حاوره: جعفر العقيلي *
تتعدد اشتغالات شاكر نوري، بين الرواية والقصة وأدب الرحلة والترجمة والإعلام. وهو يواصل مشروعه مع القلم بوصفه مشروعاً حياتياً، يجد نفسه فيه ولا يجدها في سواه.
صدر لشاكر نوري في الرواية: «نافذة العنكبوت» (2000)، «نزوة الموتى» (2004)، «ديالاس بين يديه» (2007)، «كلاب جلجامش» (2008)، «المنطقة الخضراء» (2009)، «شامان» (2011)، «مجانين بوكا» (2012)، «جحيم الراهب» (2014) و»خاتون بغداد» التي فاز عنها بجائزة كتارا (2017).
وصدرت له مجموعة قصصية بعنوان «جنائن دجلة»، إلى جانب عدد من الكتب الفكرية والدراسات والكتب المترجمة من اللغتين الإنجليزية والفرنسية وإليهما، مثل: «المقاومة في الأدب»، «لا تطلق النار إنها قلعة أور»، «منفى اللغة – حوارات مع الأدباء الفرنكوفونيين»، و»اللوبي الصهيوني في فرنسا»، و»بطاقة إقامة في برج بابل-يوميات باريس» الذي نال عنه جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات (2013)، و»محاكمة برودسكي» للكاتبة فريدا فيغدورفا وإيفيم ايتكند، و»موعظة عن سقوط روما» لـ»جيروم فيراري».
في هذا الحوار نتعرف فيه على رؤاه وتصوراته وتقنياته، وموقفه من الرواية التاريخية، والعلاقة بين التخييل والواقع، والقضايا التي تستفزّه أكثر من سواها ليكتب عنها عبر فن الرواية.
l تزامنَ صدور روايتك «خاتون بغداد» التي نالت جائزة كتارا (2017)، مع مرور مائة عام على الاحتلال البريطاني للعراق الذي بدأ عام 1917. كيف وظّفت الوثيقة في العمل الأدبي من دون أن يضعه هذا في نطاق العمل الوثائقي الصرف؟
uu الصدفة وحدها جعلت صدور روايتي «خاتون بغداد» تتزامن مع مرور مائة عام على الاحتلال البريطاني للعراق، لم أخطط مسبقاً لذلك، إنما الصدفة لعبت دورها، ومن أجل ذلك فإن الرواية من المفترض أن تنتهي في عام 1926، أي سنة وفاة «مِسّ غيرترود بيل»، بطلة العمل الروائي، لكنني هنا، وليس للصدفة دور في ذلك، أمدد الرواية إلى الوقت الحاضر، بما يغطي فترة الاحتلال الأمريكي للعراق أيضاً، وذلك بتقنية فنية تقوم على استحداث ستَّ شخصيات معاصرة تعيش حتى الوقت الحاضر، ولكنها مهووسة -إن صح التعبير- بهذه الآنسة، لأنها جزء من تاريخهم.
فقد فتحوا عيونهم على أخبار «مِسّ بيل» التي بنت لهم العراقَ الجديد (في حينه)، العراق الملكي، والتي رأت في هذه الصيغة ديمومةَ هذا البلد، رغم ظهور بعض الأصوات الجمهورية آنذاك والتي لم ترضَ بالملكية.
يُونس كاتبُ سيناريو، ونُعمان كاتبُ سيناريو، وهاشِم مُشغِّلُ آلةِ عَرْضٍ في سينما غرناطة، ومُنصور حارسُ مَقبرةِ الخاتون، وأبو سُقراط فَيلسوفُ بَغداد، وفيرناندو المُحقِّقُ الأُمَميُّ في احتراقِ مَكتبةِ بَغداد.. كلهم داروُا في فلكِ «مِسّ بيل».
