محمود الريماوي *
1
في حياة معلم الرياضيات فائق بعض المشاكل، فقد تجاوز سن الخمسين عاماً وما زال عازباً، والعزوبية ليست سبّة او لعنة او نقيصة، لكنها تجعل حياة صاحبها صعبة في مجتمع محافظ كمجتمع مدينة عمّان، اذ يتم النظر بشيء من الريبة الى العازب. ولولا انه استأجر بيته الحالي في شمال المدينة حين كان متزوجاً ، لوجد صعوبة في العثور على شقة إيجار لعازب، وقد سبق له الزواج لأقل من عامين، منذ أكثر من عشرين عاما، وقد تجاوز أمر هذا الارتباط المتعثر ،وبات يستذكره كشريط سينمائي تقليدي لعب دوراً فيه. ومن بين تلك المشكلات إفراطه في التدخين مما يحول أحيانا بينه وبين التركيز على درسه مع تلامذته، لاستعجاله إنهاء الدرس ولهفته على السيجارة. ومنها ضعف صلاته العائلية بأهله الأقربين رغم قلة عددهم. وتناقص عدد أصدقائه الى اثنين او ثلاثة أصدقاء. وازورار جيرانه عنه. وفتور همّته في زيادة دخله الضعيف ( لا يعطي مثلاُ دروساً خصوصية إلا لِماما). وفشله شبه الدائم في العثور على سيارة مستعملة جيدة يتناسب سعرها مع راتبه. وولعه ..هو الذي يقيم وحيدا، بالنظافة والترتيب وهو ما يصطدم بكسله، وبجنوحه الى تأجيل إنجاز كل شيء. ومنها مواظبته على أخذ قسط من القيلولة، مما يمنحه طاقة على السهر، مع العسر في الاستيقاظ الصباحي لولا رنّات الموبايل الملحاحة. ومنها بالطبع الفراغ العاطفي والجنسي الذي يكابده بصمت ولا يصارح حتى نفسه ، به. ومنها ،من هذه المشكلات الخراب الذي بدأ يتفشى في أسنانه الواحد تلو الآخر، ما يجعلها في ورشة شبه دائمة للصيانة متعددة الجلسات، وما يجعله تحت وطأة آلام تخفت نهاراً وتشتد ليلاً، ولولا سَمَتِه المملوح ببشرة تميل الى البياض، وانتصاب قامته، وتهذيبه الجم وابتسامته التي تسبقه أينما حل.. ما يقرّبه من الآخرين، لأناخ الدهر عليه بكلكله.
مع ذلك فإن فائق يواجه هذه المشكلات وغيرها بهدوء تام، بثبات أعصاب وبعقل رياضي بارد، كأنها تحدث لشخص غيره. في المقابل وعلى ما وصف صحفي جزائري جنرالاً متقاعدا في بلاده، فإنه اذ يقوم بالتقليل من شأن مشكلات كبيرة ، فإنه يبرع في الآن نفسه بتكبير مشكلات صغيرة تصادفه، هذا اذا تم احتسابها مشكلات، وهو ما يؤمل أن ينجلي فحواه إن شاء ربّ الكّلِم، في الجزء الثاني من قصته.
2
قال الرجل الحسن الهندام للطبيب النفسي المختص إنه يزور عيادة نفسية لأول مرة في حياته، وإن الهدف من زيارته هي الشكوى من أمرٍ غريب، من سِر يكاد يخجل من البوح به، ما أثار فضول الطبيب الخمسيني الذي أرخى اذنيه، مستمعاً للرجل الذي دخل عيادته قبل قليل منتصب القامة، ثابت الخطى، هادئ الملامح صافي البشرة وعلى شيء من الاستعجال، وقد استمع الزائر الى الاستفسار اللطيف من الطبيب : خير؟ وها إنه يجيب بنبرة لا لجلجة فيها: حين أسمع أصدقائي أو أفراد عائلتي يتحدثون عن أحلامٍ رأوها، أو أشاهد فيلماً يدور حول بطل يشهد أحلاماً تنعكس على حياته، وحين أقرأ في تفسير الأحلام، فإن غصّة تصيبني.
