لم تكن تراه دائما ً. لم تكن تعلم حتى انه كان يطاردها ذهنيا ً . لم تكن تدري بنواياه ، خصوصا ً وإنه عجوز من عمر ابيها أو هكذا يبدو ربما بسبب مرضه ، وهو نصف أعمى ، وعنده رجفة في يده اليسرى وساقه اليمنى شبه مشلولة. انه جارها في الحي الذي تسكنه ؛ هي تقيم فى مبنى عتيق وكبير يطل على البحر، وهو يقطن بيتا ً صغيرا ً ومتواضعا حيث يعيش بمفرده، في عزلة تامة. تراه تقريبا ً كل يوم عندما تخرج من المبنى لتستقل سيارتها او عندما تذهب مشيا ً في نزهتها الصباحية . فتومىء له بيدها ، احيانا ً مع ابتسامة مرفقة ليكون السلام أكثر حرارة ، وأحيانا أخرى من دون ابتسامة. يدٌ سريعة وغير مكترثة تحرّكها نحوه ثم تعيدها الى نمطها الطبيعي . هذا كل ما يحدث بين المرأة الشابة والجذابة ، وبين الرجل المسكين الذي إن خرج من مسكنه فلأنه يكون اشتهى شعاع شمس صباحية بعد ليل طويل من القلق والأرق، او لأنه يكون بحاجة ماسة الى رؤيةِ ما يتاح له رؤيته من العالم الخارجي ، أي خارج بيته العفن والمعتم وغير الصحي.
يخرج إذا ً كل صباح الى عتبة البيت المتواضع، يتفتل يمنة ويسرة عدة مرات وقدر ما يستطيعه جسده الهزيل، يسلّم على هذا الجار أو ذاك، يتحدث دقائق وجيزة مع ما ندر ممن يتوقفون لسؤاله عن حاله وصحته، ثم لا يلبث ان يعود الى كهفه حيث يمضي بقية نهاره امام التلفزيون يتفرج ولا يرى، وتمرّ الساعات وهو الأحرى في غفوة حزينة أو كئيبة . هكذا تمرّ نهارات ذلك الحي الهادىء و المنسي على التلة الصغيرة والبعيدة عن ضوضاء المدن ووسخها. ومرة في الأسبوع يأخذ عصاه فيتكىء عليها ماشيا ً خطوة خطوة الى الدكان القريب منه ومن كل بيوت الحي، ليشتري كل ما يلزمه من حاجيات البيت والأكل.
لم تتساءل هي من أين يأتي بالمال الكافي لمأكله وأدويته وإيجار بيته . لا ، لم تتساءل وما همها ؟! ليس أباها ولا جدّها ولا احدا من اقاربها. انه مجرد انسان تلتقيه في الشارع الصغير والمتعرج الذي يفصل بين البيوت . واضافة الى
ذلك ، انه شارع «غير نافذ» ، وهكذا يكتبون على لوحات الطرقات التي عادة ما يلصقونها اما على حائط الكنيسة أو على عمود رُفع لهذه الغاية. اما في هذا الحي فلم يعلّقوا أي لوحة من هذا النوع، ربما لأنه لأبنائه وليس من غرباء فيه سوى ما ندر، وأبناؤه يعرفونه غير نافذ ٍ وغير مؤدٍ الى اي مكان، ثم ايضا لأنها طريق غير معروفة وغير عامة فلا تسلكها سوى سياراتهم. انها طريق شبه خاصة بأهالي الحي، وكل الناس يعرفون بعضهم بعضا ً ويوم الأحد جميعهم يلتقون في الكنيسة ، وبعد القداس يتحدثون مع بعضهم بعضا ً في باحتها تحت شمس الظهيرة، قبل ان يتفرق كلٌ الى بيته. فهذا لتحضير الغداء ، وذاك لشوي اللحم والبصل ، وذلك لشراء ما تحتاجه زوجته لإكمال تحضيرات الوليمة .
