يكمن خلف هذا الجهد شغف مهمل. وكأن الجهد المبذول نفسه قد آل بهذا الشغف إلى وهدة الاهمال الى أن صير الى إحيائه بفضل مقالة مؤرخ الأفكار الراحل اشعيا برلين »هيوم والنزعة الألمانية المضادة للعقلانية« (1).
سنأتي الى الدور الذي لعبته هذه المقالة في النهاية. اما الشغف نفسه فيمكن تلخيصه بالسؤال حول طبيعة معرفتنا بالغير.
ولئن وقع هذا السؤال في قلب »نظرية المعرفة«, وهي الميدان الراسخ في تاريخ الفلسفة, فإن الانضواء في هذا الميدان ليس بحد ذاته حافز الشغف المذكور او مولده. فالسؤال حول طبيعة معرفة الآخرين ليس إعرابا عن محض هم معرفي – على الاقل في حدود المعنى والممارسة المنسوبين اليه في سياق الميدان الفلسفي التقليدي – وانما يصدر عن حافز اخلاقي وجمالي معا ويهدف الى تسويغ اعتبار معرفة الآخرين بمثابة وقوف حيال لغز.
واللغز المقصود هنا هو ذاك الذي لا سبيل الى حله ما دام هناك غير. فوجود الغير ودوامهم, دواما فعليا او رمزيا , هو ما يملي أنه اذا ما جاز إعتبارهم لغزا اصلا , وهو امر يتوقف بالدرجة الاساس على البحث في طبيعة المعرفة الممكنة لهم, فإنه لا يمكن البت بأمر هذا اللغز على صورة نهائية مطلقة.(2).
والشغف, او السؤال, اخلاقي الحافز لانه لا ينحصر بطبيعة الحقائق فحسب وإنما بالقيم ايضا , وهو جمالي ايضا لانه ينطلق من فرضية أن الحقائق والقيم يصار الى بلوغها من سبيل واحد, وبما يجيز القول بأن القيمة تعي ن الحقيقة بقدر ما تعي ن الثانية الأولى. فالتمييز ما بين الاثنتين, تبعا لزعمنا, فعل تال لعملية إكتسابها جميعا . والاعتقاد هو الكلمة المفتاح لهذه الفرضية, بل للسؤال نفسه: إننا لا نعرف الحقائق والقيم وإنما نعتقدها.
مثل هذه الفرضية تجعل الشك بمعرفة الغير, اي بتمثيل ماهيتهم والحكم عليهم, امرا جائزا . بيد ان الشك المنشود ليس غرضا بحد ذاته, وهو لا يهدف حتما الى إنكار اية معرفة على الإطلاق. فإذا ما كانت المعرفة المعنية بمثابة إعتقاد لم يعد من العسير نبذ ما نعرف وفي اقل تقدير تعليقه بما يسوغ لنا في النهاية إعتبار الغير بمثابة لغز.
انه لهذا السبب وجد الشغف المذكور ضالته في معالجة الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم لمسألة وجود الجسم المستقل, او الواقع الخارجي عموما . صحيح ان هيوم يعالج هذا الامر من قلب الميدان الفلسفي الراسخ, وان معالجته للامر لا تنحصر بمعرفة الآخرين, وإنما تهدف الى معالجة هذه المنحى إستكمالا لنظامه الفلسفي حول ما يسميه بـ»علم الانسان«. علاوة على ذلك فإن هيوم يشدد في النهاية على ضرورة التسليم بالاعتقاد في وجود جسم مستقل, او عالم خارجي , وليس الشك فيه او تعليقه.
غير ان كلا من مفهوم هيوم لـ »علم الانسان« وحجته القائلة بأن معرفتنا للواقع الخارجي هي بمثابة إعتقاد طبيعي , ما يتجاوز حدود الابستمولوجيا (نظرية المعرفة), ان في سعة الطموح او الخلاصة. فعلم الانسان الذي يطمح هيوم الى إنجازه هو اساس سائر العلوم الاخرى, بما يعني ان الهم الاخلاقي والجمالي ليسا بمنأى عن حدود طموحه. اما الاصرار على ضرورة التسليم في إعتقادنا بوجود واقع خارجي , فإنه, على ما سنجادل لاحقا , لا يستقيم. فما ان نقف على سر هذا الإعتقاد, حتى تمسي جل معارفنا, التي تتجاوز حدود ادراكاتنا الفورية, موضع إرتياب, وفي كافة الاحوال, بعيدة البعد كله عن اليقين المنسوب اليها بما يوهن الاصرار على التشبث بالإعتقاد المذكور.
-حدود المعرفة:
في مستهل »شكوكية في ما يتعلق بالحواس«, وهو الفصل الاول من الجزء الرابع من الكتاب الاول لـ »بحث مطول في الطبيعة الانسانية«, يصرح هيوم ان سؤاله ليس سؤالا حول اذا ما كان ثمة واقع خارجي للموجود المدرك, وانما حول الاسباب التي تحدو بنا الى الاعتقاد بتصور كهذا. وإن لفي ضوء تصريح كهذا فإن امرين لا يمكن للمرء تجاهلهما: اولا ان هيوم يسلم بأن المعرفة المتداولة بوجود الجسم المستقل او الوجود الخارجي لهي عبارة عن إعتقاد. وثانيا ان شاغله الرئيسي ليس البرهان على صحة او خطأ هذا الإعتقاد, وانما تقصي الاسباب التي تسوغ لنا الأخذ به.
مثل هذا المستهل قد يبدو مستهجنا بالنسبة لسؤال حول الواقع الخارجي , غير اننا اذا ما وقفنا على مرامي مشروع هيوم الفلسفي بطل مبرر إستهجاننا. فهيوم يرمي الى تأسيس علم يدرس الطبيعة الانسانية, يكون شاغله إختبار قوى وملكات وحدود المعرفة الانسانية, او بإختصار, قدرة الانسان على المعرفة.
وبما ان هيوم يضع موضع المساءلة اية معرفة تقع ابعد من حدود ملكاتنا, بحيث نلاحظها ونخبرها, فإنه يسقط مقولة الوجود الخارجي, او اية مقولة مكافئة مما يرسي اساسا للزعم بوجود اجسام مستقلة. فعنده الوجود هو وجود موضوع ما(3) ومن ثم فليس من الممكن ان تكون هناك فكرة وجود مستقل لجسم ما. بحيث لا يمكن ان يكون هناك إنطباع وجود لا يمكن ان تكون هناك فكرة كهذه طالما ان اصل كل فكرة إنطباع مستعاد(4). اما بالنسبة للظن بما هو خارجي فهو لا يقل خطلا عن فكرة الوجود المستقل للجسم. فأن نزعم ان هناك وجودا خارجيا , او ان هناك وجودا مستقلا عن ادراكنا لوجوده, هو ان ند عي, ببساطة, أننا نعرف ما لا ندرك, بل وما لا يسعنا ادراكه. فمعرفتنا, بحسب هيوم, هي مجموع ادراكاتنا (انطباعاتنا وافكارنا), لذا فإن الزعم بأن في الوسع ادراك ما يقع خارج حدود مداركنا لهو من قبيل التناقض الذاتي.
لربما يتسنى لنا الآن ان نفهم سر إعتبار هيوم ان مقولة وجود الجسم المستمر والمستقل عن الذهن, لهي بمثابة إعتقاد ليس حقيقة. بيد ان الاعتقاد اعظم شأنا من محض فكرة وجود جسم مستقل (او بالضرورة وجود الواقع الخارجي), فالاعتقاد »فكرة حية وثيقة الإرتباط بإنطباع حاضر« (5). والفارق ما بين الاثنين, اي الفكرة والفكرة الحية المرتبطة بإنطباع حاضر, يكمن في السبيل الذي يصار من خلاله الى تلقي كل منهما. فإكتساب إعتقاد بالوجود المستقل والمتصل للواقع الخارجي لا يتلخص في إكتساب فكرة لهذا الوجود, وإنما ايضا ما يضاف اليها من قوة وحيوية. اما بالنسبة لمصدر القوة والحيوية اللتين تجعلان فكرة الوجود المستقل والمتصل فكرة حية, فإن هذا ما يتولى هيوم سوق تفسير له لاحقا .
