يوم اعتلينا المنبر نفسه، لأربع سنوات خلت، لنقدّم كتاب «العربية والتقدّم» للباحث نفسه، الدكتور شربل داغر، الى جمهور العربية، أبلغت الباحث تمنيّا صادرا من حرصي كناقد أدبي أو مشتغل في أموره، لو كانت النماذج الشعرية التي أدرجها في باب الشعر العصري كانت أوفى، ولو كان أشبعها درسا وتحليلا لغويا ؛ ذلك أنّ صفة «العصري» التي كان الباحث محضها الشعر المصاحب للتمدّن (أواسط القرن التاسع عشر )، كان ينبغي له، بحسبنا، أن يستأهل تلك الصفة برسوخ السمات العصرية في بنيانه وأساليبه وصوره لا يدانيه شكّ .
وها هو الجواب يأتيني، بعد السنوات الأربع، مجلّدا أوّل، في مسألة الشعر الحديث(1)، وموضوعه «الشعر العصري»، وفيه ما طلبنا وزاد .
ينطلق الباحث في رحلته البحثية من المعين، بل قل من البدء : عنيت تكوين الحداثة في الخطاب العربي .
فنراه يقلّب الكلمة على أوجه عديدة، صرفية دلالية، ذات صلة بحاصل التقدّم الذي أحرزه العرب، مطلع التاسع عشر، وما تلاه . فيوقن بأنّ الحداثة لدى العرب تعيّنت واقعا بفضل اتّصالهم بالغرب –غرب ما بعد الثورة الفرنسية – علما وتقنية وبنيانا لمؤسسات الدولة، ومصطلحات نقدية وأدبية وغيرها مما عمل
الموفدون في البعثات العلمية، منذ محمد علي، على ترجمة تقريبية وغير منتهية .
ولا يكتفي الباحث بالتعيين المعجمي والمرجعي الأوّل للفظة الحداثة، وإنّما نراه ينقّب في التّراث النقدي الغربي نفسه عن محمول الحداثة، فينتهي، ثانية، الى أنّ الحداثة لدى العرب ، تنطلق من معطى أوروبي في التعيين، ولا يكاد ينتهي من هذا الإثبات إلاّ بإشباع مرجعيّ، ولا ينجو منه هابرماس ولا ماركس ..
ولدى انعطافه الى الحداثة العربية، نجده يستقرىء التّراث الفكريّ العربي، لعلّه يضيء على الحداثة في الشّعر ؛فيخرج منها بمدوّنة، بل مدوّنات، هي من الثّراء والاكتناز بحيث تكفل تبديل الصورة التقليدية
التي لطالما سادت ساحة النقد، على مدار قرن بكامله . فمن المعلوم أنه، ما أن أطلّ القرن العشرون، الثلاثينيات والأربعينيات منه، حتّى توالى الكلام النقدي على الحداثة الشعرية وكأنها ابنة زمنها الفتية،
أخرجت الى الوجود من عدم .
ويكتشف الباحث، بعد تفحّصه الإطار البيئي الذي اغرس فيه مصطلح الحداثة، مدى هشاشة مرجعية هذه الأحكام النقدية، وضآلة صدقيتها، استنادا الى المدوّنة المستقرأة .فعلى سبيل لبمثال، لدى مقارنة الباحث بين بدايات الحداثة الشعرية، وحصرها بشاعرين هما :بدر شاكر السيّاب، ونازك الملائكة، وبين المدوّنة الشعرية الغنية التي سبقت هذه المرحلة، يتبيّن له أنّ شعراء عديدين سبقوا المذكوربن بأربع أو خمس سنوات .ويتّضح له، من ثمّ، أنّ الحداثة الشعرية تعود الى أوائل القرن العشرين، مع محاولات أمين الريحاني (1907) النثرية الشعرية .