وكان لا بد لي من الاعتماد على الوثائق، لأنه لا يمكن الحديث عن تشكيل الدولة من دون وثائق، لكن العمل الروائي يجب ألّا يلتزم بالوثائق، بل عليه الذهاب إلى أبعد من ذلك، وهذه هي مهمة الأدب: التخييل. وهنا أود أن أستخدم تعبير «التخييل التاريخي» بدلاً من التعبير الشائع «الرواية التاريخية». ولأنه ليس بين المؤرخ والروائي سوى خيط رفيع، يجب أن يحذر الروائي من السقوط في التأريخ، وإلّا فقدت الرواية روحها.
l وهل من أمثلةٍ يمكن إيرادها هنا حول ما أسميتَه «التخييل التاريخي»؟
uu هناك أمثلة كثيرة على التخييل التاريخي الذي قمتُ به في الرواية؛ ومن ذلك أن الوثائق التاريخية أشارت إلى سيدة أرمنية تُدعى «ماري» بوصفها خادمة «مِسّ بيل»، وكان ذلك بشكل عابر، لكنني أنجزت فصلاً كاملاً عن علاقة هذه السيدة بمخدومتها، وذلك كله من ابتداع الخيال وحده.
لقد فاضت الرواية بالمشاهد التي كان الخيالُ فيها المحرّكَ المطلق للعمل الروائي. وأشير هنا إلى الاستشهادات التي وضعتُها في مستهل الرواية لعدد من الأدباء والفلاسفة عن العلاقة بين التاريخ والرواية، ويمكنني أن أوردها هنا للفائدة: كلود ليفي شتراوس يقول: «يمكنُ للتاريخ أن يأخذَنا إلى أيّ مكان، شريطةَ أن نَخرج منه». وأوسكار وايلد يقول: «الواجبُ الوحيدُ المترتبُ علينا حيالَ التاريخ هو إعادةُ كتابته». ميلان كونديرا يقول: «التاريخُ بحركاته وحُروبه وثوراته وثوارته المُضادة وهزائمه الوطنية لا يَهم الروائي بوصفه موضوعاً للوصف والتشهير والتفسير، فالروائي ليس خادماً للمُؤرخين، وإذا كان التاريخُ يَسحرُه، فذلك لأنه مثلُ مصباح كَشّاف يدورُ حول الوجود الإنساني ويُلقي ضياءَهُ عليه وعلى إمكاناته غير المُتوقعة التي لا تتحققُ وتظل غيرَ مرئية ومجهولة في الفترات الراكدَة، عندما يَكونُ التاريخُ ساكناً».
هذه الإضاءات تجعلنا نتلمس الطريق، وقد وضعتُ هذه الأقوال موضع التطبيق.
l أي أنك طوّعتَ التاريخ لخدمة العمل الروائي. ولكن، هل ترى أنك تجنبتَ السقوط في مطبّات التاريخ؟
uu «تطويع التاريخ» من أصعب المهام التي يقوم بها الروائي. وأنا أرى أن علينا إعادة كتابة تاريخنا روائياً، لكي نكشف عن الجوانب المسكوت عنها في التاريخ الذي جرت كتابته في الغالب لحساب المنتصر. قليلةٌ هي الأعمال التي كُتبت عن المهزومين وليس المنتصرين، ومنها رواية «المخطوط القرمزي» للكاتب الإسباني «أنطونيو غالا»، والتي خلّدت معاناةَ أبو عبدالله الصغير عندما فقدَ حكمه في الأندلس.
ومما لا شك فيه أن الوقوع في المطبات التاريخية وارد في كتابة الرواية، لأننا لا نكتب التاريخ بحذافيره أو بكل تفاصيله. لقد اختزلتُ تاريخ المجتمع العراقي في مائة عام في رواية بلغت نحو 400 صفحة. هذا هو الاختزال الفني والأدبي، وما يُقال في الرواية لا يمكن قوله في شكلٍ أدبي آخر.
لقد سعيتُ إلى المزج بين التاريخ والعاطفة والخيال والسِّيرة، في بوتقةٍ واحدةٍ تتجانسُ فيها عناصرُ السَّرد والمسرح والسينما والسيناريو والمُراسلات في آن واحد. وكل ذلك لكي أخرج من مطبات التاريخ. وما دام العمل متخيَّلاً، فلا وجود للمطبات التاريخية، لأننا لا نحاسب العمل الروائي كما نحاسب الوثيقة التاريخية. فالكاتب ليس مهموماً بالتاريخ قدر انشغاله بما تم إخفاؤه من هذا التاريخ، وهو انشغال يتجاوز كذلك مسألةَ دقة التاريخ وصحّة مجرياته.
