ترجمة: آسية السخيري*
1) ) ر َجُلُ العصْرِ الحجَرِيِّ
كانَ الرَّجُلُ الحجَرِيُّ يمْشي علَى شاطِئٍ شاسِعٍ، مهْجورٍ في ذاكِرَتِهِ. لقدْ عادتْ إليْه الرَّغْبةُ في رُؤْيةِ البحرِ، وهو يتذكَّر دهشتَه، في عهْدٍ سابقٍ، وسعادتَه الَّتي لا حُدودَ لَها عِندما رافَق، وهُوَ طِفْلٌ، العَشيرةَ في أحَدِ موَاسِمِ جنْيِ الأصْدافِ والحَصَى – السَّوْداءِ والمغْراءِ المصْقولةِ بشكْلٍ رائِعٍ – التي كانوا يَقومون بِها في ذلِك العهْدِ السَّعيدِ الَّذِي كُنَّا نعرِف فيه كيْفَ نمْنح أنفُسَنا الوَقْتَ لِنَتمعَّنَ، لِنتلَمَّسَ كلَّ الأشْياءِ وَنُنْصِتَ إليْها وَإلَى كُلِّ حَدَثٍ بِاهْتِمامٍ مُتَجدِّدٍ دائِمًا. تِلْكَ الأشْيَاءُ، عَدِيمةُ الجدْوَى، التِي تعترِضُه، ويَلْتقِطُها أحْيَانًا – لِماذا قِطْعةُ الخشَبِ تلكَ بالذَّاتِ، وتِلك الحصاةُ لِماذا هِيَ دُونَ غيْرِها – تحْتلُّ مكانةً غرِيبَةً في حياتِه؛ هُوَ يُمكنه التَّحدُّثُ معَها والتَّساؤُلُ من خِلالِها. ما هُوَ الرابِطُ الغامِضُ الَّذي يجعلُه يخْتارُها من بيْنِ أشياءٍ أخْرَى كثيرةٍ؟ ماذا كان يعْني ذلِك الفرحُ الخالِصُ الذي يشعُر بِه وهو ينظُر إليْها، وهو يَتلَمَّسُها عِنْدما كان يُرتِّبُها معًا؟ لقد جهَّز رُكْنًا في المغارةِ لِتلك الأشياءِ الصَّديقةِ القادِرةِ علَى مُساءَلتِه، وَفي أحْيَانٍ أُخْرَى علَى تهْدِئتِه أو تشْجيعِه. مِن المُؤَكَّدِ، طبْعًا، أنَّه لم يكُنْ يسْتطيعُ أن يَتَخيَّلَ أنَّه في زمنٍ لاحِقٍ، بعْد خمْسةِ عشَرَ ألفِ عامٍ، رِجالٌ آخَرون سـ……
فُوجِئَ رجلُ العصْرِ الحجَرِيِّ بِوُجودٍ مُكتسِحٍ لِعددٍ كبيرٍ منَ الأشْياءِ الَّتي لم يَسْتدْعِ لا شكْلُها ولا مادَّتُها أيَّ صورةٍ في ذاكِرتِه. مادَّةٌ عديمَةُ الرَّائِحةِ، تُراوِح بيْن الصَّلابةِ واللُّيُونةِ، ولكِنَّها ذاتُ لُيُونَةٍ مُخْتلِفةٍ تَمامًا عن جِلْدِ الوُحوشِ، أوْ عنْ أجْزاءٍ مُعيَّنةٍ من النَّباتاتِ النَّضِرةِ، الَّتي تُعارِض مُقاوَمةً غريبةً، كان يبْذُلها لِتمْزيقِها. حاوَل مضْغَ قِطْعةٍ مِنْها أرَقَّ مِنَ الجِلدِ لكِنَّه وَجَد نفْسَ رفْضِه لِلاستِسْلامِ لاخْتِزالِه ولإفْشاءِ أيِّ شيْءٍ من سرِّهِ. شعُر بغَثَيَانٍ يصعُبُ كبْحُه. لم يكُنْ الطَّعْمُ، فقطْ، هُوَ الكريهُ؛ لا، غِيَابُه بِالأحْرَى هُوَ الَّذِي كان يُثير اشْمِئْزازَه؛ المَساخَةُ المُفْرِطةُ، المُخادِعةُ، الَّتِي لا تُضاهَى خارِجَ ذاك العالَمِ. لا نباتًا، لا حيَوَانًا، ولا جمادًا. وَالأكْثر إثارةً لِلدَّهْشةِ هُوَ رُؤْيَةُ ما يَحْدُث عِنْدما يُلْقِي بِقِطْعةٍ مِنْه في النَّارِ! حتَّى اللَّهبُ يَبْدُو مُتقزِّزًا منْ تِلك المادَّةِ. هُوَ يَتمدَّدُ وَيَخْتنِق بيْنَما ذاك الشَّيْءُ يَنْكمِش وَهُوَ يُطْلِق دُخانًا نَفَّاذًا، غيْرَ قابِلٍ لِلاسْتِنْشاقِ.