وعندئذ فقط، تتكشّف للباحث إشكالية واضحة بشقّين : وهي أنّ النقد العربي التقليدي كان الى حينه يحصر الحداثة الشعرية باثنين، لا ثالث لهما، ويجزم، في الآن نفسه، بربط الحداثة هذه ببروز الدولة ونموّ حركات التحرّر والاستقلال في العالم العربي . ولا يشذّ عن هذه القاعدة أتباع التاريخ النقدي الصرف وهم السواد الأعظم، ممن توالوا على هذا المجال، بدءا بجرجي زيدان، ومرورا بحسن توفيق العدل وأحمد الإسكندري وأحمد حسن الزيّات، وصولا الى شوقي ضيف، وأنيس المقدسي، ولا يخالفهم فيها أتباع المذهب الارتقائي الفني، ممثلا بأنطون غطّاس كرم، ممن راحوا يرسمون حدودا زمنية متقاربة للأتجاهات الشعرية الحديثة .
أما التصدّي لهذه الإشكالية فقد بذل الباحث جهده الأكبر لمعالجتها ؛ وأوّل السبيل الى ذلك مقاربة فذّة، وإن تكن بعض عناصرها غير جديدة كليا ؛ وعماد هذه المقاربة البيئة الحضارية –المدنية التي استولدت الشعر العربي الحديث أو غيره، أو تلك التي هيّأت له شروطا غير قابلة للنقض، من أجل أن ينمو ويبرز ويتسيّد . ذلك أنّ مسار التمدّن، بحسب المؤلّف، الذي يختطّه مجتمع ما يكون كفيلا بفتح منافذ للفكر والتعبير والتدبير، متحصّلة من نمط العيش الآخذ في التقدّم، في سيرورة خطّية لا رجعة فيها .
وعندئذ فقط يصير هذا النتاج الفكريّ أو الأدبي موضوعا على سكّته، ومندرجا في تاريخه الخاص ونوعه وأصله .على أنّ ما لفتني في هذا الكتاب، تلك الرؤية المدقّقة والباحثة والفاحصة، والتي تذكّرني بتمحيص لويس مارين وأنطوان كومبانيون وميشال فوكو لدى تقصّيهم آثار القرون الوسطى وما بعدها بالنتاج الفكري، للبنانيين والعرب إبان القرن التاسع عشر، في هذا الشأن ؛ فنراه يستنطق، أول الأمر، الوسائط الإعلامية والتربوية، وأهمها كتاب الأدب العربي، ومن ثمّ الجريدة، والأعمال الأدبية الناجمة عن هذين . ونراه كذلك يعرّج على التعليم، واتّساعه وشموله المرأة، بعد أن كان محصورا «بالبنين»، على ما كان دعا اليه البيان الصادر عن مؤتمر اللويزة، في القرن الثامن عشر .ويرى الباحث الى هذه الوسائط الإعلامية والتربوية على أنها مساهمة، الى جانب أطارها الاجتماعي، في تشكيل الأدب الجديد، منذ أوائل القرن التاسع عشر، على الصورة التي أقرّ بها بطرس البستاني .
ولدى إمعان الباحث تقصّيه تعاريف الأدب وتصانيفه، والمصطلحات النقدية الأدبية المتّصلة بالشعر على مدى القرن التاسع عشر، تولّدت لديه مدوّنة كافية، أتاحت له المضيّ في تحليلها والتعمّق في دلالاتها في ما خصّ الشعر المتداول في تلك الحقبة .فتكشّفت له، من النظرة المعمقة إليها(المدوّنة) واقعة جديدة، قياسا الى المتعارف عليه من المصطلحات النقدية، وهي وجود مصطلح نقدي، كان لا يزال متداولا بين الشعراء والكتّاب، منذ ما ينيف عن القرن، وعنيت به «الشعر العصري». وهو ما كان الباحث قد سلّط عليه بعضا من الضوء، لأربع سنوات خلت، لم تكن كافية لإحيائه وضمّه الى المجال النقدي المعاصر.