ما عداه هو! فهي تراقبه من نافذة مطبخها، وهو عائد بمفرده وفي عزلته الى بيته الخالي. تراقبه دون اكتراث، أو كمن يراقب هرة الجيران . لكنه رآها من حيث كان واقفا ً ، خلسة ً نظر ناحية بيتها وخلسة رآها بينما كانت تقضم تفاحتها بشراهة وأيضا بنوع من اللامبالاة. وعندما لاحظتْ انه رآها أزاحت رأسها نحو اليسار، يسار المطبخ، كذلك أزاحت تلقائيا وتباعا ً كتفيها ثم كل جسمها، إذ لم تكن تريد اطلاقا ً ان يعتقد انها تراقبه. ان يعتقد ام ان يعرف ؟! كان عليها ان تختار واحدة من الفكرتين او الكلمتين ، اي الحالتين ! هل هي خارج هذه اللعبة ام داخلها ؟ اذا كانت داخلها ، فاعتقاده يكون معرفة ً وليس تكهّنا ً !
انتهت من قضم التفاحة الكبيرة الحمراء، هي التي لا تحب التفاح بشكل خاص، بينما كان لا يزال هو يجرجر جسده المترهل على حافة الطريق باتجاه منزله البارد . تساءلت حول الأسرار التي تلفّ حياة هذا الرجل الوحيد، وشعرتْ برغبة ٍ عارمة في التحدث اليه من باب الفضول وليس الشفقة. لا ترى من سبب للشفقة عليه من ناحية ، ومن ناحية أخرى لا ترى نفسها جاهزة ً لمساعدته ايا ً كانت مشاكله المادية والصحية.
بعد تواريه عن ناظريها ، عادت الى غرفتها ونظرت الى المرآة. سوّت شعرها بضربة لا مبالية من يدها اليمنى، قرّبتْ وجهها من هذه الفسحة المعاكسة والمستديرة ذات الإطار الخشب البني اللون، وراقبت عينيها عن كثب. رموشها لم تعد طويلة ومبرومة الى أعلى كما في السابق عندما كانوا يسمونها «ام العينين الجميلتين» ، لكن مع ذلك لا يزال بريق عينيها يلمع بقوة في البؤبؤين، ولا يزال ماضي الرموش حاضرا ً بقوة على الجفون العليا والسفلى ، ولا تزال غير آبهة للماسكارا ولا تلجأ اليها، بل هي لا تفكر فيها لأنها لم تستعملها يوما وهذه العادة التصقت بها حتى اليوم، الى ان تملكتها الثقة بأنها ابدا ً لن تحتاج الى المواد التي تطوّل اصطناعيا ً الرموش. ثم نظرت الى عنقها ، واجتاحتها رغبة في تزيين هذه الإستدارة بأحد العقود التي في حوزتها ولا تستعملها اطلاقا ً، او في احسن الأحوال تستعملها مرة في السنة إن كان ثمة مناسبة رسمية او خاصة . فلجأت الى «كنزها» الصغير حيث بعض اساور الذهب وخواتم متنوعة وعقود ذات الأشكال العديدة. ثمة عقدان تحبهما اكثر من سواهما مع انها لا تحب الفضة وتفضل الذهب : فواحد مرصّع بالفضة والحجر الأسود ولا تعرف ما نوع هذا الحجر وهو هدية من صديق قديم ، والثاني مرصّع ايضا بالفضة ولكن حجره من أفضل أنواع الجاد. انه هذا ايضا هدية، انما من صديقة أجنبية. جربت الواحد بعد الآخر، حتى استقر رأيها على الثاني، ثم جربت اجمل بلوزة عندها ، ومن بعدها أخذت تجرب المناديل والقبعات على رأسها وهي تعلم كم يليق برأسها ووجهها هذا النوع من الزينة. فقررت بعد تجارب استمرت نصف ساعة، ان تضع تلك القبعة السوداء التي ترفع طرفها الأمامي الى اعلى بشكل انيق وجذاب. هذا كل ما فعلته، وكعادتها، ابت ان تضع حمرة الشفاه إذ اصلا لا تقتني أشياء التبرج هذه. فلا عندها حمرة شفاه ، ولا ماسكارا ، ولا ذلك المسحوق الملون للجفون ولا المسحوق لتلوين الخدود، وخدودها دائما حمراء، ولا أي نوع من العطور، وهي تنفر من هذه الروائح مهما كانت زكية، فلا تتعطر اطلاقا. تعرف ان قبعة على رأسها ونظرة خلابة ، ولو حتى من دون عقد الجاد الأخضر، تكفيان للجذب !
