عندما يحمل دنيس جونسون ديفز ابتسامته، وملامحه الأليفة، وشعره الأبيض المسترسل، ولهجته القاهرية الصميمة، ويمضي الى "الاتيلييه" في قلب القاهرة، أو الى ساحة الفنا في مراكش أو الى النمور في دبي، أو الى المجمع الثقافي في أبوظبي، فإن هتافات الترحيب تلاحقه وابتسامات المودة والمحبة تحف به، والدعوات الى قدح من القهوة المرة أو استكانة شاي بالنعناع تشق طريقها اليه دون أن تفسح مجالا للاعتذار.
ومن المؤكد أن هذا كله ليس غريبا، فهذا الرجل الذي يطلق عليه الكثيرون من المثقفين لقب "الخواجة الرائع" يحمل على كاهله سنوات طويلة من الجهود الشاقة لمد الجسور بين الثقافة العربية والجمهور الغربي، ويكفي أن نتذكر أنه أحد القلائل الذين تصدوا للمهمة الشاقة المتمثلة في ترجمة الأحاديث الشريفة الى الانجليزية، وهو الذي قدم حشدا من الأدباء العرب للقراء بالانجليزية، ابتداء من نجيب محفوظ، مرورا بأجيال عدة من المبدعين العرب، وصولا الى سعيد الكفراوي، الذي ترجم عددا من قصصه مؤخرا، على أمل أن تتكامل فتصبح مجموعة تشق طريقها للنش في نيويورك.
والواقع أن الكثيرين لا يعلمون أن دنيس جونسون ديفز هو ابن الرؤية المتسامحة لثقافات العالم، ووليد التمسك بالمنظور الانساني للخلاف بين الحضارات، ربما لأنه ضرب طويلا في أرجاء الدنيا منذ مرحلة مبكرة من عمره، فهو قد ولد في كندا، وأمضى طفولته في مصر والسودان وأوغندا ودرس اللغة العربية في جامعتي لندن وكامبرديج. وقدم العديد من الترجمات لأدباء عرب في اصدارات انجليزية خاصة من خلال سلسلة هاينمان الانجليزية وعبر دار دوبلداي النيويوركية.
الكثيرون أيضا لا يعلمون أنه قد عمل محاضرا بجامعة القاهرة في الأربعينات، وتول رئاسة مكتب هيئة الاذاعة البريطانية في دبي قبل أن ترى دولة الامارات العربية المتحدة النور، وأمضى سنوات طويلة في القاهرة، وفي المغرب وهو يراوح في اقامته الآن بين القاهرة وانجلترا.
مرة وحيدة كل عام تسمح رياح الحظ بلقاء يضم كاتب هذه السطور، ودنيس جونسون ديفن، على بعد خطوات من خور دبي، وهذا الحوار الماثل بين يدي القاريء وفكرة إرفاقه بإحدى القصص العديدة التي ألفها المستعرب الشهير، والمنشورة في مجلة "شورت ستوري انترناشيونال" هما وليدان لسويعات امتدت مؤخرا تحت آفاق خور دبي.
وقد كان من الطبيعي أن ينطلق الحوار من أحدث محطات مسار الرحلة الطويلة التي انطلق فيها دنيس جونسون ديفز حيث ترجم عملا صعبا حافلا بالتحديات هو "أصداء السيرة الذاتية" لنجيب محفوظ. وأصدرت الترجمة دار دوبلداي الأمريكية.
* الآن وقد أنجزت ترجمة "أصداء السيرة الذاتية" وهو العمل "التحدي" كما كنت تصفه، ما هي خطوتك التالية ؟ما الذي تفكر في إنجازه وتقديمه للقراء في المستقبل القريب ؟
– خلافا لما يتصوره الكثيرون فإن ما يشغلني الآن ويستغرق الكثير من وقتي هو البحث عن ناشر يحقق طموحاتي، ويلبي ما أتطلع الى تقديمه للعالم الناطق بالانجليزية، ذلك أنه من دون مثل هذا الناشر فلا معنى لبذل المزيد من الجهد في الترجمة وتقديم النصوص الابداعية وسأضرب لك مثالا محددا لما أقصده في هذا السياق، فمؤخرا لفت نظري إبداع الكاتب والأديب جميل ابراهيم عطية، وبصفة خاصة سلسلة رواياته التي تعكس أصداء ثورة 23 يوليو وانعكاساتها على نسيج المجتمع المدني في مصر، لكن ذلك الاهتمام تزامن في الواقع مع رسالة تلقيتها من دار نشر كوارتين اللندنية، تقول فيها الدار إنها في هذه المرحلة ليست معنية إلا بتقديم الأعمال الابداعية النسائية العربية، فكيف يمكنني المضي قدما بمتابعة اهتمامي بمثل هذا الكاتب في ظل هذا المناخ الذي يفرضه الناشرون ؟
* ولكن لديك تجربة مميزة في التعاون مع ناشر عالمي كبير هو دار دوبلداي النيويوركية ؟
– هذا صحيح، غير أن لي ملاحظة مهمة في هذا الصدد، فكما تعرف أصدرت دار دوبلداي أربعة كتب من ترجمتي لأعمال نجيب محفوظ، وقد عاد عليها حصولها على حقوق نشر أعمال محفوظ بعوائد تقدر بملايين الدولارات، ويكفي أن أشير الى أن الثلاثية وحدها وزع منها أكثر من ربع مليون نسخة، وفي تصوري أنه كان من المنطقي أن يتم تخصيص جانب من هذه الأرباح لتشجيع المزيد من تعرف جمهور القراء الغربيين على الأعمال الأدبية العربية واتاحة المجال لأفضل المترجمين لتقديم هذه الأعمال، وفي هذا أيضا نوع من رد الجميل بحسب تصوري، وفي إطار هذا التصور كتبت مؤخرا لمديرة الدار، مقترحا عليها أولا إصدار مجموعة من القصص القصيرة المصرية في إطار كتاب واحد يلقي الضوء على الوضعية الواهنة للقمة القصيرة كما تكتب الآن في مصر، وقد جاء الرد بالاعتذار عن عدم نشر كتاب من هذا النوع.
