شرف الدين ماجدولين*
يمثل التنويع الأسلوبي لدى عدد كبير من الكتاب مخرجا من مآزق تعبيرية يفرضها الوفاء للجنس الواحد، قد لا يحتمل تشخيص موضوعات بدرجات متفاوتة من الحسية والدقة وحجم التفاصيل، والجوهر الانفعالي. من هنا كان الخروج من الشعر إلى الرواية في أحيان عديدة سعيا لمساحة أكبر في تمثيل المحيط والأصوات المتعددة والأمكنة والوجوه؛ والعبور من الرواية إلى المسرح بحثا عن منسوب عال من الدرامية والمواجهة والرهان على الحضور الجسدي، بيد أن العبور من عتبات اللفظي إلى امتدادات البصري في اللوحة والنحت والتجهيز قد يمثُل إلى حد بعيد بما هو تمرد على محدودية اللغة، أو على الأقل خروج من إيحاءاتها بالعجز.
في هذا السياق تحديدا يتجلى عمل عبد اللطيف اللعبي التشكيلي بما هو امتداد لتقليد أثيل مثّل فيكتور هوغو أحد ألمع رواده هو الشاعر والروائي والرسام بدرجة أقل، تقليد تواترت أسماء عديدة داخله من ديفيد لورانس إلى أرنيستو ساباتو، ومن ارهان باوك إلى هنري ميلر، هذا الأخير الذي برز في الغالب الأعم ضمن تاريخ الرواية المعاصرة كلاجئ للتشكيل، يعتور لجوءه ما يركب أي لوذ من رغبة في مجرد العيش والبقاء على السطح، ينطبق عليه تماما ما قد ينطبق في السياق العربي على الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا الذي ظلمت رواياته لوحاته الفنية، هو الذي اختار الانتماء لأكاديمية الفنون ببغداد وحول حياته الإبداعية لحوار دائم بين الكتابة والرسم، لكنه عاش دوما كأديب لاجئ للفن، يصادق الفنانين ويكتب عن أعمالهم ويدرس اختراقاتهم الجمالية، ويرسم أحيانا.
استحضرت هنري ميلر وجبرا ابراهيم جبرا بعد حوار جمعني قبل سنوات بالروائي والشاعر عبد اللطيف اللعبي حين كاشفني بشروعه في الرسم، في أوقات فراغه، كان يتحدث بخجل من رغبته تلك على نحو شبيه بما ورد في إحدى رسائل الروائي عبد الرحمن منيف لصديقة الرسام السوري الشهير مروان قصاب باشي، حيث قال انه تجرأ بعد شهور من الخرس مطلع التسعينيات من القرن الماضي، على إنجاز تخطيطات لونية، إثر إحساسه بتعهر الكلمات وفقدانها للعمق والجدوى(1)، قالها على نحو يشي بلجوء حياتي ينتشل صاحبه من الفقد المقرون بالرغبة في إنهاء كل شيء، فبعد حديث طويل عن ملكة الرسام الإلاهية التي تجعله يمتلك دون غيره من المبدعين جبلة الخلق المتصلة بالطين، يعترف أن الكلام ينتهي إلى الفراغ.
طبعا ثمة دوما لجوء مناقض من اللون والمادة إلى الكلمة، حملت رغبة في التخلص من وطأة العادة ومن لعنة الضرورة، بيد أن الحرية المشتهاة حملت ملامح التخلص غير المجدي، الناقل لمواجع العقم المقيم، في هذا السياق يبدو التجاء عبد اللطيف اللعبي إلى الرسم بمثابة استكمال عمل أشواط ولع اتخذ له عدة تجليات، بدءا بالاشتغال التاريخي والنقدي والثقافي على تراث الفنون التشكيلية بالمغرب، وانتهاء بانجاز كتب فنية مشتركة مع رسامين متحققين، قبل الانتقال إلى تنظيم معرض فردي يضم أعمالا أنجزت عبر محطات متقطعة وممتدة في الزمن.
