«وإذا بُشّرَ أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مسودّاً وهو كظيم»
– القرآن الكريم (آية 57) سورة النحل .
«المرأة ُ زنجية ُ العالم»
– لويز دين/ رواية: أن نصبح أغراباً – ص65
«إنّ الكراهية َ أكثرُ ذكاءً مِنَ الحبِّ»
– كارلوس فوينتس / كرسي النسر-ص350 .
«سوفَ تخرجُ جميعُ النساء من حياتي»- فرلين..!!. المرأة ُ- حمامة ٌ وديعة، كسيرة ُ الجناح، وعشُّها نهب الريح !!
الرجلُ – إمبراطور من شمع ٍ، بكرسي صدىء، وأوسمة من أوهام !!
الذكورة والأنوثة عالمانِ أزليان، بتضاريس كونية مختلفة، يلتقيان ِ في صحو ٍ كاذب ٍ، ويفترقان على برق ِ غيم ٍ كاذبٍ !!
رواية «رحلة الضياع»* تقولُ أكثرَ من ذلكَ، صفحاتها الممغنطة العشرة سفور القصيدة، ممهورة بتوقيع الكاتبة والروائية د. سهير المصادفة، بأصابعها العشرة من دون تردّد أوْ ندم !!
:»قرّرتُ منذ ُ عام ٍ تقريباً أنْ أرمي يمينَ الطلاق على هذهِ الحيوانة الصغيرة.. أمسكُ بها بقرفٍ من شعرها الطويل، وألقيها خارجَ بيتي كما ألقي فأراً ميتاً»- الرواية ص9.
. حبٌّ ملحٌ كالهبوط الاضطراري متبادل بين الراوي (جمال إبراهيم) والزوجة (نرمين) .. حبّ ليسَ فعّالاً في عالم ٍ «عبارة عن مؤسّسة متاهية هائلة»-حسب تعبير ميلان كونديرا .. حبّ مُقلِق، في عيون حيرى أكثر قلقاً، يُقزّمُ فيه مخلوق شفّاف، وهو يعيش لحظة عشق ِ صادق، يبني عليها حياته التي تبدو مضطربة، بل آيلة للسقوط، وهو الطرف الثاني (الأنثى) التي تسكبُ الروائية لأجلها دمعاً لؤلؤياً، وهي (الزوجة) التي لاينقصها شيء سوى أنّها (عاقر)، والطرف الأول (الرجل) و(الزوج) حالة قلق ٍ مزمن ٍ أخرى تسيرُ بقدمين، وتفكّر إلى الوراء، من دون أن تنتهي إلى شيء .. ربّما يتغلبُ الرجلُ (الزوج) على حالتهِ المستعصية هذهِ باحتقارهِ لنفسهِ تارة ً، فهو «مجرّد ظلّ لهذا العجل» – ص12 واحتقاره رئيسه في العمل (العجل) رئيس تحرير الجريدة التي يعملُ به، الذي لا يفقهُ شيئاً في الكتابة ولا في الصحافة، وهو كريه منفّر حسب البورتريه الذي يرسمهُ له البطل « جمال إبراهيم»: «أدخلُ على وجهه المسودّ الكظيم ٌ الذي لايعكسُ إلاّ كراهية كلّ ما حولهُ من بشر ٍ وأشياء، والأهمّ كراهية نفسه» – ص13.
.ورئيس تحرير الجريدة هوَ الصورة المعبّرة لصاحفة تسيرُ وفق قوانين وتعليمات النظام العثماني البائد، فهو مكروه، جاهل، غير مقنع مهنياً، ويُعوّضُ كلّ ذلك من خلال الأوامر والإيعازات بلا معنى، وبلا حدود والتي جعلت العاملين في المؤسسة الصحفية يظنون أنفسهم في مركز شرطة أو نقطة أمنية، إذ أنّ المكان حافلٌ بكلّ صور الكراهية والمؤامرات والخوف والنميمة والزهق أيضا، حتّى أن البطل المدعو (جمال إبراهيم) يجدُ الصحافة مهنة ً شاقة، بلْ كثيرة عليه، وهو الكسول المخبول، فاقد التوازن لكثرة إيعازات وأوامر واقتراحات رئيس التحرير:» في الحقيقة لمْ أخلَقْ لأكونَ صحفياً، فأنا كسول للغاية، ومخي لايبدعُ أيّ شيء جديد، وهناك عطبٌ في مشاعري» – ص15.
.البطلُ (جمال إبراهيم) حالة ُ قلق ٍ دائمة بامتياز !!
يُحبّ ويكرهُ في الآن، يعتدّ بنفسهِ ويحتقرها في الآن، شعورٌ دائمُ بالإحباط، وشعور أكثر قتامة أنّهُ ظلُّ إنسان، وما يجمعُ بينهُ وبينَ الآخرين هو الاستعطاف ابتداءً من رئيس التحرير(عصام الشواني)، وانهاءً برفقائه في العمل .. حالة عدم ثقة بالنفس، وبكلّ مَنْ حوله، بما فيهم زوجتهُ الجميلة التي تحبّهُ وتسهرُ على راحته، وتحقّق لهُ حلمه في السرير، وهو يصفها بـ»العاهرة» .. حالة قلق مرضية مستديمة، مقرونة بسخرية مرة من نفسه واحتقارها وتصغيرها .. تبدو شخصية (جمال إبراهيم) صورة كاريكاتيرية، يُمكن أن تكتملَ بها صفحات الجريدة التي يعملُ بها، لا ككاتب جاد، بلْ كرسك كارتوني معبّر عن شخصية مهزومة، ومصدر رثاء وضحك في الآن :» يبدو أنني لمْ أحبْ أبداً أبي، ومن حسن حظهِ انهُ ماتَ وأنا في السابعة من عمري، في الحقيقة أنا لاأشعرُ بذنبٍ ما إزاء مشاعري تلك، فلقدْ حاولتُ كثيراً أن أحبّهُ، ولكنّني لمْ أستطع»- ص22.