ولدي مشروع أخر عن إصدار مجلد يضم مجموعة من القصص القصيرة العربية، فعبر قراءة عدد هائل من القصص العربية يمكننا أن نرشح للترجمة في إطار هذا الكتاب قصصا من المغرب ومن الخليج ومن مصر وسوريا ولبنان. وهكذا ولكن هذا المشروع وغيره من المشروعات المماثلة يغدو من دون ناشر هجرا مشروعات، قد لا ترى النور أبدا.
وهذا يذكرني بأنه لدي في أدراج مكتبي العديد من الأعمال، فعلى سبيل المثال كنت قد ترجمت في وقت مبكر للغاية رواية "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، ولم أوفق في العثور على ناشر للترجمة في حينا، بينما نجح مترجم غيري في العثور على ناشر، مما مكنه من إصدار ترجمته، وهذا بالضرورة قلل من فرصة إصدار ترجمتي لهذا العمل بل إنني لم أحاول نشرها بالمرة.
* ما هي في اعتقادك الوضعية الواهنة لجهود ترجمة الأعمال الابداعية العربية الى اللغة الانجليزية ؟ هل تتراجع ؟ أم تتقدم أم أنها تراوح في مكانها؟
– في اعتقادي أن هذه الوضعية تتراجع بشكل واضح وملموس، ومازلت أذكر أيام وجود سلسلة "مؤلفون عرب" التي كانت تصدرها دار هاينمان اللندنية،وكنت الوحيد في الدار الذي يتقن العربية ويتولى مسؤولية هذه السلسلة، وكان يكفي أن أشدد على ضرورة إصدار ترجمة لكتاب بعينه لأديب عربي لكي تصدر الدار هذه السلسلة، وهذا هو ما حدث، على سبيل المثال بالنسبة لمجموعة من قصص يحيى الطاهر عبدالله، حيث أشار بعض مسؤولي الدار الى صعوبة الكتاب، واحتمال تعار توزيعه بشكل كبير، ولكنني أكدت ضرورة إصدار هذا الكتاب،وهو ما تم بالفعل في نهاية المطاف. ومن المؤسف أن هذه السلسلة قد توقفت عن الصدور.
غير أنه اليوم توجد في لندن دار مهمة توالي إصدار الترجمات العربية، وقد أدهشني، كما أشرت أن هذه الدار ردت على بعض اقتراحاتي بأنها لا تتحمس الآن إلا لاصدار أعمال للأدبيات العربية،وهو ما يعني عمليا أنه لو ظهر أديب عبقري عربي في شموخ قامة جيمس جويس، فإن دار كوارتين لن تصدر أعماله بحكم أنها لا تندرج في قائمة اهتماماتها أصلا.
وأنا الآن أبحث عن ناشر لترجمات الأعمال الأدبية العربية، وبالفعل هناك ناشرون قد يتحمسون لاصدار هذا النوع من الأعمال، لكن المشكلة تكمن في أن معظم هؤلاء الناشرين هم في الواقع ليسوا إلا دور نشر جامعية، وبالتالي فإنه فضلا عن محدودية إصداراتها تتوجه هذه الاصدارات الى الطلاب والأساتذة والباحثين المتخصصين، بينما أنا أسعي الى مخاطبة القاريء العام واثارة اهتمامه بالأدب العربي.
وفي ضوء طبيعة هذا التوجه فإن سعيي الآن ينصب على البحث في الولايات المتحدة عن دار نشر عامة، بمعنى أنها تتوجه باصداراتها الى الشارع والى الجمهور العريض، وليس الى شريحة من الجمهور بذاتها، وآمل أن أوفق في الوصول الى مثل هذه الدار لتتبنى مشروعاتي، ومنها إصدار مجموعة قصص عربية شاملة، وأيضا إصدار القصص التي ترجمتها مؤخرا للأديب المصري سعيد الكفراوي.
وبالمناسبة فإن من القنوات المهمة للنش، والتي ستنشر فيها إحدى القصص التي تحدثت عنها لتوي مجلة "جسور" وهي مجلة تصدر في الولايات المتحدة باللفتين العربية والانجليزية في إطار طباعي أنيق وتطل مرتين سنويا، وتتجه الى أن تكون معظم عادتها بالانجليزية الى جوار وجود نصوص عربية، وفي إطار عادتها المترجمة من العربية الى الانجليزية ستنشر قصة "تلة الفجر" للكفراوي التي أشرت اليها، وهي قصة كانت ترجمتها مهمة على قدر غير يسير من الصعوبة في إنجازها.
وهكذا ترى أن محاولة إصدار كتب تضم الترجمات الانجليزية للأعمال الابداعية العربية هي الآن محاولة صعبة وشاقة الى أبعد الحدود.
* الا يدفعنا هذا الى التساؤل عما يمكن أن تساهم به في هذا الصدد المؤسسات الثقافية العربية وخاصة الكبرى منها؟
– أريد أن ألاحظ هنا أن هناك بالفعل بعض المؤسسات العربية التي تأخذ بزمام المبادرة وتقوم بنشر الكتب الابداعية المترجمة من العربية الى الانجليزية ولست أريد أن أنتقد هذه المؤسسات أو أهاجمها، فهناك على سبيل المثال الهيئة المصرية العامة للكتاب التي تصدر كتبا من هذا النوع، ولكن المؤسف حقا أن هذه الكتب توضع بكاملها في المخازن، وعادة فإن ترجمتها وطبا عتها رديئة، ولا تشق طريقها الى القاريء الأجنبي، في نهاية المطاف.
