يجمع لوران غسبار هذ الرجل المترحل بين آسيا وافريقيا والباحث باستمرار عن المطلق في كتابه دروب شتات أفكاره وتأملاته حول الابداع والصورة الشعرية والتجريد كما يقدم قراءة لعوالم ثلاث شعراء كان لهم تأثير حاسم على الكتابة الشعرية في القرن العشرين هم سان جون بيرسوروني شار وراينر ماريا ريلكة. ولكنه وفي الحقيقة يطرح نفسه بطريقة مواربة. يطرح رؤاه ولقاه الشعرية من خلال هؤلاء الشعراء. هنا محاولة لقراءة لوران غسبار عبر مرايا الآخرين… اذ نراه في هذا الكتاب يبتعد عن عمل الناقد وعن عمل الباحث الأكاديمي فهو يبدأ من الجانب الآخر، جانب المواجهة الأولى والبريئة للنص والمتسائلة في الآن عن ظواهر الإبداع ولغاته متخط الإنجازات السابقة والمترسبة في الذاكرة متحررا من الماضي ينجز قراءته الإبداعية في عزلته نائيا بنفسه عما يسميه هنري ميشونيك الستوك أي المخزون الشعري. لأنه ينتمي إلى تلك الأرومة التي يقول عنها: ( إن كل التفسيرات لاهم لها سوى شحذ وتقوية عطش أولئك الذين منذ الأحقاب السحيقة لا يكفون _ داخل مناخات متباينة وفي دروب شتى ع النبش في الوهاد الأكثر جدبا بحثا عن ماء عن هواء يصيران ضوءا أولئك الغانمون غير القانعين… ) ما يعني أن مقترب لوران لدى قراءة النصوص إبداعي.
هذا المسار النتشوي نسبة إلى فريدريك نيتشة والصوفي يدفع لوران غسبار بالنتيجة في كتابه هذا إلى إعادة النظر الجذرية في الشعر وفي تعريف الصورة وفي معاني التجريد وفي أبجدية الفن بشكل عام مستندا إلى حدسه و إلى رصيد ضخم من منجزات العلوم الحديثة ( من علوم إنسانية و علوم صحيحة ) دون أن يأسره أي موقف أو أي رأي مسبق ففي كلامه عن التجريد يعود ضمن تراثه الغربي إلى المعنى الفيلولوجي الأول في اللغة اللاتينية والذي يدل على معلني الفصل بيم الدال ومدلوله الواقعي لينتقل بعد ذلك إلى فرضيات العالم الأثري لوروا اغوران حول نحوت الانسان الأول على الحجارة أو على العظام أو على جدران الكهوف. فالخط المائل الذي لا نميزه إلا بعسر والذي قد يدلنا على صورة حيوان أو مشهد هو في حقيقته ليس رسما بالمعنى الحديث الذي ندركه اليوم أو تمثلا ما للعالم وإنما هو حسب لوران كتابة متعددة الأبعاد لا تروي ولا تقص واقعة خارجية؛ وإنما هي معادل كتابي غرافي لاحتفاء بالعالم لعيد شفوي وحركي في الآن… بهذا يزيل لوران عن كلمة تجريد صلابتها وتكلسها الاصطلاحيين، ليعيد اكتشاف نضارتها في عرائها الأول وذلك من خلال فعل الابداع نفسه مستفيدا بطريقة إبداعية من علوم أخرى ومتحررا بالتالي من التراكمات التي لحقتها و ثبتتها في القاموس. فالتجريد لدى لوران غسبار له هوية دينامية متغيرة ومتبدلة ومبتدعة باستمرار مع الفعل الفني الذي لا يخضع إلى أي تحديد مسبق وإنما ينبثق تاريخيا في الوعي حسب مقتضياته وشروطه وقوانينه الداخلية التي تحكمه والتي هي هدف ومطمح البحث المتواصل. وللزيادة في إنارة هذه الفكرة ينهي لوران تأملاته حول الفن والتي سلك فيها دروبا لم يسلكها غيره ينهيها بإحدى حكم الشاعر الصيني لين تسي (القرن الرابع ميلادي) يقول:
لا تترك نفسك تتيه وراء أي بشريّ كل ما تلقاه في الخارج أو في داخلك اقتله! إذا ما لقيت بوذا اقتله وإذا ما لقيت الحكماء أقتل الحكماء… هذه هي الوسيلة التي تنأ بك وتحررك من أسر الأشياء والكائنات. ويمضي لوران يوضح أسرنا في العالم الحديث والسجون التي نعيش داخلها، فنحن أسرى بنى لغوية منغلقة وبنى فكرية كما أننا أسرى حدود مرسومة في زمن وفضاء كياننا المادي الذي هو جرحنا وفرحنا وحقيقتنا ومجال مغامرتنا.