l هناك مَن يرى أنك جعلت القارئ أسير إعجابه بشخصية «مِسّ بيل» (بطلة «خاتون بغداد») إلى درجة المفاضلة بين الاحتلال البريطاني (1917) والاحتلال الأمريكي (2003). ما يعني، في أحد الوجوه، أن القارئ قد يصل إلى نوعٍ من التصالح مع فكرة الاستعمار نفسها. أليس الاحتلالان وجهَين لعملة واحدة؟! أم إنك تريد الإشارة إلى تشابه الأوضاع وإلى أن التاريخ يكرر نفسه؟
uu لا يوجد تفاضُل بين احتلالٍ وآخر، فالاحتلال واحدٌ في جوهره، وإن اختلفت الممارسات. لكنّ البشاعة الموجودة في الاحتلال الأمريكي لا نجدها في الاحتلال البريطاني. على سبيل المثال، كان الاحتلال البريطاني يبعث الكتّاب والمستشرقين والآثاريين والمعماريين والمنقّبين والعلماء مع قطعاته العسكرية، بينما لم يفعل ذلك الاحتلالُ الأمريكي الذي لم يعرف سوى القصف والقتل والضرب والترويع واستخدام القوة المفرطة والترويع.
عندما أكتب رواية عن شخصية تاريخية مثل «مِسّ بيل»، فهذا يحيل إلى إسهامات هذه الآنسة في بناء المكتبة الوطنية، وتأسيس المتحف العراقي، وتأليف 16 كتاباً عن العراق، وتأليف كتب عن العشائر العراقية. ولهذه الجوانب والأمور أهميةٌ كبيرة لدى العراقيين. ومع ذلك، يبقى الإعجابُ بشخصيتها إعجاباً فردياً له علاقة بالمؤسسة التي تمثّلها، لأني في الرواية رفضتُ الاحتلال البغيض.
إنّ دراسة الاحتلال تلقي الضوء علينا نحن وليس فقط على الشخصيات التي تمثّله وكيفية تعامل المثقفين العراقيين معه. التاريخ يعيد نفسه، مرةً بشكل مأساة، ومرةً بشكل ملهاة، لكن تاريخ الاحتلال كله مأساة، ولا ملهاة فيه.
على سبيل المثال، هناك شعراء كتبوا قصائد مدح في «مِسّ بيل»، وبعضهم كتب قصائد نقد وذمّ لها. وهكذا ينقسم المثقفون كالعادة في التاريخ. هناك عدد كبير من الكتّاب العراقيين البُلهاء الذين رحبوا بالاحتلال وكتبوا رسالة شكر إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، كانوا يتبخترون في البداية وهم الآن في أسفل التاريخ لا يجدون جحوراً يخفون فيها وجوههم القبيحة، بل إن بعض المثقفين العراقيين لم يطلق على الاحتلال الأمريكي وصف «الاحتلال»، بل استخدم تعبير «التغيير» أو عبارة «دخول القوات الأمريكية إلى العراق». وبعد أن اعترف الأمريكان أنهم قوة محتلّة، اسودّت وجوه هؤلاء المثقفين الذين انتهوا إلى مزبلة التاريخ، ومن بينهم أسماء معروفة بإنتاجها الأدبي والفكري، ولكن لا قيمة لكل ما أنتجوه، بل إن يعضهم هرول إلى الاحتلال وعرض عليه خدماته أو طلب التعاون معه.
l في روايتك «جحيم الراهب» تلقي الضوءَ على معاناة المسيحيين بين صراع المذاهب والأفكار والذهنيات. حيث تتناول هجرة مجموعة من الآباء الآشوريين من بلاد الرافدين وتأسيسهم ديراً في بيروت من أجل الحفاظ على هويتهم المهدَّدة وسط تصاعد العنف الطائفي. كيف لاحت لك هذه الفكرة، وما الذي أردت قوله من خلالها؟
uu حاولتُ أن أغوص في عالم الراهب، في زمنٍ أصبح فيه المكوّن المسيحي في العراق مهدداً، هذا الراهب من طرازٍ خاص لأنه لم يتعرّف إلى الرهبنة إلا عن طريق الصدفة، وانخرط فيها من أجل فهمها وكذلك من أجل الهروب من الواقع الضاغظ، وعاش جحيمَ الراهب الحقيقي، وهو القلق في تلمُّس طريقه نحو الإيمان. وما بين الإيمان والواقع هوة شاسعة. فهو لم يختَر اللباس الكهنوتي، الذي لم يصنع منه راهباً قدرَ ما صنع منه إنساناً.