هنا لابد لي أن ألفت النظر الى النشر، خاصة في الغرب، يتوقف على شيء واحد، هو التوزيع، فالناشر يتخذ مقرا لها في مكتب مزود بجميع وسائل الاتصال الحديثة، وليس لديه مطبعة خاصة به، وانما هو يتصل بالمؤسسات المتخصصة في الطباعة للحصول على عروضها، ويختار لانجاز كتبه العرض الذي يعكس أكبر قدر من الفخامة في الطباعة بأقل سعر ممكن.
وفي المقابل فإن المؤسسات الثقافية العربية تتصور أن عملية النشر جوهرها أن تكون لديها مطبعة تنتج لها الكتب، وتتجاهل جوهر عملية النشر بمفهومها الحديث، والذي يدور حول عملية التوزيع بمعنى توصيل الكتاب الى أوسع قطاع ممكن من القراء.
ولذلك فإنني لا أتصور أن هناك جدوى كبيرة من أن تكون للمؤسسات الثقافية العربية مطابع وأجهزة انتاج وعمل لاصدار كتب بالانجليزية والفرنسية داخل العالم العربي، وانما المهمة الأساسية هي أن توثق هذه المؤسسات علاقاتها بدور النشر الموجودة خارج العالم العربي وتستغل هذه العلاقات لتوصيل الأدب العربي المترجم على مستوى رفيع وبطباعة جيدة الى القاريء الأجنبي.
ويمكن لهذه المؤسسات العربية كذلك أن تقوم بدور كبير في تشجيع حركة ترجمة الأدب العربي عن طريق دعم المترجمين الجيدين وتبني أعمالهم واخراجهم من دائرة اليأس والشعور بالاحباط وعدم الجدوى، التي تنتهي بهم غالبا الى التوقف عن ترجمة الأدب العربي.
وفي هذا الصدد يرد الى ذهني مثال محدد، فهناك إحدى المترجمات الجيدات للأدب العربي قامت بترجمة روايتين للأديب إدرار الخراط. على الرغم من صعوبة النص الروائي كما يكتبه الخراط، حيث يشتغل على النثر كما لو كان عملا نحتيا دقيقا، وغالبا ما نجد لديه فقرات بكاملها في نصوصه يكاد يكون من المستحيل أن تترجم، وقد خاضت هذه المترجمة غمار صعوبات كبيرة الى أن تم نشر هذين العملين، ولكن ما حدث أن لم يتم بيع ما يتجاوز الخمسمائة نسخة من هذين العملين ولما كان المترجم في الغرب يعامل من الناحية المالية بنسبة محددة من سعر الغلاف على اجمالي عدد النسخ المباعة، فإن علينا أن نتصور مدى شعور هذه المترجمة بالاحباط عندما نجد أن العائد المادي لما بذلته في الترجمة لا يكاد يذكر، ولا يتوازى مع الجهد الذي بذلته، وبالفعل فإنها انصرفت الى كتابة روايات من تأليفها، وبحسب ما أبلغني به إدرار الخراط في آخر لقاء لنا فإن هذه الأديبة لن تستمر في ترجمة الأدب العربي، على الرغم من المستوى الرفيع الذي وصلت اليه في هذا المجال.
والمؤسسات الثقافية العربية مطالبة بالتدخل لتشجيع أمثال هذه المترجمة ومنع انصرافها النهائي عن ترجمة الأدب العربي.
وبالنسبة لي فقد اكتشفت شيئا مدهشا، فقد انصرفت مؤخرا، الى كتابة قصص للأطفال ذات خلفية عربية وشرقية بشكل عام وفوجئت بأن العائد المادي من تأليف كتيب صغير للأطفال باللغة الانجليزية يفوق العائد من ترجمة رواية عربية ضخمة تستغرق وقتا وجهدا وحوارات ممتدة مع المؤلف والنقاد.
وهناك جانب آخر أود أن ألفت النظر اليه، وهو أن الأديب أو الكاتب العربي نفسه قلما يحظى بعائد يذكر من أعماله وهذه المعادلة تتغير عندما تتم ترجمة كتاب أو أكثر من أعماله، فهذه المسألة – أي ترجمة الأعمال الأدبية العربية – لا تقتصر بالنسبة للمؤلفين العرب على الشهرة وذيوع الميت بين أقرانهم وانما هناك العائد المادي الذي يعود عليهم.
وأذكر في هذا الصدد أن أحد الكتاب العرب قد اتصل بي مقترحا أن أترجم عملا من أعماله، ومشيرا الى أنه مستعد للتنازل عن كل الحقوق في هذا الصدد، بل أشار الى أنه على استعداد لأن يدفع لي ما أحدده من مبالغ مقابل القيام بهذه المهمة، وكان ردي الفوري هو أنني لا أعمل بهذه الطريقة، وانما يتعين أن يعجبني العمل أولا ثم أقوم بعد ذلك بترجمته وقد يأتي وقت اختار لهذا الكاتب شيئا من أعماله لترجمته، ولكن المبادرة يجب أن تأتي من جانبي بعد أن أقرأ العمل واقتنع به، ويبلغ من إعجابي به حد المبادرة بترجمته.