هذا الاضطراب النفسي يحوّلُ (البطل) إلى شخصية غامضة جدّاً ايضاً، والغامضُ أكثر والمُثير للتساؤل كراهيته لأبيه، من دون سببٍ، فهو لم يذكر أنهُ كان يضربه أو يُؤذيه أو يحتقره، ليقترب قليلا ً من صورة الأب التي كانت لدى الروائي العابث الفاضح (محمد شكري) في روايته (الخبز الحافي) وهويصفُ كراهيته لأبيه الذي كانَ يضربه، ويضطهدهُ، فيضطرُ إلى شتمه ولعنه في سرّه، وهو ينتظر اليوم الذي يموت فيه كيْ يتبولَ على قبره :» حينَ يموت أبي سأزور قبره لكي أبولَ عليه، إنّ قبرهُ لنْ يصلحَ إلاّ لمرحاض»- الخبز الحافي ص 104.
. « المرأة ُ زنجية العالم» – لويز دين !!
هكذا تبدو المرأة في «رحلة الضباع»، فالبطل (جمال إبراهيم) منطلقاً من بحار قلقهِ الصاخبة الأمواج، وهو يرفع راية الكراهية، يرى كلّ النساء في صورة الزوجة(نرمين)، فالمشاعرُ « صورة عفوية للسلوك» كما يقول كارلوس فوينتس .. يتخذ (جمال) موقفاً سلبياً من الأنثى – وهي سكنه الدافىء في ظلمةِ روحهِ وأيامه، لتبدو حسب رؤاه مخلوقاً زائداً على العالم، ويسعى إلى تكوين (اتحاد) للرجال ضدّ الأنثى، من أهدافهِ المكتوبة بحبر الكراهية الترويج لانقراض المرأة:»ولطالما حلمت بأنْ يتحد كلّ رجال العالم فيتركونهن بنتفنّ شعر بعضهن البعض وينهشنّ لحم بعضهمنّ البعض، ومَنْ سيتبقى منهنّ سيكفي كلّ رجال الدنيا، لأنهنّ في الحقيقة كثرٌ»- ص 36.
«شِكْ في كلّ ما حولكَ، وسيفهمُ كلٌّ منّا الآخرَ»- كارلوس فوينتس / كرسي النسر ص 183.
الشكّ مرض الرجل بلا دواء، حسب آخر رويشته كتبتها الروائية سهير المصادفة على لسان أنثاها، إذ صعب أنْ يشفى منه (جمال إبراهيم)، فثقته بالمرأة (الزوجة) معدومة تماماً، لنقصٍ فيه، كما تقول سطور الرواية، واكتمال فيها كما تقرّ – سهير المصادفة، علاقته بزوجته تنمّ عن كراهية لا مثيل لها، ويجدها « أكثر ذكاءً من الحبّ»- كما قالَ فوينتس، كراهية من طرفٍ واحد، فهي زوجة مطيعة، ومحبّة لزوجها، وحريصة على ضوء بيتها، ولمْ يلحظ عليها أي سلوك شاذ وغير أخلاقي، وشكهُ وكراهيته وقلقهُ جعله يرثُ أعراف وتقاليد عرب الجاهلية الذين قاموا بوأد الأنثى – المعادل الموضوعي للعار حسب تفكيرهم الظلامي المقيت، تلك العادة الذميمة التي أنكرها عليهم القرآن الكريم، واستهجنها وهو يعطي المرأة حقّ الوجود – الحلم – الحياة :» ألم يكنْ العرب أذكياء بدرجة كبيرة عندما اكتشفوا في الجاهلية، إنهم لنْ يستطيعوا التخلص من فتنة المرأة وعارها إلاّ بوأدها حيّة بمجرّد ولادتها ؟ أنا لمْ أفهم أبداً ما أهمية المرأة في الحياة، ذلك المخلوق البائس المكون من أعضاء لا تصلح كلها إلاّ للجنس والولادة» – ص43.
هكذا يبدو (جمال إبراهيم) بطل الرواية حسب البورتريه الذي ترسمهُ لهُ الروائية سهير المصادفة، بلغةٍ ملغمةٍ أحيانا، وإذا ما انفجرت، وكرّرت من علامات استفهام القبيلة وأعرافها، فأنّها ستكون سيلاً من الكلمات الفاضحة والعارية، تحجبها ورقة التوت، لحالة رجل ٍ (ديناصور) هوَ نابي في رؤاه، ومخجل وفاضح يدعو إلى الرثاء في تفكيره المريض، إمبراطور من شمع،يفقد كرسيه الصدىء بحرس تخلفه، ونظرته للأنثى التي مهما بدت صورتها في مرآة واقعه الذكوري (جحيماً )، فأنها (جحيم عذب) كما يرى شاعر الحداثة الرائي الكبير آرتور رامبو :» فالنقود في حقائب النساء مفسدة، لا يدري سوى الشيطان فيمَ يمكن أن ينفقنها» – ص 49.
حسن عبد الصبور» أحد الضباع، وهو من فصيلة (جمال إبراهيم)، ولكنْ اقلَّ قلقاً، وبروح ترتوي وتستقيم باللذات الطازجة، صحفي لايملك شيئاً غير شقة مهجورة على سطح بناية متهالكة كما يبو، ويمارسُ فيها كلّ أشكال الرذيلة مع (فتيات) (وديعات ) ضحية مجتمع، يائسات (لأنهنّ إناث) مقهورات حياتياً واجتماعياً، يأتين إلى غرفتهِ الخانقة طائعات، باحثات عن حبٍّ مؤقت، يعوضنّ خيبتهنّ وانكسارهنّ بممارسة أقدم وأرذل مهنة في التاريخ .. « عبد الصبور» شريحة اجتماعية، غابت الشمسُ طويلاً عن روحه، فظل يبحث عن لاشيء، في حياة لا شيء، وهو لا أحد، يعبش كمخلوق طارىء على وقته وزمنهِ الذي تنبعث منه رائحة الصدأ والعفونة، بعمر اللذة والمتعة المؤقتة التي تمنّ عليه بها أجساد فتيات يعشنّ أيضاً في اللازمن، ومتوجات بلعنات الحياة، وخيانات الذكور:»إنّ المرأة نوعان لا ثالث لهما يا (حسن) واحدة تبحث عن الحبّ الأبدي والسكن في أحضان زوج، وواحدة عاهرة، وأنت تصطاد الفتيات من النوع الأول بـ«طعِم» الحبّ، ثمّ تهجرهنّ فيتحولنّ على الفور إلى قاتلات أو عاهرات» – ص 55.