الأب إسحاق، الشخصية المحورية في الرواية، لم يتنكّر بجبّة راهب من أجل خداع أحد، ولم ينخرط في دِينٍ جديد لكي يؤذي الآخرين من بني البشر، ولم يلجأ إلى هذا العالم من أجل الاهتمام بشؤون الآخرة مثلاً. بل هو هكذا، من دون حسابات، وجدَ نفسه مختبئاً تحت ثياب الله.
الروائي لا يمكن أن يكتب من الخيال وحده، ورغم أن رواياتي كلها مرتبطة بالواقع، إلّا أنها ليست أسيرةً له أبداً، فالخيال يجعلك تذهب إلى عوالم أخرى أبعد وأعمق.
على سبيل المثال، إنّ تأسيسَ جماعةٍ عراقيةٍ مسيحيةٍ كنيسةً في بيروت هو محضُ خيال، استَدْعته مخيلتي من أجل أن أعبّر عن حالة التشظي التي أصابت الطائفة المسيحية في العراق بعدما وجدت في بلدها بيئةً طاردة في جميع المجالات. والكارثة الكبرى التي حلّت على المسيحيين حدثت في زمن الاحتلال والحكم الطائفي، لأن الدولة ضروريةٌ للأقليات. وبعد تفتيت الدولة وجد المسيحيون أنفسهم بلا حمايةٍ من أحد، لأن الطوائف الأخرى تحصّنت بما لديها من قوة السلاح، فيما ظلت الطائفة المسيحية معزولة، ومهمَّشة، بل ومهدَّدة.
l لجأتَ إلى أسلوب «استعادة الذاكرة» في رواية «جحيم الراهب»، حيث يستحضر «إسحاق» وهو على متن الطائرة شطراً واسعاً من حياته السابقة. هل هناك أحداث في حياة البطل تتقاطع مع أحداث في حياتك؟
uu أجل، زمن الرواية هو ثلاث ساعات، مسافة الطيران من بيروت إلى روما، لكنها تختزل سنوات العذاب التي عاشها هذا الراهب، في كلٍّ من العراق وسوريا ولبنان، ومن ثم إيطاليا. إنه يستدعي تفاصيل حياته لأنه يقوم بنوع من «جردة حساب»، وينتهي إلى قرارات مهمة، منها: التوقف عن البحث عن الله. وما يحرّك البشرَ هو البحث.
بعض النقاد أراد نهاية أخرى للراهب، كالموت أو الانتحار، ولكن التوقف عن البحث هو أشدّ وطأةً وأبلغ أثراً من الموت أو الانتحار. في الرواية تختلط الأزمنة مع الأحداث، ويشتبك الماضي بالحاضر. والرسالة الطويلة التي يكتبها الأب إسحاق إلى الأب جوزيف، لكي يشرح له تردداته وحيرته ومحاولة انسحابه من هذا العالم، تشير إلى أنه كان يتأرجح بين الإيمان والشك، ولا يستطيع تقرير مصيره أبداً.
l تقوم «جحيم الراهب» على مقولة فكرية أساسية؛ حيث ينجح البطل في الوصول إلى فكرة الخلاص عن طريق الغوص في أعماق ذاته والتحرُّر من الأوهام التي تسيطر عليه. هل تعتقد أن الأيديولوجيات هي مَكمن الداء، وأن التحرُّرَ منها شرطٌ للسلام والانعتاق والعثور على الذات؟
uu الأسئلة الوجودية في الرواية تتقدّم على الأسئلة الساذجة، وهذا من شأنه أن يضيف بعداً جمالياً آخر إلى العمل الأدبي، وخصوصاً في ما يتعلق بالسؤال عن الذات والموضوع. إنّ الجماليات تتجسد في طرح الموضوع وطريقة اختياره، وما دامت هذه الرواية تدور في فلك الخيال والتأمل والفصل بين الحياتَين الكهنوتية والمدنية، فإنها تجترح موضوعات متأصّلة. ولعلّ أبرز جمالياتها أنها مرتبطة بحياة الناس الذين يعيشون معنا ولا نعرف عنهم شيئاً.