* هذا ينقلنا الى تساؤل ربما يراود أذهان الكثير من الكتاب والمبدعين العرب، وهو: ما الذي يتعين عليهم القيام به لكي تترجم أعمالهم الى اللغات الأجنبية ؟
– في اعتقادي أن هذا التساؤل ليست له الا إجابة واحدة، وهي أن يكتب الأديب العربي أدبا جيدا ومتميزا لا يجد المترجمون والمتا بعون للأدب العربي موقفا حياله إلا الاعجاب به وهو ما يفتح المجال لترجمته.
ولكن لابد من ملاحظة أن هذا لا يتم بشكل آلي وتلقائي، وإنما يتعين على هذا الإديب أن يبادر ويتحرك في إطار التعريف بأدبه وبإبداعه وهناك الكثير من الابداع الأدبي العربي هذه الأيام والمترجمون للأدب العربي، في النهاية، عددهم محدود، وفي حالتي مثلا فإنني مشغول بترجمة الأحاديث النبوية الشريفة، وبكتا بة قصص للأطفال وبترجمة أعمال في مستوى "أصداء السيرة الذاتية" الذي نشر في نيويورك مؤخرا، ومن هنا فإنني يسعدني أن يبادر المبدعون والأدباء العرب الى ارسال أعمالهم الجديدة لي حتى وان لم يكن لدي الوقت للاطلاع عليها فور وصولها الي.
والطريف في هذا الصدد أنني كلما دخلت أتيلييه القاهرة وجدت حفاوة وترحابا واقبالا من الكتاب، وجانب كبير من هذا يرجع الى صداقات قديمة تربطني بعدد من الكتاب، ولكن جانبا مهما أيضا يعود الى أن من المهم أن يعرفني الكتاب ويعرفوا غيري من المترجمين بأعمالهم واصداراتهم الجديدة.
ومن المهم هنا أن نلاحظ أنه ليس كل المترجمين عن الأبية يقيمون في العالم العربي، ويعيشون أجواءه ومناخاته، ويواصلون الحوار مع أدبائه وكتابه, وعلى سبيل المثال فإنني في الواقع لم أتذوق كثيرا من رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ وفي الواقع لم أحبها وعندما أرادت الجامعة الامريكية بالقاهرة صاحبة حقوق اصدر أعمال نجيب محفوظ بالانجليزية، ترجمة هذه الرواية اقترحت على المسؤولين في قسم النشر بالجامعة أن يعهد بها الى المترجمة كاثرين فوبام، ولكنها لا تزور العالم العربي كثيرا، ولا تلم بالمناخات الدقيقة التي تدور الأحداث فيها، والأهم من ذلك أنه من أين لها أن تعرف أن هناك أعمالا بعينها تصلح للترجمة الى الانجليزية على هذا المستوى؟
وأود هنا أن أشدد مرارا وتكرارا، وكما سبق لي أن أكدت في العديد من المناسبات أن استخدام التقنيات الغربية والعزف على منوال الكتاب الغربيين لا يؤدي الى زيادة فرص من يلجأ الى ذلك في ترجمة أعماله وانما الأمر على العكس من ذلك تماما.
وفي هذا الصدد يحضرني نموذج محدد، يتمثل في رواية "بيضة النعامة" لرؤوف مسعد، والتي أثارت ضجة كبيرة في العالم العربي وخاصة في دوائر النقاد العرب. ومن ناحيتي فإنني لم أحب هذا العمل، وهو رأي شخص بالطبع وذلك على الرغم من أنني مهتم بالنزعة الايروتيكية وبالكتابات التي تندرج في إطارها.
ويرجع هذا الرأي من جانبي في هذه الرواية الى اعتقادي بأنها كلها تقريبا مأخوذة من مصادر غربية، منها هنري ميللر، ولكن بصفة خاصة من رواية "قصة أو" وهي عمل شهير ومعروف في إطار الأدب الايروتيكي ورؤوف مسعد نفسه لا ينكر تأثره العميق بهذه الرواية بشكل خاص، والتي تنتمي الى الأدب الايروتيكي الرفيع.
وهذا يذكرني بأنه صدر مؤخرا عمل في الولايات المتحدة يضم مجموعة من الكتابات الايروتيكية القصصية العربية، وقد اخترت للنش في إطار هذا الكتاب "سفينة حنان" لليلى بعلبكي، وان لم تكن عملا إيروتيكيا تماما وكذلك اخترت قصة لأليفة رفعت بعنوان "الاحلام" أو "الثعبان".
وقد طلب مني ناشر أمريكي آخر هذا الطلب نفسا، أي اختيار أعمال ايروتيكية عربية لنشرها في كتاب في الولايات المتحدة، ولكن الحصيلة العربية في هذا الميدان ليست كبيرة بسبب مجموعة الضوابط الكبيرة التي تحول دون كتابة هذا اللون من الأدب أصلا، وامكانية وقوع ناشره تحت طائلة عقوبات قد تصل الى حد السجن.
وخلاصة القول أن الكاتب أو الأديب العربي الذي يرغب في أن يفسح المجال أمام أعماله للترجمة الى اللفات الأجنبية ليس أمامه الا طريق واحد، هو أن يكتب أدبا يفرض نفسا وسط الاتجاهات العديدة والكتابات الكثيرة في العالم العربي، نط مجال إلا للكتابات من الطراز الأول التي تشجع المترجمين على المجازفة بوقتهم وترجمتها.