انتهَى بِه المَطافُ بِمُقابلةِ بعْضِ البشَرِ الَّذين كانوا يَعْدُونَ علَى طولِ السَّاحِلِ الرَّمْلِيِّ. كانت وُجُوهِهِم مُضْطرِبةً مُشْمئِزَّةً وكانت قسَماتُها مُؤْلِمةً. كانوا يَلْهثون وكان يَبْدو أنَّه ليْس لَديْهم أيُّ نِيَّةٍ أوْ إمْكانِيَّةٍ لِلتَّوَقُّفِ. ما الَّذي كان يُمْكِن أنْ يُخيفَهم إلَى تِلْكَ الدَّرّجةِ؟ هم يَبْدون مُصمِّمين حاسِمين بِخُصوصِ بذْلِهِم لِذلِك المَجْهودِ وكان من غيْرِ الوَارِدِ الاقتِرابُ مِنْهم وطَرْحُ الأسْئِلةِ عليْهِم أوْ التَّشْكيكُ فيما يَقومون بِه. هلْ يُمكِن أن تَكونَ تِلْكَ المادَّة الجديدةُ، المُهْلِكةُ، رُبَّما، هِيَ الَّتي تَدْفعُهم إلَى الفِرارِ بِتلك الطريقةِ؟ كيْف يُمكِنُنا أن نعْرِفَ؟
(2) مُكعَّبُ قُبَّةِ المَزارِ الصَّغيرِ الأزْرقُ
مُكعَّبُ قُبَّةِ المزارِ الأزرقُ الَّذِي كان يُمْكِن أن تُوضَعَ فوْقَه عَجِينَةُ فطيرَةٍ منَ الخُبْزِ، مُرْتفِعةً في الضَّوْءِ.
جُدُرانُه شفَّافةٌ، كَمَا لَوْ أنَّه بكُلّهِ قدْ نُحِتَ في جِدارِ البحْرِ، في عرْضِه، ذاتَ يوْمٍ تَمَّ فيه تنْظيفُ الهوَاءِ بِوَاسِطةِ الرِّيَاحِ الشَّمالِيَّةِ.
في الخلْفِ، علَى مَدَى البصَرِ، صَخَبُ أمْوَاجِ القمْحِ الأخْضَرِ الدَّاكِنِ في أبريل.
مُسْتنِدًا إلَى الحائِطِ وَهُوَ يَنظُرُ إليَّ، يجْلِس رجُلٌ مُتَشابِكُ الرِّجْليْن، ويَضَع شالًا أحْمرَ علَى كَتِفيْه.
3) ) في الصباحِ الباكِرِ ….ِ
في الصَّباحِ الباكِرِ تحْتَ الأشْجارِ، مُقابِلَ جِدارِ البحْرِ الَّذي يرْتفِع بِشكْلٍ كبيرٍ بيْن الجُذوعِ. لا شيْءَ يَتحَرَّكُ بِالخارِجِ. أُشاهِد وأسْتَمِع إلَى ذلِك اللَّاشيْءَ الذِي يَحْتوِي علَى كُلِّ الحرَكاتِ.
4) ) طويلُ القامةِ
طّويلُ القامَةِ وَنَحيفٌ. يرْتدي بَنطلون جينز، قَميصًا نظيفًا وستْرَةً قديمةً في فصلِ الشِّتاءِ. وَجْهٌ جميلٌ رغْمَ قَتامَتِه، غيْرُ حَليقٍ، نظْرتُه تَتطلَّع إلَى الدَّاخِلِ، مَشَّاءٌ، مُفْعَمٌ بِإصْرارِه. كُنتُ أراه دائِمًا في الرَّبيعِ عائِدًا من التِّلالِ المُحِيطةِ بِالقرْيَةِ، مُحمَّلًا ِبالأزْهارِ، الَّتِي يَنْثُرُها في الطُّرُقِ البعيدةِ؛ لقد وَجدْتُ مرَّةً بعْضًا مِنْها مُرَصِّعًا السَّلالِمَ الَّتي تنْزِل إلَى بابِ منْزِلي الأَمامِيِّ. ظلَلْتُ لِسَنوَاتٍ، أُلْقي عليْه السَّلامَ مُرحِّبًا عِنْدَ عُبورِه صَباحًا وَمساءً وكان يَرُدُّ دونَ أنْ يَنْظُرَ إليَّ حقًّا. ثُمَّ حدَث في أحدِ الأيَّامِ، أن لَحِقني بعْدَ أن حيَّيْتُه وَتجاوَزْتُه، وبدَأَ في التَّحّدُّثِ بِحَماسٍ لمْ أتوَقَّعْه. أصبحْتْ نَظَراتُه مُكَثَّفّةً وَمُفْعَمةً حَيَوِيَّةً وصار كلامُه جَزِيلًا، جَيَّاشًا وأحْيَانًا ثائِرًا، باحِثًا عن مَخْرجٍ في عِدَّةِ اتِّجاهاتٍ لا تكادُ تتَجاوَزُ بِدايَاتِها، كَمَا لَوْ أنَّه كان يُكافِح حالةَ طَوَارِئ بُرْكانِيَّةً، لا تمْلِكُ الفِكْرَةُ أو اللُّغةُ القُدْرةَ علَى جعْلِها في شَكْلٍ قابِلٍ لِلنَّقْلٍ/ والسَّرّيّانِ بِالسُّرْعةِ الكافِيَةِ. وِفْقًا لِلشَّظايَا الَّتي التقطْتُهَا من كلامِه، اعتقدْتُ أنَّني فهِمْتُ أنَ الأمْرَ كان بِمَثابَةِ تجْرِبةٍ كِيميائيَّةٍ أوْ تَنَبُّؤِيَّةٍ، لم أنْجحْ في تَحْديدِ عَناصِرِها ولَا دعْوَاها. ظلَّ مُنْذُ ذلِك اليوْمِ يُرافِقُني في نُزْهاتي، وهو يَمُدُّني دائِمًا، بِقَدْرٍ مَا مِن الحماسةِ والكَثافةِ، بِالشَّظايا الَّتي تُتيحُها لُغَتُه ذاتُ التجرِبةِ المَعيشِيَّةِ الغامِضةِ، الَّتي تكْتنِفُها الأسْرارُ.