يجادل هيوم ان ليس اي من الحواس او الذهن, بمصدر اعتقادنا في إستمرارية وإستقلالية الواقع الخارجي, وانما المخيلة. ولعل اهمية المحاجة التي يسوقها في سبيل شرح كيفية حصول هذا الاعتقاد, انها تبين لنا ايضا سر رفضه لكلتا نظريتي الواقعية المرسلة والواقعية غير المرسلة(6). فكلتا النظريتين تقولان بوجود الواقع الخارجي المتصل والمستقل, هذا في حين ان الامر بحسب هيوم, هو ضرب من »إختلاق المخيلة«.
غير ان هيوم ليس محض شاك بالواقعية, مرسلة وغير مرسلة, او بقدرة الحواس والذهن, وليست الشكوكية هي ما يشاء الدفاع عنها في توليه امر هذا السؤال. فكما سبق الإشارة, فإن هيوم يحض, في النهاية, على الايمان بوجود الواقع الخارجي المستقل عن اذهاننا- ذلك ان من الطبيع يحمل مثل هذا الاعتقاد. وما محاولته شرح كيفية إكتسابنا له, عوضا عن الانشغال بإظهار صحته او خططه, الا ما يدل على ان غرضه ان يشرح الاسباب التي تحدو بالبشر الى الادراك والتفكير والفعل بسائر السبل التي يفعلون(7).
الواقعية مرسلة وغير مرسلة:
بما ان المعرفة هي مجموع ما لدينا من ادراكات, فإن هذا ما يملي بأن جل الوجود الذي نعي هو وجود هذه الادراكات, وليس أيما شيء آخر.
غير ان الواقعية المرسلة ترى ان الادراكات اجسام تستمر في الوجود حتى حينما لا تكون موضوعا للإدراك. فالادراكات مستقلة الوجود عن الذهن, لذا فإنها تستمر في الوجود حتى بعدما تغيب عن الذهن, تماما كما الاجسام. وليس من إعتراض لهيوم على افتراض الادراكات اجساما , فهو غالبا ما يسميها كذلك. ما يعترض عليه هو الظن بأنها توجد غير مدركة. فالادراكات عند هيوم ذهنية الإعتماد, ومن ثم فهي داخلية وفانية ما لم تدم حاضرة الى الذهن.
وبرهانا على ان وجود الادراكات ذهني الإعتماد, يلجأ هيوم الى إختبار بسيط يتلخص في أنه اذا ما وضع المرء إصبعه امام عينه ناظرا الى جسم ما, فإنه يرى الجسم المدرك جسمين ومن ثم يحصل على ادراكين. ولكن حيث ان الادراكات هي اجسام, بحسب الواقعية المرسلة, فإن من الجلي ان ادراكا واحدا مكافئا للجسم, يدوم. والمفارقة هنا, ان الادراكات من طبيعة واحدة, ومن ثم فإن ما يحصل للإدراك الواحد يحصل, فإذا ما زال احدهما فلا بد ان يزول الآخر. وفي هذا برهان واف على ان الإدراكات ذهنية الوجود.
وبما ان الادراكات غير مستقلة عن عقل المدرك, وانها لا تدوم غير مدركة, فلابد وأنها داخلية وفانية. ولكن كيف, والحالة هذه, لا نبرح نؤمن بالوجود المتصل للأشياء غير المدركة?
ان هذا على وجه التحديد ما يزمع هيوم شرحه عندما يحيل مصدر الاعتقاد بالوجود الخارجي المتصل الى المخيلة. غير ان المتوجب التعريج اولا على موقفه من الواقعية غير المرسلة.
تسعى الواقعية غير المرسلة, او ما يسميها هيوم »بالنظرة الفلسفية«, الى تجنب الصعوبة التي تنتهي عندها الواقعية المرسلة من خلال التمييز ما بين الادراكات والاجسام الخارجية. فحيال البرهان على ان الإدراكات داخلية وفانية, لا يجد اتباع هذا الضرب من الواقعية مناصا من إفتراض نظرية تقول بإزدواجية وجود الإدراك والشيء والمدرك. فالادراك يعتمد على العقل, لذلك فهو داخلي وقابل للفناء, في حين ان الجسم مستقل, لذا فإنه يواصل الوجود بمعزل عن ادراكنا او عدم ادراكنا له.
وتبعا لأصحاب هذه النظرة, فنحن اذا ما ايقنا وجود اجسام, فهذا لأن الادراكات هي بمثابة صور لها, وبما يعنى ان هناك اجساما موجودة على نحو مستقل.
ولكن على رغم ان هيوم ينكر صحة فرضية الواقعية المرسلة بأن الإدراكات اجسام مستقلة دائمة الوجود, الا انه في الوقت نفسه لا يقبل التمييز ما بين الادراكات والاجسام, واقله كذلك عزو صفة الوجود الخارجي لهذه الاخيرة:
»ليس هناك مبدأ للفهم او المخيلة يقودنا على الفور الى إحتضان هذا الرأي للوجود المزدوج للإدراكات والاجسام, وليس يسعنا بلوغ هذا الرأي من خلال الفرضية الشائعة للهوية وإستمرار إدراكاتنا المتقطعة.. «(8)
فبما ان ادراكاتنا هي كل ما نمتلك من معرفة, فإن السبيل الوحيد للبرهان على وجود اجسام خارجية, ومن ثم البرهان على صحة نظرية الوجود المزدوج, هو البرهان على ان الادراكات هي بالفعل صور الاجسام, وان هذه الاخيرة عل ة حصولها: فيتوجب علينا ان نتبين مثلا ان ادراكنا للكرسي هو صورة للكرسي كجسم مستقل ذي وجود خارجي , وان هذا الاخير لهو علة الادراك المقصود.
المشكلة ان هذا الضرب من الاستدلال غير متوافر لنا في موقفنا الراهن. فما نحاوله هنا إستدلال من معلول مدرك الى علة غير مدركة, اي إقامة علاقة ما بين الادراك (الصورة) بما هو معلول والجسم بما هو علة. بيد ان علاقة كهذه لا يمكن ان تستقيم طالما ان العلاقة السببية, تبعا لفلسفة هيوم, ما هي الا عادة شهود إقتران حادثتين او جسمين. ومثل هذا الامر غير متوافر لنا طالما اننا لا نعي إقترانا كهذا ما بين الصورة والجسم, وإنما نحن نحاول إقامة علاقة بين ما هو مدرك, اي الصورة, وما هو غير مدرك, اي الجسم, وهذا ممتنع. فليس من سبيل للإستدلال من المدرك الى غير المدرك.
وطالما ان الادراكات هي كل ما لدينا, فان الاقتران الوحيد الذي يسعنا الإحاطة به هو ذاك الذي ينشأ ما بين ادراكين. والسؤال المطروح والحالة هذه: اذا لم تكن الاجسام المزعومة هي علة الإدراكات, فما الذي يتسبب بوجود او ظهور إدراكات متنوعة ومختلفة في اذهاننا?
مثل هذا السؤال لا يمثل تهديدا لحجة هيوم. فالفيلسوف الاسكتلندي لا ينكر إنكارا موجبا وجود اجسام خارجية, ولا هو ينكر ان الاجسام, اذا ما وجدت, قد تكون علة إدراكاتنا. وقصارى ما يرمي هيوم التوكيد عليه, اولا , ان لمن غير الممكن ان نقيم علاقة ما بين الادراك والجسم المزعوم نظرا الى حقيقة ان الادراكات هي كل ما عندنا. وثانيا , ان حقيقة وجود إنطباعات لأجسام مختلفة, لا يدل لزاما , على ان الاجسام المعنية ذات وجود خارجي مستقل وبما يمكنها التسبب بحصول ادراكاتنا. والى ما ورد في حجة هيوم حول إعتماد الادراكات على الذهن, فإن إحتمال وجود غير إنطباع واحد للجسم الواحد ما يدل على ان وجود ادراكات متباينة لا يبرهن على وجود اجسام مختلفة.
اما في ما يتصل بزعم هيوم ان المخيلة لا تسوغ »نظرية الوجود المزدوج«, فيرى البعض ان هيوم لا يسوق حجة مقنعة بهذا الصدد وانما تراه يكتفي بطرح تحد .