* أشرت الى قيامك بكتابة سلسلة من الأعمال باللغة الانجليزية موجهة للصفار فهل لك في إلقاء الضوء على هذه السلسلة ومدى أهميتها وما تعنيه بالنسبة لك ؟
– بدأت فكرة هذه السلسلة في الواقع بمبادرة، صديق انجليزي متزوج من سيدة مصرية وكان يعمل ممثلا لدار النشر البريطانية المعروفة لونجمان، ولكنه ترك العمل في هذه الدار وأنشأ دار نشر متخصصة في المطبوعات الموجهة للصغار والناشئة. ولم أكن على معرفة به في البداية لكنه اقترح وخلال صديق مشترك أن أقوم بتأليف كتابين، في إطار تجربة أولى في هذا النوع من الاصدارات يمكن أن يكون لها ما بعدها.
والواقع أنني لم يكن قد سبق لي أن كتبت للأطفال،ولا أدعي أنني أفهم عقليتهم كثيرا، ولكنني طوال حياتي كنت أتوق الى نشر عمل من تأليفي عن شخصية جحا، وهكذا بادرت الى مقابلة هذا الناشر وأعربت له عن موافقتي على تأليف الكتابين شريطة أن يضم أحدهما حكايات من نوادر جحا وطرائفه واقترح علي أن يكون الكتاب الآخر في دائرة الأدب الشعبي، وأنا لست متخصصا في الأدب الشعبي ولكنني بالرجوع الى عدد من المراجع والمصادر أمكنني انجاز هذا الكتاب بدوره، وهكذا صدر الكتابان في القاهرة بلوحات لفنانين مصريين وبطباعة فاخرة، ولقيا رواجا كبيرا.
ودفعني هذا الى الانطلاق في هذا الميدان، فانجزت ستة عشر كتابا، تم بالفعل إصدار اثني عشر كتابا منها، وآمل أن يصدر الباقي تباعا.
وقد شملت هذه الكتب الفولكلور والتاريخ ومنها "قصص الخلفاء" و "أبرز معارك الرسول" و"سيف بن زي يزن" و "علاء الدين" وغيرها.
وقد لفت نظري بشكل خاص، أنه لدي ترجمة قصص من ألف ليلة وليلة الى الانجليزية فإنها تبدو للصغار الذين يقرأ ون بهذه اللغة غير منطقية وقد حاولت تقديمها بصيغة مقبولة للعقلية الاجنبية والحديثة بشكل عام.
* هل خطر ببالك إمكانية تقديم كتاب يضم مجموعة من القصص الشعبية الخليجية ؟
– لقد ركزت على القصص التي ترد على ألسنة الطير والحيوان بالاستناد الى التراث العربي العريق، ومن بين الجمهور الذي أتوجه اليه بهذه الأعمال أيضا الأطفال العرب الذين يدرسون في مدارس أجنبية، ولا يسمح مستوى معرفتهم باللغة العربية بالعودة الى المراجع والمصادر الأصلية، وان كانوا يريدون معرفة جوانب من تراثهم.
وبالنسبة للقصص الشعبية، فإنني أقمت عدة سنوات في المغرب ورأيت أنه خدمة للثقافة المغربية يتعين علي إصدار كتاب في هذا الصدد يعكس أجواء المغرب، وبالفعل أنجزت كتاب "حكايات شعبية من المغرب" ولما كنت قد أقمت في مرحلة من حياتي في الخليج، فقد اهتممت باصدار كتاب عن الحكايات الشعبية الخليجية ومازلت أتابع هذا الاهتمام حتى الآن.
ورمما كانت قيمة هذه الأعمال الموجهة للصفار والناشئة من القراء باللغة الانجليزية والتي أعتز بها كثيرا أنها تتوجه الى الصغار من الأجانب، وفي الوقت نفسه من الطلاب العرب الصغار الذين يريدون الاحاطة بجوانب شديدة الثراء من أدب أمتهم وتاريخها وتراثها بشكل عام.
فتاة النفاية
دنيس جونسون ديفز
تـ: كامل يوسف حسين
رحت أرفع عيني من حين لآخر، عن الآلة الطابعة، وأحدق الى أسفل عبر شبكة فروع الأشجار العالية، التي ستحمل في وقت لاحق من الصيف سجادة حمراء قرمزية من زهور "لهب الغابة" على ارتفاع أقدام قلائل من البنايات العالية المنتصبة على امتداد ضفتي النيل انسدلت طبقة من الهواء الملوث في لون البسكويت قبة هائلة قامت مقام عازل لأشعة الشمس، وفي كل مرة، عندما لا يبدو لها أثر كنت أعود الى الانكباب على عملي، ولكن ذهني لم يكن مركزا تماما عليه، كان ذلك هو الوقت من النهار، الضحى الذي تظهر فيه مع أخيها وعربتهما التي يجرها حماران، وان كانا يغيبان يوما، من دون أن يكون هذا اليوم بالضرورة هو الأحد أو الجمعة، ثم فجأة دوى صوت جرس الباب. قفزت واقفا وهناك على بعد أربعة طوابق في الأسفل انتصبت العربة المخلعة، بحماريها المكسوين بالقروح. كانا قد اقتربا من نهاية جولتهما وامتلأت العربة بالنفاية على وجه التقريب، وتحلقت العربة قطط راحت تحافظ على توازنها، وهي منغمسة في العراك فيما بينها، عار حين راحت تدفع بمخالبها في حذر شديد وسط النفاية ونجحت في بعض الأحيان في انتزاع ما تأكله، وكان بمقدوري رؤية أخيها وقد تدلى مقطنة على كتفه، وأوشك أن يمس الأرض، وهو يشق طريقه من الفيلا الكبيرة المقابلة، تاركا وراءه أثرا ممتدا من أوراق الخس وكرات من الصوف المتسخ المخلوط بالقطن.