– آه، أيَّتُها الزُّهورُ، علَى الرَّبْوَةِ بِالقُرْبِ من البحْرِ! الألْوَانُ! إنَّني أنْظُر إلَى كُلِّ هذا، وخاصَّةً اللَّوْنيْنِ البنفْسجِيِّ والأصْفرِ، وأنا أُحاوِل حلَّ لُغْزِ رَنينِهِما…
– الكلِماتُ لا تَزال، مع ذلِك، شيْئًا آخَرَ عندما تَنْبُت تِلك الأزْهارُ والألْوَانُ في الهوَاءِ النَّقِيِّ!
– الأوكالبتوس مدْروسٌ بِشكْلٍ جيِّدٍ بِالنِّسْبةِ لِلضَّوْءِ. أقِفُ، أحْيانًا، هُناك تحْتَ الأشْجارِ وأستمِع إلَى ريحٍ التقطتْ كُلَّ أصْوَاتِ العالَمِ. وَكلُّ صوْتٍ يحْتوِي علَى كُلِّ الأصْوَاتِ الأُخْرَى. يُمْكِنُنا أنْ نبْدَأَ في أيِّ صفْحَةٍ.
– عيْنِي تنْظُر إلَى كِتابٍ أصْفَرَ وزُجَاجَةِ حِبْرٍ وحامِلِ الرِّيشةِ.
– أبْحثُ عن الهوَاءِ النَّقِيِّ، والأماكِنِ الَّتِي تتَغذَّى علَى الذَّاكِرةِ.
– الألْعابُ النَّارِيَّةُ الغنِيَّةُ جِدًّا بِالوَرْدِيِّ الضَّوْئِيِّ.
– في اليوْمِ السَّابِقِ، كُنْتُ أنْظُر إلَى أشْجارِ السِّرْوِ وقدْ فكَّرْتُ في كوْكباتِ نُجومٍ تقْتلِع نفْسَها منَ الأْرضِ. وَيَنْتهي كُلُّ ذلِك بِانفِجارٍ في مَصَبٍّ نجمٍ.
– رَئيسُ المَلائِكةِ يُطْلِق النارَ علَى عِمْلاقٍ من الغرْبِ…
– غسْلٌ، تنْظيفٌ، غسْلٌ تَنظيفٌ، وَيَنْتهي كُلُّ شيْءٍ دائِمًا في سلَّةِ المُهْملاتِ.
– الشِّتاءُ جَيِّدٌ. أُشْعِل النارَ بِخشَبِ السنْطِ (الأكاسِيا) الَّذي أجْمَعُه في الصَّيْفِ. هُوَ خَشبٌ جَيّدٌ، ولِذلِك تَكون النارُ صاخِبةً. من المُهِمِّ جِدًّا أن تَكونَ النارُ حَيَّةً نابِضةً.
ثُمَّ تَأْتي الرِّيَاحُ بِهوَاءٍ مُحمَّلٍ بِقدْرٍ أكبرَ من الأوكسجين في فصْلِ الشِّتاءِ، لأنَّه بعْدَ هُطُولِ الأمْطارِ الأُولَى، يصيرُ هُناك مِساحةٌ بِكْرٌ كامِلةٌ، يَتِمُّ تشْكِيلُها.
– في النَّارِ، أرَى مَناظِرَ طَبيعِيَّةً، كانت تَتلأْلأُ قبْلَ ثلاثةِ آلَافِ سنةٍ.
* (رُسوماتٌ جديدةٌ… لقدْ تَمَّ نشْرُ النُّصوصِ أعْلاهُ في المجَلَّةِ الفرَنْسِيَّةِ الجديدةِ/ La Nouvelle Revue Française، الَّتي غالِبًا ما تُخْتَصَرُ بِـ NRF (مارس أو أبريل 1992)
5) زارادشت فـي رواد *
يَجلِس الرَّاقِصُ بِلا حركةٍ علَى الشَّاطِئِ المهْجورِ وينظُر إلَى البحْرِ.
يمُرُّ طِفلان تَتراوَحُ أعْمارُهُما بيْن السَّابِعةِ والثَّامِنةِ، يَنْظُران إليْه، يَتوَقَّفان، يُراقِبانِه، وقدْ ظهَرَت حيْرتُهُما وافتِتانُهما بشكْلٍ وَاضِحٍ.
يَنتصِر في النِّهايَة فُضولُهما، وَيَقترِبان مِنْهُ.
الراقِصُ لا يَزالُ جامِدًا بِصرامةٍ، ونَظراتُه لم تُحرِّك رمْشًا.
