ينزع الدرس النقدي المعاصِر إلى تهميش الكاتب في العمليّة الإبداعيّة والتّقليل من شأنه في إنتاج المعنى؛ فوظيفته لا تعدو أن تكون تدويناً لواقع فعليّ يخبره بحواسه وإدراكه في نصّ يحمل عتبات نصيّة، نظير العنوان والعنوان الفرعيّ والإهداء والتقديم والتنبيه، تحيل إلى وجود مسافةٍ بين الإبداع وذلك الواقع. ويستعين هذا الدرس، في تحليله للنّص السردي، بمفهوم الرّاوي الّذي تبدو ملامحه وسماته أكثر بروزاً من الكاتب الّذي تحضر رؤيته وخطابه من خلال فعل الكتابة، وهو فعلٌ يؤطّر محتوى النّص المكتوب فحسب، بحيث إنّ الكاتب لا يتدخّل في تنظيم الأحداث المرويّة ولا يعدّ طرفاً في التّفاعل السّردي، كما أنّ الفكر الّذي يروم تمثيله ليس هو، بالضّرورة، الفكر المبثوث في ثنايا النّص الّذي يضطلع الراوي براويته.
وهو ما يعني أنّ من ينهض بفعل الإبداع وإنتاج المعنى طرفان اثنان؛ طرف خارجيّ يتمثّل في شخص الكاتب الواقعي التاريخي الّذي يعيش بيننا والّذي يخطّ نصّاً يشي بسلطة الواقع يتلقّفه القارئ الواقعيّ التّاريخي، هو أيضاً، فيقرأه وفق مقام ورؤية محدَّديْن. وهذا الطّرف هو محور الدّراسات السياقيّة الّتي تنصرف إلى مقارَبة كلّ ما يحيط بالعمليّة الإبداعيّة من تاريخ واجتماع وسيرة نفسيّة. وطرف داخلي يتمثّل في شخصيّة الرّاوي المتخيَّلة اللّغويّة الّتي تنسّق محتوى النّص عبر التّلفّظ الّذي يوحي بانفصال النّص عن سياقه، بحيث يفترض هذا التّلفّظ وجود مرويٍّ له يستمع إلى فحوى الكلام الّذي يُشكِّل المرويَّ. وهذا الطّرف هو موضوع الدّراسات النّسقية الّتي تُعنى بأدبيّة النّص وخصائصه التّركيبية. ومن ثمّ، إذا كانت الكتابة هي القناة الّتي تحدّد العلاقة بين الكاتب والقارئ داخل النّص، فإنّ التّلفّظ هو القناة الّتي ترسم العلاقة بين الراوي والمروي له حول المروي. وبينما تحيل الكتابة إلى مرجعية النّص وواقعيّته الموضوعية، يحيل التّلفّظ إلى بنية المرويّ وواقعيته المتخيَّلة.
ومن أجل تأكيد الخاصية التّلفّظية للخطاب السردي، مضى دعاة الشّعريّة (نريد بالشّعرية، هنا، مجموع الرؤى والنّظريات النّقدية الّتي تستعيض عن صورة المؤلّف المرجعيّة بصورة الرّاوي المحايثة للنّص الأدبي، نحو شعريّة تزفتان تودوروف والبنيوية والسرديّات والسّيميائية) يستبدلون مصطلح المكان بمصطلح الفضاء؛ فحضور المكان بهندسته وجغرافيته، في النّص، يوهم القارئ بالواقع وبواقعيّة ما يقرأ من أحداث هي، في الأصل، أحداث مصطنعة أبدعتها اللّغة وحبكها خيال الكاتب الرحب. في حين، إنّ الفضاء، بسعته وامتداده وامتلائه، يوحي بالواقع ولا يوهم به أو يحيل إليه وإن تلمّس القارئ شيئاً من التّناظر والتّماثل بينه وبين المكان المحسوس الّذي يعيش فيه؛ فالفضاء مُكوِّنٌ لسانيٌّ يتّسم بخصائص وميزات جمالية، وتوظيفه، في النّص، يكون لغاية فنيّة قوامها النّظر إلى الفضاء كحاملٍ لقيمٍ تدركها الألباب لا الأبصار. من هنا، يحصل الاختلاف بين النّقد الاجتماعيّ والشّعرية في فهم وظيفة المكان وجدواه في السّرد عامّة؛ فبينما يحصر النّقد الاجتماعيّ دوره في الإحداق بالأحداث شأن الديكور في البيت أو الخلفيّة في المسرح ويُفرِغه من وظيفته التّأثيرية على مجرى الوقائع في النّص، ترى فيه الشّعرية معيناً لا ينضب من المعاني ومصدراً ثرّاً للإيحاءات والرموز؛ فالفضاء، في عُرْفها، يتجاوز ضيق المكان الّذي يجعل منه هيكلاً بلا روح وقاصراً، بسبب ذلك، عن التّفاعل مع الشخصية إلى رحابة القيم الّتي لا تحدّها الأشكال والأبعاد والألوان؛ فسعة الفضاء وامتداده وامتلاؤه هي بفضل تلك القيم الّتي يفرزها المكان حين يتواصل مع الشّخصية السرديّة فيفعل فيها وينفعل بها.
لهذا، وجدنا الروائيّ الملتزِم بقضية سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية لا يعنيه من أمر الفضاء إلاّ ما يمكِّنه من عرض التزامه ذاك في إطار رؤية للعالم؛ رؤية تعلو على النّص وتوجّهه وتُغلِّب البعد المعرفي فيه على البعد الجماليّ. وهو، في ذلك، يأبى إلاّ أن يستنفدَ خصائص المكان في مقاطع وصفيّة طويلة لا علّة لها سوى إضفاء مزيد من الواقعيّة على النّص؛ فقد «كان فلوبير في روايته الشّهيرة (السيّدة بوفاري) يُقيم عمله الروائي على وصف الملامح، وتحديد الحيّز [الفضاء] تحديداً دقيقاً، ورسم معالمه رسماً واضحاً أو رسماً معماريّاً، يجعلك تحسّ بحقيقة الحيّز [الفضاء] وواقعيّته وتاريخيّته جميعاً»(1).
بينما يعكف الروائيّ الملتزم بفنّه على تجسيد رؤيته الجماليّة للواقع عبر تكثيف المكان ليس بالصّور ذات الوظيفة الإبلاغية بل بالصّور ذات الوظيفة الشعريّة الّتي تشي بوجود قيمٍ دالّة على حضور تلك القضايا، ذلك أنّ المكان الواقعيّ أداة يحوّل بها الإنسان المحسوسات إلى أفكار في شكل أنساق، و»هذه الأنساق نتاج ثقافي في المقام الأوّل، ولكنّها تدخل في تشكيل النّصوص الفنيّة، غير أنّ الفنّ لا يتقبّل معطيات الثّقافة على علاّتها بدون تحويل أو تغيير، بل قد يكون الأمر على نقيض هذا؛ فالفنّ يحطِّم الأنساق السّائدة ويضع بدائلَ تحلّ محلَّها، قد تكون أنساقاً مختلفة أو مخالفة. ولذلك، لا يجب أن نبحث في الأعمال الفنيّة عن الأنساق الواردة في الثّقافة، بل يجب أن نستكنه الأنساق الخاصّة بكلّ فنّان، بل بكلّ عمل فنيّ على حدة»(2).
ومن ثمّ، نحسَب أنّ الفرق بين روائيٍّ وآخر يمثُل في درجة القرب أو البون عن سلطة المكان وأنساقه الثقافيّة التي يتواضع عليها المجتمع من جهة، وفي درجة القرب أو البون عن حريّة الفضاء وأنساقه الثّقافيّة الّتي يتمثّلها الكاتب في نصّه من جهة أخرى؛ فإذا اقترب الرّوائيّ من مركزية المكان، كان أدنى إلى المطابَقة مع الواقع والقيم السّائدة فيه، وإذا ابتعد عن تلك المركزيّة ولاذ بآفاق الفضاء اللاّمحدودة، كان أقرب إلى المغايَرة الّتي تعدّ خاصيّة الفنّ؛ مغايَرة تقدّم الحياة كما يُدرِكها الرّوائيّ نفسُه لا كما يُراد له أن يُدرِكها.