وقفت بالباب، ومقطفها الذي امتلأ حتى منتصفا عند قدميها وقد تعرقت في المنديل المتسخ الذي ربطته حول رأسها قطعة نسيج الباتيك التي ابتعتها ذات يوم في بانكوك، وقدمتها اليها، ابتسمت لي بفمها المزموم،ربما كانت في الثانية عشرة من عمرها وربما كانت أصغر من ذلك، ولكنها بالمعايير الغربية لم تعد طفلة، وطالبت عيناها النجلاوان،الجميلتان، بأن ينظر اليها على أنها امرأة، امرأة كانت بشكل من الأشكال قادرة على أن تظهر منفصلة عن القذارة ذات الرائحة النفاذة، التي تعمل في جمعها. كانت طويلة القامة، ناحلة، ولها طريقتها في المشي التي تبرز حلمتي ثدييها، اللذين تبرعما مؤخرا ونهدا، دافعين في عناء جلبابها الملوث. وتحت الجلباب كانت عارية كما ولدتها أمها، ذلك أنها انحنت ذات مرة، والتقطت قشرتي بيض سقطت من حافة مقطفها وعلقت بذهني صورة وركيها وردفيها بلونها البني الفاتح.
شوف رجلي !
تناهى الي صوتها وهي تقولها، فهبطت بناظري من نهديها الى قدميها رفعت إحدى قدميها، فرأيت خرقة متسخة تلفها.
– جرحتني زجاجة.
هكذا أوضحت وهي تنحي الخرقة جانبا لأتمكن من رؤية الجرح البليغ الفائر في مشط قدمها، أبلغتها بأن عليها أن تلزم الحذر بشأنه، وأنه ليس لدي ما أعالجه به، ولكن عليها الحصول على مطهر. ابتعدت عنها وبحثت في جيبي عن جنيه.
قلت لها:
– اذهبي الى الصيدلية الواقعة بعد الميدان، وسيعطيك شيئا للجرح.
– كانت زجاجة.
قالتها لي مجددا وهي تأخذ الجنيه، ثم تذكرت إنني احتفظت لها ببعض الحلوى، ولذا عدت الى غرفة المعيشة وأحضرتها، وضعتها في جيبها من دون حماس لها، فقد عرفت حقيقتها أي الحلوى التي تعطيها محال البقالة القاهرية بدلا من الفكة، بعد أن أصبحت القروش بفعل التضخم يفوق ثمن معدنها قيمتها التبادلية. وقد عمد بعض أصحاب الملايين في القاهرة، ممن ينطلقون بسياراتهم البيضاء من طراز مرسيدس الى استخدام هذه النقود في قمصانهم الحريرية واحذ يتهم الايطالية ذات الأطراف المدببة، بعد أن يقوموا بصهر هذه العملات القديمة وتقدم لك محال البقالة الفكة في صورة علب أعو اد الثقاب أو الحلوى، ومنذ عرفت سها أصبحت أحصل على فكتي في صورة حلوى.
قلت لها مجددا:
– احرصي على قدمك ينبغي أن تنتعلي حذاء!
رمقتني بنظرة تقول: سأنتعل حذاء عندما يهتم أحد مثلك باعطائي هذا الحذاء.
تساءلت:
– عندك حذاء قديم ؟ حذاء لا تريده ؟
قلت:
– سيكون كبيرا بالنسبة لك.
قالت ضاحكة:
– أحسن مما يكون صغيرا جدا.
تذكرت زوج الحذاء الكتاني الذي اهترأ عند الأصابع. لسوف يكون ضعف مقاسها، ولكن بمقدورها أن تسير به فيكفل لقدميها بعض الحماية. التقطته من قاع خزانة الثياب الموجودة في غرفة النوم، وقدمته لها. فمصته، ودست إصبعا في الثقب المقابل لأحد أصابع القدم، وكأنها توميء الي أنها لن تحلني من وعدي بأن أعطيها مالا لشراء زوج جديد من الأحذية.
– شكرا.
قالتها ووضعت زوج الحذاء فوق نفايتي.
-هل تمرين غدا.
– إن شاء الله.
قالتها. فاجتذبتني الابتسامة التي منحتني إياها بعمق الى محجري عينيها.
– إن شاء الله.
قلتها وأوصد الباب وراءها.
وقفت في الشرفة رحت أرقبها وهي تفرغ نفايتي ونفاية جيراني في عربتها، وبينما العربة تمضي مبتعدة في الشارع. وتنعطف منطلقة الى الميدان، واذ وجدت القطط نفسها في أرض غريبة عليها، فقد قفزت من العربة، عدت الى الآلة الطابعة،وحاولت الاستمرار في التقرير الذي كان لدي موعد نهائي لتسليمه، بدلا من ذلك راجعت الجملة الأخيرة، ثم تراجعت غائصا في مقعدي، وأشعلت سيجارة، وحدثت نفسي بأنني ذات يوم يتعين علي أن أعد موضوعا صحفيا عن جامعي القمامة في القاهرة ومشات العربات التي تجرها الحمير التي تنقلها وعقي بها على امتداد الحي العشوائي الواقع عند أطراف المدينة، وكانت الحكومة على امتداد سنوات تفكر في إدخال العمل بنظام شاحنات جمع النفاية الحديثة، والتخلص من النفاية على نحو ما حدث في كل العواصم الأخرى التي تحترم نفسها، ولكن الميزانيات لم تسمح بذلك قط، فكيف يمكنك أن تنافس قبيلة من الرجال والأطفال الذين يجمعون نفايات المدينة في مقابل بقشيش يشكل الحد الأدنى من ساكني البيوت ؟ إنهم ينطلقون بعرباتهم التي تجرها الحمير قادمين من تلال المقطم وأكواخهم المتناثرة حول أكوام النفاية. ولو أنك كنت تمني الى المطار وطلبت من التاكسي أن يمضي عن طريق شارع صلاح سالم مرورا بالقلعة ومسجد محمد علي لأمكنك أن تشاهد الحمير الضئيلة المثقلة بالعمل، وهي تكدح صاعدة المنحدر، قبل أن تنعطف ماضية الى تلال المقطم. وهناك يقوم العاملون في التعامل مع النفاية بتصنيف قمامة القاهرة، ويقدمون جانبا منها كغذاء للخنازير التي يربونها. وقد قيل إنهم جميعا من الاقباط، ذلك أنه ما من مسلم يدنو من الخنازير. حية كانت أو ميتة. كما قيل كذلك إن من شأن من لا يعرف الظروف التي تربى فيها الخنازير وما يتم تقديمه طعاما لها وحده أن يفكر في تناول لحم الخنزير في القاهرة، وقد أثاروا تعاطف الجالية الأجنبية معهم، ومؤخرا نشر مقال في صحيفة صادرة بالانجليزية في القاهرة عن زوجة السفير التي تقوم بزيارتهم. وأن هناك من تماثل الأم تيريزا والتي كرست حياتها لهم. وقد قيل إنهم يحصلون على عائد أكثر من جيد من الاحتكار الغريب الذي يمارسونه للتعامل مع القمامة. وربما كان هنالك تحقيق صحفي مثير يمكن اجراؤه هناك، وربما سأنطلق بالسيارة ذات يوم الى تلال المقطم وألقي نظرة بنفسي.