قال ما قاله، وابتلع ريقه وتوقف عن الكلام كأنما أبلغ رسالة وإن بأكبر قدر لازم من التلميح لا التصريح، وعلى المستمع وهو هنا الطبيب أن يفعل اللازم ويؤدي واجبه. وحانت من الرجل بعد ان فرغ من القاء كلماته نظرة الى حذائه الأسود واطمأن الى لمعانه، ثم اتجه بنظره في لمحة خاطفة الى لوحة تجريدية مثبتة على الجدار المقابل له ذات ألوان صفراء وسوداء، وتذكّر انه سبق له رؤيتها أو رأى مثلها في مكان ما، وتساءل إن كان من المفيد ان يقتني نسخة منها في بيته. وقد أخرجه الطبيب من صمته إذ عاجله بالسؤال:
ـ لماذا تصيبك غصّة؟
سأل الطبيب وهو مندهش أمام هذه البداية الغريبة.
تردد الرجل قليلا وحانت منه التفاتة الى باب الغرفة العريض بلونه الوردي الفاتح، متمنياً أن يتمتع بالتفاؤل الذي يثيره هذا اللون البهيج ، قبل أن يجيب:
ــ لماذا أشعر بغصّة؟ لأني لا أحلم.
الطبيب الذي يجلس على الكنبة المفردة قبالة مريضه بجوار مكتبه، على هيئة من يستقبل صديقاَ لا ” مريضا”، لم يستطع ان يمنع نفسه من التبسّم أمام المفاجأة، وساوره شعور بأن “المريض” ربما يختبره او حتى يمازحه ووجد نفسه ينهض واقفاً، وأخذ يركّز نظراته عليه وهو ثابت على مقعده، وتلوح على محيّاه ابتسامة فاترة متشككة.
ـ لا تحلم؟
ـ أبداً.
احتفظ الطبيب بدوره بظل ابتسامة وهو يسأله :
ـ هل تريد أن تحلم؟
ثم في ما يشبه التصحيح أو الاستدراك، وبغير انتظار للإجابة على سؤاله، فقد عاد الطبيب الى جدّيته الرتيبة المعهودة مستفسراً:
ــ منذ متى وأنت لا تحلم ؟.
ــ أوه منذ أمد طويل، صدّق أو لا تصدّق، منذ كنت شابا يافعاً في سن العشرين تقريباً.
ـ منذ ثلاثين سنة تقريبا.
ــ أكثر من ذلك.
ـ ألم يحدث أن حلمت بعدئذ ولو لمرة واحدة؟
ــ لا . أبداً، لم أعد أرى أحلاما، أنام كمن يسقط في بئر سوداء، أو أنام كما يُقال كالقتيل..
فتح الطبيب عينيه على اتساعهما، وكأنه يسمع بعينيه لا بأذنيه، وقد نهض بقامته القصيرة، ووزنه الخفيف وملابسه غير الرسمية ( السبور) المتسقة الغالب عليها اللون الأزرق الفاتح،وتتناسب مع فصل الصيف، واستدار الى مكتبه مدوّناً على الحاسوب ملاحظة مقتضبة.
كان مأخوذا بالمفاجأة وكاتماً انفعاله. نهض وسأل القادم ان كان يرغب بقهوة سريعة، فأومأ هذا بالموافقة. وسرعان ما سكب القهوة وناوله الكوب الكرتوني الساخن، قائلا إنها قهوة أمريكية وقد اختار هذا الصنف لسرعة تحضيره، فالتقط المريض الكوب بحذر بأطراف أصابع يده اليمنى، وهو يغمغم بالشكر مُحدّقا بالسطح اللامع المتراقص للسائل الأسود.. وأفصح للطبيب بشيء من خفر مفاجئ عن رغبته بتدخين سيجارة إن كان ذلك ممكناً. فأبلغه الطبيب أن التدخين ممنوع بالطبع وأنه يمكنه الخروج لدقائق الى شرفة العيادة. وقد نهض على عجل مُهتبلاً الفرصة، ولاحظ حينها وقد مرّ بجانب مكتب الطبيب (طاولته) وجود مزهرية صغيرة الحجم يننتصب فيها ورد طبيعي بألوان الأحمر والأصفر،فيما يحمل كوب القهوة معه كالغنيمة. على الشرفة أخذ يفتش جيوبه بحثا عن الولاعة. لم يجدها ،لقد نسيها كما يبدو في السيارة ، احتار ما الذي يفعله، وكأنما سمع الطبيب تنهدات ارتباكه فسأله ان كان هناك شيء فقال : نسيت الولاعة ، ليست معي. فأمدّه الطبيب بولاعة حمراء وسأله الرجل: هل تدخن مثلي فأجابه: لا. والصحيح احيانا، لكن ليس في العيادة، واحتفظ بها للمدخنين الذين يفقتقدون الى ولاعة.
