أدلا يكون المرء جادا في السابعة والأربعين حتى لو تمترس وراء مدخان حصيف أو ارتدى قبعة قديمة من الكلام الأنيق أنيقة من الكلام القديم "
ربما يكون اللعب الذي يمارسه الشاعر والقصاص الفلسطيني/ الأردني رسمي أبوعلي في هذا المقطع ، وبخاصة في استعارته مقولة الشاعر الملعون رامبو، أكثر جدية من أي مقطع شعري كتبه أبو علي في تجربته كلها. ففي هذا المقطع الموغل في الجد الهازل . أو في نقيضه ، يكتشف القاريء روح الهزل المأساوية التي تسكن نص الشاعر وعباراته ولغته . إنه الهزل الهاديء المناقض تماما لتجربة القلق والتوتر التي تقف وراء النص ،. لكنه الهدوء الممتليء بعناصر وظلال القلق : حزنا ويأسا ، غناء وحبا توهجا وانطفاء، حياة وموتا.. في الأساس .
فالهدوء في اللغة والصورة والعبارة لا ينطوي على هدوء بل على انفجارات وحرائق الروح التي تظهر مدى الانفصام في حياة الانسان الذي قد يبدأ "عاشقا" وينتهي "شجرة يابسة " أو يبدأ "شاعرا" وينتهي ثرثارا، حيث "اهتزازات الأعماق والزمن والأمكنة والناس … والحياة ".
وتتركز جدية الكلام في نفي الجدية _ هزليا _ في السابعة والأربعين بدلا من السابعة عشرة التي أطلقها رامبو، إذ تنتفي بذلك كل جدية ، فيكون حتى الهزل شديد الجدية ، مثلما هي جدية أبي علي شديدة الهزل . وكيف يكون المرء جادا دون أن ينطوي على الهزل ، بل كيف يكون هازلا إن لم يكن هزله جدا. أي معمقا ، وعلى قدر من الاستخلاصات اللاذعة بقسوة . وليس تقمص رامبو والدخول في "أوديب مقلوبا" وكاليغولا سوى عناصر لانشاء تلك الاستخلاصات والامساك بانعكاساتها في مرأيا الداخل ، في هذه المرأيا تنعكس صور وظلال البشر والاشياء في علاقات تضيء جوانب من الحياة، وزوايا قد لا تكون شديدة الاعتام ، الا أنها خصوصية من حيث القدرة على نبش الصغائر واعطاء معنى للأشياء الصغبرة .
وفي نصوص "ذات مقهى" التي لا يدعوها أبوعلي شعرا، بل "قصائد نثر" (وهذا في رأيي جنس أدبي مستقل عن الشعر، مثلما تظهر نماذجه الأكثر تطورا.. وهذا موضوع لا مجال لبحثه هنا)، نقف على ملامح من التجربة الحياتية والكتابية لأبي علي ، ونكتشف أن المفارقة الساخرة في هدوء ، دون ضجيج أو افتعال ، هي أبرز هذه الملامح ، والمفارقات التي ينشئها في نصه ، على هدوئها وبساطتها الظاهرتين _ ظاهريا _ ليست إلا وجها أخر للتعقيدات والتناقضات التي تنطوي عليها تجربة الانسان عموما، وتجربة أبي علي خصوصا . فوراء الأسلوب الساخر الممتلي ء رغبة في إضاءة زوايا الروح عبر تجسيد مفارقات العلاقة مع الحياة ثمة وعي للعالم على درجة من الرؤى الفانتازية لهذا العالم . فليست الوقائع هي ما ينهض عليه النص ، لكنها تقف في خلفيته ،مثلما تقف الأحلام والذكريات وغيرها بذلك الحضور الشفيق والموارب ولكن القاسي في الكشف والتعرية وفي التأمل أيضا.
ولننظر – مثلا – الى بيروت في الحنين والذاكرة كيف أمست بعيدة كأنما بيت لحم . وبيروت التي يطلق عليها أبوعلي صفة مسقط الرأس لولاداته الثقافية ، تلتبس هنا مع المدينة الأخرى التي تشكل حالة خاصة في تجربته مثلما تلتبس أيضا مع بيت اللحم /الرحم الأول / الفردوس المفقود الى الأبد. فبيروت المفقودة هي الحلم الذي لا يتكرر، لا يعود مرة أخرى، واذا ما ذهبت اليه لن تجد غير "شوارع مثلجة " و" غريبين " ، لا يعرفهما أحد "عائدين بصمت الى فندقنا الكئيب "، وكان حلم بيروت قد غدا كابوسها _ كابوس الذين كانت هي حلمهم ، فيما الفردوس قد تحول جحيما. واذا كان الفردوس والحلم قد تحولا كابوسا وجحيما، فكيف تنجو الأشياء والعناصر والبشر، كيف تنجو الحياة ؟ كيف لا تغدو المغنية عجوزا تعصر زمنا قاحلا وتغدو الظهيرة "لا معنى لها" ، ويكون على الشاعر/ الانسان أن يحني رأسه خجلا من "جشع الانسان وقلة إنسانيته " وكيف لا يصرخ "أسمع أنهارا من الدموع تتدفق في أعماقي" وهو الذي يرى أنه "المستيقظ الوحيد" منذ كان شابا يهزه الآخرون بأيديهم الخشنة "أفق أيها الفتى فأنت تحلم "، وهو الذي اختار "على الدوام ، ثمرة الصمت الناضجة " ربما لأنه كان في طريقه لملاقاة الفتى القديم … مثلما كان ، في الحلم ، يرى "حدائق قديمة " و" طيورا قديمة ".