«إنّ أكثر الرجال قسوة هو أكثرهم افتقاداً للأمان، فهم قاسون لأنّهم يخشون ألاّ يكونوا موجودين، تمنحهم القسوة صكّ الهوية» – كارلوس فوينتس / كرسي النسر – ص 148.
البطل (جمال إبرهيم) أقلّ اماناً، بلْ الرجل الفاقد الأمان بتفوق، سيكولوجياً هو مجموعة عُقد، بلْ عدّة أمراض مستعصية، وأشرس هذهِ الأمراض التي تفتكُ بجسدهِ ووقته، وتضع كبريتاً في غابة أفكاره، هو الشك، يودي بحياته، وسعادته، ويحيلهُ إلى صورة كارتونية مبكية ومضحكة، فالكاميرا التي عملَ على تركيبها في بيت الزوجية، لمراقبة الزوجة (نرمين)، ومعرفة كلّ حركة من حركاتها، تسجّل لهُ فوزاً نفسياً في دفتر شكّهِ المضطرب الحروف والجمل، إضافة إلى شكّهِ أيضاً في أمّه، كيف ولدته؟ ومن أين جاءت بهِ ؟ وكراهيته لأبيه من دون ذكر أسباب ..، في كراهيته للزوجة وهي المتفانية في حبّه وراحته، وكراهيته لنفسهِ، واحتقارها، وهو يجدُ حتّى وظيفة صحفي كثيراً عليه:» أنا كمْ أكره هذهِ المرأة، أكرهُ وجهها الذي تجمّدَ فجأة ً وشعرها الحريري المرفوع وغمازتها، اكرهها» – ص66.
وعن كراهيته لأمّهِ وشكّه فيها:» السؤال نفسه الذي صارً كابوساً ثابتاً يأكلني أكلاً: هل كانت حاملاً من أبي أثناء حياته القصيرة، ثم اجهضت نفسها وألقت ابنها على كوم زبالة ؟ من أينَ أتت بهذا الولد ؟» – ص 73.
وكراهيته لأبيه : كأنّ كراهية هذا الرجل لمْ تكن شغلي الشاغل أيضاً طوال حياتي، حتّى أنني كنت أخترع أسباباً لكراهيته، ربما لمْ تكن تنتمي إليه، وكنتُ أستغرب من نفسي، ومن مدى كراهيتي له» – ص 78.
. يقولُ إفلاطون :» إنّ الكتابة مثل الجريمة التي يرتكبها الأبُ، لأنّها تستمرُ تحملُ المعنى بعدَ غياب المتحدّث» ..!! ولأنّ الكتابة « تشبهُ الحبّ» كما يقول آنردس فيومان، فهي عادة البطلة (نرمين) الصحية، وأداتها لمقاومة شراسة وقتها المسوّر بإعازات الذكورة، ومداهمات الضباع .. هي (نرمين) الأنثى التي تجدُ نفسها كتلة ً من كلمات، امرأة من كلمات، وبضمير والإحساس المرهف للكاتبة سهير المصادفة، فانّ بطلتها – بعض ذاتها، إذا لم ذاتها، فهي أكثر ماتعشقهُ في الحياة هو الكلمات، وربّما لأنّ « الكلمات تمتلكُ سلطة» – كما يرى بورخيس!
و(نرمين) و(كتابتها) هي سبب كلّ هذا الاضطراب النفسي والجسدي الذي يعاني آلامه المزمنة (جمال إبراهيم)، وهما سبب الغيرة والكراهية القاتلة، المقرونة بحقدٍ دفين أشدّ قتلاً : « فقدْ يكون النظر للمروحة أثناء دورانها طقساً من طقوس الكتابة لدى هذهِ المرأة»- ص83.. ورغبة قاتلة في معرفة أكثر لحركات الزوجة (نرمين)، .. هي لا ترى مايُدبّرُ لها، وهو يًسخّر ويشغّل عينيه وكاميرته، وكل جزء من جسدهِ كي يتابع كلّ حركة منها، بلْ كل رمشة عين : « لمْ أكنْ أعرفُ ماذا تفعلُ هذهِ التي أؤويها في بيتي طوال وقت غيابي « – ص83.. كراهية غير مسبوقة، يرفعُ لها رياة ً غير خفاقة وبالية، يبدو تحتَ ظلالها ضعيفاً، متهالكاً، وهما ً، شخصاً كاريكاتيرياً، بلا ظل، بلا خطوات، فقط لوحة شك، مرسومة بفرشاة متهالكة، وألوان قاتمة، ترسمها ذاكرته التي لا ترتقي إلى هيبة النسيان: «كمْ أكره هذهِ المرأة» و«كنتُ أعرفُ أنها تدخنُ من خلف ظهري»- ص84.. هو فريسة أفعى التناقض والشك، هي كما تبدو في عدسة عينه جميلة، بلْ فائقة الجمال ساحرة، ولكنها على أسفلت رؤاه المتخلفة، ووابل شكوكه، وقلقهِ، واضطرابه صورة مشوشة، ليسَتْ بريئة، فعادة التدخين لديه، ولدى فكره المتهالك، ورؤاه البالية مرتبطة بـ(العاهرات والراقصات»، و(نرمين) في نظرهِ (حشرة)، وهو يكرهها، معترفاً بقصورهِ الثقافي وهزاله الفكري، وأنهُ مثقف إعلاني ديكوري فقط :» يبدو أن هذا سهلٌ معرفته، فانا لا أفتح أيّ كتاب في البيت إلا لماما ً، وإنما أتباهى أمام ضيوفي بتلك المكتبة»- ص85.