والحق فلئن مال الفيلسوف الاسكتلندي الى تحدي الزعم القائل بأن المخيلة هي مصدر نظرية الوجود المزدوج, فإنه لا يتوقف عند ذلك. فهو حينما يجادل بأن المخيلة هي مصدر إعتقادنا المتداول بأن الادراكات اجسام تدوم بمعزل عن ادراكنا لها, إنما هو يجادل, في الوقت نفسه, ضد الزعم القائل بأن المخيلة هي مصدر نظرية الوجود المزدوج.
ولكن اذا لم يسع العقل او المخيلة تسويغ نظرية كهذه, فكيف امكن ورود هذه النظرية, او على الاقل ورود محض الظن بإزدواجية وجود المدرك وغير المدرك?
يرى هيوم- وهو كما نعلم عازم على إبانة مصدر حصولنا على افتراضات خاطئة كهذه, بقدر عزمه على دحضها- ان »النظام الفلسفي يكسب كل تأثيره على المخيلة بواسطة التأثيرات السوقية« (9). فأتباع الواقعية غير المرسلة انما يتبنون اولا وجهة نظر الواقعية المرسلة حول الوجود المستقل والمتصل لغير المدرك. غير انهم ما ان يوقنوا ان لا اساس راسخ لمثل هذه النظرة حتى يسارعوا الى دعمها من خلال تقديم عنصر إضافي مختلف. فعوضا عن القول ان الادراكات اجسام تدوم غير مدركة, فإنهم يقولون ان هناك إدراكات واجساما وإن الاولى داخلية وفانية, بينما الاخرى مستقلة الوجود بمعزل عن ادراكنا لها.
فما تحاوله نظرية الواقعية غير المرسلة هو مصالحة المخيلة والعقل. فعندها ان المخيلة تعتبر الإنطباعات المتشابهة متطابقة, في حين ان العقل لا يبرح ملاحظا الإنقطاع في سياق ظهور هذه الإنطباعات. الى ذلك فبينما تعزو المخيلة صفة الوجود المتصل الى الإدراكات الساكنة, من حيث هي ادراكات غير حاضرة الى الذهن, لا يسع العقل إجازة الظن بأن الادراكات موجودة حتى حينما تكف عن الحضور عنده. وعوضا عن ذلك فإنه يعزو مثل هذا الامر الى الاجسام(10).
-الإعتقاد بالوجود المتصل لغير المدرك:
قلنا ان المخيلة, تبعا لهيوم, هي مصدر الإعتقاد بالوجود المتصل لغير المدرك. فليس في مقدور الحواس او العقل إنتاج إعتقاد كهذا.
فمن التناقض للحواس ان تسوق هذا الاعتقاد طالما ليس في وسع المرء ان يحس , او ان يدرك ادراكا حسيا , ما قد كف عن إدراكه اصلا . فلئن وسع الحواس إنتاج فكرة او إعتقاد, على الاطلاق, فإنه سوف يكون الإعتقاد بالوجود المستقل لغير المدرك. وإذا ما كان من الممكن حصول هذا الامر, فإن في ذلك دلالة على ان حواس نا قادرة على التمييز ما بين الأجسام, بإعتبارها كيانات مستقلة, وما بين ذواتنا, بإعتبارها صاحبة الحواس. وهذا ما قد يسوغ لنا الإفتراض, وإن جدلا , بأن الأجسام مستقلة عن العقل, وإن في وسعنا التمييز ما بينها نظرا الى تباين خواص ها. ففي مقدور الحواس التمييز ما بين الكرسي والباب, مثلا , نظرا الى حقيقة ان كلا من هذين الجسمين ذات خواص تختلف عن خواص الآخر.
غير ان هذا الافتراض يلزم إفتراضا لاحقا حول طبيعة هذه الخواص. فلا بد وان تكون هذه الخواص متماثلة الطبيعة تماثلا ييسر تلقيها من قبل الحواس.
يتبع من ذلك ايضا ان خواص الاشياء لا بد وأنها على قدر من التماثل مع خواصنا, نحن الذات المدركة, الا لما امكن للحواس التمييز ما بين الاجسام وبيننا. فإستقامة المقارنة ما بين الاجسام المحسوسة والذات المدركة ادراكا حسيا , إنما ترسو على اساس طبيعة مشتركة ما بين المدرك والمدرك بما يتيح التمييز بعد ذلك ما بين خواصهما المختلفة.
ولكن هل مقارنة من هذا الطراز ممكنة?
يستبعد هيوم استقامة مقارنة كهذه نظرا لصعوبتين بارزتين:
اولا , انه حتى لو جاز لنا إفتراض الإدراكات كأجسام مستقلة, فإن لمن غير الممكن مقارنتها مع ذواتنا, الا اذا إعتبرنا هذه الذوات كينونات مستقلة هي نفسها وذات خواص من الطبيعة نفسها للأجسام الخارجية. فهل يسعنا القول ان ذواتنا المدركة بمثابة اجسام ميسورة للحواس كما لو انها اجسام خارجية?
لا شك وان قولا كهذا جائز, اذا ما إفترضنا ان الذات المدركة ليست »شيطا مفكرا«, وإنما هي جسد المرء نفسه, وان من الممكن التمييز ما بين هذا الجسد والأجسام الاخرى. بيد ان هيوم يعتبر مثل هذا الافتراض مغالطة شائعة. فنحن في الحقيقة لا ندرك اجسادنا كأجسام مستقلة: فـ »ليس جسمنا ما ندرك حينما ننظر بعين الإعتبار الى اطرافنا واعضائنا, ولكنها الإنطباعات التي تلج بواسطة الحواس« (11)
وهذا ان دل على امر فإنه يدل على ان المقارنة الوحيدة الواردة ما بين ذواتنا والاجسام الاخرى لهي المقارنة ما بين إنطباعات او إدراكات مختلفة, لذواتنا وللاجسام الاخرى. بل ان هذا ما يدل على اننا لا نستطيع إعتبار الإدراكات اجساما , وبما يفضي بنا الى الحديث عن الصعوبة الثانية:
هيوم, على ما بسطنا القول, يجادل بأن الادراكات كينونات ذات وجود ذهني الإعتماد. وهو قد أبان لنا من خلال الاختبار ان الادراكات لا يمكن الا ان تكون كذلك. اما الآن فإنه يضيف القول بأن سائر الادراكات, سواء كانت إنطباعات الصلابة والحركة والامتداد, اي ما يسمى, في رطانة »نظرية المعرفة«, بـ »الخواص الأولية«, ام كانت إنطباعات الذوق واللون والرائحة, اي ما ي عرف بـ »الخواص الثانوية«, ام إنطباعات اللذة والألم, لهي على قدم المساواة. فإذا ما حدث ان ظننا ان هذه الإنطباعات مستقلة عن الذهن, فإن هذا الظن مغالطة ليس في وسع الحواس إقترافها اصلا . وإذا وسع حواسنا خداعنا في ما يتصل بمواضع وعلاقات إدراكاتنا, فإن في وسعها خداعنا فيما يتعلق بطبيعة هذه الإدراكات, وهذا غير وارد عند هيوم, ذلك ان »سائر افعال واحاسيس الذهن معروفة عندنا من الوعي.. ومن اللازم ظهورها على ما هي عليه في كل صفة لكي تكون على ما هي عليه. « (12).
هذا بالنسبة للحواس. اما بالنسبة للعقل فيوظف هيوم المحاجة نفسها في دحض »نظرية الوجود المزدوج«. وخلاصة القول انه اذا ما كان العقل, او الذهن, مصدر الإعتقاد الشائع بالوجود المتصل لغير المدرك لكانت هذه النظرية صالحة. فقد يسع العقل ان يكون مصدرا لهذا الإعتقاد اذا ما افلحنا في الاستدلال من المدرك الى غير المدرك, اي اذا ما تمكنا من إقامة علاقة سببية ما بين الادراكات والاجسام, وهذا ما يصعب البرهان عليه كما رأينا عند تطرقنا لنظرية الوجود المزدوج.
-المخيلة:
ولكن اذا لم يكن اي من العقل او الحواس مسؤولا عن الاعتقاد بالوجود الخارجي المتصل لغير المدرك, فكيف تكون المخيلة اذن?