عبد اللطيف اللعبي وسؤال الفن
خصص اللعبي مقدمته للعدد المزدوج (7-8) الصادر سنة 1967من مجلة أنفاس، للحديث عن الفن المغربي بما هو «اختصاص أوروبي»(2)، ومعرفة أنتجتها أدبيات استعمارية شتى كانت مفتونة بالظواهر الفنية أكثر من الفن، لنقل أنها متصلة بالحرف والصنائع التراثية، وفي هذا المقال الذي لا يخلو من روح نقدية استقصائية تناول بالتحليل بعض أهم الدراسات الاستعمارية في معرض تحليله للإيديولوجيا الاستعمارية والفن المغربي، كان تحليله التاريخي- النقدي بمثابة تمهيد لما سيأتي في مجمل محاور العدد الخاص من المجلة، الذي خصص بكامله للفن المغربي، عبر أهم أسمائه الحاضرة والمتحققة بنسب بمتفاوتة: محمد عطاء الله، ومحمد بناني، وفريد بلكاهية ومحمد شبعة، وأحمد الشرقاوي، ومحمد حميدي، والجلالي لغرباوي، ومحمد المليحي وسعد بن سفاج. أدلى كل من الفنانين بشهاداتهم، كما قدمت تعريفات مقتضبة بمساراتهم الفنية، وذيل العدد بمحاورة بين كل من محمد شبعة، ومحمد المليحي، وفريد بلكاهية، حول وضعية الفن المعاصر بالمغرب والجمعية المغربية للفنون التشكيلية، ثم صور عدد من أعمال الفنانين المشاركين في العدد.
كان العدد حدثا ثقافيا فارقا في مسار النظر النقدي والجمالي والتاريخي بصدد الفن بالمغرب، وكان اللعبي واعيا بالدور التأسيسي للتشكيل في الثقافة المغربية الخارجة لتوها من المرحلة الاستعمارية، بما لهذا التعبير من رهانات اختراقية وحداثية في مجتمع غارق في محافظته، وازدواجيته الفكرية.
وغني عن البيان أن تجربة أنفاس في مجملها مدينة لهذا التلاقي المبدئي، بين الأدب والتشكيل والفكر والسياسة، حيث رافق اللعبي في التجربة من بدايتها الفنانين محمد المليحي ومحمد شبعة، وهي السمة التي تعيد إلى الأذهان تجارب فنية ونقدية وثقافية عديدة في العالم العربي راهنت على التعددية التعبيرية في الحلقات الثقافية لإنتاج وعي جديد. ذلك على الأقل ما يلمس في تجربتي «الفن والحرية» بمصر، و»جماعة بغداد للفن الحديث» بالعراق، حيث كان التفكير بصدد قضايا الإبداع وما يتصل بها من أسئلة الحداثة والأسلوب والذات والتراث والآخر والحرية، تدور في فلك لفظي بصري يعيد تشييد حدود الفعل الإبداعي والممارسة الثقافية والنظر العقائدي.
في معرض جواب لعبد اللطيف اللعبي على سؤال للشاعر رشيد المومني عن وظيفة الفن في اشتغاله الإبداعي قال ما يلي:
«منذ تجربة أنفاس التي تفاعلت فيها كما تعلم طاقات إبداعية مختلفة، لم أفرط في ذلك الحوار والتلاحم ما بين أشكال التعبير الفنية، لاعتقادي بأن كل فن في أمس الحاجة للانفتاح على الفنون الأخرى، ليستوعب ما يمكن أن تقدم له من معرفة وخبرة لا يمكن أن يوفرها لو بقي متقوقعا ضمن وسيلة تعبيره الخاصة. لهذا تراني مولعا بالمسرح والسينما والفن النشكيلي طبعا. اشتغلت مع عدة موسيقيين ورسامين لتحقيق التفاعل المنشود، … أما عن الكتب الفنية المشتركة مع رسامين، فهي فرص نادرة للاحتفاء بعرى الصداقة والقرابة الروحية. لربما أن أجمل ما حققته في هذا المضمار هو كتاب مشترك مع محمد القاسمي لم ينجز منه إلا نسختان (احتفظ بواحدة منها) قبل وفاته»(3).
لم تكن دائرة اللعبي مغلقة على تلك التجارب، على حميمية العلاقات التي انتسجت عبرها، لم يكن المليحي وشبعة وبلكاهية ثم القاسمي بعد ذلك، ومحمد خدة في الجزائر، وآخرون من مشرق العالم العربي ومغربه، هم فقط من حاورهم إبداع اللعبي أو حسه النقدي وإنتاجه التحليلي، بل امتد بعد ذلك إلى تجارب من أجيال لاحقة، أذكر في هذا الصدد فقط التجربة التي ستجمعه مع الفنان حسن الشاعر، بعد سنوات من عمله مع محمد القاسمي، والتي أثمرت كتابا فنيا على قدر كبير من العمق والرهافة، في نسخة واحدة لازلت في ملكية الفنان، وحملت عنوان: «أرجوحات معلقة بالنجوم».