وربما بمقدوري أن أرتب لزيارة سها وعائلتها هناك.
هل يمكن لرجل صحفي مثقل بالعمل يوصف فيما يمكن أن يدرج ضمن لطف التعبير عن الحقائق المريرة بأنه في أواسط العمر، أن يقع في هوى فتاة في الثانية عشرة من عمرها تعمل بجمع النفاية، أو يمكن لك حقا أن تصف هذا بأنه حب ؟ من شأن الكثيرين أن يبادروا الى وصف هذه العاطفة بأنها أمر غير طبيعي، انحراف، ولكن الصواب سيجافيهم، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه العاطفة لا ينبغي أن تسمى بأنها حب، لأنها عاطفة أكثر إثارة للقلق والانزعاج حز هذا، عاطفة لم يعرف لها اسم بعد. ربما كان أناس بعينهم هم الذين يتعرضون لهذا النوع الخاص من الحب الشهوة. ولربما يقدر لرجل أن يحيا طوال سنوات عمره مع امرأة، وقد تكون له علاقة عاطفية إثر الأخرى، ومع ذلك فإنه لا يعرف قط هذا الألم اليائس الذي يربط القلب بما هو أسفل الخاصرة.
وبالنسبة لأولئك الذين يتعرضون لهذه اللعنة كم مرة تحل بهم على امتداد أعمار صم ؟ لقد حلت بالنسبة لي، ثلاث مرات من قبل، احداها مع زوجة رئيس أبي في العمل عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، وكانت تشرع في طريقها الى سن اليأس، ثم في عهد أقرب مع فلاحة قبرصية تركية اعتادت أن تصنع الجبن الملوم ولها زوج يعمل بالرعي أمضى وقتا في السجن لاعتدائه بخنجر على شخص أبدى استلطافا لها، ثم هنالك تلك المرأة التي جلست قبالتي مع ابنها المراهق في عربة قطار الأنفاق بين ميدان راسل وجرين بارك، ثم وقفت على رصيف المحطة، واستقرت عيناي عليها من دون مخاطرة حتى اختفى القطار في طريقه الى منعطف فايد بارك، والآن ها هي ذي سها، الطفلة ذات الحلمتين المبرعمتين، والفخذين الناحلين، والمقطف المليء بالنفاية والمدلى حول رقبتها والتي تقرع الجرس يوميا.
هذه العاطفة التي لا اسم لها، تتغذى وتضيق شحما، اعتمادا على غذاء تنفرد به هو أحلام اليقظة، وحيث أن هناك قبولا غير معترف به عميقا، عميقا، عميقا للحقيقة القائلة بأنه حيث توجد هذه العاطفة فلا مجال للوصول الى التحقق فإن أحلام اليقظة هذه تؤخذ الى تخوم عدم التصديق والى ما وراء هذه التخوم. وهكذا فإنني منذ وقعت عيناي على سها استحضرت في ذهني أي عدد يمكنك تصوره من المواقف الممكنة والمستحيلة بيننا: قيامها بأخذ حمام سريع قبل أن تدلف معي الى الفراش، بينما ينتظر أخوها في أسفل البناية ويتساءل عن الشقة التي اختفت فيها. هربها بشكل من الأشكال من جولاتها وشق طريقها عائدة الى شقتي لساعة، لليلة، لأسبوع، بل أنني تصورت نفسي وأنا أصطحبها في تباكي الى المطار، لنلحق بالرحلة الأسبوعية على طيران الخطوط الفرنسية الى نيس، حيث ترتدي ملابس من بوتيك الريفييرا وأمضي معها في جولة على امتداد برومنا الانجليزي. ولم تكف هناك نهاية لأحلام اليقظة، ولكن كان حال الكوابيس النهارية التي تدور حول الغيرة. ألم يكن هناك آخرون أيقظت في قلوبهم في غمار قيامها بجولاتها الانفعال نفسه وألم يقم بعضهم ممن كانوا أكثر جرأة مني بنيل هبات تستعص على التفكير منها؟
انقضى يومان من دون أن يقبل أحد يجمع النفاية، كانت درجة الحرارة قد ارتفعت فجأة، وبدأ كومة النفاية في المطبخ في التضخم، ثم في يوم شاق دوى جرس الباب، وعندما تطلعت الى أسفل نحو الشارع ألفيت العربة والحمارين هناك،ووجدت أخافا كذلك يقذف بالحجارة القطط التي تلتقط طعامها من النفاية. ولكنني ألفيت لدى الباب شخصا لم أره من قبل رجلا ضئيل الجرم. إحدى عينيه جاحظة وعلى الرغم من أنه بدا أصفر من أن ينطبق عليه ما قاله إلا أنه أبلغني بأنه والد سها، وبأنها مريضة في البيت، وأنها قد عرضت على الطبيب الذي قال إنها بحاجة الى جراحة لقدمها ولكنه يريد خمسة جنيهات للقيام بذلك. وقد قال هذا كله كأنه يحفظه عن ظهر قلب.