الدكتور سليم وهو أحد أشهر أطباء الاختصاص في مجال الطب النفسي والعصبي، كان منصرفا في تلك الأيام لاستقبال حالات معاكسة لحالة ذلك الرجل، إذ إن جُلّ من يقصدون عيادته التي تبدو مثل شقة صغيرة أنيقة وعصرية في حي حديث غرب عمّان، يعرضون أحلامهم الغزيرة على الطبييب ملتمسين تفسيراً لها، وهو ما دفع الطبيب للاستعانة بمرشدين نفسيين غير أطباء لمعاونته في أداء مهمته التي اتخذت منحى جديدا، بعد ان تقلّص عدد المراجعين الذين يشكون من حالات الاكتئاب، والرهاب، وفقدان الشهية للحياة واضطراب الحياة الزوجية.. وكان الدكتور يتساءل مع نفسه: أين ذهب أصحاب تلك الحالات..هل وجدوا فجأة حلولاً ذاتية لمشكلاتهم؟ وهل بات كل واحد منهم ينعم بسلام داخلي مفاجئ.
يدرك الطبيب أن بعض الحالات التي تلجأ اليه لا تشكو من عارض نفسي صعب أو مُقلق، بل يجهل أصحابها من الراشدين التعامل مع أنفسهم ،وبخاصة المتعلمين منهم. ولطالما وجد الطبيب نفسه ( في مراحل ما من حياته)، وجد ما يماثل حالته في حالات بعض من يراجعونه، كمن يشكون من رهابٍ معين( هو يشكو من رهاب الأزقة الضيقة)، أو من الخجل المفرط، او الميول والهواجس السوداوية. لكنه مثل أطباء الصحة البدنية يحرص على الظهور أمامهم في أتمّ التماسك والانسجام مع نفسه.
….
بحُكم العادة فقد تهيّأ للطبيب أن “مريضه” جاء ليبوح بمكنوناته، ليكشف أسراراً تخصه، ويرتاح من عبء الاحتفاظ بها. وسبق له ان صادف حالات بلا حصر، لأشخاص لا يوقفهم شيء عن البوح وبالذات من النساء، ولدرجة يساوره معها الخجل في الاستماع الى خصوصيات غيره (لكن هذه هي مهنتنا اللعينة، كما يردد لنفسه..). وهناك من هم على درجة من الحساسية، أو من الطموح، تجعلهم يُبالغون، ويشعرون أنهم واقعون تحت وطأة مشكلة صعبة ومستعصية وهي ليست كذلك.
غير انه سرعان ما أدرك أن حالة مريضه هذا ليست نفسية محضة، بل هي حالة عقلية ايضا،ومثل هذه الحالات قد تشوّش الطبيب الى حد قد ينسى فيه مهنته، ويتصور انه يحتكّ بشخص ما في مكان عام. وبعد عودته من الشرفة بغير تأخير، ظل الرجل أمامه ثابتاً على المقعد القماشي المريح، ومتأهبا بغير أن يبدو عليه توتر. رمقه الطبيب بنظرة متفحصة متسائلة، فبدا في حالة انتظار.
سأله .
ــ لاحظت انك ترمق اللوحة.. ليس لوحة عباد الشمس، بل هذه، وأشار اليها: ما رأيك بها؟
ـ ليس لي رأي .