لكن هل كانت حقا ترغب في أن تجذبه ؟ طبعا لا ، هي التي لا تعرف اهتماما سوى لأعمالها الفنية ، واللوحات الزيتية والمائية التي تملأ بيتها في الزوايا كما على الحيطان والكراسي والطاولات وكنبات الصالون وغرفة الغسيل، كل هذه اللوحات التي تعمل عليها ليلا ً نهارا ً من أجل التسلية وملء فراغ أيامها وليس للمعارض ، هي وحدها سبب وجودها واستمرارها في الحياة بعد ان حاولت الإنتحار مرة وأنقذها يومها رنين هاتفها الجوال !
كان قد حدث ذلك قبل خمس سنوات، في يوم شتاء ماطر وبارد. كانت الساعة العاشرة ليلا ً ، وجهزت المائدة للعشاء . كانت تنتظره بحفاوة كبيرة ، وقد زينت نفسها بأحلى الثياب . كانت وقتها رسامة مبتدئة وكان هو فنانا ً معروفا ، بل مشهورا جدا. تعرفت عليه في احد معارضه ، فوقع في دائرة جاذبيتها الفطرية ، بينما هي شدتها اليه مكانته في الوسط الفني.
حضّرت نفسها اذا ً تلك الليلة العاصفة والباردة لإستقباله ، وفرشت الطاولة بأجمل شراشف السفرة التي عندها، وأضاءت شمعتين، وضعتهما في وسط الطاولة، وضعت موسيقى رومنتيكية خافتة، وجلست بكل اناقتها ترتعد بردا وقلقا ، القلق بسبب تأخره على الموعد. تعرفه دقيقا جدا ، وقد مرّ ربع ساعة على الموعد ولم يأتِ. اتصلت به على جواله لكنه مغلق ٌ . و لتكون اكثر تفاؤلاً ، عزت ذلك الى عطل ٍ ما في الخطوط ، وهو أمر ٌ جائز في يوم كهذا حيث كانت الرياح تخبط بعنف على النوافذ وتكاد تقتلع الأشجار. ثم مرّ اول نصف ساعة ، ثم ركض الوقت ولو ببطء شديد حتى مضت ساعة ونصف على الموعد . وكان لا يزال هاتفه مغلقا ما لم يتح لها الإستفسار ومعرفة ما الذي حدث .
اُطفئت الشمعتان ولم يبقَ منهما سوى الفتيل في كعب الشمعدان المكسو حتى الأسفل بالمادة البيضاء التي ذابت كليا ً، اما الأكل فبرد وفقد طزاجته وكانت الهرة قد بدأت تشمشمه بحرية بالغة اذ ما من أحد يعنفها او يبالي لِما تفعل وقد تسلقت الكراسي وأخذت تتنقل بهدوء بين الصحون، والموسيقى كانت قد توقفت منذ وقت طويل ، وقد اصبحت الساعة الخامسة صباحا عندما استفاقت هي من غفوتها الخفيفة وغير المريحة إذ امضت الليل جالسة على الكنبة، مصبَّرة متيبسة ، قلقة وغاضبة في آن.
لقد انتابتها التناقضات خلال الانتظار، ولم تعد تعرف ما اذا عليها ان تغضب منه ام ان تقلق عليه. هل عليها ان تصبر بمحبة ام ان تشتمه بشتى الشتائم. بل هي لم تتساءل ولم تكترث لصوابية او عقلانية الخيار. لم يكن الوقت للتفكير انما للعيش ضمن كل هذه الأحاسيس معا ً. انتابتها كل هذه الشعور في آن واحد، وتارة كانت ترى نفسها تبكي على جثته الهامدة بعد ان اصطدمت سيارته بسيارة اخرى ( هذا تصورها الأول)، وتارة ترى نفسها تصرخ في وجهه وتخانقه وتعاقبه معتمدة اسلوب المعاتبة الغاضبة والحاقدة على تأخر خبيث من قِبله (هذا تصورها الثاني ) .