– آسف لما سمعته عن حال ابنتك.
قلتها ودسست يدي في جيبي، ونفحته جنيها.
– والباقي؟
قالها مدققا في الورقة النقدية بعينه السليمة، أضاف:
– من أين سآتي بالباقي؟
فكرت بسرعة ثم أخذت الجنيه من يده، ومضيت الى غرفة النوم بحثت في جيب سترتي وعدت بالورقة ذات الخمسة جنيهات،وأعطيته إياها فبدا مندهشا أكثر ما لاح ممتنا. قال:
– ربنا يطول عمرك !
– ربنا يشفي بنتك !
قلتها وأحضرت له قمامتي من المطبخ ثم عدت الى آلتي الطابعة كنت قد بعثت بتقريري عن الزراعة المصرية، وأحاول كتابة فقرة أخيرة في أحدث موضوعاتي الصحفية التي حان موعد تسليمها بالفعل، وتدور حول الاطار السياسي للحركة الأصولية.
انقضى أسبوع وحلت محل العربة التي يعمل عليها سها وأخوها عربة يعمل عليها صبيان خشنا المظهر والقول، لاح أنهما توأم. سألتهما عن سها، ولكنهما قالا إنهما لم يسمعا بها قط، ذكرت لهما انها فتاة صغيرة جرحت قدمها، فقالا إنهما لا يعلمان عنها شيئا كذلك. أخذ أحدهما مني خمسين قرشا وأقبل في الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر كل يوم بانتظام الساعة، كان حماراهما أكبر حجما وأفضل تغذية ولهما سيران جلديان بدلا من السلكين اللذين كانا يحزان في لحم حماري سها الهزيلين.
ثم أقبل الرجل الذي قال إنه والد سها مجددا، ولم يحاول تخفيف وقع اللطمة، وانما قال مباشرة إن سها قد ماتت، وان قدمها قد ازدادت ورما وأن الغرغرينة، أصابتها وماتت، وهو الآن يريد نقودا لجنازتها، فنفحته جنيهين وأوصدت الباب وراءه،. وأمضيت بقية الصباح أحدق أمامي في فروع شجرة "لهيب الغاب" واتساءل عما إذا كان جامعو النفايات يستخدمون توابيت في جنازاتهم.
لابد أن شهرين قد انقضيا فقد كان ذلك في سمت الصيف، وانخفض سعر المانجو التيمورية الى أدنى مستوى سيصل اليه وكنت أجتاز ميدان المساحة، مثقلا بحمل كيسين يضمان مواد البقالة. وأشارت الصيحات وسحابة الغبار الممتدة أمامي الى أن مباراة كرة قدم تقام في الطريق الذي يفصل رقعتين من النجيل الخشن وأحواض الزهور المتناثرة. وبينما كنت أثب بلا طائل الى أحد الجانبين لأتجنب الكرة التي كنت على يقين من أنها قد وجهت الي، رأيت سها جالسة فيما وراء أحد كومي الملابس اللذين يشيران الى موقع المرمى. بدت سها شامخة كأنها كليوباترا في سفينتها، وقد اقتعدت العربة التي يجرها الحماران واستقرت قدماها على العجلة الأمامية القريبة من السائق كانت عاكفة على تدخين سيجارة وقد تموج الدخان في الهواء الساكن مشكلا ما يشبه ريشة رمادية ضاربة الى الزرقة تطو المنديل الأحمر الذي تلف به رأسها. وعلى الرغم من أن نظرتها المحدقة كانت موجهة نحوي إلا أنها لم تظهر ما يدل على أنها قد رأتني، بدأ قلبي في الخفقان مثقلا، وأحسست بأن الكيسين يقطعان راحتي. اعتدلت بكتفي وحاولت السير بخطي مسرعة كأنما لم أدر بوجودها، ولكنني عندما بلغت المنعطف الذي يفني الى الشارع الذي أقيم به، أحسست بالقوة تتسرب من ساقي بدا الأمر كأن كتلة كبيرة من شعر قطة قد استقرت في صدري، ووجدت فجأة صعوبة في التنفس. ساورني للحظة شعور بأن تلك هي الكيفية التي تكون عليها مشاعر المرء عندما يوشك على الاصابة بنوبة قلبية، توقفت ووضعت الكيسين على الأرض تطلعت ورائي نحوها، ورأيتها تنظر باتجاهي. كان قوامها السمهري يبدو في خلفية من السماء التي أخذت تتشح بالظلمة، وقد استقرت يدها التي تحمل السيجارة على خدها. التقطت الكيسين، ومضيت قدما عدة خطوات. عندما تطلعت الى الوراء مجددا، كانت قد حجبتها البناية الجديدة التي مضت أدوارها تزداد ارتفاعا في ركن الميدان وبحزن عميق وحنين كان جد مألوفا لدي عرفت أنني لن أراها بعد الآن أبدا.
حوار: كامل يوسف حسين (كاتب من مصر)