ـ ماذا تعني لك؟
ـ صراحة لا شيء.
ــ ماذا عن ذاكرتك؟ هل تشعر بها قوية، أم أنك بدأت تشكو من النسيان وقد بلغت منتصف خمسينات عمرك؟
ـ ذاكرتي حديدية دكتور. مثل حاسوب متطور.
ــ ألا تواجه حالات نسيان؟
ـ قليلة، اصدقائي يلجأون لي كي أعينهم على استعادة ذكريات قديمة مشتركة بيننا.
ــ لا يُعقل ان تكون مُحصّنا بهذه الصورة ضد النسيان..
ــ لا، قد أنسى أموراً هامشية، كأن أنسى تناول طعام الغداء في موعده فيما أنا احتسي القهوة خلال انصرافي للقراءة على الايباد. لكني لا ألبث ان اتذكر الطعام ما إن يعضّني الجوع، او أن أنسى شراء سلعة ما من المول ،بين أربع أو خمس سلع كنت أنوي شراءها. لكني لا أنسى أي شخص قابلته في حياتي، بمن في ذلك أصدقاء الطفولة وزملاء المدرسة ثم الجامعة، وكذلك تفاصيل الأفلام التي شاهدتها في مُقتبل حياتي.
هذه أمور عادية قال له الطبيب: كلنا ننسى مثل هذه الأمور، ويصعب على الذاكرة أداء مهامها ان لم تتم تنحية بعض الذكريات والمعلومات، من أجل الاحتفاظ بالكمية الأكبر منها، وتخزين ما هوجديد ومُهم منها. .
الرجل يهز رأسه موافقاً، والطبيب يستأنف طرح استفساراته:
ــ هل لديك رهاب العتمة، هل تنام في غرفة مضاءة؟
ـ أبداً.. غير معقول، بالكاد أغفو مع العتمة، فكيف مع الضوء.
الدكتور يهز رأسه بدوره ، ويسأل بنبرة جدّية مرتفعة عن ذي قبل، ومرة أخرى يُحدّق به آملا أن تكون التحديقة لائقة وغير مزعجة: ما المشكلة التي تعانيها بالضبط؟
تردد الرجل قليلاً في الإجابة مستشعرا صعوبة ما في السؤال، وخشي أن يبدو في هيئة شخص عابث، أو غير متزن أمام الطبيب:
ـ قلت لك : انعدام الأحلام.
ـ نعم، قلت لي، لكني أقصد: ما المشكلة التي تعانيها، والناجمة عن عدم رؤيتك لأحلام؟.
استشعر الرجل هذه المرة صعوبة في تجميع أفكاره ، ورغم أنه توقّع مثل هذا السؤال لكنه لم يهيئ أية إجابة عليه في ذهنه.
ــ دكتور.. تقصد مشكلة واقعية في حياتي اليومية؟
ــ أقصد أية مشكلة كانت، وأيّا كانت صفتها..عليك أن تحدد الأمر وتصارحني ما دمت تعتبر ان حالتك غير طبيعية.
ــ دكتور.. أفهم من سؤالك أنك لا تشعر بمواجهتي لمشكلة ما .
ـ لم أقل ذلك. لو لم تكن تواجه مشكلة ما، لما كلّفت نفسك بالحضور ولما تحمّلت كلفة فاتورة الزيارة. دعنا نحدّد معا المشكلة، وعليك أنت أن تبدأ بهذا التحديد، لا يمكنني أن أحِلّ محلك.
ـــ طيّب.. المشكلة هي شعوري أو قناعتي أن حالتي ليست طبيعية، فلم أعرف أحداً ولم أسمع بأحد لم ير أية أحلام ما إن دخل مرحلة النضج، فالأحلام ليست قصراً على الأطفال أو اليافعين
ــ أنت تبدو طبيعيا تماما.
ــ أبدو.. أود القول إني أخشى ان تكون هناك مشكلة ما ،خلف حالتي هذه.
ــ لماذا تخشى هذا ما دامت قواك العقلية سليمة؟.