ولعلّ هذا الضوء الكاشف عينه أبان عن إغفال النقد العربي التقليدي المصطلح المذكور، إلا بعضه الذي كان متّصلا اتّصالا عضويا بحركة النهضة (جرجي زيدان). ومن أجل أن يتقدّم الباحث داغر على أرض مقدية صلبة، ونظرية متينة (التبيئة ) قائمة على مثلّث متكامل الأركان : الشعر، الشاعر، المجتمع وحركة التمدّن اللاحقة بهما .فتبيّن له من رصده آراء الشعراء النقدية، سواء عبر المقالات أو التوطئات التي جعلوا يمهّدون لكتبهم الشعرية، منذ أواخر التاسع عشر، أنّ صورة الشعر المتحصّلة من سماته المتفرّقة، عند هؤلاء، دلّت على أنّها صورة عصرية بمختلف أبعادها العلائقية والتداولية والذاتية، وهي تخالف، بالتالي، صورة الشعر العربي القديمة .
ولدى دراسة الباحث نبذات الشعراء، في الثلث الأوّل من القرن التاسع عشر، تنبّه الى أنّ غالبية هؤلاء كطانت قد أقامت الصلة الأكيدة بين عوامل المدنية الحديثة وبين الشعر . وأدركت أنّ الشعراء تخلّصوا من «الطريقة القديمة وأخذوا بأطراف الشعر العصري» . وما زال الباحث يتقدّم، موسّعا مروحة مدوّناته حتّى انجلت له بشائر التحديث وتمظهره في الإنتاج الشعري المصوغ ليكون مرآة لعيش التقدّم وقوله .
فنكتشف مع الباحث أنّ شعراء وكتّابا أمثال خليل الخوري، ومحمود سامي البارودي، ورزق الله حسّون،
وفرنسيس المرّاش، وسليم العنحوري، وجميل الزهاوي، وغيرهم الكثير . وإن كان أولئك قد نظموا، أو سلكوا في نظمهم الشكلي، سبيل الوزن والقافية، فإنهم أرسوا دعائم التجديد، سواء بالتعبير عن العالم الجديد، المدني الحاصل في واقعهم، أو في تكريس ذاتيّة الأديب والشاعر وفصلها عن مسار الارتهان لدوائر السلطان، بفضل الصحافة، أو في تجريب الكثير من أساليب الكتابة الشعرية مما لم يكن للجمهور قِبل به لجدّته وعصريّته .
ولعلّ في ذلك الكشف إبانة صارخة عن وجه الظلم النقدي اللاحق بهؤلاء الشعراء وحقبتهم، حين اتّهموا باتّباع الأقدمين في النظم، فحقّ السكوت عنهم أو إغماض العين عن صفحتهم وأفضالهم على الحقبة الآتية، والانتقال الى حقبة الحداثة، انتقالا فجّا وسريعا، وكأن بسحر ساحر، من الشعر القديم والعمودي، والاتّباعيّ المتهالك، الى الشعر الحديث في القرن العشرين . وعندئذ تصحّ نسبة البطولة (الشعرية) كلها الى حقبة الحداثة والمعاصرة دون غيرهما .
ولا يكتفي الباحث بالكشف عن ركني المثلّث (المجتمع العصري + الشاعر العصري )، وإنما نراه وعلى مدار أكثر من مائتي صفحة من المجلّد، يقدّم الدليل تلو الدليل، على أنّ القصيدة العصرية، وليدة المجتمع والشاعر العصريين، هي كيان شعري حديث، استحقّ تسميته لفض اتّساق وبنية تأليفية، غريبين تماما عن الاتّباعية، ولا يمتّان بصلة الى تراث الأقدمين .على أن محاور اهتمام القصيدة العصرية، بل اهتمام الشعراء، كانت عصرية بامتياز، سواء في المجال الوجداني ام الوصفي، او السياسي. أما على المستوى الإيقاعي، ولئن التزم الشعراء فيها الوزن، فانهم لم يكفوا عن تنويع بناها :فاعتمد الشعراء الأشطر حينا، اقتداء بالموشحات، وجعلوا ينظمونها على المقاطع الشعرية، ذات القوافي والأروية المتعددة، على غرار الشعر الأجنبي الذي قرأه جلّهم وترجمه البعض، باعتبارها وحدات دلالية، تترابط فيما بينها برابط الوحدة العضوية. وقد يتسنّى للمطّلع على تراث الحداثة الشعرية (الأخطل الصغير، الياس أبوشبكة، صلاح لبكي، خليل مطران، وغيرهم )، أن يعاين مصداق ذلك الأثر من الشعر العصري في الشعر الحديث، ولا سيّما بنية الأناشيد الطويلة، والمعجم الأليف والذي يكاد يكون يوميا …
بالمحصّلة الأخيرة، أخرج لنا الباحث الدكتور شربل داغر، من مدوّنات المجتمع المدني والتأريخ والشعر والنقد، مصطلحا نقديا من متاهة الإغفال والإهمال، وهو «الشعر العصري». فبات سطوعه، على يديه، بعد تمويته ما يقارب المائة وثلاثين عاما، دليلا صارخا على أنّ النقد الموضوعيّ والجادّ لا بدّ صانع الحدّ بين العلم والبروباغندا العصرية، وهي عندنا عزيزة الجانب قهّارة، أحيانا.