وبينً وابل الاضطراب والشك والقلق، لحظات تأمّل طارئة، كأمطار الصيف، لكنها تعيدُ للروح بعض استقرارها، حينَ يجلسُ إلى نفسه، ويعرفُ جيداً ان جمال هذهِ المرأة (الساحرة) و(العاهرة) كما يصفها هو السبب في انعتاقه، ولحظات تأمّله السعيدة : « ما الذي يمنعني أنا زوجها من الهجوم عليها لكي أنهال على وجهها الضاحك اللذيذ تقبيلا ً» – ص 90. كأنّهُ يراها للمرة الأولى، فيُدهشُ، ويختلط الأمرُ عليه، حينَ يغضب، ويقسو عليها، وتأخذهُ دموعها الحجرية إلى عالم آخر، لا يخلو من صعقات تردّد واضطراب وقلق:» هلْ دموعها هذهِ من تأثير كلماتي الغاضبة وإهانتي لها، أمْ من عجزها أمام مطاردة الكلمات لها» – ص92.
الرواية ُ استكشافُ الحياة الداخلية للإنسان»- ريتشاردسون !
ورواية « رحلة الضباع» لحظات قاهرة للصراع المحتدم لـاكيد الوجود .. صراع الرجال (الضباع) حيث تشمخُ مملكة الذكورة، المتوّجة بتأييد الكون، مبدعي الحروب والغزوات وناشري بخور الخيانات، المباركين بفقهٍ ديني وأخلاقي لا علاقة لهُ بفقه الروح .. وصراع النساء (الأنوثة) عصافير الجنّة، وهنّ يٌؤسّسن لمملكةِ الجمال والحنان والدفء، بلْ اساس الجمال في الحياة، وزهور الوجود، وهو صراع وجود، أمام (ذكوررة) حاكمة و(فحولة) مُزخرفة في أحضان الأنوثة – أوركسترا الحياة، وكمال الأشياء ..!!
وحكاية (نرمين) عبرَ هذهِ (الفانتازيا) الرائعة التي نسجتها أصابع الروائية المدربة على إيحاء القصيدة، وأراجيح الخيال، هي حكاية (الأميرة) التي «عاشت في سالف الأزمان، أميرة جميلة في قصر منعزلٍ في إحدى الغابات مع حبيبها، أحياناً يدّعون أنها رومية، وأحياناً يدّعون أنها حبشية، وأحياناً يدّعون أنها من بلاد الفراعين، المهم أنّ الأميرة نعمتْ بهذهِ الجنة لردح ٍ من الزمان»- ص101 .. لكنّها المرأة (نرمين) أخرى، وهي تتحملُ الصعاب، وتفقدُ شبابها في رضاء وحبّ (الحبيب) (الرجل)، رأت الحبيب وتاهت في ملامحهِ الشمسية، وتفاصي أحلامه الخلبية، ولمْ تتذوق على يديه عسل الحنان، كذلك كان (جمال إبراهيم)، وقدْ كانت (نرمين) تراهُ بملء العين والجسد، وتستقبلهُ بمنطق القلب « الذي لهُ عقلهُ الخاص» كما يقول كارلوس فوينتس، وهو يراها بعين فحولته، وغريزته، تراهُ حبيبا إلهياًً جميلاً ويراها كريهة وحشرة وعاهرة ..!!
حكاية (نرمين) هيَ حكاية الأنثى في كلّ زمان ٍ ومكان ٍ ..!! حكاية (الحبابة بنت أبيها ) التي اشتهرت بجمالها، لكنّها لا تملك قدراً ضئيلاً من الحظ في دنياها وهي تشعلُ السعادة في قلب وجسد الرجل :» حاولتُ انْ أستبقيه، فأمسكتُ بطرف جلبابه، فاستدارَ وركلني كما يركلًُ شيطاناً، وجزّ على أسنانهِ، بينما اتّسعت عيناه على آخرها حتّى رأيت فيها الجحيم القادم..
-أغربي عن وجهي ياامرأة وإلى الأبد، إذاما رأيتك مرة ً ثانية سأحزّ رأسك هذا عن جسدك» – ص104.
جميعهنّ يشتركنّ في قدر ٍ قاتم ٍ واحد، قدرُ (الأميرة) هو قدرُ (الحبابة) وهو قدرُ (نرمين) في عالم الذكورة، الرجال (الضباع) المشفوع أبداً بقانون المغفرة إذ « كلّما تقدمنا أكثر يظل متفشياً في مجتمعنا قانون عرفي واحد، مغفرة كلّ خطايا الرجل، أمّا المرأة فلا» – كارلوس فوينتس – كرسي النسر 225.: «فكانوا أمامَ عجزهم عن اللحاق بها ينتحونَ بها جانباً وينكحونها ضاربينَ إيّاها بأرجلهم وفيها النعال» – ص 107.
ولم يشفع لـ(نرمين) جمالها وحبّها لزوجها وبيته، وهي تعيش في بيتٍ يخنقهُ دخان الشك والاحتقار والكراهية وحتّى البذاءة.. ولمْ يشفع لــ(الأميرة) جمالها الساحر، وتضحيتها بشبابها من أجل الحبيب الذي آثر النكران والجحود .. ولم يشفع لـ(الحبابة) صوتها الملائكيّ الذي امتلكت بهِ قلوب الرجال (الضباع) وهي من حجر ٍ وإسفلت : « كانَ صوتها يفتحُ الضوء على آخرهِ في القلوب المظلمة، ويتسلل إلى الروح مباشرة دونما المرور على العقل أو القلب» و«إذا ما غنّت الحبابة يتوحدون مع تغريد طيور أسطورية لمْ يسمعوا صوتها من قبل»- ص109. التضحية أبداً هي شعار (الأنثى) وكان ذلك شعار بطلة الرواية (نرمين)، أمّا النكران والأنانية والشك والخيانة فهو شعار الرجل – الحبيب الهلامي، أسير شهواته وغرائزه ومطامعه باسم (نصرة الله والحق)، والحقيقة هي باسم الغنائم من المزارع والجواري: « ركلني في رأسي، كأنني أنا عدوته، وصاح في خدمهِ ومماليكه :
-خذوها وألقوا بها في الصحراء، واتركوها هناك حيّة، لتلتهمها النسور الجارحة» – ص 120.