حدّق الرجل بالطبيب ولاحظ ان عينيه وراء نظارته الرقيقة الشفافة تبدوان ضيقتين وصغيرتين بعض الشيء مثل عينيّ حمامة، ومفعمتين بالتساؤل والشك، وقال متبسّماً:
ـ لأن الحيطة واجبة.
تبسّم الطبيب بدوره، وأخذ يتيقن أنه امام حالة عقلية، وهي ليست من الحالات التي يتحمس للتعامل معها ومعالجتها، فبدلاً من البوح والتطرق الى أعراض المشكلة، فإن المريض ينغمس في مثل هذه الحالة في النقاش، ويبدو ميالاً الى العناد، وقد يلجأ لاستعراض ذكائه، وهذا يحدث أحيانا بين الأطباء انفسهم، وقد استذكر الطبيب حالات من هذا النوع مع زملاء او من هم في حُكم الزملاء.
ــ أرجو أن تسمعني: هناك ناس كثيرون يشكون من هلاوس وكوابيس، ومن أعراض جسمية ونفسية صعبة نتيجة رؤيتهم أحلاماً مزعجة، وناس يتحدثون وهم يحلمون بصوتٍ مسموع، ويثيرون فزع من يشاركهم غرفة النوم، وهناك من يسيرون نائمين ويرتطمون بجسم صلب..
ــ ليتني مثل أحد منهم.
تبسّم الدكتور ثم اتسعت ابتسامته، وضحك. فضحك الرجل بدوره بانشراح ظاهر برز فيه فراغ بين أسنانه في الفك الأسفل، وقد بدا له أن جوّ التجهّم المخيّم عليهما قد انكسر. وحاول ان يضيف شيئا لكنه امتنع عن ذلك، وقد شعر الطبيب أن الرجل يمتلك روح دعابة، وأنه حاضر البديهة. كان ينوي تزيين حالة الرجل أمام نفسه، والتخفيف عنه بمقارنته بغيره، فإذا به يرى حالة الآخرين على سوئها، أفضل من حالته. ونهض عائداً الى مكتبه وأخذ يتفحص الكمبيوتر أمامه بغير هدف، سوى منح الزائر خلال فترة الصمت فرصة تصفية هواجسه، وسأل فجأة:
ــ أنت ترى نفسك إذن تشكو من احتباس في الأحلام.
ــ لا أعرف ماذا أسمّيها.
ــ هناك أنواع من اضطرابات النوم، منها اضطرابات القلق، والهلع، والتشوش، والأرق. لكن ليس بينها حالتك. هل تريد وصفة تتمكن خلالها من العودة الى رؤية أحلام، حتى لو كانت كوابيس؟
السؤال لم يخلُ من تهكم خفيف، وقد سبق أن طرحه الطبيب، ما أزعج المريض وجعله يهِمّ بالمغادرة. فأبلغه الدكتور أن عليه عدم التحسس من الصراحة، فما دمتَ تفتقد شيئا، وما دمت تشكو من هذا الفقدان، فأنت إذن تسعى لاستعادة المفقود، أليس كذلك؟.
ــ بلى..لكني جئت إلى عيادتك كي تنظر في حالتي، لا أن …
ـ لا أن ماذا ..؟
ــ لا أن تستهين بحالتي.
الطبيب وقد تجهمت ملامحه نفى الاستهانة، مؤكداً للمريض بنبرة حازمة واعتذارية في الوقت نفسه، ان أخلاقيات المهنة تمنع استهزاء طبيب بحالة مريضه. وأن ضميره لا يسمح بهذا التجاوز. أنت حساس اذن..
فائق مستشعراً أن رياح تفكيره أخذت تهب في اتجاه آخر، قال مدافعا عن نفسه:.
ــ دكتور حتى الحيوانات تحلم .. وأنت تعرف ذلك أفضل مني، وحتى الأجنّة في بطون الأمهات تحلم، أليس كذلك؟
ـــ بلى . ولا يبقى من الأحلام شيء في الذاكرة بعد الاستيقاظ سوى النزر الضئيل جدا. وكأن الحالم لم يحلم.