هكذا يجمع لوران غسبار ويزاوج في وحدة فذّة بين الحس الصوفي والموقف الوضعي الجديد، بين حكمة الصين القديمة وبين كشوفات البنيوية والبيولوجيا الحديثة في وحدة فكر شعري قانونه الاختلاف والمغايرة وشرعته التساؤل…
باختصار أرى لوران غسبار يدعو الشاعر المعاصر إلى إعادة ابتكار وابتداع ذاته متحررا من كل العوائق اللامرئية وهو في هذا يعيد ابتداع نصه سرديته المتحررة من هيمنة ثقافة مجتمعه. هذا ما يعنيه قتل الحكماء وقتل بوذا القتل هنا رمز تحرر وبزوغ الذات وعودة الانسان إلى الحالة الأصيلة الآدمية؛ فلم يكن لآدم لا مجتمع يلزمه الاتباع ولا أساتذة أو مكتبات لقد نزل إلى الأرض عاريا وعليه صياغة ذاته بذاته…
وعلى الشاعر اليوم أن يصيد صياغة وابتداع ذاته ويبتدع بالتالي نصه فلا تعود كتابته إعادة انتاج لأفكار ومواقف مسبقة عبر لغة الذاكرة واستعارة صوت الآخرين، ففي هذا يحرر المجتمع، هكذا كان دور هلدرلين وهكذا كان دور آرثر رامبو الذي اختزله العرب إلى مجرد شاعر صعلوك ولم ينتبهوا للثورة الروحية التي أحدثها والتي تجلت في متنه الشعري.
القسم الثاني من الكتاب مكرس لقراءة سان جون بيرس وروني شار وراينر ماريا ريلكة وهو عبارة عن تأمل شعري في عوالم هؤلاء الشعراء الثلاثة.
ولوران الشاعر يدري قبل غيره أن ما تقوله القصيدة يستحيل أن يقال خارج القصيدة خارج جسدها اللغوي وخارج طقوسها وغوامضها وحضورها العيني ويحتج لذلك بكلام لروني شار في القدمة التي وضعه الأعمال آرثر رامبو يقول روني شار:
( … الملاحظات التي نسوقها حول أي قصيدة والنقد الذي قد نكتبه قد يكون عميقا ومضيئا ولكنه لا يستطيع أبدا أن يختزل أو يقول هذه الظاهرة الفذّة _ يعني القصيدة_ والتي ليس لها مبرر خارج وجودها… )
هنا نجد لوران غسبار وقد ارتفع بنصه لمستوى يوازي النصوص التي قرأها. أبدع لوران نصا فيه غنائية سان جون بيرس وملحميته وثراء قاموسه الزخم والزاخر بمصطلحات وإشارات ورموز استقاها من ثقافات وحضارات وأزمنة متباينة من تراث آسيا الغامضة والغابرة الى مصطلحات العلوم الحديثة إلى الأغاني الشعبية في أوروبا القرون الوسطى … نجد أيضا في الكتاب وجودية روني شار الصوفية وغموضه يقول روني شار في قصيدته شفق الصباحات: أحب ما يبهرني ويقوّي الغموض في أعماقي ولكن ماهي رسالة غسبار عبر كتاب دروب؟!! إنه يقول الصمت ويمضي في المتاهة إنه لا يقود القارئ إلى داخل متاهة الشعر ولا يعلمه شيئا وإنما يدفعه ليعيش وبشجاعة تجربة مواجهة النصوص وعليه أن ينخرط في التجربة…
دروب يعكس ويختزل المتن الشعري الغربي الباحث منذ مغامرة شارل بودلير في القرن التاسع عشر عن المعرفة اللاعقلانية، المعرفة السعيدة المتحررة و المحررة بكسر الراء … إنه النص الذي ظل يعبر عن هامش لاعقلاني ذي طاقة روحية – أخلاقية وذلك منذ بزوغ شعراء مثل وليم بليك وآرثر رامبو ووليم بليك وهلدرلين ثم جماعة الدادا والسرياليين وصولا إلى أنتونان أرتو أولئك الشهداء الذين عانوا الجحيم الأرضي لمواجهتهم أشكال الحصار وسجون العائلة والدولة والرقابة الصحية واللغة والثقافة والاعلام الذي تحول اليوم إلى سلاح أشنع من أسلحة التدمير الشامل اذ يهدم الدول والمجتمعات بثورات وهمية
في مواجهة جميع أشكال السجن الذي وضع فيه الانسان المعاصر ظهر فكر نقدي مثله ميشال فوكو وجماعة علم اجتماع الحياة اليومية.
* دروب الشعر الغامضة خالد النجار قراءة في كتاب دروب للوران غسبار