إنّ تقمص أرواح هؤلاء الرهبان السبعة الذين هربوا من الاضطهاد، يؤدي بالذهن إلى الإجهاد، خاصة أنهم ينتمون إلى خلفيات مختلفة. وقد استمرت معاناتهم ومعاناة أهاليهم حتى في لبنان الذي يُعدّ منفتحاً على المذاهب المسيحية، وكثيراً ما نُظر إليهم على أنهم «آباء مهرطقون» لأنهم ينتمون إلى مذهب آخر.
لا شك أن العيش المشترك هو الذي دفعني إلى كتابة هذه الرواية، فالمسيحيون جزءٌ من المجتمع العراقي، الذي يتكوّن من فسيفساء معقّدة. ورغم أننا نعيش في بلد واحد إلّا أننا غير قادرين على التفاهم وكأننا نعيش في جزُر معزولة عن بعضها بعضاً. والمفارقة أن الحروبَ التي توحّد مكونات الشعوب في العادة، فرّقتنا في العراق!
هناك ظروف شخصية وموضوعية أحاطت بكتابة هذه الرواية. فأنا أحرص على تناول الموضوعات التي تخصّ أوسع شريحة من المجتمع. وفي الواقع، لهذه للرواية جذور واقعية رواها لي صديقٌ رسام أهديتُ له هذا العمل. فهو بطل الرواية الحقيقية لا المتخيّلة. لكن العمل الأدبي يبقى مزيجاً من الاثنين. لأكثر من عشرة أعوام وأنا أفكر بكتابة هذه الرواية، فقد تطلّب ذلك مني دراسة الدين المسيحي في المشرق، وخصوصياته المتفردة، والطقوس التي تمارَس في الدير وغير ذلك من الحياة الداخلية للرهبان.
الآشوريون أصحاب حضارة عريقة، والكتابة عنهم تستدعي التعمّق في التاريخ. لذلك كانت ظروف كتابة هذه الرواية معقّدة و»لم يعطِني الموضوع نفسه» -كما نقول- إلا عندما غصتُ في عالمهم، لأكتشف أن كثيراً منهم ما زال يعيش على أمجاد الامبراطورية الآشورية الزائلة،
l تكشف في روايتك «مجانين بوكا» عن أهوال معتقَل «بوكا» في العراق. هل وجدتَ وثائق معتبَرة لتُعينك على بناء مدماك الرواية؟
uu صنع الأمريكيون معتقل «بوكا» في الصحراء من الكارافانات ووضعوا فيه نحو 25 ألف سجين ومعتقل من أجل التحقيق معهم، ولا توجد وثائق كثيرة حول هذا المعتقل الصحراوي الذي سميّ باسم الإطفائي «بوكا» الذي قضى في 11 سبتمبر 2001 أثناء الاعتداءات على برجيَ التجارة العالمي في نيويورك.
وقد أردتُ تخليد ما جرى في هذا المعتقل في رواية لأن ما كُتب عنه يكاد يكون مفقوداً، لكن بالنسبة للروائي لن يزول المعتقل من الذاكرة بمجرّد إزالته من الصحراء، فالجرح لا يندمل حتى لو أغلق هذا المعتقل أبوابه بعد قرن من الزمان، لأنه يمثل جريمة ارتكبها العالم المتحضّر، هذا الذي ما انفكّ يبشّرنا بالقيم الجديدة، ويمجّد الإنسان بطريقة زائفة، ويتنكر بأثواب الحضارة؛ والأصعب من هذا كلّه، أنه لم يكن من شاهدٍ على الجرائم التي ارتُكبت في ظلمات المعتقل.
هذه الرواية استلهمت وقائعها من شهادات معتقلين سابقين في «بوكا»، وخصوصاً القاص محسن الخفاجي والصحفي محمد الشاهين، لكنها تحلّقُ بأبطال آخرين، بأسلوب يزاوج بين الواقع والمخيّلة. هي رواية تُمرّر معلوماتٍ عن السقوط السريع لبغداد، والواقع النفسي للجنود الأمريكيين، واختفاء الجيش العراقي كلّياً عن الساحة. وهي تفضح جلّادي الولايات المتحدة الذين فتكوا بالأبرياء العراقيين في معقتل أقلّ ما يقال فيه إنه مسلخ بشري!