يَرْتبِك الطِّفلان ويغمُرُهما الشُّعورُ بِالحرَجِ؛ يُحاوِلان كسْرَ الصَّمْتِ وَالجُمودِ عنْ طريقِ الابْتِساماتِ القسْرِيَّةِ المذْهولةِ؛ يُراوِغانِ قليلاً. وأخيرًا، يُقرِّر الأصْغرُ الكلامَ.
– مِنْ أيْن أتيْتَ؟
صمْتٌ وَجُمودٌ يَسُودان المكانَ والرَّاقِصَ.
ارتِباكٌ يخْترِقه صوْتُ الْأمْوَاجِ المُتكَسِّرةِ المُنْتظِمُ وَهيَ تَعود إلَى عرْضِ البحْرِ بعْدَ ارتِطامِها بِالحائِطِ.
بعْد فترَةٍ بدَتْ لهُما طويلةً لِلْغايَةِ، عاد أحدُ الطِّفليْن إلَى سُؤالِه بِكُلِّ إصْرارٍ:
– أنتَ لا تُريدُ أن تُخْبِرَنا من أيْنَ أتيْتَ؟
هذِه المرَّة، تَتحرَّك النَّظرَاتُ بِضْعَ درَجاتٍ بِبُطْءٍ شديدٍ، مُتَوَقِّفةً لِلحْظةٍ علَى وَجْهِ كُلِّ من الطِّفليْن، ثُمَّ يُومِئُ برأْسِه قليلاً:
– لا أسْتطيع أن أخْبْرَكُما بِذلِك.
تَعْلُو الدَّهْشةُ الوجْهَيْنِ ويُومِض القَلَقُ. يَلي ذلِك صمْتٌ طوِيلٌ.
خطَرَت علَى الطِّفلِ، الَّذِي لم يَقُل أيَّ شيْءٍ، فِكْرةٌ.
– كمْ سِنُّكَ؟
للرَّاقِصِ شعْرٌ رَمادِيٌّ، صدْرٌ عَمودِيٌ تَمامًا، كتِفان وذِراعان موْضوعان بدِقَّة ثاقِبةٍ، وصوْتٌ عَميقٌ.
– إذا قُلْتُ لكُما حقيقةَ عُمُري، فأنْتُما لن تُصَدِّقاني.
– ماذا تقْصِدُ؟ يَنظُر الطِّفلان إلَى بعضِهِما البعْضِ. ثُمَّ يَقولان، تقْريبًا معًا، في نفْسِ الوَقْتِ:
– ومعَ ذلِك، نَرْجوكَ أن تُخبِرَنا، من فضْلِك.
صمْتٌ من جديدٍ.
– حسَنًا، بِما أنَّكُما تُريدان حَقًا أن تعْرِفا، اعْلَما أنَّ عُمُري يُقدَّر بعِدَّةِ مِئاتٍ من السِّنينِ.
والتفتَ إلَى البحرِ مرَّةً أُخْرَى وَلم يَتحرَّك.
نظَر الطِّفْلان إلَى بعْضِهِما البعْضِ، ثُمَّ الْتفَتا إلَى عرْضِ البحرِ، كَمَا لَوْ أنَّهُما يَتَفحَّصانِه بحْثًا عن الشَّيْءِ الَّذِي يُمْكِنُ أن يَكونَ بتِلْكَ الأهَمِّيَّةِ التِي تدْعو إلَى رُؤْيَتِه وَهو البحرُ الذي يرَيانِه كُلَّ يوْمٍ دُونَ أن يَجِدا فيه شيْئًا غيْرَ عادِيٍّ. ثُمَّ، بعْدَ لحَظاتٍ طويلةٍ -لأنَّه كان لا بُدَّ من قليلٍ من الوقْتِ لِلعوْدةِ، لكِن من أيْنَ؟ – بَدَآ يرْكُضان، يرْكُضان…
* «رَوَّاد/ Raouad» هِيَ إحْدَى مُدُنِ الجمهوريَّةِ التونسِيَّةِ، تَقَعُ في وِلايَةِ أريانة. تُعرَفُ مدينةُ رواد بِشاطِئِها المُتموْقِعِ بيْنَ شاطِئي قمرت وبنزرت؛ وقدْ شهِدت المدينةُ تطوُّرًا كبيرًا في فتْرةٍ وجيزةٍ فبعْد أن كانت المدينةُ شِبْهَ ريفيَّةٍ، تخْتصُّ بِالأراضي الزراعِيَّةِ وتربِيَةِ الأبْقارِ والماشِيَةِ، أصبحت أكثرَ مِعْمارًا وقد نقُص عددُ الأراضي الزِّراعيَّةِ بشكْلٍ واضِحٍ لتُصبِحَ أراضي سكنِيَّةً. تُعتبَر رواد ذاتَ موْقِعٍ استراتيجي لِقُرْبِها من كُلٍّ من قمرت، المرسى وأريانة.