في اي حال ، ما ان استفاقت وأدركت انها لم تنم حقا ً، وانه لم يأت ولم يتصل، وانها تعبت من نومها الأعوج على الكنبة، ما إن ادركت انها غفت على قلق واستفاقت على فراغ مميت، حتى هرعت الى غرفتها وكان ضوء الشمس لم يطلع بعد، خلعت ثياب السهرة الخائبة، انتزعت الحلي الذي زين وجهها وعنقها ، ودخلت الى فراشها لتنال ولو قسطا ضئيلا من الراحة قبل طلوع النهار. الا ان النوم ابى ان يأتي، وظلت تتقلب في السرير مدة نصف ساعة ، قررت من بعدها العودة الى الصالون وشرب بعض الويسكي لعلها تهدأ روحها قليلا ً. لم تكن فقط قلقة عليه ، انما على ذاتها إذ ماذا قد تفعل من دون وجوده ، من دون دعمه في الوسط الإعلامي وقد وعدها على العمل من اجل ترسيخ اسمها كما العمل على شهرتها. كانت بحاجة قصوى اليه، هي اللاهثة وراء الشهرة ، والرسم كان حجة لها للوصول الى الأضواء. اضافة الى انها حلمت بأن تصبح يوما ما زوجته ، ولِمَ لا ، بعد ان هجرها صديقها السابق وكانت متيمة به حتى الجنون ! فكل هذه المشاريع التي كانت بدأت تلوح في أفق روحها ، رأتها في تلك الليلة وذلك الفجر تتلاشى الى غير رجعة، ولم يفتها كذلك ان مناسبات جميلة كهذه لا تتكرر في الحياة ! كل هذا التفكيرأخذها الى تصور تشاؤمي وقاتم جدا، وفي لحظة واحدة ، في هنيهة، ركضت يائسة ومتوترة الى المطبخ، وبسكين مسنن جيدا ً بدأت تحاول قطع شرايين معصمها، عندما رنّ هاتفها. طبعا ً سرعان ما نسيت فكرة الإنتحار، فأوقعت السكين ارضا ً، والويسكي بلل السجادة ولكنها لم تأبه : الأهم كان التلفون !
قالت « آلو» ، لكن ما من مجيب في الجهة الثانية للخط. رددت ال «آلو» ، الا ان الخط أغلق في وجهها. لم تفهم شيئا، تساءلت كثيراً ، حاولت فك هذا اللغز ، حاولت ان تتصور انه هو الذي حاول ان يخبرها عمّا حدث ربما معه الليلة الماضية وانه يود الإعتذار وما شابه، او حاولت ان تتصور ان احد المستشفيات اراد اعلامها بأنه في العناية الفائقة وما شابه . الا ان هذا كان كل شيء ، تصورات صرفة ، ومرت الساعات ، ثم الأيام ، ومن بعدها السنوات، و ظلت ترسم ، لكن ايا من المعارض لم يقبل أعمالها ولم يُعرف اسمها اطلاقا، اما هو فاختفت آثاره كليا ، لا بل مع الوقت استطاعت ان تنساه تماما.
انما على الأقل ، هذا الإتصال الخاطىء او الفارغ انقذها من الموت !
ما إن انتهت من استعادة تلك الذكريات الأليمة، حتى عادت الى الواقع والى مرآتها، حيث كانت تتمرّى وهي تفكر في القيام بزيارة هذا الرجل الغريب المظهر، ذلك «العجوز» الذي تلمحه من على مسافة ولا تعرف عنه شيئا ً وقد لا يكون عجوزا ً . قررت اذا ً ان تزوره لعلها تروي فضولها بعض الشيء من ناحية ، ومن ناحية أخرى تتسلى في ساعات فراغها الطويلة هي التي ليس عندها الكثير ما تفعله، وهي التي لا تخرج من البيت سوى ما ندر، و تقيم في هذه القرية النائية والبسيطة والبعيدة عن صخب الطموحات وزحمة الإنشغالات، هي التي قررت ان تنتقل الى هذا المكان المنعزل والمتواضع بعد ان أغلقت في وجهها كل حظوظ الدنيا ! خرجت اذا ً من بيتها، خطت بضعة أمتار باتجاه منزله، وما إن وصلت ، اصطدمت بزحمة الجيران امام بابه المشرّع المصراعين ، ورأت أحد الشباب يحمل هذا الرجل المعاق والغامض والصامت من ذراعيه ويمدده على الفراش النتن والعتيق، مائتا ً ، جامدا ، هامدا ً . وفيما كان الناس يتشاورون ويتساءلون حول ما أدى به الى ذلك وحول هويته هو الذي لم يعرف عنه أحدٌ شيئا ً، فيما كانت تستمع الى الآراء الشتى، نظرت صدفة ً الى الحائط حيث تتدلى لوحة ٌ زيتية جميلة ، فعرفتها على الفور، ثم نظرت تلقائيا الى الإسم الذي عادة ما يُكتب على جرس الباب في كل البيوت ، واُذهلت عندما قرأت اسمه !
صبـــاح زويـــــن
شاعرة وكاتبة من لبنان