هناك من وصلوا إلى المعتقل عقلاء، بل نخبويين، وغادروه مجانين أو أشباه مجانين أو جثث هامدة. هُددوا باغتصاب زوجاتهم وأخَواتهم أمام أعينهم ليعترفوا بما لم يقترفوه. فُتحت لهم أبواب الهروب ليصبح مسوغاً إطلاقُ النار عليهم. هناك من رُمي من مروحية، وهناك مَن اغتُصب فقرر الانتحار… وكما يقول الكاتب الألماني «شتيفان بوخن» في مقالة له عن هذه الرواية: «في لغة باردة، يؤكد شاكر نوري أن مَن سبق له أن سُجن في (بوكا)، سيحمل معه جنونه إلى الأبد. لقد دفعت بهم آلةُ التعذيب إلى الجنون. وهو الجنون نفسه الذي يميز الهوية العربية اليوم. لكنه جنون يختلف عن ذاك الذي أوحت به ليلى الجميلة لشاعرها المجنون. يا له من انهيار».
l كتبتَ رواية عن «المنطقة الخضراء» في بغداد، تحمل الاسم نفسه أيضاً. ألا تعتقد أن «المعاصرة حجاب»، وأنّ الراهن يحتاج زمناً ومسافة كافية عنه لنتمكّن من صبِّه في قالبِ نوعٍ فنّي صعب كالرواية؟
uu هذه الرواية قد تكون الأولى في السردية العراقية التي تقتحم عوالم المنطقة الخضراء السرّية (المنطقة المشؤومة التي زُرعت في رحم بغداد) والكيفية التي تتصارع فيها حيَوات خمسة مترجمين عراقيين يعملون مع المحتل الأمريكي مع الإفرازات المدمّرة لثقافة جديدة غازية عاشوا معها عن بعد سابقاً، ثم ها هم يعيشون وسط أتونها، حيث تصطدم وبعنفٍ بمرتكزات الثقافة العراقية.
وهناك، في الرواية، قِصّتا حُبّ متوازيتان؛ بين إبراهيم وفيفيان من ناحية، وبين الكولونيل داود الأمريكي ومدام بيتي العراقية التي صارت مسؤولة عن المترجمين العاملين مع الجيش الأمريكي من ناحية ثانية.
لقد حاولتُ في «المنطقة الخضراء» أن أمزج بين التحولات الواقعية الدامية والخراب الذي تسبّب به الاحتلال وبين المخزونات الأسطورية (خصوصاً أسطورة إنانا) التي تمور في اللاشعور الجمعي في أوقات الصراعات التاريخية الفاصلة.
l في روايتك «كلاب جلجامش» تقلب الأسطورة. فإذا كانت محنة «جلجامش» أنه كرّس جهدَه لبلوغ الخلود، فإنّ اللعنة التي أصابت أبناء الوطن الذي ينتمي إليه بطل روايتك هي «الخلود»، لكن تحت سياط العبودية والمهانة. هل تريد أن تقول إن المآسي مستمرة بوصفها قدَراً لا فكاك منه؛ شئنا أم أبينا؟
uu لا يقتصر التناصّ على شخصية «جلجامش»، وإنما تعداها إلى شخصيتين أُخْرَيين هما «أنكيدو» التي جسّدها «أنور»، و»سيدوري»، صاحبة الحانة التي تقمّصها «سرمد». وقد تجلّت هذه الشخصيات على مدار النص الروائي في صيغة فانتازية تستلهم السياق الأسطوري شكلاً ومقترَباً، لكنها تعاكسه مضموناً ونتيجة.
نعم، هناك مفارقة تعاكس النصَّ الأسطوري، وتقف بالضد منه، لتتوصل إلى نتيجة مقلوبة تماماً. ولكن لا يمكنني تحديد السبب الذي دفعني إلى تبني هذا الأسلوب التهكّمي الذي ينطوي على سخرية مرّة.
ربما يحيلنا هذا الأسلوب الاستعاري إلى تورية واضحة المعالم، مفادها أن العراقيين كانوا خالدين في موتهم، وقابعين في سجونهم الأبدية. والدليل على ذلك أنهم كانوا يموتون بالعشرات، وأحياناً بالمئات يومياً بعد أن انقلبت المعادلة بحيث صار الجنديُّ يحكم الجنرالَ، والتلميذُ يتسيّد على الأستاذ، والمريضُ يعالج الطبيبَ. في خضم هذا العالم المقلوب رأساً على عقب، لا بد من هيمنة العقل العبثي الغرائبي الذي يقف بالضد من منطق الاشياء لكي يستجيب لراهنية الواقع الذي تديره مؤسسة الخلود، وتُحكم قبضتها على معابره الحدودية!