6) 28 مارس 1993، رواد
بحْرٌ هائِجٌ جِدًا في يوْمِ ما قبْلَ العاصِفةِ، كَمَا كان مُرتَّبًا في أصْوَاتِ تلاطُمِ أمْوَاجِه، وإيقاعِ تحَوُّلاتِه: انبِساطُ مُنْحنَيَاتِ الانْتِشارِ وَالتَّسطُّحِ، ارتِفاعُ ذَبْذَباتِ الدِّماغِ، والتِفافُ القِمَّةِ الشَّفَّافةِ الغامِضُ ذاكَ، الَّذِي يَتقدَّم بِانْتِظامٍ هنْدسِيٍّ مَخطَّطٍ من حَدِّ نصْلٍ إلَى حدِّهِ الآخَرِ، ثم يَتكسَّر، وَينْهارُ في حَدِّ ذاتِه، رُكامًا كبيرًا من العَناقيدِ وَالأكاليلِ، كَمَا لوْ أنَّ كُلَّ ذاك السُّمْكِ يُريدُ البَرْهَنةَ علَى جَوْهَرِه وكُنْهِه التَّنفُّسِيِّ.
وَأبْعدَ مِمَّا قدْ تُبْصِره العيْنُ، كان يَتراءَى التَّعاقُبُ الصَّارِمُ القاسِي لِلْمُرْتفعاتِ البَحْرِيَّةِ، واستِئْنافُ نفْسِ الموْضوعِ في فتَراتٍ مُخْتلِفةٍ من عرْضِه.
خمسَةُ نوَارِسَ، تُحلِّق قُرْبَ الزَّبَدِ، تَعْبُر لوْحةَ المَفاتيحِ من اليَمينِ إلَى اليَسارِ. حرَكةُ التَّجْديفِ، أكْثرُ بَيَاضًا من رَغْوَةِ الأجْنِحةِ. ذاهِلًا تَمامًا، مفْتونًا بِذلك النَّسْجِ المُتداخِلِ، كُنتُ أُكرِّر لِنفسي هذهِ الكلماتِ: لكن ماذا حدثَ لِلأصْوَاتِ؟
7) عَصا موسى
غابَةُ الأشْجارِ الصَّغيرةُ في الوَاحةِ الصَّغيرةِ جِدًّا الَّتِي وَاجهتْنا مَصاعِبُ كثيرةٌ ومَتاعِبُ لكيْ نقْتلِعَ أنفُسَنا مِنْها، اخْتفَتْ مُنْذُ فَتْرةٍ طَوِيلةٍ من مَجالِنا البصَرِيِّ. لَمْ يعُدْ هُناك أيُّ مَعالِمَ. موجاتٌ كبيرةٌ مُتجَمِّدةٌ من الحَريرِ الخامِ، وهُنا وَهُناك قَوَاعِدُ هائِلةٌ بِحَوَافٍ حادَّةٍ قاطِعةٍ، ذاتِ جَوَانِبَ مُنْفرِجةٍ مِثْلِ أسْفلِ جِذْعِ شجَرةٍ ضخْمةٍ. تحْتَ حافةِ الهوَامِشِ، نحَتَت الرِّيَاحُ إفريزًا مِثالِيًّا من الأصْدافِ المُجَوَّفةِ، وُضِع علَى دَعامَةٍ ذاتِ ثنايَا عظيمةٍ ناعِمةٍ أكثرَ منْها أنيقةٍ. لا تزال الشمسُ مُنْخفِضةً في سماءِ شهْرِ يناير العميقةِ، وغيْرَ بعيدٍ عن حجَرِ الزَّاوِيَةِ، ترْعَى قِطْعانُ الزَّبَدِ الرقيقِ ذِي الوَبَرِ المُجَعَّدِ. كُلُّ شيْءٍ يَبْدو خَفيفًا، هَوَائِيًّا ومُبْهِجًا. تتَفكَّك حبَّاتُ الرَّمْلِ المُقْتلَعةُ بِفِعْلِ تَنَفُّسِ الفضاءِ وتأْتلِق في الضَّوْءِ المُعاكِسِ بِدِقَّةِ الانتِشاراتِ الهارِبةِ؛ لآلِئُ الخَيالِ اللَّوني، الَّتي تَمَ تَصوُّرُها في نفْسِ الوقْتِ الَّذي تلْعب عليْها فيه قوَانينُ الطبيعةِ الأبدِيَّةُ. تِلك هيَ اللَّحظاتُ المِثالِيَّةُ لِنُزْهةٍ صَباحِيَّةٍ هادِئةٍ في الصَّحراءِ. أعرِفُ جيِّدًا أنَّ هذا ليْس سِوَى جُزْءٍ صغيرٍ من الجَوَانِبِ الَّتي لا حصْرَ لها من هذا اللِّقاءِ، لكن، الآنَ، دعْنا نَعِشْ، دعْنا نُؤْخذْ بِهذه الرَّقْصةِ المرْئِيَّةِ وَغيْرِ المَرْئيَّةِ، التي بِلا حرَكةٍ علَى ما يَبْدو. في هذِه اللَّحظاتِ، سُرْعانَ ما أَفْقِد المفْهومَ المكانِيَّ/ الفَضائِيِّ وَالعضَلِيَّ والنَّفسِيَّ لِلمسافةِ الَّتِي عَلَيَّ قطْعُها وَلِلمُدَّةِ. أنَا مأْخوذٌ في المَدَى، وأنا مَدًى. قِطْعةٌ مُتناهِيَةٌ في صِغرِها وتَناقُضِها من حقيقةِ العوَالِمِ الغامِضةِ، الضَّرورِيَّةِ وغيْرِ القابِلةِ لِلتَّجزِئةِ.