ــ لقد قرأت ان الانسان يعيش في حياته في المتوسط ما مجموعه ست سنوات يُمضيها في الأحلام..
ــ نعم. لا أدري اذا كان هذا الرقم دقيقاً. ربما أقل من ذلك قليلا.
ــ أيا كان الرقم الصحيح ، فأنا أخسر هذه السنين. طبعا أخسرها. وهذا يعني بالنسبة لي ان ساعات نومي (وهي ليست قليلة، ثمان الى تسع ساعات باحتساب ساعتي القيلولة) تذهب سُدى..
ــ كيف تذهب سدى؟ الجسم بحاجة للتمتع بقسط يومي من الراحة ، وكذلك الدماغ والجهاز العصبي. انت مثل غيرك تجدّد نشاطك من خلال النوم.
ــ افهم ذلك. نعم أني أبلغ الراحة التي تتحدث عنها ، لكنها غير كافية بالنسبة لي. فهناك شيء ينقصني
……….
فاتَحَ الدكتور سليم صاحب الحالة، بأن أحلاما يراها النائم وتتبدد في ذاكرته ما ان يستيقظ ، فيتهيأ له أنه لم يشهد منها شيئا. وخاصة حين تكون أحلاماً عابرة ، جزئية، تبرق مثل مشاهد باهتة وسريعة مصحوبة بأصوات خافتة مختلطة؛.انها من النوع المتقطع الشاحب او المبتور، تماما مثل الذكريات المتقطعة المبتورة التي يستحضرها المرء في يقظته ولا يتمعّن فيها جيدا، لأنها عرضية غامضة، وناقصة فلا ينشغل الشخص بها وسرعان من ينساها ويتجاوزها، مقارنة بالذكريات الواضحة عن مواقف وأماكن ووقائع . هكذا فمقابل الذكريات الواضحة هناك أحلام واضحة، وكما ان هناك ذكريات كاملة او شبه كاملة، هناك احلام من الصنف ذاته.
استمع فائق بتركيز لما أفضى به طبيبه ، وهز رأسه بالإيجاب قائلا:
ــ ربما اني اشاهد أحلاماً عابرة خاطفة ، فُتات أحلام، أقول ربما .. غير متأكد، لكن النتيجة هي نفسها.
ـ ها انت تعترف بأنك تشاهد أحلاما. أحسنت..
ـ عفوا ، ليس الأمر هكذا .إذ اشعر اني لا أرى أحلاما. فبين وقت وآخر يتذكر الحالمون بعضاً مما رأوه مما تسميه أحلاماً واضحة، أما أنا فلا اتذكر شيئا، وكأن الأحلام لا تعرف طريقا لي، أو أن شاشة الرؤية لدي لا تصلح لاستقبال أحلام.
يصغي الدكتور سليم لهذه الحالة وهي الأولى من نوعها التي لم يستمع لمثلها منذ افتتح عيادته قبل 24 عاما.. ومع ذلك لم يستطع مغالبة الانطباع بأن صاحب الحالة لا يشكو من شيء ملموس، وقد يكون يشكو من حالة ضجر مَرضية،أو أنه فنان مرهف .
ــ لا مشكلات اذن؟ سأله الدكتور.
ــ مشكلات عادية .
ــ هل تشكو من فوبيا، رُهاب ما ؟
ـ اوه .. أشكو من رهاب واحد هو المرتفعات.
ــ هل تشرب؟
ـ قليلا، وفي المناسبات.
ـ كثيرة ام قليلة هذه المناسبات؟
ـ قليلة.
ــ من يتناول الكحول في ليلة ما، لا يشاهد احلاما. العقل يتشوش وكذلك اللاوعي مصدر الأحلام.
ــ أفهم ذلك .
ــ انت تشكو من السّكّري كما تفيد بياناتك.
ـ نعم هو في بداياته، وأسيطر عليه.
تستيقظ من نومك للذهاب الى الحمام ؟
ــ نعم مرتين في الليلة الواحدة .