على الرغم ان سائر الانطباعات داخلية وفانية, وانها جميعا , الى ذلك على قدم المساواة, الا ان بعضها, على ما يضيف هيوم مستدركا , يظهر كما لو انه ذو وجود مستقل ومتصل. فبعض الانطباعات ذات خواص إستثنائية تجعلها تبدو إنطباعات خارجية. وهذا الظهور مرده الى المخيلة.
وخلافا لسابقيه, ديكارت ولوك, فإن هيوم يرفض الفرضية القائلة ان »الانطباعات الخارجية« تحصل بشكل قسري عندنا- فهو قد سلم بأنها إنطباعات تفرض نفسها على المدرك, لتوجب عليه ان يسلم بإستقلالية وجود هذه الانطباعات, وهذا ينسف نظريته.
يجادل هيوم انه لو كان هذا الزعم صحيحا لكانت إنطباعات مثل اللذة والألم, وهي الانطباعات التي تفعل فعلها بقوة, قسرية ايضا أسوة بإنطباعات الشكل واللون والإمتداد والصوت وغيرها من الانطباعات التي ي فترض انها تدوم, حتى بعدما نكف عن ادراكنا لها. وهذا الكلام الى العبث اقرب, اذ كيف يمكن للإحساس بالألم ان يدوم حينما لا نحس به بعد?
ولكن اذا لم تكن صفة القسرية هي الصفة التي تجيز إعتبار بعض الإنطباعات خارجية, فأية صفة تجعلها كذلك?
يتكلم هيوم عن صفتين: الثبات والإنسجام. الاولى هي تماثل بعض الإنطباعات على رغم ما يرد بين ظهورها من إنقطاع. فمثلا , عندي الآن ادراك للكتاب الماثل امامي, ولكنني اذا ما املت وجهي عنه للحظات قليلة, ثم عدت انظر اليه ثانية, فإن ادراكي الجديد للكتاب سيبدو لي الانطباع نفسه الذي خالجني من قبل.
لكن بعض الاجسام المفترضة قد تمر بتحولات كبيرة في صفاتها وخواصها ما بين الادراك الأول والثاني بما يجعل من المستحيل على المرء ان يعتبر الادراكين الاول مطابقا للإدراك الثاني- مثلا قد تكون المدة الزمنية الفاصلة ما بين الادراكين ليس بضع لحظات فحسب وانما ايام او اعوام. عليه فلابد من صفة اخرى, وهذا ما يقودنا الى صفة الانسجام. فيمكن القول في ضوء صفة كهذه ان ثمة انطباعات مماثلة لأجسام مختلفة نظرا الى ما يكمن بينها من إنسجام.
يسوق هيوم غير مثال واحد على قدرة الانسجام على إشاعة الإعتقاد في الوجود المتصل: مثلا قد أسمع صوتا مفاجئا , فيبدو لي اشبه بصوت انفتاح باب الغرفة. وعلى رغم انني لا ارى الباب اصلا , الا انني أعتقد على الفور بأن باب غرفتي قد ف تح. فحصول هذا الإعتقاد نتيجة خبرتي الماضية انني كلما سمعت هذا الصوت بالذات لاحظت إنفتاح الباب(13).
وعلى ما يجادل هيوم, يظهر الإعتقاد بوجود باب, قيد الفتح, رغم ان الباب المفتوح غير مدرك, في سبيل دفع التناقض ما بين سماعي لصوت يشي بأن الباب يفتح, وخبرتي الماضية في سماع الصوت المذكور مصحوبا برؤية الباب يفتح.
ولكن اين هو التناقض الذي يظهر الإعتقاد بالوجود الخارجي المتصل لكي يحول دون مغبته? فماذا لو حدث انني سمعت ذلك الصوت, ولم اعتقد على الفور بأن الباب قيد الفتح, فأي تناقض في ذلك?
فلكي يحصل التناقض المتحسب, فلا بد وان يكون عندي إعتقاد صادر عن خبرة ماضية انه كلما سمعت ذلك الصوت بالذات رأيت الباب يفتح. غير ان هيوم لا يقصد التناقض بهذا المعنى. والشرح الذي يسوقه لاحقا يبين ان الامر لا يتعلق بأي تناقض ابدا :
؛إنني معتاد على سماع صوت كهذا وفي الوقت نفسه رؤية جسم في حركة. بيد انني لم احصل على كلا الادراكين في هذه اللحظة بالذات. فهذه الملاحظات متناقضة الا اذا ما افترضت ان الباب لم يلبث قائما , وانه كان قد فتح من ادراكي له كذلك: وهذا التصور الذي كان في البداية معياريا وفرضيا يكتسب قوة وثباتا لانه الوحيد الذي يمكنني من التوفيق ما بين هذه التناقضات. « (14)
إن قراءة يقظة لهذه السطور تبين ان ما يقصده هيوم بالفعل هو ان التصور او الاعتقاد بأن الباب ما لبث هناك, وانه فتح من دون ادراكي له, لا يزيل تناقضا وانما في الحقيقة يعزز الانسجام ما بين الخبرة الماضية والخبرة الحاضرة.
إن من المهم التنبيه الى ان ضرب الإستدلال المتبع هنا في سبيل بلوغ الإعتقاد بالوجود المتصل لغير المدرك ليس هو ضرب الاستدلال الى العلاقة السببية. فإستدلال العلاقة السببية انما هو نتاج عادة مكتسبة من خلال التعاقب المنتظم للإدراكات, وان لمن الاستحالة بمكان على هذه العادة المكتسبة ان تتجاوز درجة إنتظام تعاقب هذه الإدراكات. هذا في حين ان عملية إستدلالنا من إنسجام الاجسام والخبرات الى الاعتقاد, بإستمرارية وجود غير المدرك, تتجاوز مثل هذا الانتظام. وكما ينبري احد المعلقين على نص هيوم فإننا في الاستدلال السببي نجادل من ادراكات نمتلكها الى ادراكات اخرى نمتلكها ايضا , بينما في حال الانتقال من الانسجام الى الدوام, تجدنا ننتقل مما عندنا من إدراكات الى إدراكات واوضاع لا نمتلكها(15).
-الاستدلال من الثبات:
على رغم صلاح هذه الحجة الا ان هيوم لا يعو ل عليها كثيرا , خالصا الى القول بأن صفة الإنسجام ليست من القوة ما تكفي لكي يستدل بها على الإعتقاد بالوجود المتصل لما غير المدرك. وعوضا عن ذلك فإنه ينكفىء الى صفة الثبات, وكان تطرق اليها من قبل.
وثبات بعض الانطباعات مما ي دعى »الانطباعات الخارجية« مستقى من خلال ملاحظة ان ادراك المرء لبعض الأشياء الآن, لا يختلف في أيما شيء عن ادراكه لها مرات عدة من قبل, على رغم الإنقطاع الواقع بين حالات الادراك المختلفة. فمثلا , ادراكي للشجرة الآن, وإدراكي لها قبل ساعة هما ادراكان متشابهان, وفرديا , متطابقان الى درجة يصدق القول بأنهما الادراك نفسه. بيد ان ما يحول دون فهم الامر على هذا الوجه حقيقة إدراكي للإنقطاع الواقع ما بين ظهوريهما.
فإذا ما سلمنا, جدلا , ان كلا من ادراكي للشجرة قبل ساعة وادراكي لها الآن هما الادراك نفسه, فإن هذا يملي علينا تفسير ما جرى لهذا الانطباع »الواحد«, على حسب الظن, خلال فترة انقطاعه ما بين ظهوره الاول والثاني. فهو اما انه يستمر في الوجود من دون ان يكون حاضرا الى الذهن. او انه يفنى, وفي هذه الحالة الاخيرة فإن الادراك الثاني يكون ادراكا جديدا , بما ي بطل الزعم بأن الاول والثاني ادراك واحد.