وعلى هذا الأساس، نميل إلى الاعتقاد بأنّ الكاتب العربيّ الجزائريّ أمين الزّاوي ينهج، في روايته «الرّعشة»، نهج المغايَرة في استثمار عنصر المكان؛ فهو يريده فضاءً عامراً بقيم ثقافيّة غير تلك الّتي ألفاها في الواقع وأَلِفها النّاس. طبعاً، هو لا ينفي حضور القيم في الحياة ولا يستطيع أن يُنشئ سدّاً أمام تدفّقها على النصّ؛ فأن توظّف مكاناً واقعيّاً معناه أنّ النّسق الثّقافي سيلج، لا محالة، إلى مفاصل الرواية ولو اقتصر الأمر على ذكر دالّه (اسمه). لكنّ الكاتب يعيد تشكيل تلك القيم المتداوَلة وفق طبيعة الموضوعة الّذي يروم سردَها والمنظور الّذي، من خلاله، يعرض نصّه. لهذا، يرى يوري لوتمان أنّ «مشكلة بنية المكان الفنيّ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشكلتيْ الموضوع والمنظور»(3). وإنّنا لَنَجِدُ في عبارة «المكان الفنيّ» وفي استنباط أنساقه الثّقافيّة في الشّعر والسّرد، لدى هذا الباحث الّذي احتفى بسيميائيّة الفضاء، ما يدلّ على أنّ الكاتب لا يتعامل مع مكانٍ فعليٍّ له وجود في العالم المحسوس، إنّما يتّخذ ذلك المكان مطيّةً للتّعبير عن قيم ثقافيّة تخضع للصّياغة والتّركيب والمساءلة والمعارَضة والمناقَضة. أو باختصار، للمغايَرة؛ مغايَرة الفضاء للمكان، ومن ثمّ، مغايَرة الفنّ للواقع.
1 – الفضاء والموضوعة والمنظور:
تنتظم قيم الفضاء، إذاً، في أنساق ثقافيّة، وتخضع لاستراتيجيّة نصيّة ينهض الروائيّ بتشكيلها بناءً على موضوعة ينتخبها (نفضّل استعمال لفظة موضوعة thème بدل لفظة موضوع، لأنّها تحيل إلى الصفة اللغويّة والجماليّة الّتي يصطبغ بها الموضوع ذو المنشأ الواقعيّ في النّص) ومنظور يتخيّره. وفي رواية «الرّعشة»، يثير الكاتب موضوعات متعدّدة تفصح عنها أقوال الشّخصيات وأفعالها، وتأتي في شكل ثنائيات ضدّية، هي: الحبّ / الغيرة، والفرح / الحزن، والثّورة / الإرهاب، والخير / الشّرّ، والحياة / الموت، بل قد تتكاتف بعض هذه الموضوعات فتقابل موضوعات أخرى متآلفة هي أيضاً: الحبّ – الفرح – الثّورة – الخير – الحياة / الغيرة – الحزن – الإرهاب – الشّرّ – الموت. وتتجسّد الموضوعات في فضاءات متعدّدة كذلك، حيث تُزهِر الحياة في الحوش العالي بالقرية وفي الشقّة بالمدينة؛ فهنا، «كان لجدّتي اسم غريب: (مارية)، هي حريصة على نظافة جسدها، تستحمّ يومياً على الرّغم من قلّة الماء في الصّيف. لم يكن جدّي ينزعج لهذا الإفراط في استهلاك الماء الّذي يُجلَب على ظهور الأحمِرة والبغال من عيْنٍ ليست بقريبة. لقد وجد حلاًّ للاستفادة من هذا الماء المهدور، بأن غرس في البداية حوض نعناع ثمّ بعض الأشجار المثمرة: خوخة وشجرة برقوق وشجرتيْ كرز ورمّانة؛ فكانت تُسقى بماء استحمام جدّتي، فتعطي أجود الثّمرات. كان جدّي سعيداً لاكتشافه هذه الحيلة بحيث لا يذهب الماء سدًى، وحين أدركت جدّتي سعادته بشجراته وحوض نعناعه كانت تغالي في استهلاك الماء»(4).
وهناك، «وحدها خالتي بعِطرها وحركاتها الّتي تُشبه الرّقص على الجليد تملأ الشقّة وتفيض على أطرافها لتتدلّى كالدالية أو نبات اللّبلاب من البلكون على الجميع، فتصير حكايات وحكايات. تصير المرأة هواء الهواء»(5). إنّ اجتماع الماء وحوض النّعناع والأشجار المثمرة هنا، والعِطر والحركة والدالية واللّبلاب والحكاية (لنتذكّر اهتداء شهرزاد إلى الحكي لإنقاذ بنات جنسها من الموت) والهواء هناك، إضافة إلى ارتباط نظافة الجدّة مارية بالماء هنا وحيوية الخالة زهرة بالهواء هناك، ذلك كلّه يوحي بموضوعة الحياة.
وكما يترصّد الإرهاب، الّذي هو قرين الموت، النّاس في الجبال، فهو يترصّدهم في شوارع المدينة ومداخل العمارات وسلالمها؛ فهنا، يقول حارس مقبرة القرية لزُهَيْر: «هذه قبور جثث واحدٍ وثلاثين شاباً، كلّهم عُثِر عليهم مذبوحين دون رؤوس، دفنّاهم هكذا وسجلناهم في السّجل بعد أن أعطيتهم أسماء من عندي ووضعت نجمةً خماسيةً أمام كلّ اسم.. هي الحرب.. وكلّ حرب تجعل مهمتي صعبةً»(6). وهناك، تقول زهرة لزُهَيْر: «اسمع يا زُهَيْر.. يا ابن عبد الله بن مارية.. اسمع هذا الرّصاص في الخارج، في مدخل العمارة وفي سلّمها وفي الشّارع.. هذا الرّصاص له صوت آخر، لا يُشبه صوت الرّصاص الّذي كنّا نسمعه في الجبل أيّام الثّورة. كان لرصاصِنا في ذلك الزّمن صوت الزّغرودة، كلّ طلقة انفجار حنجرة امرأةٍ تحتفل بعرسها.. أمّا في هذا الزّمن فالرّصاص صوت عواء الذّئاب الجائعة. أصوات الرّيح النّفير في مبنى خراب أو مهجور.. اسمع الذّئاب تعوي تبحث عن فرائسِها..»(7).
لقد تمّت خيانة الثّورة في القرية والمدينة معاً؛ فهنا، يضع حارس المقبرة أسماء مفترَضة لشباب عصف بحياتهم الإرهاب من أجل استعمالها في تزوير الانتخابات بإيعازٍ من رئيس البلدية. وهناك، ترتفع أصوات الرّصاص منذِرةً بقدوم ليلٍ طويلٍ يملأه الإرهابيّون بعنفهم وهمجيّتهم مثل ما يملأ عواء الذّئاب سكون الجبال ويَعْمُرُ هزيز الرّيح مسكناً غيرِ مأهول، حتّى إنّ صوت الرّصاص يغدو علامةً على الموت الّذي ينفي بعث الحياة من جديد؛ إنّه صوتٌ يثير الحزن والأسى، وهو لا يُشبه، في شيء، صوت الرّصاص الّذي يحرّر النّاس من ذلّ الاحتلال الفرنسيّ فيبعث فيهم الحياة بعد أن يستوطنهم الموت قرناً من الزّمان ونيّف، وهو صوت يشيع الفرح والحبور كصوت الزّغاريد الّذي يُعلن الأعراس. إنّ استشراء قيم الإرهاب والحزن والموت، في القرية والمدينة، مردّه ذلك التّحالف الخفيّ والاعتباطيّ القائم بين السّلطة والإرهاب؛ فالسّلطة تتنكّر للثّورة بتزوير الانتخابات، والإرهاب يتنكّر لها بإنكار الانتخابات، بل إنّ التّآمر على الثّورة سيصبح علنياً وطبيعيّاً فيه شيءٌ من الموارَبة والنّفاق، حين «تدّعي [السّلطة] محاربة الإرهاب وتصلّي الجمعة خلف أئمته وتسمع خطبَهم في تكفير الدّيمقراطية وذمّ المرأة»(8).