يمكن أن ندرج هذه المحاورات في أدبيات الصداقة بمعناها الكبير الذي يتخطى دائرة الأحاسيس والرؤى الشخصية إلى جدل جمالي، وسعي إلى النفاذ إلى قرار المشترك، تلك المعاني التي تقولها الكلمات مثلما الأشكال والخطوط والألوان، وتحتاج إلى قدر من الجهد والتجريد والتخيل لصياغة الجسر، ووضع الحوار في سياق تداولي يتخطى الروائي والشاعر والرسام إلى سنن ثالث مضاف لا هو باللفظي ولا بالبصري وإنما محصلة لهما أو عبرهما.
عبد اللطيف اللعبي وفضاء اللوحة.
لا تخلو كتابات اللعبي من ولع بالمعجم الفني، ليس بارتباط العبارات الروائية والشعرية بالبصري ورهانها على نقل الواقع بحدته وقوته وطزاجته الحسية فقط، إنما بتخيل العمل على نحو شبيه بمشغل التشكيلي، بحيث تتردد التمثيلات في مئات المقاطع ناهلة من محيط اللوحات وما تستبطنه من حركة وكتل وضياء وبلاغة، في مقطع من كتابه السيري «شاعر يمر» يقول ما يلي:
«بعد موجة البرد والرتابة الكئيبة، عادت الشمس هذا الصباح. اتكأت على نافذتي خلال برهة قبل أن تمضي لمداعبة أذرع الشجر العارية، ذات الجلد المشدود، الممدودة لكي تسند قبة سماء تخففت من غيومها، وتحولت إلى لون الباسيل الأزرق على يد رسام أبكر صباحا قبل العصافير. ومع ذلك فإن ثمة شيء ينقص هذا المنظر… لدي الآن انطباع بأنني أمام لوحة تفتقد لمسة أخيرة. لكن أيكون أنا هو من يعاني من الافتقاد؟»(4).
يمكن أن نصف المقطع الحالي بأنه صيغة من أسلوب الاكفرازيس L’ekphrasis الروائي(5)، حيث يعمد السارد إلى تمثيل عمل فني (لوحة/ منحوتة/ مشهد مسرحي/ لقطة سينمائية)، بيد أن ما يجعل التمثيل هنا مجازيا أنه يحول الواقعي إلى لوحة استعارية، مع ما يتصل بها من هواجس وسوانح، إذ لا يغيب عن ذهن أي مشتغل بالتشكيل أن نقطة النهاية غالبا ما تستبعد بشكل مطرد، وأن اللمسة الأخيرة تبتعد باستمرار، وينبت الشك والتردد عند كل سعي إلى الاقتناع بجاهزية العمل واكتماله، من هنا تبدو كلمات السارد متماهية مع الرسام الذي يتوق لأن يكونه، وخبر هواجسه بتجليات مختلفة عبر مسار الكتابة والعمل الثقافي.
وفي أواخر شهر نوفمبر من سنة 2018 افتتح في غاليري «ماتيس آرت» بمدينة مراكش، معرضا للأعمال الفنية لعبد اللطيف اللعبي، كان حدثا ثقافيا لافتا في مدينة تعج بالمعارض والإقامات الفنية، عدد كبير من جمهور الفن، وقراء الأدب المغربي المعاصر، ومتابعي كتابات عبد اللطيف اللعبي، فاجأهم المعرض، الذي ضم لوحات أنجزت في مراحل متباينة، لكنها جسدت للمرة الأولى الولع الفني للشاعر والروائي وقد تخطى نطاق المتابعة والصداقة والحوار لأعمال الغير، إلى التجريب الشخصي، كتب اللعبي نصا لمعرضه ذاك عنونه بـ«قصتي مع الرسم»، ضمنه رحلته من الطفولة البهية في فاس إلى تجارب ما بعد السجن والمنفى، مرورا بالدراسة الجامعية، تحدث فيه عن رسامين مغاربة وأجانب وتوقف عند مشاغل ولوحات وأسماء وأساليب سكنته، كما عرض مجددا لتجربة أنفاس وشركائه التشكيليين في مخاضاتها وانجازاتها، تحدث عن «غاستون دي هيل» أستاذ الجماليات وتاريخ الفن بكلية الآداب بالرباط، الذي قاده للتفكير في شؤون الفن وعرفه للمرة الأولى على أسماء من قبيل: الإدريسي والورديغي واليعقوبي، كما تحدث بكثير من اللوعة والحنين عن لقائه بالجيلالي الغرباوي في مرسمه بشالة بالرباط، ثم رحلته مع الفنان الفرنسي «جون بازين» إلى فاس العتيقة. في هذا النص يعيد اللعبي تركيب قطع اللوحة العاكسة لشغف سري ممتد في الزمن كان متخفيا دوما تحت أقنعة الألفاظ، في قصائد وروايات ومسرحيات وكتب أطفال، وحوارات شتى، وقراءات في أعمال تشكيليين أصدقاء سكنوا الفؤاد، قبل أن يخترق جدار البصري.