8) حدِّثْنا عنْ صحاريكُم
– أخْبِرْنا عن صَحاريكَ، عن تجْرِبتِكَ، عَمَّا يَجْذِبُكَ فيها، يُبْهِركَ، قالت مُذيعةُ التلفزيون وهيَ تَتَحقَّق من وَضْعِ الميكروفون المُعلَّقِ بيْن زِرَّيْنِ في أعْلَى قميصي.
– آه، – لا أعْرِف …. إنَّه أمْرٌ صعْبٌ. هُوَ يُشبِه الحُبَّ، علَى الأقلِّ، عِنْدما نَقوم بترْسيخِه في شيْءٍ أكْثر من مَلَذَّاتِ الجَسدِ (كَمَا ينْبغي مُمارستُه، بِالأحْرَى، لإمْكانِيَّةِ تحَقُّقِ تِلك المَلَذَّاتِ)، أوْ هُو يُشبِه الموسيقى التِي تَتخطَّى، بِشكْلٍ طبيعيٍّ، تاريخَ الأجْسَادِ. يُمْكِن أن نَتحدَّثَ عن أشْياءٍ مثْلِ الصَّمْتِ وَالضَّوْءِ وَالقسْوَةِ. ذاك التَّنْظيفُ المُذْهِلُ لِلمشهَدِ بِالفراغِ، عن طريقِ التَّآكُلِ. لأولئِك الَّذين يَقْترِحون العدَمَ، التأكيدُ علىَ قُوَّةِ ذلِك اللَّاشيْءِ لِجعْلِ ما لا يُمْكِن تصَوُّرُه ملْموسًا. أن نَقُولَ: القدَمان مُتقرِّحان، المَغصُ، واللَّيَالي الَّتي يَتجمَّد فيها المرْءُ. لكنَّ الأساسِيَّاتِ تحْدُث – أو بالأحرى – تُرفَض في مجالٍ بِلا عُمْقٍ أوْ سطْحٍ، دون خطٍّ عمودِيٍّ أوْ أُفُقِيٍّ، حافِرةً عميقًا في داخِلِه. الفُضولُ، والرَّغْبةُ في الغرائِبِيَّةِ لا يَصمُدان، حَقًّا. بِالطَّبْعِ، يُمكِنُنا، اليَوْمَ، أن «نذْهبَ في جوْلةٍ» لِنرَى، لِنُبْصِرَ. مِثْلَما نذْهبُ إلَى السِّينما، أو السوبر ماركت. حَسنًا، لِمَ لا.
9) ما هَذا السُّطوعُ الخفيفُ المُتبَخِّرُ
ما ذلِك الألَقُ الضَّبابِيُّ الخافِتُ الذِي يُزعْزِعُ الأُفُقَ الثَّابِتَ هُناكَ؟ هُوَ يَخْتلِف اختِلافًا كبيرًا عن تِلك الظَّوَاهِرِ البصَرِيَّةِ المعْروفةِ جِدًّا والنَّاتِجةِ عن الانكِسارِ غيْرِ المُتكافِئِ لِلأشِعَّةِ الضَّوْئِيَّةِ في طبَقاتِ الهوَاءِ ذاتِ درجاتِ الحرارةِ المُخْتلِفةِ. تكوِينٌ فريدٌ غيْرُ مسْبوقٍ، قُلْتُ لِنفْسي، ألعابُ الهوَاءِ وَالضَّوْءِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَهَا في كُلِّ حالاتِهِما. وَمَعَ ذلِك، فَإنَّ الصُّورّةّ تَبْدو، أكثَرَ وُضوحًا، بعْدَ نِصْفِ ساعةٍ من المشْيِ، مِمَّا يُوحي بِوُجودِ عَمودٍ سائِلٍ يَميل قَليلاً عِنْدَ نِهايَتِه، مِثْلَ جِذْعِ عبَّادِ الشَّمْسِ؛ الرأسُ الأشْعثُ، يَنْفجِر في سَحابةٍ من الغُبارِ البُخاري. لكنَّ هذه الرُّؤْيَةَ أوْ فِكْرةَ رُؤْيةِ عَمودٍ سائِلٍ مُنْبثِقٍ وَسَطَ الكُثْبانِ الرَّمْلِيَّةِ لا يُمْكِن سِوَى أن تكونَ سرابًا أوْ هلْوسَةً بَصَرِيَّةً. وإذا كان هُناكَ نَفْطٌ؟ وحَتَّى وَإن غيَّرْنا المَسارَ، فإنَّنا قدْ عَقدْنا العَزْمَ علَى الاقتِرابِ قدْرَ الإمْكانِ مِنَ اللُّغْزِ. وَكُلَّما اقتربْنا، بَدَا لَنا الأمْرُ أكثرَ غُموضًا. لِأنَّه علَى مسافةِ بِضْعِ مِئاتٍ من الأمْتارِ، أصْبح من المُسْتحيلِ إنْكارُ حقيقةِ أنَّه لم يكُنْ رُؤْيَةً صمَّمتها بعضُ حِيَلِ قوَانينِ البَصرِيَّاتِ أوْ كيمياءِ أدْمِغتِنا، وليْس أكْثرَ من تجَلٍّ مُقَدَّسٍ، ولكِنَّه، فِعْلًا، عَمودٌ سائِلٌ، نابِعٌ من وَسَطِ الرِّمالِ، بِقُوَّةٍ كافِيَةٍ تجْعلُه يَبْلُغ ارتِفاعًا يَتراوَح بيْن سٍتَّةِ وَسبْعةِ أمْتارٍ قبْلَ الانْحِناءِ بِلُطْفٍ ثُمَّ السُّقوط