ـ من يستيقظ لمرتين من نومه، فإن فُرص رؤيته لأحلام تقل. الاستيقاظ وبصرف النظر عن سببه الصحي او النفسي يعتبر من اضطرابات النوم.
ــ افهمك دكتور؛ وأثق بما تفضلت به، لكني لم اكن اشكو من السكري قبل اربع سنوات. كنت أنام نوما متصلًا حتى الصباح. ومع ذلك لم أكن احلم.
ـ الآن قل لي ما الشيء الذي ينقصك ، الشيء الذي تعتبره جوهرياً؟
ـ ينقصني ذلك العالم الخفي العامر بالرؤى والغرائب، اشعر أني مبتور.
ـ كن أكثر وضوحاً ، هذا كلام أدبي جميل تقوله في رابطة الكتّاب وليس هنا، هل انت أديب؟
ـ لا. أقرأ روايات أحيانا، وبعض الشعر،
ثم استرسل فائق: من حسن حظي اني اتمتع بذاكرة جيدة. الذكريات ، تبدو لي وأنا استعيدها كأنها أحلام عشتها مع انها وقائع وقعت. وهذا ما يعزيني قليلا. وإن كنت أعاني من غربة ما ، غربة عن نفسي التي لم اكتشفها بعد. كشخص لم يعش مثلا تجربة حب، او لم يبك مرة واحدة منذ فارق الطفولة. او لم يسافر الى أي مكان طيلة عمره ،او حتى اية تجربة جنسية طيلة حياته. بدون احلام اشعر بحياتي هكذا . اشعر أن داخلي صندوقا مقفلا.
أنهى عبارته قائلا للطبيب : عطشت.. ألا يوجد عندكم ماء؟
ابتسم الطبيب، وهبّ واقفاً قائلا: آسف . أنا ايضا عطشت، اخذنا الحديث. وسارع لفتح ثلاجة صغيرة بجانب مكتبه ، وسحب منها كوبي ماء بلاستيكيين، مدّ بأحدهما الى فائق الذي تناوله شاكراً وفتحه وتجرع منه رشفتين.
الطبيب : هيّا نواصل .. هل تعيش أحلام يقظة بين وقت وآخر؟
ـ نعم. مثل كل الناس. وأحلام يقظتي هي اشبه بمشاريع عمل، او لقاءات مع اشخاص احبهم وأفتقدهم. او أمنيات بالسفر الى بلد ما. أو تمنيات بأن اربح الجائزة الكبرى للبنك، أشياء من هذا القبيل.
ــ هل تمضي وقتا طويلا معها، هل تستغرقك أحلام اليقظة حين تقع لك؟.
ــ نعم .
ــ طيب أحلام اليقظة هي مزيج من افكار وذكريات ورغبات وهواجس، وهي بذلك تشبه أحلام الليل بعض الشبه. مع فارق ان العقل يبقى يقظا بنسبة كبيرة.
ــ قلت لي تشبه؟.
ـــ نعم مجرد شبه.
ــ هي تعزيني بعض الشيء، وإن كنت لا أجد فيها ما هو مثير وغريب ، كما في الأحلام التي يشاهدها الناس ويتحدثون عنها. أحلام اليقظة تكاد تكون أحلاما ًمتعمدة، مقابل الأحلام اللاإرادية التي يشاهدها الناس في نومهم.
ابتسم الطبيب، ونهض من مقعده وعاد الى الجلوس خلف مكتبه، وأبلغ مريضه ان في حياة كل انسان وفي شخصيته نقص ما، فجوة ما، ونصحه بأن ينغمس في مشروع يضع فيه طاقته. وحذّره من العزلة: كان يمكنني مجاراتك، واعتبار ما قلته عن وضعك بأنه يمثل مشكلة، او عارضا نفسيا سلبيا.
المريض لم يجب؛ وبدا غير راغب بالكلام، وسرح مع نفسه، وقد انحرف مزاجه،. فأبلغه الطبيب انه يتعامل مع مرضاه بجدّية. وأنه هو شخص جدير بالاحترام، ويمكنه إذا كان راغباً، حجز موعد جديد لاستكمال المقابلة.