والحب هو، أيضاً، يتجسّد في فضاءات كثيرة، وحيث يحضر تحضر الغيرة؛ فهما، معاً، موجودان في القرية الّتي يُعجَب أهلها بعبد الرّحمن بن خلدون (والإعجابُ السّرورُ والميلُ) ويوصي وليّها الصّالح سيدي معتوق بأن يُدفَن معه؛ فتأكل الغيرة يحيى بن خلدون ويأمر بتحطيم قبر أخيه ويغطّي اسمُه على اسمِه. ويَشهَد الحوش العالي حب مارية لـزوجها زُهَيْر (وهو جدّ الشّخصيّة – الرّاوي زُهَيْر) الّذي يحب الحياة ممثّلةً في النّساء والشّعر والمخطوطات والأسفار والعطور والقهوة والنّبيذ. وهو الفضاء نفسُه الّذي يَشهَد غيرةَ رَحْمة أمّ زُهَيْر الحفيد الشّاب من خالته زهرة الّتي أرادها أبوه عبد الله زوجةً؛ فإذا بالقدر أو التّقاليد تريد رحمة زوجةً له. وقد ظلّ سرّ هذا الزّواج الّذي اضْطُرّ إليه الأب غير معروف.
هذا بعضٌ من تمظهرات الموضوعة في الرّواية. أمّا المنظور الّذي يعتمده الكاتب لعرض تلك التّمظهرات، فإنّه يُمكِن تقسيمه إلى صنفيْن اثنيْن؛ منظور رؤيويّ (من رؤية العالم) يحدّد إدراك الكاتب لموضوعاته، ومنظور سرديّ يُمثّل البؤرة الّتي تنقل الأخبار. إنّ المنظور الأوّل يرتبط بمقاصد الروائي الأيديولوجيّة الّتي تخضع لاستراتيجيّة نصيّة تعكس أسلوبه في النّهوض بترجمة فكره على صعيد الكتابة، حيث يتضافر، في هذا الأسلوب، الواقعي والخيالي، والأيديولوجي والشّعري، والتّاريخي والأسطوري، والمألوف والعجائبي. من ذلك أنّ الرّوائي يُطالع القارئَ بأحداث تُشاكل أحداث الواقع، من قبيل الاحتفال بعيد الثّورة وضرورة تحرير فلسطين وصعود الإنسان إلى القمر ومشروع بناء سدّ السواني وحرب أفغانستان. ولا شكّ أنّ أهمّ عامل يُسهِم في هذه المشاكلة هو المكان الّذي يخصّصه الكاتب بالاسم ونزر يسير من السّمات ليضطلع بوظيفة الإيحاء بقيم ثقافيّة محدَّدة.
والروائي لا يتردّد في إدانة تواطؤ السلطة مع الإرهاب والنّأي عن دائرة الصّراع بينهما وعدم الانحياز إلى طرفٍ دون آخر. إنّه موقفٌ إشكاليٌّ ينمّ عن فقدان الثّقة والريبة والتّوجّس من غياب العقل الّذي أضحى سمةً لصيقة بهذيْن الطّرفيْن؛ فأنّى للسّلطة أن تطلق اسم ابن رشد، وهو الفيلسوف العقلانيّ المستنير، على حيٍّ من أحياء مدينة وهران وهي تفتقر، أساساً، إلى العقل وتعوزها البصيرة، وأنّى للإرهاب أن يدّعيَ الحكمة وامتلاك الحقيقة والعصمة من الخطأ وهو الّذي يحارب العقل حين يُكفِّر ابن رشدٍ ويُحرِق كتبَه. إنّ هذا العمى والنفاق هما اللّذان اضطرّا أمين الزّاوي، ومعه بعض الكتّاب الجزائرييّن، إلى الهجرة التماساً للأمان، والتزام الصمت طلباً للسّلامة، وإعمال النّقد أملاً في كشف ما خفي من جنون وجهل غمرا كلّ مكان جميل، ولو على سبيل الحكاية الّتي قد تعيد شيئاً من الحياة إلى زهرة وزُهَيْر ومن خلفهما الكاتب الّذي يؤلمه مآل الحياة في بلدٍ «نزلت بـ [هـ] مظاهرات إلى السّاحات العمومية والحدائق، يقودها زعماء البلديّات الإسلامية، يُكسِّرون التّماثيل ويصرخون «الله أكبر جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً»، بعضها الآخر باعه المسؤولون إلى متاحف الخارج، وإلى سماسرة القطع المتحفية بالعملة الصّعبة، وقدّموا جزءاً من أثمانها لدعم خزينة الحزب»(9).
ثمّ، إنّ حكاية زهرة وحكاية زُهَيْر وحكاية زهرة مع زُهَيْر أو حكاية زُهَيْر مع زهرة والحكايات المتضمَّنة في الحكايات الثّلاث ليست سوى رغبة متوقِّدة في الحياة من خلال البوح بالأسرار وكشف المستور وفضح الخبايا. إنّه منطق الحكاية الّذي يتغذّى من الأخبار الموضوعة والأكاذيب المُستملَحة ولا يتقيّد بحدود المعيش وتخوم الحقيقة؛ فيَطلب التّاريخ ليؤسِّس واقعاً تخييليّاً مغايراً للواقع الموضوعيّ؛ فيجعل عبد الرحمن بن خلدون يفد إلى قرية امسيردا فيكرّمه أهلها وتصيب الغيرة قلب أخيه يحيى. ويُؤسطِر الحدث؛ فيتّخذ من أسطورة القبر المُثمِر والقبر العامِر مدخلاً لسرد حكاية زهرة الّتي تلوكها الألسن ويرويها النّاس على وجوه مختلفة. ويُصبغ على الخبر عجائبيّة تمنح الوليّ الصّالح سيدي معتوق حياةً بعد الموت؛ فتحضر جثته الأعيادَ والمواسمَ والمناسباتِ. إنّ الكاتب يستعيض بالحكاية عن الحقيقة، وبالحياة عن الموت، وبالحب عن الغيرة؛ فإذا كان «أصل المرأة حكاية وأصل الحكاية أفعى»، فإنّ «أصل زهرة حكاية وأصل حكايتها خطيئة» أخرجتها من حياة الجنّة بالقرية إلى موات الأرض بالمدينة. غير أنّ حكاية الحكاية؛ أي حكاية زهرة لحكايتها، هي ما يمنحها الحياة بعدما تقتلعها الخطيئة من القرية وتجعل أبناءَها يتمنَّوْن لها الموت، وحكاية الكاتب – الرّاوي – زُهَيْر لحكايتها هي ما يمنح زهرة – الجزائر الحياة بعدما تغرق في أَتون حربٍ مدمِّرةٍ.
إنّ أصل زهرة – الجزائر حكاية ابتدأت بالخطيئة يوم تفرّق شمل العائلة بعد وفاة الجدّ زُهَيْر بن إسحاق وترك الأعمام مصطفى وأحمد وعبد المجيد وعبد الرزّاق وعبد الرّحمن الحوش العالي وهجرة الأب عبد الله بن مارية إلى بلاد «بلا ملامح ولا تفاصيل»؛ فضاقت بزهرة القرية وضاق بها جسدها، وارتمت في حضن الفرنسيّ شوراكي الّذي رغِب فيها هُوَ كذلك، وصعدت إلى الجبل لمقارعة الاحتلال، وطلبت من مسؤول النّاحية أن يرخّص لها الزّواج من شوراكي بعدما بدأت عيون الملتحي تُلاحِقها، وشعرت أنّ وجودها بين الرّفاق أو الإخوة سينسيهم الثّورة أو الجهاد.