وفي مقطع دال من النص يقول ما يلي:
« بدأتُ أرسم كلّما أمكنني ذلك، يوميّاً ولعدة ساعات. في هذا البذل الجسدي والعقلي غير المسبوق، كانت المتعةُ دائماً في الموعد، وكذا ولَعُ الاكتشاف. طاقة مجهولة كانت تندسّ في دواخلي فتنبَجِسُ منها مُتحَكّمة في نوع من التعبير جديدٍ أستغني فيه عن رفقتي القديمة، أي الكلمات. إنها يدي التي صارت تأخذ زمام الأمور، يحرّكها الجسد المتوتر كقوس. هكذا كانت كيمياء الألوان تحُلّ مَحل كيمياء اللغة»(6).
تشبه كلمات اللعبي، في هذا النص، الطافحة بأحاسيس التخلص من عبء الألفاظ والمفردات والمجازات، عشرات النصوص التي يبوح فيها روائيون عديدون بغبطة هذا التحول، المفتوح على مشاعر التحرر والانطلاق إلى أفق جديد، خام، وغير مستهلك، بالنسبة إليهم، ذلك ما نلاحظه أساسا في كلمات عبد الرحمن منيف حين يقول متوجها بالكلام إلى صديقه مروان قصاب باشي:
«المخاض الذي أعيشه منذ فترة لكي أكتب يتعسر، يتلوى، يتباطأ، وبالتالي لا بد من طريقة ما للتعامل معه، وكما ذكرت لك، المياه ستجد طريقها. ليس ذلك فقط، ارتكبت حماقة، «رسمت»، والكلمة الأخيرة كبيرة فضفاضة إلى درجة الاستفزاز، وكدت في اليوم التالي أنتزع الورقة المرسومة وأستبدلها، لكن قلت لنفسي في لحظة معينة: لماذا يخجل الإنسان من حماقاته؟ لما يصر على أن يبقى لابسا ربطة عنق ومبتسما..»(7).
لوحات النأي: تشكيلات الكمون.
ويمكن تقسيم لوحات معرض عبد اللطيف اللعبي إلى ثلاث صيغ أسلوبية متساندة في تخييل القصد، الذي لا يبتعد عن معنى إجمالي هو «الكمون»، سواء عبر تشكيل الطبقات، في مجموعة أولى، أو تفتيت البقع اللونية في شبكة تجتاح مساحة السند في مجموعة ثانية، أو الإلماح إلى كتل تشبه أجسادا مموّهة في مجموعة ثالثة. في النهاية تتخايل المجموعات كلها مستبطنة لرغبة لاجعة في النأي عن الموضوع، وتصويره بما هو لغم أو إحساس كامن.
هكذا تتراكب طبقات الأصباغ بصيغ متباينة ومتقاربة في آن في لوحات المجموعة الأولى (سنضع لها أرقاما بما أنها لا تمتلك عناوين)(8)، تتخللها فجوات توحي بالكامن الذي ليس شيئا آخر إلا قشرة تستند إلى قشرة صباغية، شكلت منعرجات والتواءات تبدو فيها الفُرشات شديدة الحساسية، تحتفظ بالقدرة على إيهام الناظر إنها وضعت لكي لا تُنقح أو تراجع. اختار اللعبي في النهاية لونا واحدا في مجموعة «الطبقات»، ونوع من خلال مستوياته، وما يتخلله من ظلال حريفة. وتتجلى الطبقات اللونية في المحصلة شبيهة بمُزق أو قصاصات ثوب أو ورق أو جلد، تتراكب بصيغة الكولاج، كما توحي تراتبات الخفة اللونية أشبه ما تكون بالخروج من اللون الواحد، تمويه بارع لا يشي بدهشة الإنجاز الأول.