يبدأ المتن الحكائي لهذا النص بأسلوب واقعيّ جداً، فهناك ثلاثة أشخاص على مقاعد الدراسة كانوا الوحيدين الذين يقبلون وبقناعة تامة أن يمثّلوا أيّ دور في «ملحمة جلجامش»، وها هم ثلاثتهم يلعبون أدوارها الرئيسة. فجلال كـ»جلجامش»، هامَ على وجهه بحثاً عن وصفة الكائن الذي تختلط فيه الصفات الإلهية بالبشرية. وأنور الذي سافر إلى باريس ودرس فيها الفلسفة والأدب لعب دور «أنكيدو». وسرمد (أو «سيدوري») قَبِل أن يجسّد دور صاحبة الحانة.
غير أن هذه «الأسطرة» لا تذهب إلى حدودها القصوى. إذ كان لا بدّ أن أذكّر –كروائيّ- بين آنٍ وآخر بالواقع العراقي الذي يخضع للتعسف والاضطهاد المتواصلَين حتى في ظل دولة «مؤسسة الخلود». أما الهيمنة الاستبدادية فتتمثل في الطريقة التي تعرَّض فيها «سرمد» للضرب المبرّح على أيدي الجلادين. أعني أن هذا الأنموذج الواقعي قد تحوّل عبر العملية الإبداعية للنص الروائي إلى شخصية فانتازية، وربما عبثية إلى حدّ ما. وهنا يمكن الاستشهاد برأي «نيكوس كازنتراكي» القائل: «إن الفن يملك الحق، وليس الحق فقط، بل إنّ من واجبه أن يعيد كل شيء إلى جوهره، إنه يغذّي القصة، ثم يختزلها ببطء وفي شكل متألّق، ويحيلها إلى أسطورة».
l تتحدث في روايتك «ديالاس بين يديه»، عن طفولتك في مدينة جلولاء التي كان العرب والكرد والتركمان يعيشون فيها معاً كأنهم جسدٌ واحد. هل تسعى إلى عقد مقارنة مع ما يجري في العراق حالياً من انقسامات تنمو فيها الهوياتُ الفرعية وتغيب الهوية الجامعة/ الوطنية؟
uu ليست «ديالاس بين يديه» سيرةً ذاتية لفرد بالمعنى التقليدي، بل هي سيرة نهر ديالاس، بأساطيره الخارقة وينابيعه السحرية وقرابينه المرتعدة وعنفه الهادر وهدوئه الموارب وفيضاناته المرتقبة. وهي أيضاً قدَرُ صبي، في التاسعة من عمره، يجمع في ذهنه السحر، والمكر، والبراءة، والجنون، أسلحةً يواجه بها العالم. وهو يغرف من مياه النهر، مرسلاً نظراته إلى الينابيع النائية حالماً بالوصول إليها في رحلة حج خارقة، ويردّد في نفسه قائلاً: «كم كنت أتمنى أن أعود إلى مرابع طفولتي ومراهقتي لأنعش ذاكرة ذلك الطفل الذي كنتُه».
خمسون عاماً تفصلني عن حياة هذا الطفل! يا إلهي.. كيف مرّ العمر مثل ومضة عابرة! لقد ترددتُ أمام صعوبة هذا العمل الأدبي، لكن أمي شجعتني قائلة أن لا أحد باستطاعته تسجيل كتاب طفولتي سواي، فإذا لم أفعل ستذهب تلك السنوات أدراج الرياح.
هل كانت الأم باعثة لهذه الكتابة؟! نعم. ليس لأنها المؤلف الفطري الذي يمدّني بالأفكار، بل لأنها آخر شاهد حيّ على ما أروي، المرآة التي أرى فيها وجهَ طفولتي، وهكذا بدأتُ أرى «آدم»، ذلك الطفل في الرواية، عاشقاً للجنة ومرتعشاً من النار، وسرعان ما وجدتُ نفسي أمام مشروع امتدّ إلى حياتي برمّتها التي تكوّنت في ديالاس وبغداد وباريس. ثلاث مدن هي مناراتٌ ثلاث تضيء طريقي أينما ذهبت، وأساطير تُلهب عقلي كلما فكّرت.