يروم أمين الزّاوي، إذاً، المقابَلة بين زمنيْن متشابهيْن في الوقائع والشّخصيات؛ فكما تبتدئ الحكاية بالصّراع حول التّوجّه الأيديولوجي الّذي تأخذه محاربة العدوّ بين شوراكي الّذي يرى تلك المحاربة ثورةً والملتحي الّذي يُريدها جهاداً، فإنّ الأحداث تعيد نفسها مع بدايات تسعينيات القرن العشرين حين يظهر الصراع على الحكم بين السلطة ذات الشرعية الثورية والتّوجّه الإسلاميّ المتشدِّد. وتستحيل زهرة، في خضم هذا الصراع، رمزاً للجزائر الّتي يتنازعها فكران؛ فكر ثوري يُمثِّله شوراكي في الزّمن الأوّل والبشير في الزّمن الثّاني، وفكر دينيّ يُمثِّله الملتحي في الزّمن الأوّل والعباس في الزمن الثاني. ويُلْمِحُ الكاتب، في تضاعيف الرؤية المأساوية الّتي تخلّلت النّص ووسَمت الخطاب الروائي الجزائري كلّه إبّان وبعد المأساة الوطنية(10)، إلى رؤيته الأيديولوجيّة الراكنة إلى الفلسفة الماديّة التّاريخيّة، عندما يجعل أبناءَ القرية يحبون شوراكي الّذي لا تنصرف زهرة إلاّ إليه، وهو الشجاعُ والطيّب والنبيل، والعارِفُ باللّغة والتاريخ والجغرافيا، والمُستنهِضُ لهمم الفلاّحين الممثِّلين للطّبقة العاملة، ممّا يثير الغيرة في نفس الملتحي الّذي بدا مخيفاً ومُرعِباً وغامضاً.
إنّه هوى الغيرة دائماً؛ غيرة يحيى من عبد الرّحمن، وغيرة رحمة من زهرة، وغيرة الأعمام من الأب، وغيرة الملتحي من شوراكي، وغيرة العباس من البشير، وغيرة النّساء على الرّجال، وغيرة الرجال على النّساء. إنّها الغيرة الأولى؛ غيرة إبليس الّتي أفضت إلى الخطيئة أو الهاوية أو هما معاً؛ فكان موت شوراكي وسرقة المخطوطات من قِبَل الملتحي وزبانيّته في الزّمن الأوّل، والموت والخراب من لدن السّلطة والإرهاب في الزّمن الثّاني. إنّ أصل الحكاية وأد الثّورة وسرقة التّاريخ. ولكن، لأنّ «ليس من السهل إنهاء حكاية ما، يُمكِننا أن نبدأ آلاف الحكايات لكن من الصعب علينا إنهاؤها، نخاف من نهاية مصائر الأبطال، لأنّنا لا نفرّق بين مصائرها ومصائرنا»(11)، فإنّ الرّوائي يأبى أن تكون نهاية حكاية زهرة أو الجزائر تعيسة ومفجعة، وأن يكون مصيرها بيد المنافقين والقَتَلَة، لأنّ حكايتها هي حكايته، ونهاية الحكاية هي نهايته: «وأنا في حضن زهرة أقول مستسلماً وقد أحسست أنّ روح أبي نبتت حكاية جذرها في مطمورة الحوش العالي وفرعها في قلبي: ها أنا أعدل مجرى السّاقية»(12).
تلك هي رؤية الكاتب للعالم، وذلك هو موقفه الأيديولوجي، وهما يتجليّان عبر المنظور السّرديّ الّذي من خلاله «يُفوِّض (أو لا يُفوِّض) للسّارد قدرتَه على التّبئير أو عدم التّبئير»(13). حينها، نمر من الكتابة إلى التّلفّظ، ومن ذات الكاتب إلى ذات التّلفّظ الّتي تتماهى، هنا، مع ذات الملفوظ، بوصف أنّ الذي ينهض بفعل الحكي مُتَضَمَّنٌ في الحكاية الّتي يروي. إنّها قصّة متجانسة السرد récit homodiégétique، تأتي على لسان الرّاوي المشارك بضمير المتكلّم (أنا)، وفيها يتناوب زُهَيْر وزهرة على السرد؛ فبينما يُهَيْمِنُ إدراك زُهَيْر على الفصول السّبعة الأولى، يحضر إدراك زهرة في الفصول الثّلاثة الأخيرة متقاطِعاً مع إدراك زُهَيْر أيضاً. إنّ بؤرة إدراك زُهَيْر تنصب على حكاية التّاريخ الّذي يسبق الزّمنيْن الأوّل والثّاني وبعضٍ من الزّمن الثاني، في حين تنصب بؤرة إدراك زهرة على حكاية الزّمن الأوّل وبعضٍ من الزمن الثّاني. يُعنى زُهَيْر بالتّأسيس للزمنيْن، وتهتمّ زهرة بسرد الزّمن الأوّل، ويتشاركان، معاً، في رواية الزّمن الثّاني.
وفي البؤرتيْن، يتداخل الإخبار والتّأويل، حيث لا يكتفي الراويان بسرد الأحداث سرداً موضوعياً، بل يتغلغلان في أعماق الشخصيات للكشف عن الأفكار والأهواء الّتي تتحكّم في أقوالها وأفعالها وتُوَجِّهُهَا، فضلاً عن أفكارهما وأهوائهما. تلك هي سمة «التّبئير الدّاخلي» أو «الرؤية مع» أو «الرؤية الدّاخليّة» الّتي تسبر أغوار النّفس وتشرّح اللاّوعي؛ إذ كلّما كانت الرؤية داخليةً، كلّما كانت درجة النّفاذ إلى نوايا الشّخصيات اللاّواعية أعمق(14). ومن ثمّ، فإنّ أعمال الشّخصيات تُحفَّز نفسياً من خلال التّبئير الدّاخلي، كقول زُهَيْر مُدْرِكاً هوى الغيرة الّذي يدفع أمّه رَحْمة إلى الكلام: «عدتُ إلى البيت، قالت لي أمّي: أَقَرَأْتَ على قبرها الفاتحة، لو كان أبوك لا يزال حيّاً لقرأ على روحِها شعراً وستّين حزباً. سكتُّ وأدركت غيرة أميّ من أختها، الّتي لا تشبهها سوى غيرة يحيى بن خلدون من أخيه العلاّمة عبد الرّحمن»(15). وقول زهرة مُدْرِكَةً هوى الخير الموجود بداخل زُهَيْر وهوى الشّرّ الّذي يقبع في نفس الملتحي: «هذا الملتحي مخيف، لحيته لا تشبه لحية زُهَيْر بن إسحاق الحائر أمام نهاية مخلوقاته في الحكاية، لحيته كان يمشطها كلّ صباحٍ بلذّة وشعر، قبل أن يشرب قهوته ويغرق في هول مخطوطاته… لحيته هذا الّذي يُقابلني بملامح مُرعِبة تحت ضوء خافت، فيها رعب وفيها غموض القاتل»(16). وقول زُهَيْر مُدْرِكاً هوى الحب الّذي يَعْمُرُ قلب زهرة تجاه جدّه زُهَيْر بن إسحاق وأبيه عبد الله: «عَيْنَا زهرة تجعلني أعتقد أنّها أحبت أبي لشيء واحد هو ذلك الشّبه الّذي بينه وبين جدّي»(17).
إنّ بؤرة الإدراك، في المقاطع السرديّة السّابقة، تتجاوز سرد أو تمثيل ظاهر الكلام ووصف ظاهر الشّخصية (اللّحية في المقطع الثّاني، والعينان في المقطع الثالث) إلى تأويل كينونة الذّات. غير أنّ انعكاس بؤرة الإدراك هذه ليست هي نفسُها لدى الرّاوييْن، حيث تُدْرِكُ زهرة الشّخصيات وتُدْرَك من زُهَيْر، بينما يُدْرِك زُهَيْر الشّخصيات ومن ضمنها زهرة الّتي لا تُدْرِكه. وعليه، تُعدُّ زهرة (مرآةً عاكِسةً)، بتعبير هنري جيمس(18)، لأنّها مُبئِّرة ومُبأَّرة في الآن نفسِه، في حين يُعدُّ زُهَيْر مُبئِّراً فقط. وهو ما يدفعنا إلى القول إنّ الكاتب قد عَهِدَ إلى زُهَيْر بتقديم رؤيته للعالم ومنظوره الأيديولوجيّ، حين جعله مُلمّاً بأفكار الشّخصيات وأهوائها وأعمالها بوصفه مُشارِكاً في بعض الأحداث وشاهِداً على بعضها الآخر، وحين فوّضه لِحَمْل زهرة على البوح؛ فجاء كلام الشّخصيتيْن في شكل حوارٍ مُتلفَّظٍ به بين راوٍ ومرويٍّ له. إنّ الكاتب، باستعماله ضميريْ المتكلِّم (أنا) تارةً والغائب (هو) تارةً أخرى ومراوحته بين صيغة الحاضر وصيغة الماضي عبر شخصية الراوي، لم يخرج عن دائرة التّبئير الدّاخلي الّذي يجعل السّرد أدنى إلى السّيرة الذّاتية، ذلك أنّ «[القصّة متجانسة السّرد] بالطّبيعة أو بالعرف (وهما والحالة هذه – شيء واحد) [ت] تصنّع السّيرة الذاتية تصنُّعاً أوثق ممّا [ت] تصنّع [القصّة غيريّة السّرد] الحكاية التّاريخية عادةً»(19).