في هُطولٍ صغيرٍ لِقطَراتٍ مُتلألِئةٍ، مُتَصادِمةٍ بِفِعْلِ هَبَّاتِ الرِّيَاحِ. كُلَّما اقتربْنا أكثرَ، كان وُجودُ نباتاتٍ ضَئيلَةٍ مُزْدحِمةٍ حوْلَ الغديرِ ينْزَع عنَّا كُلَّ شكٍّ مُمْكِنٍ بِخُصوصِ طبيعَةِ «السَّائِلِ»! من المُؤَكَّدِ أنَّ ذلك الماءَ الَّذِي لم يكُنْ خارِقًا لِلطَّبيعةِ ولا خيَاليًّا، وَالمنبثِقَ في قلْبِ الصَّحْراءِ، لمْ يكُنْ أقَلَّ إثارةً لِلقلَقِ، كَمَا لَوْ أنَّه كان مُسْتمَدًّا من سِحْرِ قِصَّةٍ من ألف ليلة وليلة. لقدْ كُنَّا مفْتونين لِلغايَةِ لِدرجَةِ أنَّنا بعدَ الالْتِفافِ حوْلَها عِدَّةَ مرَّاتٍ – لم أكن أُقاوِم الفُضولَ لتَذَوُّقِ ذاك الماءِ الَّذِي بَدا لي صالِحًا للشُّرْبِ – جلسْنا أعْلَى أحَدِ الكُثْبانِ المُجاوِرةِ لِتأمُّلِ البَساطةِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي يَسْتفيدُ مِنْها الوَاقِعُ من خِلالِ وضْعِه تحْتَ أعْيُنِنا وأصابِعِنا ما يَبْدو لَنا غيْرَ قابِلٍ لِلتَّصديقِ.
10) نظْرةٌ وفِكْرةٌ ضائِعتانِ
نَظرةٌ وَفِكرةٌ ضائِعةٌ في الانتِشارِ غيْرِ المحْدودِ لحركةٍ غيْرِ مَرْئِيَّةٍ؛ رأيْتُ فجْأةً قطيعًا من الإبِلِ يَنْبثِق بِالقُرْبِ منِّي، وَيَتَّجِه نحْوَ نُقْطةِ الماءِ تِلك، الأُسْطورِيَّةِ تقْريبًا، بِبُطْءٍ مَهيبٍ يَتَّسِم بِه جوْهرُه الحكيمُ. وَدونَ إبْداءِ أدْنَى دهْشةٍ، بدَأ بعْضُ الجِمالِ في الشُّرْبِ لِفتْرَةٍ طويلةٍ، ثُمَّ، بِثِقةٍ كبيرةٍ، سَلَك كُلُّ القَطيعِ منْ جديدٍ طَريقَه الذي بَدَا أكثرَ وُضوحًا من شارِعِ الشانزيليزيه. صبِيٌّ يبْلُغ منَ العُمرِ اثْنَيْ عَشَرَ عامًا أَغْلق المَوْكِبَ.
لَمْ تُتَحْ لِي الفُرْصةُ أبَداً لِلعوْدةِ إلَى تِلْكَ المِنْطقةِ وَمَا زِلْتُ أتَساءَل أحْيَانًا عَمَّا إذا كُنَّا، ثلَاثَتُنا، نَحْلُمُ جميعًا بعَمودِ الماءِ ذاك المُنْبثِقِ في الكُثْبانِ الرَّمْلي.
11) شَّارِعُ قرْيَةِ سيدي بو سعيد
الشَّارِعُ الَّذِي يُمكِن، من خِلالِه لِسُكَّانِ الشَّاطِئِ وَالزُّوَارِ، الوُصولُ بِالسَّيَّارةِ إلَى قلْبِ قرْيَةِ سيدي بوسعيد ضَيِّقٌ لِلغايَةِ فِي عِدَّةِ أماكِنَ، إلَى درَجةٍ لا يُمْكِن أن يُحتَمَلَ معَها تَقاطُعُ شخْصيْن فيها. أضِفْ، إلَى ذلِك، العادَةَ المُزْعِجةَ لسائِقِي السَّيَّاراتِ الَّذينَ يَرْكُنون سيَّاراتِهِم، بِالتَّحديدِ، في أماكِنَ تُسْتخْدَم، عَملِيًّا، لِلعُبورِ؛ سَتعْرِف أنَّه في بعْضِ الأيَّامِ، وفي أوْقاتٍ مُعَيَّنةٍ بالذّاتِ- عِنْدما تلْتقي سيَّارَتان وَجْهاً لِوِجْهٍ، وَتصِل سيَّاراتٌ أُخْرَى وَتَتراكَم بِسُرْعةٍ كبيرةٍ علَى كِلا الجانِبيْن بيْنما سائِقا السَّيَّارتيْن الأمامِيَّتَيْن يَتناقَشان (نَبْرةُ المُحادثَةِ مُتَغيِّرةٌ لِلغايَةِ والمُصْطلحاتُ مُخْتارةٌ بِشكْلٍ أوْ بِآخَرَ) لِمعرِفةِ أيٌّ مِنْهُما يَنْبغِي علَيْه أن يَتَراجع ويُفْسِحَ لِلثَّاني المَجالَ-، سَتُتاحُ لكَ (وأنْتَ عالِقٌ بيْنَ صفَّيْن من المَنازِلِ وقدْ صَمَّت أُذُنَيْكَ أجْهِزةُ الإنْذارِ فِي أحَدِ أجْمَلِ الأماكِنِ في تونس) فُرْصةُ تأمُّلِ الطَّبيعةِ الإنْسانِيَّةِ عُمومًا وطَبيعَتِكَ علَى وَجْهِ الخُصوصِ، لِفتْرَةٍ طويلةٍ.
