من بين منجزات الحداثة غير المنظورة، أو المحتسبة إيجابا لها، اعادتها هيبة علامات الترقيم داخل الملفوظ الشعري، واستثمارها لوصل الملفوظ ببعضه من جهة، وبالمغيب أو المسكوت عنه خارج النص، من جهة أخرى.
إذ لم يكن لهذه العلامات قبل التحديث الشعري الذي بدأ بشعر الرواد – النصف الثاني من أربعينيات قرننا تحديدا – أي وجود. فقد اختصت بالنثر، وهُمشت شعريا لصالح سياق القصيدة البيتي. أي المنبني على أساس وحدة البيت واستقلاله. فليس من مكان لوقف أو استفهام أو تفصيل أو فاصل صمت أو تعجب، إلا ضمن وقفة البيت العروضية والتقفوية التي جلبت معها – لتقوية كيانها البيتي المستقل – وقفة معنوية بمعنى أن جرس القافية إيذان بانتهاء وحدة شعرية مستقلة وزنا وإيقاعا ومعنى. وما يظل من تدوير أو ترابط هو في بعض التصنيفات الموسيقية التقليدية ليس إلا خطأ فادحا يدل على عجز الشاعر أو غفلته أو خروجه على المألوف، لما يمثله اعتداؤه على استقلالية بنية البيت الشعري من تجاوز للذائقة. وهي ذائقة تكونت في ظل حاضنة شفافية، كان مبررا تماما على وفق نظامها السمعي على مستوى التلقي والإلقائي على مستوى الإرسال والبث، أن تحتاج لما يسور وحدة البيت ويصونها كي يصبح استيعاب المعنى والألفاظ ممكنا، ومتفقا مع الوظيفة العضوية لعاملي الإرسال والاستقبال (اللسان – الأذن).
وبهبوب رياح التحديث، تغير موقع المتلفظ والمتلقي معا. وصار للعين مسرح ضاج حافل بالموجودات المكتوبة على سطح الورق. وكان الامتداد المعنوي، بسبب سعة الدلالة ولا نسقيتها ومفاجآت القصيدة النامية بلا نظام صارم، يفيض عن وحدة البيت، ليقترح بناء سطريا جديدا، يتطور لاحقا الى الجملة الشعرية بنوعيها: الكبرى ذات الهيمنة على البناء والدلالة والايقاع والتركيب، والصفري ذات الوجود الفرعي الخادم لوجود الجملة الكبرى، والمتنوع على وحدتها، والمتعدد على مركزيتها أو بؤرتها المولدة. بهذا التراتب التاريخي الذي هو حصيلة تطور نوعي لا زمني وناتج وعي لا تقليد أو وراثة، صار للشكل الشعري ثلاثة تشكلات رئيسية تتدرج كالأتي:
وصار لزاما على القاري؟ المتعين كتابة لا مشافهة، أن يجدد لا ذائقته فحسب، بل ذخيرته النصية. فيهجم على النصوص لاحتوائها واستيعابها بما يجهز به نفسه من عدة كتابية تناسب السطح الذي تطالعه عليه القصيدة. صار على هذا القاريء البصري أن يتأمل دلالات علامات الترقيم وأن يجدد نظرته الى التقفية والتكرار، والمطالع والخواتم وما بينها، ليتسع أفقا كي يلتهم أبعاد النص ويتمثلها قراءة وفحصا وإدراكا.
وإذا كانت هذه المقدمة ضرورية لتحديد نقطة النظر الى شعر البريكان ضمن سياق الحداثة التي ينتمي اليها في ذاكرة الشعر العراقي وخارطته، فإن شعر محمود البر يكان – وهذه مناسبة ثانية – هو شعر قراءة بصرية لا مشافهة وسماع. وعلى هذا الأساس سوف نتفحص عنايته بتوزيع الأسطر الشعرية لصالح الجملة الكبرى وتفريقاتها الصغري، ولكيلا نفترض التقاويل والتلفظات سنعمد الى مسودة إحدى قصائده (غياب الشاشة) 1990 – ونتأملها بخطه لنرى وعيه بالمكتوب ومادية الورقة وصلتها بالعبارة الشعرية.
ما يتيحه (غياب الشاشة) إذن هو اتصال بصري بنص حديث لنرى قصائده وحبائله وملاطفاته ونكته وحكمته ونزقه.. لنرى وجوده طه مختبئا وراء الصوغ الشعري المتقدم في جمل حية ذات فواصل ونهايات ومتن وبدايات واعتراضات واستطالات وقطع بالغ الحدة واستئناف غريب المبتدأ.. غريب المنتهى غريب المسار.