2 – بوليفونية الفضاء:
إنّ جنوح أو تصنّع الكاتب للسّيرة الذّاتية في رواية «الرّعشة» يوحي برغبته في توثيق جزء من حياته الّذي يتقاطع مع حقبة حسّاسة شهدتها الجزائر في تسعينيات القرن العشرين. وهي حقبة تميّزت بتنامي العنف الّذي كاد يقضي على مقوّمات الدولة الوطنيّة. وقد شكّل المثقّف ضحيّةً، بامتياز، لهذا «الجنون» الّذي اغتاله جسدياً ودأب على إسكات صوته بالتّرهيب والتّخويف؛ فلاذ بالصّمت والصّبر حيناً، والمداراة حيناً آخر، والمنفى القسري حيناً ثالثةً. ولعلّ أمين الزّاوي يكون مثالاً ناصحاً للمثقّف الّذي ألزمه «اضطراب العقل وتشوّش البصيرة» بشدّ الرحال إلى فضاءٍ لم يكن به رحيماً، لكنّه هيّأ له فرصة البوح بشوقه إلى وهران؛ الفضاء الحميم. ذلك ما تؤكّده عتبة الإهداء: «إلى أطفالي لينا، إلياس، هزار الّذين يجوبون معي قفار المنافي وصهد الأمكنة غير الرّحيمة… في كلّ شاطئٍ نقول: أهذه وهران ؟ فتخوننا وهران في المكان… ولكنّها تبقى مرفئاً في القلب وفي الحرف».
غير أنّ الفضاء الحميم لم يكن، هو كذلك، رحيماً بشخصياته. كما لم تكن امسيردا؛ الفضاء الرّحمي، رحيمةً بها، في ظلّ العنف الأعمى الّذي طال الفضاءات جميعَها، بحيث تدثّر المكان بالسّواد والعَتْمة واكتسحه الموت والخراب وطوّقه الشّرّ من كلّ جانب. وإذا كانت أحداث الرواية تجري في فضاءَيْن رئيسييْن، هما امسيردا ووهران، فإنّ الكاتب يتوسّل بشخصية زهرة التّرميز إلى نسق ثقافيّ كونيّ سائد يرى أنّ المرأة رمزٌ للأرض. ومن ثمّ، تصبح العلاقة بين زهرة، الّتي تعني الإشراق والنّضارة والحسن والبهاء، وزُهَيْر، الّذي يُماثلها في تلك الصّفات من دون أن يكون هُوَ هِيَ (فاسم زُهَيْر تصغير لمفردة زَهْر الّتي يُشتَّق منها اسم زهرة؛ اسمٌ تُعرَف به الشّخصية بين النّاس، بينما يناديها زوجُها البشير زهور، ويناديها الجدّ فاطمة الزّهراء، وهو اسمها المُدوَّن في الحالة المدنية)، بمثابة العلاقة بين الأمّ وابنها، والأرض والإنسان، والوطن والمواطن. إنّ رواية «الرّعشة» حكايةٌ بطلاها المحوريان الجزائر والكاتب.
ولأنّ الفضاء يتّصف باللاّانسجام والبوليفونية (تعدّد الأصوات)، كما يذهب إلى ذلك لوتمان، فإنّنا نُلفي داخل الفضاء العامّ، الّذي هو الجزائر، فضاءات مختلفة وغير متجانسة تُعَدُّ مراكز و/ أو هوامش وتحدّها حدود. ليس هذا فحسب، بل إنّ سيميائية الفضاء في الرواية تتجاوز الجزائر إلى العالم كلّه، حيث يشير الكاتب إلى المشرق في مقابل المغرب، وإلى الشّرق في مقابل الغرب. وعلى هذا الأساس، تنهض بين كلّ فضاءَيْن اثنيْن، سواء أكانا منتمييْن إلى فضاء الجزائر أم إلى فضاء العالم، علاقة تضاد تنبني على «مفهوم الحدود [الّذي] يتّسم بالازدواجية: إنّه يُفرّق ويُوحّد في ذات الآن. تُعَدُّ دائماً حدّاً لشيءٍ معيّن وتنتمي بهذه الطّريقة لثقافتيْن متجاورتيْن، لاثنيْن من سيمياء الكون متلاصقتيْن. الحدّ يتّسم بالازدواجية اللّغوية والتّعدّد اللّغوي»(20). من هنا، يغدو الحدّ، بوصفه فضاءً، فاصلاً وواصلاً بين فضاءَيْن مختلفيْن يمتلك كلٌّ منهما صوتاً؛ أي لغةً متميِّزةً من حيث الثّقافةُ الّتي تَسْتَوْعِبُهَا وتُخْبرُ بها تلك اللّغةُ نفسُها.
القرية / المدينة: ترتكز هذه الثنائية الفضائية، في فكر الروائيّ العربيّ عامّة، على التّعارض بين قيم البداوة والكرم والبساطة والتّخلّف والجبرية الّتي تزخر بها القرية وقيم الحضارة والأثرة والتّكلّف والتّمدّن والعقلانية القائمة في المدينة. ولا يخرج الكاتب عن سياق هذا الفكر الّذي يؤسِّسه ارتباط الإنسان بالمكان وميله إلى مكان من دون آخر وإحساسه بالدعة فيه من دون سواه، ذلك أنّ أمين الزاوي، شأنه شأن معظم الرّوائيين العرب، قد وُلِدَ ونشأ في القرية الّتي احتضنت طفولته وأحلامه ولعبه ومطالعاته الأولى. إنّها امسيردا الّتي يقول عنها الكاتب: «إنّ المكان الّذي نحمله معنا في الذاكرة وفي المخيال، هو ذاك المرتبط بالطّفولة بسعادتها الملائكيّة وبصدماتها العنيفة كالموت أو الحب، ولا أزال حتّى اليوم حين أكتب نصّاً بالعربية أو بالفرنسية ولو كان عن مكانٍ حقيقيٍّ أو مُتخيَّلٍ تتحرّك فيه شخصية من شخصياتي الروائية إلاّ وأجدني مسكوناً بطيْف ذاك المكان، مكان الطّفولة والأحلام، مكان عمّتي ميمونة وأختي ربيعة وأخي عبد الرّحمن توأمي على الرّغم من أنّنا لم نولد ساعةً واحدةً ولا سنةً واحدةً»(21).
تلك هي، إذاً، نظرة الكاتب لامسيردا. وذلك هو بعضُ قيم الفضاء الرحمي؛ السّعادة والموت والحب. وهي القيم ذاتُها الّتي ينضح بها الفضاء في الرواية لا على صعيد التّجريد القيمي الّتي تستثيره علاقة الإنسان بالمكان، بل على صعيد التّحقّق النّصي الّذي يضفي على تلك القيم الثقافية المرجعية سمةً تخييلية، حيث تعيش القرية في كنف السّعادة التي تتجلّى في الاحتفال بحصول زُهَيْر على الباكالوريا، وهو أوّل من ينال هذه الشّهادة من أبناء القرية، وفق تقاليد وطقوس ومعتقدات تشكّل ثقافة المكان. غير أنّ قيمة السّعادة لا تكون ماديّةً، فقط، يُجسّدها احتفالٌ أو عرسٌ، إنّما قد تكون سعادةً روحيةً غير مُعلَنةٍ يُحفِّزُها الحب غالباً؛ حب زهرة لزُهَيْر الجدّ وعبد الله، وحب الجدّ والأب لزهرة، وحب زهرة لشوراكي، والحب الّذي يجمع الجدّ والجدّة مارية، وحب الجدّ للحياة، وحب زُهَيْر لخالته زهرة، أو مُعلَنةً يُبرّرها الحب الّذي يجعل النّاس يُقاسِمون الحوش العالي سعادتَه: «هي القرية كلُّها تحتفل، رجال كثيرون ونساء كثيرات وأطفال كالنّحل وخيل وغبار، وغناء. النّساء ترشفني بالملح دائماً درءاً للعيْن الخبيثة، وعلى رأسي ترمي العازبات قطع السُّكَّر فألاً لأيّام ستأتيني مليئةً بالعسل»(22).