في مجموعة ثانية لا يبدو اللعبي مفارقا ولعه بالتراكب حين يقدم صيغا تفتت البقع اللونية بمهارة وثقة واسترسال أخاذ(9)، تبدو بما هي تجربة طباقية للأولى، التعدد بدل الواحدية، والانتشار الأفقى بدل التراكب العمودي، تتقدم اللوحة إلى مشاهدها شبيهة بشبكة أو متاهة، تتقاطع فيها بقع الألوان على سطح سند يبرز بياضاته بين الفجوات. ويهيمن في هذه الصيغة ملمح التكرار اللوني والتوزيعي للبقع، مع جدلية ظاهرة للونين الأزرق والأخضر. ولا تبتعد هذه المجموعة في مجملها عن رهان اللعبي على الكمون والنأي عن الموضوعات والكتل البارزة، وتخلو من هواجس الحسي بقدر ما تستدعي الكابوسي المؤرق.
ونكتشف في المجموعة الثالثة(10) أطياف أجساد مختصرة، وملامح تتطلع لأن تكون استعارات لوجوه أو أطراف، على نحو شبيه بما نجده في الأعمال النحتية المعاصرة، من جياكوميتي إلى عاصم الباشا، أطياف كائنات تغوص في تكوينها الهلامي، فتتحول إلى كتل من هواجس وأحاسيس ولهب، قد يتهيأ للناظر أول مرة أنها مجرد خطوط عمودية خرساء.
ترجعنا المجموعات الثلاث إلى ولع قديم للعبي بالاشتغال على الأثر، من «رسائل قلعة المنفى» إلى «قاع الخابية» (ليس «قاع الخابية» شيئا آخر إلا المعنى الكامن)، مرورا بعشرات النصوص الروائية والشعرية والمسرحية الأخرى، المعجونة برغبة صقل الأصول، وما تراكب في الذاكرة والجسد من لحاءات، عبر سنوات العمر ومحيط متقلب بين الوطن والمنفى وقبلهما قوقعة السجن الصلبة.
في تلك اللوحات يقول اللعبي ما لا تنطق به الكلمات إلا بصيغ مباشرة أو متلعثمة، يشتغل على ذاكرات لا تنسى وإنما تنبت جلودا تقيها من النفوق، وتحافظ على البدايات الأولى، لوحات تكتسي لونا أو لونين إنما بدرجات تراوح بين الشفافية والصلابة المعدنية.
على هذا النحو جسد عبد اللطيف اللعبي حلمه القديم، وأخرج للجمهور ثمار فن عايشه وكتب عنه ورافق مبدعيه وعاش تقلباته منذ عقود خلت، لينزع عنه رهاب الخروج من تعابير روائية وشعرية ومسرحية ساكنها لسنين دون ان ينتهي إلى الكفر بجدوى كلماتها، يقول في فقرة ختامية من نصه المرافق لمعرضه الفني:
«أنا الذي خِلتُ نفسي قد طفت العالم، وأعماق ذلك «المخلوق العجيب» الذي هو الكائن البشري، ها أنذا أستجيب لنداء رحلة جديدة لم أقِسْ حدودها ومَخاطرها. لكن، هل سبق لي أن أجريتُ أيّ تدبير حسابي قبليٍّ لكل ما قمتُ به في حياتي؟ ألا يجب أن أركّز على ذلك الحس التشارُكي الذي رعيتُه بعناية لكي أصُدّ عنّا ومن حولنا قضبان التشكك والانغلاق والانقسام؟»(11).
الهوامش
1 – انظر: عبد الرحمان منيف ومروان قصاب باشي، في أدب الصداقة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ودار التنوير، بيروت، 2012، ص 18 -19.
2 – « Relâcher l’histoire », Souffles, N : 7-8, 1967,P 1.
3 – ضمن كتاب: القراءة العاشقة، حوارات، دار ورد، دمشق، 2011، ص 31.
4 – منشورات دار ورد، دمشق، 2010، ص 32.
5 – يغيب مصطلح الاكفرازيس L’ekphrasis في عدد كبير من المعاجم المتخصصة، على نحو لافت للنظر، وهو يفيد وصف الأعمال الفنية الحقيقية أو المتخيلة، من قبل شخصيات العمل الأدبي، من مثل وصف «درع أخيل» في إليادة هوميروس، أنظر في هذا السياق:
-Philippe Hamon,La description littéraire, Macula, Paris, 1991, p.112.
6 – أعيد نشر هذا النص بصحيفة العربي الجديد يوم 22 فبراير 2018، انظر:
– www.alaraby.co.uk/culture/2018/11/22/
قصتي- مع – الرسم-1
7 – في أدب الصداقة، مرجع مذكور، ص 18.
8 – انظر الصورة رقم: 1.
9 – انظر الصورة رقم: 2.
10 – انظر الصورة رقم: 3.
11 – مرجع مذكور، الصفحة ذاتها.