يزعم هيوم ان تناقضا لا مناص من وقوعه حيال الانقطاع في وجود الانطباعات المتشابهة من جهة, وهوية هذه الانطباعات العددية من جهة اخرى. وهذا التناقض هو الذي يحض »النزوع الطبيعي للمخيلة« بحسب تعريف هيوم, على سوق إعتقاد الوجود المتصل لغير المدرك كقناع غرضه اخفاء الانقطاع الواقع في الادراكات, وانه تبعا لتوافر قناع كهذا نخلص الى إعتبار الانقطاع المذكور انقطاعا في ظهور الادراكات وليس في وجودها.
ولكن كيف يحدث ان تصير فكرة الوجود المتصل لغير المدرك اعتقادا ?
يرى هيوم ان الاعتقاد هو بمثابة فكرة حية, وانها تكتسب الحياة من »ذاكرة الانطباعات المنقطعة, وما تمنحنا اياه من حافز لكي نعتبرها الانطباعات نفسها. « ومثل هذا الكلام لا يعني الكثير الا اذا تعرفنا على النظام الذي يسوقه, وهو نظام يتألف من اطوار مختلفة:
فهناك, مثلا , طور الهوية. وفي هذا الصدد يجادل هيوم ان الجسم يكتسب هويته من خلال توافر امكانية رؤيته في اوقات متباينة. فإنت اذا ما إكتفيت بالنظر الى الجسم نفسه مرة واحدة فقط فإن قصارى ما يسعك الخلوص اليه ان الجسم هو نفسه. وهذه خلاصة لا تفيدنا بأيما شيء ما عدا فكرة الوحدة. بيد ان رؤية الجسم مرات متعددة في الوقت نفسه لا يفيدنا ايضا بفكرة الهوية وانما بفكرة العدد. فكثرة الادراكات في وقت واحد انما تفضي الى فكرة العدد فحسب, هذا في حين ان فكرة الهوية هي تلك التي تجمع الوحدة الى العدد.
اما السبيل الى تعيين هوية الجسم فيكون من خلال تطبيق فكرة الزمن بمعونة »إختلاق المخيلة« على حد عبارة هيوم. فإختلاق المخيلة هذا يتيح لنا رؤية الجسم عبر الزمن من دون ملاحظة الإنقطاع الواقع ما بين لحظة زمنية واخرى لاحقة او سابقة- بما ان هذا انقطاع في ادراكنا للجسم.
فإذا ما كان هذا شرحا وافيا لكيفية عزونا هوية تامة الى الجسم, وكيفية تحققها وعدم إنقطاعها عبر الزمن ايضا , فإن في وسعنا المبادرة الى التحقق من السبيل الذي يفضي من خلاله ثبات الانطباعات المتشابهة الى نسب هوية عددية لها على رغم الانقطاع في ظهورها.
وينبغي علينا الاخذ بعين الحسبان ما يقوله هيوم في مرحلة مبكرة من »بحث مطو ل في طبيعة الانسان« فيما يتصل بمسألة التشابه بإعتبارها علاقة تربط الافكار ببعضها البعض. فتبعا لتفسيره الامر في حينه, فإن هذه العلاقة بالذات هي »المصدر الاخصب للخطأ« (15). فعلاقة التشابه هذه لا تسوغ فقط ربط فكرة بأخرى وانما استبدال الواحدة بالثانية. واذا ما حصل الانتقال من ثبات الإدراكات المتشابهة الى هويتها العددية, فهذا لان مثل هذه العلاقة تسوغ ايضا ربط استعداد ذهني بآخر واستبدال الواحد بالثاني. واذا ما حدث مثل هذا الربط والاستبدال تمسي الافكار المنقطعة متشابهة. فطبيعة الفعل الذي يؤديه الذهن انما تعتمد الى حد كبير على استعداده خلال ادائه هذا الفعل. فإذا ما كان هناك استعدادان ذهنيان متشابهان, فإن لفي وسع العقل الانتقال من واحد الى آخر بسهولة ومن دون ان يغير طبيعة الفعل الذي كان يؤديه خلال استعداده الاول. وهكذا فكما يصار الى نسب هوية تامة لاي جسم, يصار الى نسب هوية عددية الى إنطباعات متشابهة. ذلك ان إستعداد العقل خلال إدراكه جسم ذي هوية تامة شبيه بإستعداده حينما ي قبل على معاينة مسلسل الاجسام, او الادراكات المتشابهة. وهذا يعنى ان نشاط العقل كإدراك جسم ذي هوية تامة هو النشاط نفسه عند ادراكه تعاقب سلسلة من الاجسام المترابطة. وان استمرار النشاط خلال إنتقاله من جسم الى آخر لهو يسير يسر إستمراره في ادراك الجسم ذي الهوية التامة.
على هذا الوجه يكون إستبدال مسلسل الاجسام المترابطة بالهوية العددية, وكذلك الامر بالنسبة للإنطباعات المتشابهة. فتربط علاقة التشابه افكار الادراكات المنقطعة واضعة العقل في استعداد يتيح له الإنتقال من فكرة الى ثانية مؤديا دوره كما لو انه يدرك ما هو غير منقطع وثابت. فإستعداد الذهن خلال معاينته الافكار المترابطة شبيه بإستعداده خلال معاينته الادراك الثابت, ومن ثم فإن نشاط العقل واحد في كلا الحالين بما ينجلي عن تعريف الإنطباع الواحد بالإنطباعات الاخرى الشبيهة.
إن تعيين السبيل الذي يصار بموجبه نسب الهوية العددية الى الإنطباعات المتشابهة يجعلنا على تناقض مع ادراكنا للإنقطاع في ظهور هذه الإنطباعات. اما مصدر التناقض فهو الادراكات المتعارضة لكل من المخيلة والحواس. فالمخيلة تحضنا على الظن ان انطباعاتنا المتشابهة, متطابقة الهوية, بينما تجعلنا الحواس ندرك الانقطاع الواقع في هذه الانطباعات.
ومثل هذا التناقض يؤدي الى اضطراب يجهد الذهن الى التخلص منه. اما السبيل الى ذلك فيكون في تخلص الذهن من احد نمطي الادراكات المتعارضة: ادراكات المخيلة او ادراكات الحواس. ولكن بما ان التضحية بإدراكات الاولى غير ميسورة, فلا مناص من السعي الى التخلص من ادراكات الثانية لا سيما وانها هي التي تقدم الوعي بالانقطاع في ظهور الانطباعات. ومن ثم فإننا نفترض ان هذه الانطباعات متصلة وثابتة خلافا لما يشوب ظهورها من إنقطاع.
بيد ان مخرجا كهذا ليس بحل نهائي للتناقض. فالانقطاع قد يكون جليا جلاء من المحال تجاهله. فمثلا , الانقطاع ما بين ادراكي الاول للشجرة وادراكي الثاني لها, تبعا للمثال السابق, قد يكون مديدا بما قد ينجم عن صعوبة لا تنكر في تعريف الادراك الاول بالثاني بما يتوافق مع العرف السائد في تعريف الانطباعات المتشابهة. وحيث ان ظهور الانطباع الى الذهن لهو وجوده ذاته, فليس من اليسير الافتراض ان الانطباع غير متغير او منقطع حينما يكون غائبا عن الذهن زمنا طويلا .
وتكمن الصعوبة هنا في تقديم تفسير مقنع بأن الانقطاع في ظهور الادراكات لا يلزم إنقطاعا في وجودها. غير ان هيوم يلتمس التفسير المنشود في الإعتقاد الشائع بين الناس, بمن فيهم الفلاسفة, ان الادراكات اجسام محسوسة ذات وجود خارجي مستقل عن إدراكنا لها. وما هذا الإعتقاد, على ما يزعم الفيلسوف الاسكتلندي, الا بمثابة نتاج نزوع المخيلة الطبيعي.
ولكن كيف يحصل امر كهذا?
لقد جادل هيوم ان وجود الادراكات ذهني الإعتماد, فكيف يجوز الزعم بأنها (الادراكات) تدوم من دون ان تكون حاضرة الى الذهن ايضا ? ثم كيف لها ان تختفي وتعاود الظهور, ولأجل مديد احيانا , من دون ان تمر بتغيرات عظيمة?