.» فتّش عن المرأة» – سقراط !!
لكنّها لمْ تلعب مع الغيم هذه المرة، فتضطجع، كما صورها أدونيس، لأنّها امرأة – المصادفة بطلة (رحلة الضباع) الفاعلة في مجتمع الرجال – الضباع الذي ينخرهُ سوسُ الأنانية والتعالي، هي المرأة (نرمين) بجمالها، وهي (بدور) في عبقريتها وعقليتها وسحرها، وهي تحمي قومها، رغمَ مافيهم من رجال ٍ قساة:»مايقرّبني من غايتي لكي أعمل عملَ الساحرة (بدور) لقومها، فأحميهم من العدوان ومن أنفسهم»- ص128.
« الحبابة بنت أبيها» يوجعها ما يفعلهُ الرجال، بقلوب ضباع، وتتمنى أن تؤدي دور (بدور) كي تقتلع قلب وأحشاء الضباع من أجسادهم التي أدمنت القتل والموت والدم والركل، والقتال المفتعل باسم الدفاع عن الدين وعن الله، وماهمُ عليه من قوانين غاب جائرة، لايأمر بها الإسلام ولايرضى لها الله ..(الحبابة) وجدت(الليث بن آسيد) أخاً طيباً، ورفيق درب ورحلة إلى اللامكان .. وهوَ وجدَ الجمال طريقه إليها، وكلاهما باحثان عن الحقّ الذي بدا غائماً تحت لمعان سيوف الرجال المتناحرين :» أحاولُ أنْ أبحثَ عن هذا الحقّ الذي يريدون رفع رايته، فلا أجدُ إلاّ الخصام»- ص135.
ولكنّها المرأة – المنقذ التي تؤنث الزمان والمكان، ويُعوّل عليها الرجال، كما رآها الفيلسوف ابن عربي، وهي التي ستقتلع قلوب الضباع، وتجتثها من جذورها من أحشاء الرجال الذين يتفنّنون في العداء والقتل، والسعي إلى تسليحهم بقلوب زهور ربيعية، وتلك مهمة الأنثى فحسب :»
-هلمي ياامرأة !! اسرعي، إنهم يجتزونَ رؤوس بعضهم البعض، ويقطعون الأعناق كأنها أعناق دجاجات، ويطأون صدور بعضهم البعض بالأقدام، لقدْ رأيت مَنْ ألقى جاره تحتَ سنابك الخيل، ومنهم مَنْ كانَ يدور بسيفهِ راقصاً، فتطير الرؤس زهقت في هذا اليوم أرواح كثيرة، إنهم لنْ يوقفوا هذا الأمر إلاّ إذا نزلت لهم معجزة من السماء»- .ص138
و»لا أحد سواكِ يستطيع إعادة هؤلاءِ الرجال عن جلود الضباع التي يرتدونها» – ص 137.
(البقية بموقع المجلة على الانترنت)
.» لذاكرةِ الكتابة قوة عجيبة، إنّها الزمنُ المستعادُ، أنْ تكتبَ هوَ أنْ تستعيدَ مجرى الزمن» – هنري ميللر/ ذكريات الثمانين –ص164.
(نرمين) تكتبُ لتجدّدَ الذاكرة، لتقاومَ فيروس الملل والرتابة، لتعيش، لتحيا، لتكون موجودة، لتتحرّر من السجن الذكوري (الضباعي) الصديء الأبواب والأصفاد، لترى الحياة بعين الأنثى التي تشبهُ عين النسر التي لا تراوغ، الأنثى – المكمّل لجمال الحياة، وكلّ موسيقا الكون !!
(جمال إبراهيم) أمّي حقيقة ً، وكاتب صحفي مجازاً، لا يكتبُ ولا يقرأ، لديه مكتبة، ولكنّه مثل حمار ٍ يحملُ أسفاراً، باعترافهِ هوَ ن رغم أن مهنته تتطلب القراءة الكثيرة، ولكنّه يُؤثر البلادة، ومُدمن كسل ٍ بامتياز، ثقافته الوحيدة مزامير شكّه، وقلقه واضكرابه، سيكولوجياً هو إنسان غير سوي، مضطرب، ويجهلُ حتّى ما يدور بفكره وعقله المحنط، مشدود بحبال، كحبال ليل امريء القيس المشدودة بجبل (يذبل):» ولا يظهرُ منها سوى عينيها اللتين تلتهمان كتاب طه حسين (على هامش السيرة)، أنا لمْ أقرأهُ، يبدو أنني لمْ أقرأ شيئاً من الكتب التي أقتنيها على الإطلاق» – ص 196.
رجلٌ منقرض، مشدود إلى أعراف وتقاليد بالية، لمْ تعُدْ لها أبجدية، لا يرى في المرأة إلاّ رفيقة فراش، ومكمّل للسرير، وآلة تفريخ، وينبغي أن تعاملَ بقسوةٍ وجفاء، هي لا سلطة لها، السلطة الأزلية فقط له، للرجال .. للضباع، وهو بلا أحلام تفضّض ليلهم الطويل، وتجمّل نهاراتهم، الذكورة دولة بلا حدود، ولكنّها خارطتها من رمل ٍ وقش وضباب وإسفلت :» كنتُ أتايعُ نفسي وهي تتنازلُ شيئاً فشيئاً عن قهرها، بما توارثناه نحنُ الرجال كوثيقة سريّة بيننا، اكسرْ ضلوع المرأة ضلعاً فضلعاً تزحفُ تحتَ قدميك، وتتمرغ عليها كقطةٍ مجروحة» – ص 196.
حتَّى وهو يبحثُ عن امرأةٍ أخرى، مستودع شهوته، وساحة لخيل فحولته، وكآلة تفريخ لرضاء أمّه وأختيه، بولادة حفيد، فأنّ المرأة القادمة لاتحملُ إلاّ عواصف الرعب والقلق له، والمزيد من الكراهية لجنسها، وكأنّهُ جُبِلَ على كراهية عالم المرأة، ولا شفاء من هذهِ الكراهية إلاّ بالجنوح إلى الرؤى والأحلام، من خلالهما فقط يرى جمال المرأة :
«- يا أهلاً وسهلاً !! الحاجة والدتك كلمتني عنك كثيراً يا أستاذ جمال ..