نهض الزائر وبدا أطول قامة مما رآه الطبيب حال دخوله اليه، وصافح الطبيب بحياد واهتمام ،وهز الطبيب رأسه وهو يتفحص المغادر:
ــ أرجو أن تعود بمزاج أفضل في المرة المقبلة.
فتبسم بدوره مستشعراً قدرا من التيه، واتجه الى السكرتيرة في صالة المدخل لتحديد موعد جديد. وهذه الموظفة الأربعينية الأنيقة ذات الشعر الذي يختلط فيه اللون النحاسي باللون الخروبي، حددت له موعداً بعد ستة أيام، وسألته وهي بالكاد تدير وجهها عن شاشة الكمبيوتر،نحوه: تريد موعدا قبل الظهر أم في المساء؟ فأجابها: مساءً. حددت الموعد على الخامسة والنصف ومدت يدها ببطاقة الموعد نحوه، وبدت أصابع يدها بضة ومكتنزة. وسارعت للرد على مكالمة من هاتفها قبل ان تكتمل الرنّة الأولى” لا تلتفت نحوي. ربما تخشى إصابتها بعدوى مرض لا تعرف ماهيته” قال لنفسه متهكماً. واستدرك مع نفسه وهو يغادر انه من الطبيعي ان تكون اصابعها مكتنزة فهي ممتلئة الجسم كما لاحظ من صدرها ،ومن الصفحة الجانبية لوجهها.
ما إن غادر حتى بدا الطبيب غير متحمس للتعامل مع الحالة، وقد شعر بشيء من الراحة لمغادرة الرجل، وكأنما جاء ليمتحنه. لقد خشي الطبيب ان تنشأ مشكلةٌ ما لو لم يغادر الرجل، فيما استذكر بعد مغادرة “مريضه” أنه لم يشهد أحلاما تُذكر، ربما منذ أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وأن الأمر لا يقلقه ، بل لم يتوقف عنده، فذلك أفضل من رؤية أحلام سيئة تُلقي بطريقة خَفيّة بظلالها الثقيلة على نهارات أيامه. وقد منّى الطبيب نفسه برؤية أحلام جديدة في مُقبل الأيام وكما حدث له في مرات سابقة ، فما ان تختفي الأحلام عن شاشة لاوعيه لبضعة أيام، حتى يتجدد ظهورها لاحقاً وكأن بطارية الأحلام يُعاد شحنها فتعود للعمل مجدداً. وإن كان الأمر لا يتعلق ببطارية فقط!، قال الطبيب لنفسه، وهو يخشى في طويّة نفسه ان تمتنع عنه الأحلام بالمّرة كما وقع لهذا الرجل الغريب!..
أما فائق معلم الرياضيات فخرج يساوره بعض الندم على هذه الزيارة، فالطبيب لم يعترف بوجود مشكلة يعانيها.إنها المرة الأولى التي يُفاتح فيها أحداً بحالته هذه، ولم يكن رد الفعل مشجعاً. لم يعوّل كثيرا على زيارة العيادة النفسية، كان يرغب ان يفضفض لطرف يُحسن تفهّم حالته ويعترف بها كمشكلة ،وليست مجرد وسواس، بدون ان ينتظر أو يتوقع من الطبيب حلاً ناجعاً، بل مجرد تفسير للحالة. تفسير لعالمه، وليس تغيير هذا العالم الداخلي. سيزوره مرة ثانية كما وعد، وفي الموعد المحدد، وقد لا يزوره .. أجل ، قد لا يزوره مجدداً ، لماذا يزوره حقاً ؟ لن تؤدي الزيارة لشيء سوى دفع فاتورة اضافية للمراجعة، وربما التشكيك بسلامته العقلية وإحالته إلى طبيب مختص. لقد وعد بالعودة وحجز موعداً للمراجعة، هو الحريص دائماً على الوفاء بكلمته والالتزام بمواعيده، وإذا لم يعد فسوف يبدو في ناظري الطبيب شخصا عابثا ،مهتزاً وعديم الأهداف في حياته. أهلاً بالحيرة ..مرحباً بالإحراج.. شكراً للبلبلة.