنت للمرسال رفضها الحازم والقاطع والذي لا راد له. ولا مناص عنه، لا بالنقض ولا بالاستئناف ولا بإعادة النظر او الرأفة.
عاد الرسول إلى سيده يحمل النبأ العظيم، فكان الوقع على ذي الصدغين كشربة الماء البارد، وكان الوقع على الأزمري كوقع الحسام المهند فبذلك الرد الحازم، يفقد الأمل في شفاء دامس، بل انه سيفقده حتما، ما لم تصحبه الجيداء وقطتها الى دياره في غضون أيام ثلاثة. لابد أن ترضخ الجيداء المغرورة لرغبته المقدسة هي وأبوها المملوء بالهواء، سواء بالرضا أو بالقوة، لابد للجيداء أن تعود معه.
كانت الجيداء تهدهد قطتها وتعطر شعيراتها الناعمة، والعزباء تموه في حضنها دونما سبب واضح، وذو الصدغين يفتل شواربه ويدغدغ جواريه الحسان، فإذا بالضجيج يعلو والصراخ يرتفع ونباح الكلاب بصياح الأطفال يختلط، وإذا برجل من العسكر يقتحم خلوة الامبراطور العظيم ويخبره بأن الأزمري عاد يغزو البلاد ولا يرحم السكان والعباد وأنه أرسل من ينادي بأنه لن يعود حتى تصير له الجيداء خليلة أو أسيرة وإلا فإنه سوف يدوس كي عنق المدينة وأهلها ومن يتمركزون في صدارتها.
أمر ذو الصدغين بالقائد العام فمثل، وأمر بأبواق النفير، فنفخت وبالاجراس فدقت، وبالمناجيق فألقت نيرانها في وجوه الأعداء، والخندق العظيم أن يملأ بالماء والتماسيح، فملىء لكن جنود الأزمري، كجنود طارق، يتقنون السباحة، ويملكون كقوم هولاكو جلودا تكسر أسنان التماسيح وتطفئ نيران المجانيق، وصاح كل فريق: باسم الكبير.. الى القتال، ولم يكن يقتل من الطرفين جندي حتى يحل محله سبعة، ولم تكن تقتحم قلعة حتى يفاجأ الفريق الأخر بسبع قلاع، تنفجر الأرض فتفصح عنها، وأما سباع الأزمري، فكانت تعيث في الأرض فسادا فتبقر بطون الحوامل وتقطع اوصال الأجنة وصارت الخوازيق تنصب في الليل بالمئات فلا يطل الليل الأخر حتى يحتاج الطرفان الى مئات أخرى فيلقى بالقديم طعاما للكلاب ويلبس الخازوق للجسد الجديد ودماؤه بعد لم تجف.
ودام الحال العسير على القوم سبعة أشهر طوال، اختفى فيها ذو الصدغين وابنته ونسي الأحياء حكاية دامس وكآبته الأبدية، ولوثة الأزمري السرمدية وظل حديث البقاء يتصدر كل الحكاية.. أما دامس فقد صار نباحه قصيدة غزل دائمة العزف كان يسمع صوت الغناء في كهفه الجبلي وهو يلحس ظهر العزباء التي لم تعد عزباء، وقد انتفخ بطنها حتى كاد ينشق وهي تموه بحرقة كما لم تموه يوما في حضن سلطانتها.. ذات الدلال.. الجيداء..
هدى النعيمي (أكادمية من قطر)