في ذلِك اليوْمِ، لم تكُنْ إحْدَى أعاجيبِ التَّقدُّمِ التَّقْني في نِهايَةِ ذلِك القرْنِ، الَّتِي يَهْمُر تحْت غِطاءِ مُحَرِّكِها عَددٌ مُثيرٌ من الخُيُولِ، هِيَ الَّتي سَدَّت مَمّرَّ العُبورِ أمامِي، وَلكِنَّها عرَبَةٌ صغيرةٌ ذاتُ عَجلتيْن كبيرَتَيْنِ، مطْلِيَتيْن بِاللَّوْنِ الأزْرقِ مِثْل أبْوَابِ وَشَبابيكِ مَنازِلِ القرْيَةِ، وكان يَجُرُّها حِمارٌ. كُنْتُ أعْرِف، مِثْلَ كُلِّ سُكَّانِ المكانِ، ذلِك الاقْتِرانِ العتيقِ بِاشْتِهاءِ عَفَا عليْه الزَّمنُ بيْن الحِمارِ والعَرَبةِ المُحَمَّلةِ بِالخُضْرَوَاتِ الجَيِّدَةِ، الَّتِي كان صاحِبُها يُقدِّمُها لِرَبَّاتِ البُيُوتِ اللَّائي يَفْتقِرْنَ إلَى الوَقْتِ أوْ الشَّجاعةِ لِلذَّهابِ إلَى السُّوقِ ثُمَّ الاضْطِرارِ إلَى العَوْدةِ مِنه وَهُنَّ يَحْمِلْنَ القِفافَ الثَّقيلةَ. عادَةً، ما عليْكَ سِوَى الانتِظارِ لِبِضْعِ دقائِقَ حتَّى ينتهيَ مُختار من وَزْنِ حِزْمةٍ من الشمْرِ/ البسباس أوْ الجَزَرِ علَى مِيزانِه الَّذِي يُمْسِكُه بِيَدٍ بيْنما يُضيفُ بِاليَدِ الأُخْرَى الأوْزانَ أوْ يُزيلُها، وَيُفْسِح الطَّريقَ بِوَضْعِ عرَبَتِه بيْنَ عَتبتيْنِ، علَى طُولِ الجِدارِ.
كان هُناكَ حشْدٌ من النَّاسِ حَوْلَ أولئِك المُمَثِّلين الثلاثةِ الوَدودين لِعصْرٍ قديمٍ. أثْناءَ توَقُّفي، سمعتُ كلماتٍ قاسِيَةً لِامْرأةٍ تَبْدُو غاضِبةً جِدًّا – كان مِنَ الوَاضِحِ أنَّها تلْعبُ الدَّوْرَ الرَّئيسِيَّ – وأصْوَاتَ جوْقَةٍ مُفَكَّكَةٍ، إلَى حَدٍّ ما، تَتَدخَّل في لَهْجةٍ أكْثرَ اعتِدالًا لِتوْضيحِ تَفَهُّمِها أوْ عدمِ مُوَافَقتِها. اضْطُرِرْتُ إلَى مُغادرةِ السَّيَّارةِ لِمُحاولةِ فهْمِ من أوْ ما هُوَ الشيْءُ الذِي تسَبَّب في كُلِّ تِلكَ الإساءةِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي يَبْدو أنَّها لا تُريد أن تَنْضِبَ عمَّا قريبٍ. ما رأيْتُه لم يكُنْ مُتَوَقَّعًا: أثْناءَ نَفْثِها لِكُلِّ ذلِك القدْحِ، كانت السَّيِّدةُ الغاضِبةُ تضرِب بِكُلِّ قُوَّتِها (وكان يَبْدو أنَّها تؤْلِم نفْسَها) علَى الحِمارِ الَّذِي كان يَتحمَّل التَّعْنيفَ بِثَباتٍ. سألتُ أحَدَ المُتَفَرِّجين، وقدْ تمَلَّكني الارْتِباكُ والدَّهْشةُ، إذا كان يّعْرِف سببَ ضَغينَتِها علَى ذلِك الحيَوَانِ المسكينِ. لَا، قالَ لي، كَمَا لوْ أنَّ الأمْرَ هُوَ الأكثرُ وُضوحًا في العالَمِ، «ليْس لِلحِمارِ علاقةٌ بِغضبِها، بَلْ خُصومَتُها معَ التَّاجِرِ.»