قلتُ وقدْ انخلعَ قلبي من الرعب من فرط حدّة صوتها الذي كانَ يشبهُ كثيراً سكيناً مثلوماً يحاول قطع لية خروف..
-يًشرفني يا مدام (سمية) أنْ ننسى الماضي بتاعك وبتاعي، ونبدأ حياة جديدة بإذن الله» – ص 196.
. في رؤى هذا الرجل القلق المضطرب تصبحُ (نرمين) الزوجة الأولى حُلماً آسراً، وهي تملأ البيت بأنغام صوتها الناعم، كعصفورة امتلكت تاج الصباح القرنفليّ، وهي تطلقٌ زقزقتها، لترتّب صباحات ومساءات بيته الذي يبدو مظلماً كئيباً موحشاً في غياب (نرمين) الأنثى الساحرة :» لماذا لا أذهبُ إلى نرمين الآن وأقبّل يديها تلك التي تكتبُ الترهات، ثمّ أنامُ على صوتها الناعم، وزقزقتها في أرجاء بيتي صباحاً ومساءً» – ص197.
(نرمين) الحُلمُ الذي غابَ، وتبخّر من قاع عينيه الهالكتين، وهوَ يراقبُ كلّ حركاتها وسكناتها بحقدٍ، وغيرة، وكراهية لمْ يخلفوا لهُ إلا جرح الندم.. (أمُّهُ وأختاه) ليسوا سوى (جلادات)، و(سمية) الزوجة القادمة قبيحة :» ينزاحُ حجابها عن شعرها المصفر بتلك الصبغة المقيتة التي تشبهُ كثيراً شوربة عدس فسدتْ منذ أيام»- ص 197.
و(جمال إبراهيم) يخلو من الذكاء، ولا يمتلك قيراطاً من الحنككة والخبرة التي يمتلكها الرجال، هو ماهرٌ في فنّ الكراهية الذي لاتحف بحروفه إنسكلوبيديا الكون والحياة، يكرهُ حتى نفسه، حين يجدُ نفسه مدحوراً مخذولاً منكسراً أمام صلابة (نرمين)، وثقتها بنفسها، وقوة ذكائها، جعلتهُ يشعرُ أنّهُ هو المراقبُ، وليستْ هي، ولهذا يزدادُ قلقاً ورُعباً من رنّة تليفونها المحمول:» يرنّ منبه تليفونها المحمول برنّة تشبهُ خرير صنبور معطوب، وكمْ كنتً أكرهُ تتلك الرنّة كثيراً « – ص 199. كراهيتهُ لـ(نرمين) لا تغيرُ شيئاً فيها، فأصابعها الجسور لا تتوقف وهي تعزفُ أجمل الكلمات على (الكي بورد)، وبسرعة الضوء والصوت معاً، .. الكراهية تنقصُ من أيامهِ هو في مستنقع شكّهِ وقلقهِ :» وأصرخُ معلناً كراهيتي المطلقة لها، وأنا أراها تجلسُ بثباتٍ وتدق على حروف الكي بورد بسرعةٍ مذهلة، ومتواصلة ودون توقف» – ص200.
هكذا هو (جمال إبراهيم) رجلٌ بلا خطوات صباحية لأيامهِ القادمة الغامضة، يختصرُ لحظاته الجارحة بالقلق، بالشك، بالمزيد من الكراهية، الأنثى كابوسهُ الأبدي، يضيق ذرعاً حتّى بصوتِ أمّهِ وأختيه، ولا يبقي حتّى فسحة الأمل والنجاة المتمثلة ببشمس أيّامه (نرمين) التي يكرهها من دون أسباب، وهويخفي إعجابه الوقتي المريب بها أحياناً :» هي امرأة لا تغضب مثل بقية النساء مهما فعلت بها، وهي لا تريدُ إلاّ العيش جواري، ووضع رأسها لتتشمم رائحتي التي تحبّها» – ص 207.
رجلٌ كتلة ٌ من التناقضات، بجسدٍ ناحل ٍ مرتبك، وعينين مراوغتين بغباء مُفرط، وقلب إسفلتي لا ينبضُ إلا بالشك والكراهية: « اضبط نفسي وهي منحازة إلى عراريات الأذرع والبطون، أنا الذي أفرضُ على ذات الغمازة المثيرة النقاب، ولا يرضيني هذا أيضاً، بلْ أريد أن أفرضَ عليها أدوراً لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وجميعها من أجلي»- ص 208.
ومن خلال سطور كتاب قلقهِ المتنافر والمعقّد الحروف، المرتبك الجمل، الرخيص الخيال، ذي البلاغة الخاوية، ليسَتْ هناك مقارنة بين (سمية) الزوجة الثانية التي تقلقهُ فوق قلقهِ المزمنضحكتها وهي « البقرة التي تعيش في بيته» وبينَ (نرمين) مُطلقته- حُلمهُ الذي تبخّر، وهو يراها على شاشة التلفزيون، متحدثة بلباقةٍ ورقةٍ وجمال،ولا يرى لحظتها إلا أن « تخترقُ روحي شاشته لأصلَ إلى وجهها وألمسهُ، بلْ أقبّلهُ» – ص211.. لكنّ أحاسيسه ومشاعره وعواطفه الفياضة تجاه (نرمين) وُلِدتْ متأخرة ً جداً، وهو لمْ يعُدْ « صالحاً عصر اللشيء» سوى التفكير والبحث والتفتيش عن « علاج يشفيني من محبتها في الأسفار القديمة والجديدة».. وهيهات !!
.» كلّ الرجال يخشونَ المرأة القادرة على التفكير والعقل بمفردها» –كارلوس فوينتس / كرسي النسر – ص 228.