ومن ثمّ، يفضي الحب إلى السعادة، بينما يُفضي الموت إلى التّعاسة؛ فقد عرف الحوش العالي الشّقاء والبؤس بعد وفاة الجدّ زُهَيْر، وشعرت زهرة بضيق القرية على الرّغم من الرحابة التي يشي بها كرم أهلها وعفويتهم وتضامنهم وإخلاصهم، وخيّم على القرية الخوف جرّاء الإرهاب الّذي ألمّ بها. ويُضاف إلى قيم السّعادة والموت والحب والقيم المترتِّبة عنها من تعاسة ورحابة وضيق وأمن وخوف، قيم متناقضة أخرى، من قبيل الكراهية والغيرة والتّخلّف والعلم والجهل والحياة والفرح والحزن والخير والشّرّ والثّورة. وبذلك، يُرسِّخ الفضاء الروائي قيماً ثقافيّةً محايثةً للنّص؛ إنّها قيمٌ بعضُها يُشاكِل الواقع، وبعضها الآخر تُنْتِجه الكتابة كما تُنْتِجه القراءة.
أمّا فضاء المدينة فيثير الخوف ويبعث على الغواية ويُنذِر بالغدر ويَعِد بالموت، ويتلبّس الزّيفُ أشياءَه وأشكالَه وألوانَه وأنوارَه ولغتَه: «أريد أن أهرب من جحيم هذه الشّقّة، ومن ورم وقت خالتي، لكنّي لا أعرف هذه المدينة، وليس لي فيها من ألتجئ إليه. كلّ ما في المدينة عنوان خالتي على ورق وكلّ ما سوى ذلك شوارع صاعدة ونازلة، حافلات، سيّارات، متاهة ملوَّنة بالألوان والأنوار، إشهارات لشركات (التّأمين) و(صندوق التّوفير) وبقايا كتابات إشهارات منذ العهد الاستعماري عن «أَنْبِذَة» و«الأورانجينا» و«سيّارة رونو 4» وسجائر «باسطوس» و«غولواز» وجيطان» وكأنّ من تركها به حنين إلى الزّمن الأوّل. شعارات جديدة عن (الاشتراكية) و(العدالة) و(اللّغة العربية) مكتوبة باللّغة الفرنسية»(23). وتُمثِّل الحافلة الحدّ بين القطبيْن الفضائييْن غير المتجانسيْن وعياً وأخلاقاً وعاداتٍ؛ فهي فضاء وسيط ومؤقّت بين القرية والمدينة، لا تتأثّر بثقافة هذه أو تلك، باستثناء أنّ الزّمن السياسي قد غيّر لوحة ترقيمها، ممّا يشير إلى حلول الثّقافة الوطنية ذات التّوجّه الاشتراكيّ محلّ ثقافة الاحتلال الفرنسيّ؛ ثقافة تعكسها الشّعارات في المدينة، وتدشين السّد في قرية «السواني».
القبر المثمِر / القبر العامِر: تقع المقبرة على هامش القرية. وفيها، يرقد الموتى في أمان واطمئنان بعيداً عن الصّخب الّذي يندّ عن المركز، حيث الأفراح والمآتم والأعياد والمشاريع وأحاديث النّاس. ومن ثمّ، تقابل المقبرة، بما تحمله من قيم السكون والهدوء والموت والخفاء، القرية الّتي توحي بقيم الحركة والنّشاط والحياة والجلاء. لكنْ، في المقبرة قبران اثنان؛ قبر مثمِر يحوي جثة سيدي معتوق وجثث واحدٍ وثلاثين شاباً اغتالهم الإرهاب، وقبرٌ عامِرٌ مُدّخَرٌ لعبد الرّحمن بن خلدون الّذي ارتحل من القرية إلى القيروان بطلب من حاكم تونس، وزهرة الّتي لم تُرزَق بأولاد، على الرّغم من أنّ النّاس تمنّوا لها الموت بدافعٍ من الغيرة لا الكراهية؛ غيرة دفعتهم إلى تحريم إطلاق اسم زهرة ومشتقاته في القرية بدعوى أنّها رغِبت عن أعرافها وتقاليدها.
وإذا كان السياج هو الحدّ بين الهامش والمركز، والمربّع هو الحدّ بين قبور النّصارى وقبور المسلمين واليهود، والسّلك الشّائك هو الحدّ بين قبور اليهود وقبور المسلمين والنّصارى، فإنّ الحدّ بين القبر المثمِر والقبر العامِر ليس مكاناً أو شكلاً أو حائلاً يحمل بعضاً من آثار الفضاءَيْن المتجاوريْن، إنّما هو حدّ عُرفي تواضع عليه النّاس في القرية ومثبت في مُسند تقاليدها: «… فإذا بلغ المهاجر من الذَّكَر عمر وليّ الله الصّالح، ولم يرجع إلى قريته، فله الحقّ في أن ينام في ترابها، لذا يُحفَر له قبر بشاهدته عليها اسمه وتاريخ خروجه من القرية وتاريخ ردم القبر – تاريخ موته، كما يُشطَب اسمه من السّجل في حفل يُقرَأ فيه القرآن ثلاثة أيّام، وتوضَع أمام اسمه من السجل نجمة خماسية. أمّا المهاجرة من الإناث، فلها الحقّ هي الأخرى في رقدة التّراب، إذا ما بلغت سنّ اليأس أو العجز وهو العمر الّذي يتوقّف فيه رحمها عن الخصب والإنجاب»(24).
من أجل ذلك، يحمل القبر المثمِر قيمة الموت الّذي يبرز للإنسان في خريف العمر أو على حين غِرّة، وهو موت يصيب الجسد بعدما تُسعِده الحياة بمسرّاتها وأحلامها وتُشقيه بأهوالها وأوهامها؛ فيعطّل النّشاط والحيوية اللّذيْن يموران فيه. في حين، يحتفظ القبر العامِر بالحركة والحياة والنّماء؛ فروح المهاجر أو العاجز مقيمةٌ فيه على الرّغم من أنّها تُحوِّم في أصقاع بعيدة أو يحلّ بها الوهْن؛ فكأنّ المكوث يورِث فناء الجسد، وكأنّ الهجرة وانقطاع الرّجاء يورِث الخلود والعمر الطّويل.
السّقيفة / القبو: يَحْضُن الحوش العالي هذيْن المكانيْن اللّذيْن لم يكن الجدّ يبرحهما إلى سواهما من الأماكن إلاّ نادراً؛ فهما مكانان أثيران تروح فيهما الشّخصية وتجيء عبر سرداب يمثّل حدّاً بين فضاءَيْن يُشكِّلان تقاطباً عمودياً ينزل من أعلى إلى أسفل ويصعد من أسفل إلى أعلى. ممّا يشي بالمُراوحة بين العلوّ والانخفاض، والسطح والغَوْر، والجلاء والخفاء، والحضور والغياب، والوضوح والغموض، والدنوّ والبوْن، والإطْلال والخفوت، والدراية والجهالة، والبصيرة والعمى، والإيمان والكفر، والعقلانية واللاّعقلانية، والوعي واللاّوعي، والفكر والواقع، والرّوح والمادة، وإشراق الحب الطّاهِر (ففي السّقيفة، تصيب عبد الله رعشة الحب حين تغادرها زهرة الّتي يتخلّل قلبَها حبُه أيضاً) واحتجاب الغريزة الجنسية، والرّفعة والضّعة، والتّسامي والإسفاف، والحلم والحقيقة، والحياة المشرئبة إلى السّماء والحياة المتناهية في الأرض(25)؛ ففي السّقيفة «يغرق [زُهَيْر] في بحر حروفه المبهمة، ممتلئاً بالحيرة تارةً وبالمفاجأة تارةً أخرى وبالحزن والتّأمّل تارةً ثالثةً.. كان يعيش حروفَه أكثر ممّا يقرأها»(26). وفي القبو «دلاء النّبيذ المعتّق كلّ دلوٍ عليه ورقة شاملة المعلومات: اسم النّبيذ وتاريخ عصْره وما أُضيف إلى عنَبه»(27).