في قصيدة (غياب الشاشة) لمحمود البريكان، يطالعنا الوجه السطحي المقروء للنص، أو هيئته الخطية بثلاثة مقاطع تفصل بينها نقطتان سوداوان أرادهما الشاعر علامتين على الانتقال من المقطع الأول الى الثاني ومن الثاني الى الثالث. وهذا البناء المقطعي بعض أقاويل التحديث وفذلكاته سواء أجاء كما في هذه القصيدة من دون ترقيم، أم جاء مرقما بأرقام أو مسلسلا بأحرف وما شابه. وليس البناء المقطعي هنا عبثيا. إن النقطة السوداء تعلن نهاية حركة وموقف يشملها المقطع، وتمهد لحركة وموقف يليانه، ولابد أنهما متغايران على مستوى التركيب والدلالة، وهذا ما حققته قصيدة البريكان. فقد كان مقطعها الثاني تثبيتا يقدم مشهدا حاضرا. بينما كان الأول ينقض كذلة تصوير على كسرة مشهدية ليرينا المكان أو مسرح الأحداث بجملة صغري تمتد على خمسة أسطر، ثم يذهب الى الماضي مسترجعا ماضي القاعة كلها من خلال الشاشة (التي كانت.. وسط هذا الدار). أما المقطع الثالث فهو استعادة لفراغ الشاشة من المعروضات والخروج الى الدلالة الصريحة (انطوى مهرجان الحياة).
على هذا الأساس تنقسم القصيدة الى ثلاثة مقاطع ظاهريا. لكن تقنية جملها الشعرية التي لا تلتزم بحدود السطر الشعري ترينا وجود أربعة انتظامات مقطعية واضحة التباين هي:
1- مقطع المكان – مسرح الأحداث والاستلهامات الشعورية وتجليات البؤرة الأولية. ويبدأ من
(مخزن الأمتعة) الى (كغبار).
2 – مقطع الحضور الغيابي أي استحضار الشاشة الغائبة الآن، لتحول القاعة السينمائية الى مخزن عاديات قديمة. (هاهنا كانت الشاشة الساطعة) الى (والدموع).
3 – مقطع تثبيتي يهدف الى تكريس مقطع المكان، لكنه يتنوع على فراخ فلسفي أو وجودي (للمكان روحه الصامتة) الى (متعلقة بالدار).
4 – مقطع السؤال المصيري الذي يبدأ دلالة في السطر الخامس (من يرى يتذكر؟) الى (حين تضاء المصابيح ثانية). فالشاعر قدم اللحظة على السؤال بنائيا.
إن المقاطع الأربعة المستنبطة بالقراءة الثانية المدققة بالعلاقات والارتباطات وكذلك بالانقطاعات والفصل البنائي والدلالي تجسد كلها ثنائية (الماضي / الحاضر) التي هيمنت على النص كله. وسنرى أن الجملة الشعرية الكبرى وتفريعاتها موظفة هي الأخرى لتجسيد دلالات هذه الثنائية التي بهظت روح الشاعر ووجوده حتى جعلته يتخلى عن حيادية التصوير التي عرف بها وخروجه من المشهد الشعري وتغييب الأنا – أنا الشاعر – لصالح أنا النص ووجوده ؟ وهي أسلوبية خاصة بالبريكان لازمت تعبيراته الشعرية منذ البدء. فدوما هناك راو أو سارد أو مصور مختف وراء الروي والسرد والتصوير. إنه يعرض علينا ما يرده سينمائيا دون تعليق. وهذه الميزة جعلت البريكان متناسق الأداة والهدف في هذا النص، مجافيا – كعادته – أية غنائية من لوازمها هيمنة الذات وعائدية الضمائر والأفعال لها. لكنه في هذه القصيدة بالذات يتخل عن حياد يته في الأسطر الشعرية الثلاثة الأخيرة حين تساءل خارج سياق الشاشة ووجوهها المضيئة ومشاهديها عن الناس هل غادروا (أحلامهم) لا مكان العرض وحده.. وفسر ذلك بالسؤال أيضا عن تلاشي مهرجان الحياة كتلاشي الظلال على شاشة خالية. وكأنه جاء بالمعادل الرمزي المساوي لخلو الشاشة وفراغ القاعة فصار:
تلاشي ظلال الشاشة الخالية
انطواء مهرجان الحياة ومغادرة الناس
إن هذا البوح الدلالي ربما أضر بإيقاع النص المعتمد على حيادية إيهامية. فالشاعر لا يقف محايدا ازاء الحياة والموت، امتلاء الشاشة وفر اخ القاعة. لكنه اكتفى بالتستر وراء المويتفات الحزينة والجارحة، الحادة بفعل التذكر ويقظة الذاكرة. أما النهاية فقد جاءت اقتحامية اقحامية. هجم الشاعر على المشهد وسأل سؤاله الحاد فأقحم وعيه في صمت الأشياء وغبارها ورمادها.