إن اجابة مقنعة على جل هذه الأسئلة تتوقف على فهم ماهية الذهن عند هيوم:
الذهن, يقول هيوم »ليس سوى كومة من الادراكات المختلفة, مرتبطة ببعضها البعض عبر علاقات معينة, او مفترضة, وإن إفتراضا خاطئا , انها موهوبة بصفة البساطة والهوية التامة. وبما ان كل إدراك قابل للتميز عن الآخر يمكن ان يعتبر موجودا وجودا مستقلا فمن المحقق ان يتبع ذلك ان لا شطط في الظن بإنفصال اي ادراك عن الذهن, اي قطع كافة علائقه مع كتلة الإدراكات المترابطة التي يتكون منها الكيان المفكر. « (17)
فقد يستمر الإدراك في الوجود وان لم يكن حاضرا الذهن, بما هو عليه الذهن من كومة الادراكات المترابطة. يتبع ذلك ان الادراك وان كان غائبا عن الذهن فإنه لا يشهد تحولات مهمة. الى ذلك فمن الواضح ان الفرضية المغالطة في الذهن بأن الادراكات بسيطة وذات هوية تامة هي التي تجعل الإعتقاد بالوجود المتصل والمستقل لغير المدرك واردا .
بيد ان هذا الاعتقاد, على ما يستدرك هيوم, ليس محض هبة من إختلاق المخيلة, او امر حيازة اية فكرة, وإنما إكتساب فكرة ذات قوة وحيوية بما يخو لها ان تكون إعتقادا . وعلى ما سبق القول, فإن هيوم يعزو مصدر القوة والحيوية التي تجعل إبتكار المخيلة هذا إعتقادا (اي الوجود المتصل والمستقل لغير المدرك) الى الانطباع الدقيق في الذاكرة. وكما هو معلوم فإلانطباعات ادراكات دقيقة ترسل قوتها وحيويتها الى الافكار التي ترتبط بها. وهذا يحصل لان العلاقة القائمة ما بين الانطباعات والافكار المرتبطة بها توفر إنتقالا سلسا ما بين الاولى والثانية. وعلى هذا المنوال ينتقل الذهن من الانطباع الى الفكرة حاملا حيوية الاولى الى الاخرى من دون ادنى عائق يعوقه.
إن نزوعا للمخيلة طبيعي, هو نفسه ناجم عن العلاقة ما بين الانطباعات والافكار, ما يجعل رحلة الذهن ما بين الاولى والثانية قابلة للحدوث سلسة. بيد ان ثمة نزوعا آخر للمخيلة, طبيعي ايضا , وإن لم يصدر عن العلاقة ما بين الافكار والإنطباعات, وإنما عن الإنطباعات الدقيقة للذاكرة, هو الذي يسوق فكرة الوجود المتصل والمستقل مزودة, بفضل صدوره عن الانطباعات الدقيقة للذاكرة بما يكفي من القوة والحيوية ما يجعل الفكرة المذكورة إعتقادا طبيعيا بالوجود المتصل والمستقل لغير المدرك.
– إعتقاد هوام حقيقة:
ولكن اذا ما كان هيوم قد افلح في تقديم شرح لكيفية إكتسابنا الاعتقاد بوجود واقع خارجي , فهل افلح ايضا في تجنب السؤال اذا ما كان ثمة واقع خارجي اصلا ? فالامر يتوقف على مدى نجاحه في تجنب الوقوع في شرك الإجابة على مثل السؤال.
يعتبر هيوم طرح هذا السؤال من قبيل العبث. وعلى بسطنا القول, فهو يرى ان من المتوجب علينا ان نسلم بوجود واقع خارجي لانه اعتقاد طبيعي لا يسعنا الاستغناء عنه مهما بلغ الشك بنا مبلغا . بيد ان الحض على إلتزام موقف كهذا قد يشي ان هيوم يعتبر الاعتقاد بوجود واقع خارجي بمثابة تمثيل لحقيقة قائمة- اي وجود واقع كهذا بالفعل. فيمضي ج. رايت, احد المعلقين على نص هيوم, بأن هناك محاجة قوي ة لصالح هذا التصور. ذلك ان فلسفة هيوم, على ما يزعم رايت, لا تصدر عن مقدمة منطقية بوجود واقع خارجي فحسب, وانما تسوغ الخلوص الى ان هناك ادراكات هاربة واجساما مستقلة وغير متغيرة(18).
وهذا ان دل على امر فإنه يدل على ان هيوم, وخلافا لما يزعم, لا يرفض »نظرية الوجود المزدوج« وإنما في الحقيقة ي صادق عليها.
يجادل رايت انه من دون هذه المقدمة المنطقية لا يسع هيوم الخلوص الى ان كل ما نعيه من إدراكات ذات وجود ذهني الاعتماد. ولكن هيوم, كما سبق ورأينا, يدحض الفرضية القائلة بأن الادراكات اجسام مستقلة تدوم في الوجود غير مدركة. وهو بمعونة إختبار بسيط يبرهن على ان التغير الحادث في الادراك او الجسم, عائد الى حالة المدرك, وليس الى الادراك, او الجسم, نفسه.
اما رايت فيميل الى الاستنتاج ان كلام هيوم هذا يبين ان التغير يحدث في ما يسميه بـ »الجسم الإدراكي« وليس »الجسم الحقيقي«, ومن ثم فإن الاول يختلف عن الثاني. وما يحاوله رايت هنا هو إعتبار تصريح هيوم بضرورة التسليم بوجود واقع خارجي تسليما مبدئيا , بمثابة المقدمة المنطقية لحجته القائلة ان الادراكات ذهنية الاعتماد. فمثل هذه المحاولة تتيح له الخلوص الى انه اذا ما كانت حجة هيوم صالحة, فلا بد وان مقدمتها المنطقية صالحة ايضا .
ولكن هل يحتاج هيوم الى مقدمة منطقية كهذه? بحسب رايت, فإن هيوم اذا ما شاء البرهان على ان الادراكات ذهنية الاعتماد, فلا مفر له من الانطلاق من مقدمة كهذه. فإن أحجم فقصارى ما يسعه البرهان عليه هو ان التغي ر الحادث في خواص الاجسام مرده الى المدرك نفسه, ومثل هذا البرهان لا يكفي لإرساء الزعم بأن الادراكات ذهنية الاعتماد- فالتغير في خواص الجسم, لا يملي بأن لا وجود للجسم خارجي ومستقل.
ولكن رايت يبدو وكأنه اخفق في فهم معنى الجسم, او الادراك, عند هيوم حق الفهم. فالجسم او الادراك, ما هو الا جملة الخواص التي يتكون منها. وما يسعنا ادراكه في النهاية خواص, او صفات, نظير الصلابة والامتداد واللون والطعم..الخ, وكل هذه ادراكات تستوي على قدم المساواة بحسب هيوم. فخواص, او صفات, الكينونات التي يسعنا ادراكها ليست خواص مادة قائمة بذاتها, بحيث اذا ما تغيرت الخواص تبقى هي (المادة) على ما هي عليه, وانما الخواص هي المادة نفسها للجسم المدرك. فإذا ما تغيرت, والتغير مرده الى المدرك نفسه, فهذا ما يدل على ان الجسم قد تغير. واذا لم تعد حاضرة الى الذهن فإن هذا يدل على ان الجسم لم يعد موجودا .
على هذا يجوز الخلوص الى اننا نعرف ان الاجسام, او الادراكات, ذهنية الاعتماد من دون ان نعتبر الانطلاق من التسليم بوجود واقع خارجي مقدمة منطقية. ولكن الا تقودنا مثل هذه الخلاصة الى إنكار وجود واقع خارجي في النهاية? ذلك انه اذا ما جازت هذه الخلاصة, فأية فائدة من ضرورة التسليم بوجود واقع خارجي تسليما بديهيا ? ولئن كان »كل شيء يظهر الى الذهن ليس بشيء الا بمثابة ادراك, ومن ثم فهو قابل للانقطاع, ومعتمد في النهاية, في حضوره على الذهن« (19) الا يعني ذلك ان هيوم مرغم على التسليم بصحة النهاية التي يبلغها باركلي بأن »الوجود المطلق للأشياء غير المفكرة, من دون ادنى علاقة الى حقيقة انها مدركة, لهو وجود ممتنع على الفهم امتناعا مطلقا «?(20)
يوجهنا فوغلين, احد نقاد نظرية هيوم, وجهة هذه الصعوبة, زاعما انه على رغم حرص هيوم بأن يتجنب الخلوص الى موقف باركلي هذا, الا انه يخفق في الفرار منه. فخط الجدل الذي يتبعه هيوم, خاصة ذاك الذي يرمي من ورائه الى دحض الواقعية المرسلة وغير المرسلة, لهو مواز لخط باركلي الوارد في احد محاوراته الشهيرة:
»انك تعترف« يسأل فيلونوس هيلاس, في المحاورة الاولى, »انه لا يمكنك ان تتخيل كيف من الممكن لأيما شيء ملموس ان يوجد الا في الذهن? « (21)
فإذا ما كانت هذه هي الخلاصة التي لابد لهيوم من الخلوص اليها, فكيف يمكنه الاصرار على ان من المتوجب علينا ان نسلم مبدئيا بوجود الجسم, او بالضرورة الواقع الخارجي?