المطمورة / المدرسة: يحيل فضاء المطمورة إلى وجود أسرار مخبوءة في هذا المكان الّذي وُضِع، أصلاً، لحفظ القمح والشّعير. وليست تلك الأسرار سوى الأوراق والكتب والمخطوطات الّتي عكف عبد الله على جمعها في أكياس وطمْرها بعد موت أبيه زُهَيْر. وهو ما يومئ إلى تحوّل وظيفة المطمورة من سِتْرِ الأشياء الّتي تغذّي الجسم إلى سِتْرِ الأشياء الّتي تغذّي الرّوح. وترى زهرة في أسرار المطمورة «علماً عظيماً وحروفاً نورانيةً» لا تضاهيها دروس محو الأميّة الّتي تنصرف إلى تعليم الإملاء والحساب والتّاريخ في مدرسة شوراكي التي أوجدها الحزب. وعليه، يحصل ضربٌ من التّنافر بين قيم هذيْن الفضاءَيْن اللّذيْن يفصل بينهما أديم الأرض؛ ففي حين، تستر المطمورة التّراثَ النّابعَ من ثقافة المجتمع الأصيلة والمتأصِّلة والحافظَ تاريخَ الإنسان وشخصيتَه والمُحرِّرَ باطنَه من غرائز الجسد وأهواء النّفس، تشيع المدرسة العلم الّذي ترعاه الأيديولوجيا وتوجّهه ويرنو إلى المستقبل ويُعلِّم الحياة الّتي مضت تتركّب وتتعقّد، في نظر زهرة، بدءاً من هذا المكان.
الداخل / الخارج: تَحُول العتبة، كحدٍّ، بين (هنا) منغلق على الجمال والنّظام والامتلاء والرّحابة والحياة و(هناك) منفتح على الضّيق والكثافة والغموض والبكاء والصّراخ والكآبة والخوف والقسوة والموت؛ فكلّ ما يملأ الشّقّة من أثاث وأشياء وأصوات يحفّز زهرة وزُهَيْر على البوح والكشْف أو يُثبِّطهما، وكلّ ما يؤلِّف طوبوغرافية المدينة بدءاً من السّلالم ومداخل العمارة وانتهاءً بالأطراف أو الهوامش هو مسرح مفتوح تخوض فيه السّلطة والإرهاب «معركة أطفال… معركة مزيّفة». غير أنّ الحدود والسدود لا تمنع من انتقال القيم الثّقافية من مكان إلى آخر، لأنّ قيمة المكان، وإن كانت قيمة هندسيّة نظير الارتفاع، هي قيمة إنسانيّة تتولّد من إدراكنا للمكان الّذي نعيش فيه أو نرتاده أو نراه أو نحلم به أو نحنّ إليه. إنّ «الداخل والخارج لا يتلقيّان النّعوت بالطّريقة نفسِها، لأنّ هذه النّعوت هي قياسُ التحامِنا بالأشياء؛ فنحن لا نعيش النّعوت المشدودة إلى الداخل والخارج بالكيفية ذاتِها»(28).
وبهذا الشّكل، تصبح الشّقّة ممتلئة وفسيحة، وهي في الأصل خالية وضيّقة بالنظر إلى المدينة العامِرة بالشّوارع والعمارات والحافلات والسيّارات والإشهارات والشّعارات التي تجعلها تمتدّ بطوبوغرافيتها وثقافتها إلى الضّواحي والأطراف، بصوت زُهَيْر الّذي يزيد من مساحة الحريّة لديه ويُشعِره بالقوّة بعد أن ضاق بجحيم الشّقّة المخيفة والباعثة على الخوف من ارتكاب الجريمة أو الخطيئة. كما ينعكس امتلاءُ المدينة، في وعيه، فراغاً وامتدادُها ضيقاً؛ فهو امتلاء كاذب وامتداد مرعب؛ إذ كلّ ما يمثّل الخارج، في نظر لوتمان، يبعث على الخوف والرّهبة والنّفور: «بالمقابل، بعض العناصر تُعدُّ دوماً متموْضِعةً في الخارج. إذا كان العالم الدّاخلي يعيد إنتاج الكون، إذن ما يوجد في الجانب الآخر يمثّل العدم، العالم – المضاد، فضاءً جهنميّاً لا شكل له، مسكوناً بالمخلوقات المخيفة، بقوى جهنميّة أو بمساعديهم من البشر»(29). ومن ثمّ، ألا يجعل القتلُ والإرهابُ والعنفُ الإنسانَ مخلوقاً مُخيفاً أكثر من أيّ مخلوقٍ جهنميٍّ كائنٍ أو ممكنٍ ؟!
آنئذٍ، نكون أمام ثنائية الظّاهر والكائن؛ ظاهر ماديّ مُجسَّد ومُحيَّن، وكائن نفسيّ مُجرَّد ومُضْمَر؛ فظاهر المكان تسْتَظْهِرُه العين والجوارح، وكينونته يسْتَبْطِنُها الوعي والشعور. ولكن، قد يتحوّل الظّاهر إلى كينونة، والكينونة إلى ظاهر، حين يُخالِف الإحساس والاعتقاد واقع الحال؛ فما يظنّه النّاس وزهرة من «أنّ المدن مكان مليء بالخبز الأبيض، والألبسة النّظيفة الملوّنة»(30) حقيقةٌ هو محضُ صورةٍ تنطبع في الأذهان وتُخفي كينونة المدن كمكان مليء بالمجاعات والأمراض.
المشرق / المغرب: يُمثّل المشرق، أو الشرق العظيم كما يقول زُهَيْر، أصل عرش زُهَيْر بن إسحاق؛ فهو يمدّه بالعلم على نحو ما تُمثِّله مخطوطات الشّعر والفقه والنّحو والجغرافيا والطب والحكمة الّتي يجلبها الجدّ من الشّام وحلب والقدس وطرابلس الغرب؛ فيغدو العرش، بدوره، مصدر العلم وأصله لـِ «الّذين يجيئونه من مدن كثيرة وبعيدة من قسنطينة وفاس والقيروان وكولومب بشار وداكار للاطّلاع على مخطوطة أو لتوثيق حاشية أو تصحيح اسم علمٍ من أعلام الدنيا»(31). وبذلك، تمثّل امسيردا، الّتي علت منزلتها وضرب الأتراك صفحاً عن إلزام أبنائها بالخراج بفضل علم عائلة زُهَيْر بن إسحاق، همزة وصل بين المشرق والمغرب؛ إنّها حدّ بين مكان يرشَح علماً ومكان يطلُبه حثيثاً. وهذا الحدّ ليس جغرافياً، ذلك أنّ الرّاوي لا يأتي على ذكر الأمصار الّتي حدّ حدودَها الاحتلال الأجنبيّ، بل يذكر الحواضر الّتي تشتهر بالعلم أو تمتلك قداسةً، مثل الكعبة والمسجد الأقصى. لكنّ امسيردا ستصبح، بعد الاستقلال، مكاناً قصيّاً ينتشر فيه التّهريب عبر الحدود الّتي تفصلها عن المغرب. وهو ما يؤهّلها لأن تكون المركز والحدّ والهامش في آنٍ واحدٍ؛ فهي مركز يشعّ علماً، وحدّ يُنقَل عبره العلم من المشرق إلى المغرب كما يُنقل منه البنزين وإليه «الحشيش والويسكي والألبسة النّسائيّة الداخليّة»، وهامش جغرافي يستنزفه التّهريب وعزوف النّاس عن خدمة الأرض.