هذه كلها هي بعض ما نجده في "ذات مقهى" من أشكال الهروب من "الآن " الى ما كان الى الصور القديمة ، والى البدايات المحتشدة بالأحلام البسيطة ، هروبا من اللامعني الذي أخذ يسكن كلما يفعله الانسان هنا، من الخواء المتجسد في حال البحث بلا جدوى عن قطرة شعر، وفي الاحساس بأنه "ذلك المقعد الفارغ ، فيخاطب شوقي أبي شقرة "عم مساء../ المشي ثقب صندل حجلك" ونوري الجراح "ألا تزال في نيقوسيا/تؤرجح رأسك المهجور/ قرب صديقك سركيس " وعادل فاخوري "لماذا أنت صامت هكذا/ قل شيئا بصريا إلكترونيا دادائيا/ قل أي شيء/ فلابد لنا أخيرا / من تثبيت مسمار الليل ".
وتظل حال التوتر بين ثنايا الروح القلقة بين كونه أوديب مقلوبا الذي يصرخ "قتلت أمي/ وتزوجت أبي" و"كاليفولا الأخير" المسكون بنقيضه الذي يمسك بتلابيبه ويناكفه كعدو له ، ثم كونه ذلك "الأعمى" في مقبل الأيام والسنوات "الكلب يقودني/ والهراوة في يدي / ووجهي ممتد ممتد/ في اتجاه الذهول "، ثم يتكشف عن ملك عار لا أسرار لديه سوى أنه خرج لتوه من الكمبيوتر.
بهذه التحولات الأقرب الى أحوال المسخ الكافكاوية ، يرسم أبوعلي رؤيته لمرحلة وجيل وأمكنة وأوهام ، رسومات لا يبدو عليها التسرع رغم أنها تميل الى "اللقطة " (الاسكتش ) و"القفشة ". فهي ليست لقطة العابر. لكنها أقرب الى دفقة ماء النبع المختزن في تجويف صخرة ، حتى أن تحولات الأشياء والناس ليست سوى حال عابرة ، أما المقيم ، فهو ديمومة الحياة وتواصلها عبر الأجيال "منذ سنوات كتبت / أراهن على جيل لم يولد بعد/ والآن ها أنت تجيء "، فالأمل لم ينقطع إلا عن الجيل الذي يمثله الأب هنا، أما "حسن " الذي تناديه أمه حسون ، ويناديه أبوه حسحس ، فإن "العالم سيشير اليك بحب هاتفا / هذا هو الصغير حسن / منارة روحي/ ودليلي / الى القرن الحادي والعشرين ".
والصورة التي يرسمها الأب لابنه حسن ، صورة حلمية ، إذ يراه وهو يمد أصبعه ويتقدم "في اتجاه المستقبل مثل هندي أحمر/ كأنك تعرف من أنت " . وقيما عدا الكاف التي تفيد التشكك واللايقين ، فإن النص كله يحمل الى القرن القادم – المستقبل ، والحلم المقبل .
ثمة _ إذن _يأس من الماضي وكل ما ينجم عنه من تجارب وأوهام ، وهو الذي يجعل الهزيمة تنتج روحا ساخرة سخرية لاذعة مرة لا تتورع عن السخرية من أي شيء .حتى من الذات المهزومة والمبعثرة ، الذات المنفصمة المشظاة .
ولكن الأمل الذي يجسده (حسن الصغير) ينطوي، إذا أردنا الفرص على شيء من روح الأب ، فليس الابن سوى تمثال لروح الأب ، صورة لهذه الروح "الأكثر طفولة واشكالية "، فهل معنى ذلك أن هزيمة الأب ستنتقل الى الابن ؟ أية سخرية قدرية هذه إذن ؟
إنه واحد من أسئلة رسمي أبي علي الأساسية في رؤيته الى الزمن وتحولاته الدراماتيكية ، الأسئلة التي تندفع في صور مفاجئة وطازجة وغير مرسومة سلفا.صور يجري رسمها في الحال ، ولكن بعد استدعاء مخزون ناضج من التجارب المتصلة بها، فلا تسقط في الآنية ، كما لا تلتف بأردية الغموض الذي يفلق النص أمام الفهم والتذوق ، لكنها تحتفظ بكونها لقطة هامشية من الهوامش الأساسية – اذا ما سحبنا انفصام وتناقض المؤلف / المبدع هنا، على رؤيته وتعبيره عن هذه الرؤية بالأسلوب المتلائم مع هامشية العالم المعبر عنه .. حتى في عنوان المجموعة "ذات مقهى" تكمن هذه الهامشية ، كما في النص الذي يحمل العنوان نفسه ، حيث المسرات الصغيرة في رؤية أناس المقهى "كأنما أسرة حول حساء بارد/ في مساء ساخن " وفي الخوف والكراهية تجاه ضوء "نيون أخضر/ لا يحبني / أظن أن ثمة صلة بينه وبين ملاك الموت " وفي الوحدة وفي "كنت سأعلن إفلاسي / لولا هذه الكلمات / وبعض المسكنات ..".
لرسمي أبي علي هذه النكهة الخاصة البعيدة عن أية مدارس أو انتماءات أو أصوات . له صوته ، صوت تجربته ونكهتها ، وهذا أبرز ما يميز كتابته ويعطي نصوصه خصوصيتها.
نشرة مشترك: رابطة الكتاب الاردنيين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عمان/ بيروت-1997.
عمر شبانة ( كاتب من فلسطين )