غير ان هذه هي المهمة التي يتولى هيوم القيام بها اصلا – اي ان يبين لنا انه, على رغم حقيقة ان الادراكات هي كل ما يسعنا وعيه, وإنها (الادراكات) داخلية وفانية, فإننا مع ذلك نؤمن ان هناك اجساما مستقلة توجد غير مدركة. وما هذا الا إعتقاد طبيعي لا يسعنا إنكاره.
وكما رأينا, فإن هيوم يعيد هذا الإعتقاد الى المخيلة الا ان ما يمك نه تجنب خلاصة باركلي تلك إفلاحه, اولا , في التمييز ما بين ظهور الادراكات ووجودها, وثانيا , إبانة السبيل الذي يصار من خلاله الى تحو ل الفكرة بوجود متصل للإدراكات ومستقل, الى إعتقاد.
يبين هيوم انه بفعل فرضية خاطئة في الذهن نصل الى الإعتقاد بأن الادراك قد يوجد على نحو مستقل عن الذهن بما هو »كومة الادراكات المترابطة«- وهذا ما يعني ان يمكن ان يوجد من دون ان يكون حاضرا الى الذهن.
غير ان مثل هذا الزعم لا يمكن ان يحمل على محمل الرد المقنع لما يقصده باركلي بإستحالة تخيل وجود كيان ما من دون ان يكون مدركا . فحتى وإن وسع الادراك الوجود وجودا مستقلا عن الذهن, وعلى النحو الذي يصوره هيوم, فإن هذا لا يرقى الى القول بـ »الوجود المطلق للاشياء غير المفكرة«, والذي هو, على حد باركلي, عصي على الفهم عصاء المستحيل.
غير ان من المجانب للدقة إعتبار هذا القول بمثابة الرد على خلاصة باركلي. فالرد الفعلي انما يكمن في ما يسميه هيوم بـ »الفرضية الخاطئة«- اي فكرة الوجود المتصل لغير المدرك بما هي فكرة تساق في سبيل حل التناقض ما بين هوية الانطباعات والوعي بالانقطاع في ظهورها. وما ان تمسي هذه الفكرة إعتقادا , على ما سبق الاشارة والايضاح, حتى يتبدى لنا كيف يفلح هيوم في تجنب الخلوص الى خلاصة باركلي: اي يصير الاعتقاد قابلا للتصور, خلافا لما يزعمه باركلي.
-إحياء الشغف المهمل:
يبقى السؤال, اخيرا : كيف يكون اثر شرح هيوم لإكتسابنا الاعتقاد بوجود واقع خارجي على الشغف المذكور في مستهل هذا المقالة (ومن ثم السؤال حول طبيعة معرفتنا للغير) هو ما حض كاتب هذه السطور على إلتماس العون منه اصلا ?
لقد ساق هيوم نظاما وضعيا سيكولوجيا , يتراوح ما بين اللغة المتداولة للإعتقاد الشائع بالوجود المتصل لغير المدرك (الجسم المستقل او الواقع الخارجي), واللغة الفلسفية التي تعي وتعي ن الاعتقاد بما هو كذلك- من هنا, على سبيل المثال, التأرجح ما بين الكلام على الجسم والادراك والانطباع والفكرة- فهو لئن اصر على ضرورة التسليم بصحة هذا الاعتقاد تسليما مبدئيا , كان لابد له من استخدام اللغة المكافئة للإيمان بمثل هذا الاعتقاد, الجسم, الواقع الخارجي..الخ. وهو إن شاء ان يحلل مصدر هذا الاعتقاد, بإعتباره محض اعتقاد كان لابد له من استخدام لغته هو التي تعتبر الجسم, او الواقع الخارجي, محض ادراك داخلي وقابلا للفناء.
هذا النظام المذكور انما يتلخص على الوجه التالي: ان الاعتقاد بالوجود المستقل والمتصل للواقع الخارجي يتكون من فكرة وحيوية يصار الى إكتسابها من ذاكرة الانطباعات المنقطعة. الفكرة نفسها يصار الى اللجوء اليها بفعل نزوع طبيعي للمخيلة يهدف الى حل التناقض ما بين هوية الانطباعات المتشابهة والانقطاع الحادث في ظهور هذه الانطباعات.
غير ان التناقض نفسه ما هو الا حصيلة خطأين ذهنيين, الاول عزو هوية تامة الى الجسم او الادراك. الثاني, ونتيجة الخطأ الاول, اعتبار الانطباعات المتشابهة بمثابة إنطباع واحد.
ولا مراء في ان فحصا دقيقا لهذا النظام قد يبرهن انه ينطوي على عيب كبير بما يجعل شرح هيوم لطبيعة الاعتقاد المذكور ادنى من شرح واف . في الوقت نفسه يمكن القول ان هذا الشرح في عموم سياقه ينطوي على مبررات تسوغ المصادقة عليه والاخذ به. ولكن المهم في الامر, في حدود ما يعنينا على الاقل, ان هذا الشرح وان افرد للشغف المذكور حيزا عمليا للتحقق فيه, فإنه من حيث هو شرح وضعي سيكولوجي لا يسوغ الحافز الاخلاقي والجمالي لذلك الشغف وحتما لا يبرر غرضه الخلوص الى ان معرفة الغير بمثابة محاولة لمعرفة لغز لا يمكن حله.
فالاعتقاد بالوجود المستقل والمتصل لغير المدرك, تبعا لهيوم, هو نتيجة حدوث طبيعي وليس اعرابا عن ارادة واعية. لهذا فهو يحصر شرحه في إطار نظام معرفي سيكولوجي بما يملي ضرورة الاعتقاد الذي نعتقده, بما قد يحول دون توظيفه (اي الشرح) في سبيل نبذ الاعتقاد او تعليقه, وبالتالي, ما يؤول بغرض هذه السطور, اي اعتبار معرفة الغير اشبه بمعرفة اللغز, الى طريق مسدود.
غير ان هذه ليست النهاية. ومقالة اشعيا برلين المشار اليها في البداية تشي ان مفهوم هيوم للاعتقاد ينطوي على وعود غير مصرح بها, بما يدل على ان الشغف الكامن خلف الانغماس في فلسفة هيوم اصلا لم يستنفد نفسه بعد.
يبين لنا برلين كيف ان يوهان هامان وفردريك جاكوبي وغيرهما من آباء من ينعتهم بأصحاب »النزعة الالمانية المضادة للعقلانية«, وهم ذاع شأنهم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر, حملوا مفهوم هيوم للاعتقاد على محمل الايمان بقوة الادراك الفوري والمباشر للذات والعالم الخارجي والله. فهولاء انما رفضوا جل دعاوي التيارات العقلانية والتنويرية التي ترى بأن المعرفة, لا سيما معرفة العالم الخارجي والله, على اساس مقولات ثابتة ونظريات معرفية ونظم مجردة يصار الى إكتشافها وصوغها من سبيل العقل. وبحسب هامان, مثلا , فإن المعرفة تكتسب حصرا من خلال المواجهة المباشرة مع الواقع على ما تزودنا به الحواس والغريزة والمخيلة, وعبر الرؤية الفورية وغير القابلة للتناقض, لكل من الشاعر والعاشق والانسان صاحب الايمان المتواضع(22). فعند هامان, ليس هناك معرفة, الا من خلال الحس المباشر بالواقع والايمان الذي لا يمكن دحضه من سبيل العقل, طالما انه ليس حصيلة العقل. اما المعارف التي يصار الى بلوغها, فلا تحتاج الى إثبات او برهان, فهي ليست موضوعا للشك. وحتى وان كانت ضربا من الهذيان فليس في وسع الحجج العقلانية والنظريات العلمية تصحيحها.