ولئن كان الناقد، شربل داغر ترسّم سبيل العديد من النقّاد قبله، في استنطاقه بعضا من التاريخ المتّصل بالأدب والأدباء، على نحو ما نراه في عمل الشاعر خليل حاوي الأكاديمي عن جبران خليل جبران، وقبله أنيس المقدسي في تقصّيه الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث، وأنطون غطّاس كرم وصولا الى الدكتور علي زيتوني ومنهجه الثقافي البنيوي، فإنه، اي الباحث داغر، ينفرد بالذهاب أبعد من هذه الأمداء، إذ اعتمد مقاربة شاملة، دعاها بالتبيئة، ونحن ندعوها بالمقاربة التمدّنية ذات الأبعاد الثلاثة :
المجتمع السائر الى تمدّنه، بفضل صلته بالغرب، والمثقّف المبدع والفنّان، والشعر المنتج (العصري).
حتّى إذا نجح في استقراء التواريخ وبعض علامات التمدّن الحاصلة في زمان الجماعة، صانعة الأدب (شعرا ونثرا)، وتثبّت من صلاحية مدوّنته العائدة اليها، انصرف الى تسليط شبكته التحليلية اللسانية عليها، من أجل ان يستخلص الخصائص البنيوية للشعر العصري .
وفي الختام، نقول أنه لا بدّ لنا، من الآن فصاعدا أن نهيّىء مكانا فسيحا لمصطلح الشعر العصري .
فأهلا وسهلا به في قواميسنا وكتبنا النقدية والمدرسية وغيرها، وذلك بفضل دعاته العصريين والكاشف
عنه، الدكتور شربل داغر .
هامش
(1) داغر، شربل(2012)الشعر العربي الحديث:القصيدة العصربة، دار منتدى المعارف –بيروت
المصادر والمراجع
*البستاني، بطرس (بلا تاريخ)، إلياذة هوميروس معرّبة نظما، الجزء الأوّل، دار المعرفة، بيروت .
*حاوي، خليل (1982)، جبران خليل جبران، إطاره الحضاري، وشخصيته، وآثاره، دار العلم للملايين،
بيروت .
– داغر، شربل (2008)، العربية والتمدّن .دار النهار، ومنشورات جامعة البلمند، بيروت .
– داغر، شربل (2012)، الشعر العربي الحديث، القصيدة العصرية، دار منتدى المعارف، بيروت .
– زيتون، علي مهدي (2011)في مدار النقد الأدبي، دار الفارابي، بيروت .
– شيخو، الأب لويس (1926)الآداب العربية في القرن التاسع عشر، دار المطبعة الشرقية، بيروت .
– فيصل، شكري (1986)ط6، مناهج الدراسة الأدبية، دار العلم للملايين، بيروت .
– المقدسي، أنيس (1977)ط6، الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث، دار العلم للملايين، بيروت .
– النويهي، محمد (1932)الشعر الجاهلي، منهج في دراسته وتقويمه، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة
BOURDIEU.P(1992), les regles de l art, genese et structure du champ litteraire,Seuil
Compagnon,A(1988), le demon de la theorie, literature et sens commun , Seuil .
MARIN,L(1975) la critique du discours; sur la logique de port-royal.
THUMEREL, F(2009)3ed,la critique litteraire,Armand colin .