تلكَ هي إحدى شذرات فكر الروائية سهير المصادفة في (رحلة الضباع)، فالمرأة فريسة هؤلاء الضباع حتّى انتهاء الزمان !! وهم الرجال المحدودون الذين تشحُ في رؤوسهم ررؤى الأيام القادمة، وهمُ يسيرونَ بعكازين باليين، لايتعدى تفكيرهم سيلَ غرائزهم وشهواتهم الثائر أبداً، فرسانٌ في الليل، وجبناء صغار ضعاف في النهار، هذا ببساطة ما تقولهُ (رحلة الضباع)، وتؤكّدهُ وتناصرُ لهُ بمعلقات شعرية ربيعية الإيقاع الشاعرة – الروائية د. سهير المصادفة !!
المرأة – الأنثى هي مشكلة الرجل سليل العصر الحجريّ، وعقلهُ لا يستنير إلاّ على مزامير غريزته، وهي الحمامة الوديعة، ياقوتة بكلّ خجلها الملائكيّ، فريسة ضباع .. صقور .. كائنات جارحة .. نهمة :» بعدَ كمْ صرخة استغاثة، وكمْ طعنة مؤلمة، وكمْ أمنية، وكمْ من مشهدٍ من مشاهد ذكرياته في هذهِ الحياة ستموت فريسة الضبع الذي يلتهمها حيّة؟ وإذا كانت لمْ تزلْ عيناها ترى، فماذا سيكون شكل عينيها ياترى، وهي ترى بقية قطيع الضباع، وهوَ يتكالبُ عليها»- ص213.
. يبتعدُ البطل (جمال إبراهيم) عن زوجتهِ (نرمين) وهو في حالةِ ظمأ لها، في حالةِ جوع ٍ جسدي، وتقابلهُ الزوجة الوديعة بالحنان، وهو يقابلها من دون حبّ – الصلاة الروحية الواجبة، هي ملكهُ حتى هذهِ اللحظة، قبل الطلاق، وقبل ان يقترنَ بتلك الغريبة التي يرى صوتها كصوت بقرة، ليقضي وطراً بمشاعر زخرفية، وميول حيوانية:» يا إلهي عليّ جلبها إلى البيت الانَ لكي نقضي آخر يومين في حياتنا معاً»- ص216.
. الرجلُ في (رحلة الضباع) شبحٌ، لا شيء يضاهي رغباته، بلا عواطف، لمْ تنبت على تربة روحهِ شجرة حنان واحدة، مريض بذاتيته .. ووساوسه .. وغرائزه، خيال مجرد خيال، ولكنهُ مفزع في شكوكه وحركاته .. (جمال) زوج ولكنه على ورق رسمي بال ٍ، ودود مُبرمج في فراش المتعة، كاذب زخرفيّ المشاعر، كاره، شكّاك فوق التصور، .. تلك هي صورته التي تدعو إلى الرثاء في (رحلة الضباع) ..!!
المرأة في (رحلة الضباع) وديعة، متفردة وأسطورية في حبّها وحنانها وإخلاصها، ملكة متوّجة بجمالها الملائكيّ، تحكمُ ولكن بقانون الإغواء إذ» لا شيء اجمل من الإغواء في العالم» – بتعبير باولو كويلهو !!
:»وتقرأين في فضاء الحجرة أنّ الكراهية قدْ تضاعفت، وليكنْ ما عليك عملهُ هو الهروب من أمامه حتّى تنفذي بجلدك سالمة إلى السرير»- ص219.
السرير !! حيث عطر الغريزة الفاضح، وثورة الشهوة، هو مكان الأمان للأنثى الوديعة المسالمة من الرجل – الغول، على هذا المكان تنتهي كلّ بطولات وعنتريات النهار، وتصبح الغريزة أعلى سلطة على الجسد .. على الرجل إذ « لاشيء يُؤلمُ الجسد كالرغبة» – كارلوس فوينتس .. والأنثر قادرة بامتياز على امتصاص واختزال كلّ هذهِ البطولات الذكورية على خريطة جسدها العاري، فالرجالُ قساة ٌ وإلى الأبد :» كانت تقولُ لك لما رأت أنكِ صرتِ أنثى: إياكِ وأن تستسلمي لحبّ الرجال، فهم قساة»- ص223.
الرجلُ صائدٌ قاسٍ، متوحش نهم، تركَ كتاب عواطفه ومشاعره وأحاسيسه فوق رفّ متربٍ قديم .. المرأة الوديعة فريسة، لاتضرب الرجل (الزوج) حتّى بوردة، تلك هي خلاصة الرؤى الذكورية، عالم مغلق الأبواب في وجه ربيع الحياة – الأنثى:» فالرجلُ صائدٌ بطبيعته يابنتي، والمرأة فريسة، فغياكِ أن تكوني فريسة ً غبية» – ص224.
الرجلُ صاحبُ بيتٍ زخرفيّ مخمليّ، والمرأة جحيمه العذب، شرّهُ الذي لابدّ من وجههِ الخير، ليسَتْ أكثر من قطعة أثاث في بيتهِ، وكل تفكيره الظلامي انْ يتخلص من قطعة الأثاث هذهِ .. صانع كمائن بامتاياز !! هاتفاً في دهاليز زمنهِ الذكوري بالمزيد .. ينتصرُ لفحولته، لرجولته، والمرأة ليسَت سوى الساحة ذات النسمات الباذخة الدفء لهذهِ الرجولة:» فهل تأكدتِ الآنَ أنكِ بالفعل خارجَ حياته، وأنّ وجودك في بيته لم يعُد يتعدى قطعة أثاث قديمة، لا يهتم هذهِ الأيام سوى بالبحث عن كيفية للتخلص منها»- ص225.
.(نرمين ) هيَ (رضوى) وهي كلّ الأخريات الكسيرات اللاتي لمْ ينجبنَ، والعاقرات، ومصيرهنّ واحدٌ، والنظرة الجاهلية إليهنّ واحدة، ويتجرعنّ سمّ كراهية الرجل، بل الرجال الباحثين عمّن يحملُ أسماءهم،امتدادهم في مكان بسعة السرير، وهوية بحبر الغريزة:» هلْ تتذكرين يوم جاءت إلى بيتكم نيخالتك الصغرى (رضوى) منهارة باكية بعدَ أن طلقها زوجها الذي انتظر خمس سنوات لكي تنجب لهُ طفلاً ن ولكنها كانت عاقراص مثلك، أو أنكِ خلقتِ عاقراً مثلها» – ص228.