وعلى ما يخلص برلين في مقالته هذه:
»حاول هامان ما لا يقل عن نقض شامل لقيم عصر الانوار. ففي مكان المجرد والعام شاء ان يضع الملموس والخاص, وفي مكان الابنية النظرية والوتائر المفصلة والكيانات المجردة تجريدا مثاليا مما جاء بها العلماء والفلاسفة, وضع المعطى المباشر, غير المتوسط والحسي . لقد كان رجعيا بالمعنى الحصري للعبارة, اي انه شاء الانكفاء الى التقليد القديم لعصور الايمان: النوعية مكان الكمية, اولوية المعطى, وليس الفكر التحليلي, الخواص الثانوية المدركة بشكل فوري, وليس الخواص الأولية المستدل عليها إستدلالا , المخيلة الطليقة وليس المنطق.. « (32)
كيف لاسم هيوم ان يرتبط بجماعة من هذا الطراز? كيف لفيلسوف, شاك وملحد, ويعتبر من رموز عصر الانوار ان يصير عونا لمن بلغ بهم الورع والتقوى حد التسليم بالايمان الخرافي الاعمى?
ليس هذا السؤال من قبيل الاعراب عن استهجان طالما ان توظيف فيلسوف بمنزلة هيوم في سبيل دعم حجج متفاوتة ومتضاربة امر وارد للغاية, وإنما هو بمثابة تمهيد للوقوف على تلك المزاعم والحجج من فلسفة هيوم, ما أجاز توظيفه من قبل هامان وجاكوبي واتباعهما.
وتبعا لما يعرض برلين, فإن هناك على الاقل ثلاثة مزاعم. فهناك اولا , مفهوم هيوم للإعتقاد بإعتباره نتاج المخيلة وبالتالي نتاج نزعة الحساسية في الطبيعة الانسانية, وليس النزعة العارفة. ثانيا , هناك الزعم ان الذهن, وخلافا لاتباع التيارات العقلانية, لا يسعه التقدم في خطوات منطقية إستنادا الى تقرير حقيقة حول العالم. فالذهن ليس عضو إكتشاف المعرفة, كما هو الامر عند ديكارت ولايبنتز وسبينوزا, وإنما هو محض قدرة على الربط والايضاح والتآلف, وتنعدم عنده اية طاقة على الخلق والوحي. وعلى هذا فإن هيوم ينسف الزعم بوجود حقائق قبلية, مطلقة ميتافيزيقية او منطقية, يصار الى بلوغها من سبيل العقل وعلى نحو سابق للخبرة.
وهناك, ثالثا , دحض هيوم للظن بالصلة الضرورية ما بين علة ومعلول. وكما لاحظنا سابقا , فإن العلاقة السببية المزعومة, ما هي عند هيوم الا نتيجة عادة ملاحظة إقتران عنصرين او حادثين في الطبيعة. لهذا فإن إستدلال من المدرك الى غير المدرك لهو امر ممتنع بحسب هيوم. ومن ثم فإن الاستدلال الى وجود عالم خارجي مستقل, او بالضرورة وجود الله, إنطلاقا من الادراكات لهو امر لا يصدق.
مثل هذه المزاعم وغيرها جعلت هيوم يظهر بمظهر »الحليف في معسكر الاعداء« بالنسبة لأصحاب النزعة المضادة للعقلانية. فحتى وان ساقها هيوم في سبيل مرام مختلفة تماما , فإن ما فيها الكثير مما يبين ان معرفة للواقع الخارجي والله لا تصح بالاستناد الى العقل او مقولاته الثابتة ونظمه المجردة, وإنما من خلال المعرفة المباشرة والفورية وبواسطة الحواس والمخيلة وصوت الوحي.
ونحن لا يعنينا كيفية توظيف المعادين للانوار والعقلانية لفلسفة هيوم, وتحديدا إعادة صوغهم لمفهوم الاعتقاد في سياق ديني وصوفي مختلف تماما لذاك السياق العلماني الذي ولد في كنفه, وإنما حقيقة امكانية توظيف كهذا. وخلافا لأولئك الذين قد يأخذون على اصحاب هذه الضرب من التوظيف نزعتهم الاجتزائية والإنتقائية, فإننا نرى انهم قد ارشدونا الى سبيل لتوظيف إبتكاري يشجع على الخلوص بأن اي توظيف ذي معنى او جدوى لابد وان »يجتزىء« و»ينتقي«. فمثل هذا السبيل لهو ما يمنح الفكرة فرصة للحياة والازدهار في سياق آخر, وبما هو اجدى بكثير من الادعاء بالاخلاص الى النص الفعلي او الهوية المنسوبة لصاحبه.
ونحن ان شئنا العثور على نظرة فلسفية تسوغ لنا الوقوف تجاه الآخرين وقوفنا حيال لغز لا سبيل الى حله, يحسن بنا ان نضحي بالسياق الاصلي للنص, وتحديدا بوصية هيوم, ان يجب حمل الاعتقاد على وجه الاعتقاد الطبيعي الذي لا يمكن الاستغناء عنه, وعوضا عن ذلك, الخلوص الى ان فلسفة هيوم, لا سيما فيما يتصل بمسألة الواقع الخارجي, لا تبرر فحسب القول ان لا صلة قابلة للتأسيس ما بين المدرك, بما هو حصيلة جملة إنطباعات وافكار يصار, بفضل النزوع الطبيعي للمخيلة, الى إعتبارها إعتقادا بوجود خارجي, وما بين غير المدرك بإعتباره الواقع الخارجي. وإنما ايضا ان هذا الاعتقاد, بما هو إعتقاد اصلا , قابل للإنتباذ او التعليق بما يفسح المجال للوقوف ازاء الغير موقف ذاك الناظر الى لغز.
هوامش:
1) من كتابه »ضد التيار- مقالات في تاريخ الافكار«, اكسفورد, 1981.
2) يسوق الناقد الايرلندي دنيس دنهيو تعريفا ملائما بالمعنى المقصود هنا. وما على الراغب الاستزادة في هذا الامر سوى تصفح كتابه »الفنون من دون لغز«, او يمكنه الإكتفاء بتلخيصنا له في احد الاعداد الاخيرة من اسبوعية »بريد الجنوب«.
3) »بحث مطول في الطبيعة الانسانية«, الطبعة الثانية, اكسفورد, 1978.
4)المصدر السابق.
5) المصدر السابق.
6)آثرنا إستخدام مصطلحي جون رايت »الواقعية المرسلة« و»الواقعية غير المرسلة« عوضا عن مصطلحي هيوم »النظرة السوقية« و»النظرة الفلسفية«. فمصطلحا رايت أذوق واشد عملية.
7) انظر الشرح الوافي الذي يسوقه ب. سترود لمشروع هيوم الفلسفي: »هيوم«, لندن, 1977.
8) »بحث مطو ل في الطبيعة الانسانية«. سبق ذكره.
9)المصدر السابق.
10) المصدر السابق.
11)المصدر السابق.
12)المصدر السابق.
13)المصدر السابق.
14)المصدر السابق.
15) جون سميث, نقلا عن كتاب ج. بنيت »لوك, هيوم, باركلي«, اكسفورد, 1971.
16) »بحث مطو ل في الطبيعة الانسانية«, سبق ذكره.
17) المصدر السابق.
18) »الواقعية الشكوكية لديفيد هيوم« مانشستر,1983.
19) »بحث مطو ل في الطبيعة الانسانية« سبق ذكره.
20) نقلا عن فوغلين »شكوكية هيوم في بحث مطو ل في الطبيعة الانسانية«, لندن, 1977.
21) باركلي »ثلاث محاورات ما بين هيلاس وفيلونوس- ضد الشكاك والملحدين« لندن, 1962.
22) »ضد التيار- مقالات في تاريخ الافكار« سبق ذكره.
32) المصدر السابق.
سمير اليوسف ناقد من فلسطين مقيم في لندن