الشّرق / الغرب: لَطَالَمَا اتّسمت العلاقة بين (الأنا) و(الآخر) بالتّعارض والاختلاف من حيث نظرةُ الإنسان هنا إلى الإنسان هناك أو العكس؛ نظرة تتلخّص في ثنائية الشّرق المشدود إلى الانحطاط والجهل والعنف والغرب المشرئب إلى الحضارة والعلم والتّسامح. غير أنّ هذا التّناقض في النّسق الثّقافي الّذي يحكم رؤية العالم هنا وهناك ويوجّه، من ثمّ، نظرة الأنا للآخر ونظرة الآخر للأنا، والّذي راح الروائي العربيّ يُجسِّده في جملةٍ من النّصوص الروائية الّتي اصطلح عليها النّقاد والدّارسون بروايات الصّراع أو المواجهة الحضارية، من قبيل «موسم الهجرة إلى الشّمال» للطيّب صالح و«الحيّ اللاّتيني» لسهيل إدريس و«عصفور من الشّرق» لتوفيق الحكيم و»الوطن في العينين» لحميدة نعنع و«نيويورك 80» ليوسف إدريس، لا نُلفيه في «الرّعشة»؛ فالكاتب يجعل الشّرق منبع العلم وأرض الرّسالات، ويجعل الغرب فضاء القسوة والموت: «قَدَر جدّي أن يرحل نحو الشّرق باحثاً عن مخطوطات وأوراق وباحثاً عن رائحة الأنبياء، وقَدَر عبد الله بن مارية أن يرحل في اتّجاه الغرب حيث لا شيء سوى المطر والبرد والنّسيان والجرائد والرّعب الّذي يُرسِله الألمان»(32). والحدُّ نفسُه تتلبّسه قيم الخوف والغدر والموت مثل الغرب تماماً؛ إنّه البحر الّذي تقول عنه زهرة: «قد لا نلتقي ثانيةً، فالبحر الّذي سيعبُره غدّار وقاتل، والبلد الّذي سيرحل إليه غامض ومخيف وخرافي، ولا يملك مكان القلب سوى زمردة كبيرة، فتنة الرّوح»(33).
خلاصة:
تمارس الكتابة والقراءة، معاً، دوراً مُهِمّاً في استظهار الفكر الّذي يدفع الإنسان إلى إضفاء قيمٍ على المكان تعكس تمثُّلَه للعالم من حوله؛ فالبشر لا يختلفون في تعريف العمق والارتفاع والحجم، كما لا يختلفون في تصنيف اللّون والشّكل، لكنّهم يختلفون، حتماً، في إدراك الضّيق والامتداد واستكناه رمزيّة الأحمر ودلالة الهرم، وفي إسناد القيم الثّقافية إلى ذلك المكان؛ قيمة أخلاقية (خير / شرّ) أو هَوَوِية (حب / غيرة) أو وجودية (حياة / موت) أو دينية (إيمان / كفر) أو أيديولوجية (ثورة / جهاد) أو معرفية (علم / جهل) أو فلسفية (فكر / واقع)… من هنا، ننتقل من الكونية أو المخيال الّذي يوحّد ويجمع إلى الثّقافة الّتي تميّز وتفرّق. ويصبح النّسق الثّقافي السّند الّذي تركَن إليه المجموعة الاجتماعيّة في تفسير دلالات المكان وتأويلها؛ فتُبين، من خلاله، عن موقفٍ من العالم لا يتحدّد إلاّ عن طريق إدراك المكان نفسِه. وتمثّل الرّواية، بوصفها نصّاً ثقافياً يحفَل بالرّموز والقرائن والأيقونات، حلقة وصل بين ثقافة المجموعة الاجتماعيّة وموضوعيّة العالم؛ فتعرِض تمثّلاتها له عبر المكان الّذي يفتقد، شيئاً فشيئاً، علاماته الهندسية والجغرافية والطوبوغرافية ويكتسب علامات ثقافيّة تجعل منه فضاءً لا مجرّد مكانٍ خالٍ من الحركة والصّوت والفعل والقول. غير أنّ الرّواية لا تكتفي برصد القيم الثّقافية الّتي يتداولها أفراد هذه المجموعة أو تلك، بل إنّها تنتِج قيماً خاصّةً بالعالم المتخيَّل الّذي تصطنعه؛ فتُحوِّل الامتلاء فراغاً، والأمن خوفاً، والموت حياةً، والسّعادة شقاءً، والعلم جهلاً، والخفاء جلاءً،… حينها، يصبح «المكان الّذي نحمله في الإبداع أكبر من الحجر ومن الشّوارع ومن الزّمن»(34).
الإحالات:
1 – عبد الملك مرتاض: «في نظريّة الرّواية؛ بحثٌ في تقنيات السّرد»، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، د. ط، 1998، ص 153.
2 – يوري لوتمان: «مشكلة المكان الفني»، تقديم وترجمة: سيزا قاسم دراز، في «جماليات المكان»، كتاب مشترَك، عيون المقالات، الدّار البيضاء، ط. 2، 1988، ص 65، 66.
3 – المرجع نفسه، ص 82.
4 – أمين الزّاوي: «الرّعشة؛ امرأة وسط الرّوح.. وحكاية أطراف الرّيح»، الدار العربية للعلوم ناشِرون، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط. 2، 2005، ص 26.
5 – الرواية، ص 15.
6 – الرّواية، ص 13.
7 – الرّواية، ص 95.
8 – الرّواية، ص 89.
9 – الرّواية، ص 97، 98.
10 – لم تبرح الرؤية المأساوية، حتّى اليوم، فكر الكثير من الروائييّن الجزائريّين على الرغم من انقضاء عقدٍ ونيّف على مشروع المصالحة الوطنية الّذي وضع حدّاً للإرهاب في الجزائر، بحيث لا تزال صور القتل والدّمار والخراب عالقةً في أذهان النّخبة المثقّفة الّتي كانت الهدف الأوّل للعنف الدمويّ . وما الرّواية الأخيرة الّتي جادت بها قريحة «أحلام مستغانمي»، وهي رواية «الأسود يليق بكِ»، إلاّ دليل على تسلّط مثل هذه الرّؤية على الروائي الجزائري على صعيد الإبداع على الأقلّ.
11 – الرواية، ص 71.
12 – الرّواية، ص 126.
13 – جيرار جينيت: «عودة إلى خطاب الحكاية»، ترجمة: محمّد معتصم، تقديم: سعيد يقطين، المركز الثّقافي العربي، بيروت، الدّار البيضاء، ط. 1، 2000، ص 96.
14 – يُنظَر: تزفيطان تودوروف: «الشّعرية»، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، ط. 2، 1990، ص 53.
15 – الرواية، ص 14.
16 – الرواية، ص 118.
17 – الرواية، ص 67.
18 – يُنظَر: تزفيطان تودوروف، المرجع السّابق، ص 52.
19 – جيرار جينيت، المرجع السّابق، ص 100.
20 – يوري لوتمان: «سيمياء الكون»، ترجمة: عبد المجيد نوسي، المركز الثّقافي العربي، بيروت، الدّار البيضاء، ط. 1، 2011، ص 49.
21 – أمين الزّاوي: «نعم، امسيردا أعظم وأجمل من واشنطن ومن بيكين»، مقال منشور في جريدة «الشّروق اليومي» الجزائريّة، بتاريخ 22 / 12 / 2010.
22 – الرواية، ص 39.
23 – الرواية، ص 32، 33.
24 – الرواية، ص 8.
25 – يشير غاستون باشلار إلى بعض هذه القيم تأسيساً على الفينومينولوجيا والتّحليل النّفسي. يُنظَر:
GASTON BACHELARD : «la poétique de l´espace », puf, paris, troisième édition, 1961, p 35.
26 – الرواية، ص 68.
27 – الرواية، ص 65.
28 – غاستون باشلار، المرجع السّابق، ص 194.
29 – يوري لوتمان، المرجع السّابق، ص 57.
30 – الرواية، ص 84.
31 – الرواية، ص 77.
32 – الرواية، ص 80.
33 – الرّواية، ص 82.
34 – أمين الزّاوي، المقال السّابق.
—————
————————————————————
—————
————————————————————