. الرجلُ سيّدُ الأرض ومالكها بلا منافس !!
والمرأة ُ أحد ممتلكاتهِ، طوّبت ضمنَ مملكته الجهنمية وهو في رحم ٍ أمّهِ، يُحبّها ويكرهها في الان، حرٌّ في مزاجهِ المتقلب، وهي طوع أمرهِ، وترتمي بكلّ أحلامها عندَ قدميه، يُشيدُ بحنانها ودفئها تارةً، ولا يُريدُ أنْ يسمعَ صوتَها، ويزعجهُ إيقاع ظلها الملائكيّ تارة ً أخرى، هي مصدرُ متعته وإلى الأبد، زنجيته إلى الأبد، وهو مصدرُ شقائها بوعي وبلا وعي، هكذا تقولُ (رحلة الضباع) وفي حرارة نزيف الكاتبة سهير المصادفة، لجظة لاحبّ قاتلة، مقابل حبّ أنثوي كوني مقدّس جارف:» تأملتُ عينيها طويلاً ن بكلّ الحيرة التي داهمتني فجأة ً إزاءَ يقيني بأنّ كلّ أجزائها ملكي «..
:» أعترفُ لها بأنني لمْ أحظ بهذهِ المتعة من قبل»- ص235.
:» أردتُ أنْ أظل إلى جوارها طويلاً وإلى الأبد، وأردتُ أنْ أعترف لها بأنني على مايبدو أحبُّها» – ص238.
.» كمْ أحنْ إلى نطقها لاسمي» – الرواية ص239..!!
هذهِ هستريا الذنب، ولكنّها ليسَت التوبة التي يقدمُ عليها البطل (جمال إبراهيم) الرجل المتوّج بالأحلام الخلبية، فورقة الطلاق التي نُسجَت حروفها بحبر النكران والجحود واللاوفاء، جعلت شاطيء المغفرة بعيداً، بلْ بعيد جداً :» كمْ كنتُ أحبّ اسمي فقط حينما تنطقه»- ص240… شعور من رماد الندم، وحنين بلا عطر ولا أبجدية، ودمع يسقط متباطئاً في غير وقته، حبّ بلا صلاة واجبة، وشوق زخرفي بلا تاريخ، تلك هي كينونة الرجل التي تشكلها جملُ وحروف (رحلة الضباع):» ثمّ جرت إلى المطبخ وجلبت حقيبتين من الجلد الرقيق، وضعت فيهما كلّ هذا الهرم.. كلّ ليلينا معاً .. كل لمسات أصابعي المطبوعة هناك ..رائحتها ورائحتي .. همساتها وهمساتي.. أشعرُ شعوراً جارفاً، انّ جزءاً من روحي قدْ اختفى في هاتين الحقيبتين وإلى الأبد» – ص 241.
الرجلُ هواجسُ مجنونة، لاتقودُ إلاّ إلى ندم ٍ لايفضي إلا إلى الفراغ.. إلى لا شيء .. فقط أسئلة عمياء، تحملُ إجابتها العسيرة، وتستقر في قاع الروح ألماً، صعب التخلص منهُ حتّى بعقار الذكرى والحنين :» أنتظرُ أنْ تبكي عيناها الساهمتان بغضبٍ باسمي حتّى أسمع اسمي منها للمرةِ الأخيرة» – ص248.
و:» إنّها تغلقُ عليّ كلّ أبواب حياتي دونها» – ص246.
. في (رحلة الضباع) أيضاً .. فأنّ المرأة لا تسبقُ الرجل فقط في إنسانيتها وعواطفها ومشاعرها ومدن حنانها المضيئة، وآيات جمالها، بلْ سبقتهُ وجوداً وفكراً ووطنية وانتماءً .. فكانت في الميدان تلبّي نداء الوطن، وتنتصر للجموع المقهورة الظامئة للحرية، وهي تسهمُ برئةٍ من صوان في إذكاء بركان الثورة الشعبية التي انطلقت من ميدان التحرير، لتعمّ أرجاء مصر، وكل شبر في أرضها الفيروزية، معلنة ً نهاية الفساد والطغيان .. يلتقي الزوجان السابقان في الميدان – رئة الوطن الصباحي الجديد، والجموع تقيم لهُ كرنفلاً كونياً، يُسلمها مخطوطها الذي كتبتهُ بالدمع ورماد الجسد، وفسفور الصبر، ويُكافأ برقّةِ ووفاء الأنثى – الأصل بـ»شكراً»!!
:» وأقفزُ امامَ شاشة التلفزيون وأقعي تحتها تماماً، لأتأمل وجه (نرمين) الذي ملأ الشاشة» – ص248.
. في (رحلة الضباع) : الأنثى معشوقة يجبُ أنْ تحضنَ بكلّ الحواس !!
: الرجلُ عاشقٌ نهمٌ، بلا أبجدية حنان !!
« جمال» لا شيء !!
« نرمين» كلّ شيء !!
يذهبُ (جمال) إلى مخدعهِ الجديد، وهوَ من شوك وندم ٍ وأرق، يجرّ أذيال هزيمته، حاملاً حقيبة شكوكه وكراهيته، عزاؤهُ الوحيد، ولي العهد الذي سيأتي على أنقاض سعادته وترهل أيامهِ .. وتفوز (نرمين) بحياتها .. حريتها، وهي تتركُ (نقابها) قيدها الأخير هدية ً لهُ في زواجهِ، لحظتها فقط تطلقُ شعرها الكستنائي للريح .. وتنتصر لجنسها بالكلمات .. بالكتابةِ اختيرها الأخير .. حرية الحرية !!
. (رحلة الضباع) .. الأنثى -هي الأصل .. الزاهدة أبداً في محراب الحنان !!
الرجلُ – سلطة غاشمة .. ولحظة حبٍّ ديكوريّ!!
————
عِذاب الركابي