تعرفنا حتى الآن على ثنائية وثلاثة مقاطع ظاهرية وأربعة مقاطع دلالية. ونصل عند هذه النقطة الى التعرف على الجمل الشعرية. لنجد أن العنوان (غياب الشاشة) هو من النوع المباشر المعبر عن المحتوى. إنه عنوان استباقي أي انه يحكي ما سيجري ويرشدنا الى بؤرة الحدث فكل ما سنقرأ هو عن (غياب الشاشة). وجمل النص الأخرى هي تفريعات تنويعية لهذا الغياب. إن الشاشة ذات وجود محير. فظلامها انتهاء وضوؤها إعلان عن بدئها وحياتها.لكنها لا تضيء إلا وسط ظلام القاعة. إن الظلام المطبق إشارة الى بدء توهج الشاشة. فهل أراد البريكان باستحضار هذه الثنائية أن يذكرنا بخروج الحياة من العدم أو لزوم العدم لوجود الحياة وانبثاقها؟
لقد تسبب هذا الازدواج بأزدواج دلالي محير. فالشاعر يعد الفراغ التالي لانتهاء العرض مساويا للإضاءة التي تعني النهاية. فخروج المشاهد مقترن بالضوء الذي ينتزعه من تماهيه بالمرئيات على الشاشة. فتحقق على مستوى الترميز شيء مزدوج هو:
`32; إضاءة القاعة = فراغ الشاشة + غيابها
بمقابل: · عتمة القاعة = امتلاء الشاشة + حضورها
يترتب على ذلك سؤال يتصل بالتلقي: أيكون غياب الشاشة وفراغها بالضوء مساويا لغبار القاعة وتحولها الى رماد من الذكريات والأشياء العادية ؟
إن الجمل الشعرية التالية للعنوان كلها تجيب على هذا السؤال وتكرس الثنائية الكبرى أعني ثنائية الماضي /الحاضر أو الحياة / الموت أو الحضور /الغياب.
تعرفنا هنا على ثنائية كبرى إذن وتنويعاتها الداخلية الثانوية. كما تعرفنا على جملة كبرى يلخصها العنوان وتشتغل القصيدة كلها من أجل تكريسها منذ السطر الأول حتى علامة الاستفهام التي ختمت السطر الأخير من القصيدة وصار المخطط التجريدي للنص واضحا بتعيين الجمل الصغري وهي بالتتابع:
– جملة (مخزن الأمتعة..)
– جملة (للمكان روحه الصامتة..)
– جملة (هاهنا كانت الشاشة الساطعة)
– جملة (من ترى يتذكر؟ لحظة تتصاعد..)
– جملة الختام – السؤال الذاتي الإقحامي: وهل غادر الناس.. وانتهوا وانطوى مهرجان الحياة ؟ تتخللها كلها وتخترقها وتطوها جملة النص الكبرى (-جملة العنوان): غياب الشاشة. إن البناء الجملي الحقيقي (- النحوي/ مؤسس على الاسمية. فالجمل لدى البريكان اسمية أي أنه يتخذ هيئة المخبر عن الأشياء لا الفاعل وهذا يناسب مقام الدلالة، فالتلفظ بالاخبار يوافق تماما موضع الشاعر كسارد للنهاية: نهاية الشاشة والقاعة والحياة والماضي. هنا لن تقوم الأفعال إلا بدور ثانوي لذا نجدها مكملات لا أساسيات. أي أنها تستخدم لصوغ الخبر أو الحال أو الصفة لا لتترأس الصياغة وتتقدمها لبناء الحدث.
حتى البناء الجملي الفعلي يأتي ناقصا أي بالفعل (كان). أما البناء الفعلي التام فهو تابع للاسم مثل:
1- الشعاع الذي يتراقص…
يموج… [صلة الموصول + خبر]
2- السكون
وحده يتنفس [خبر]
3- الكائنات الخفية تكمن [خبر]
4- المهود التي صدئت [صلة الموصول ]
5- لحظة تتصاعد…
حين تشع…
حين تضاء [إضافة للزمن – تكملة للحظة والحين ]
6- من ترى يتذكر [خبر]
7- التي ائتلقت – التي شاهدت [ صلة الموصول ]
8- هل غادر… [ تابع السؤال ]
وانطوى … ،، ،،
كما تتلاشى.. ،، ،، تكملة بالوصف – التشبيه]
إضافة الى المطلع (الأثاث القديم يتنفس فيه السكون) (يتساقط) [خبر]
إننا لن نجد بناء فعليا عدا هذه المواضع العشرة التي يمكن اختزالها الى وظائف محددة هي:
1- الإخبار 2- صلة الموصول 3- تعلق بالزمن 4 – بناء الاستفهام 5- التشبيه.
إن الشاعر ليس معنيا بالحدث وكيفية ما حدث بل الإخبار عما حدث، والتفلسف حول مغزى هذا الحادث، لذا جاءت الجمل الاسمية ذات أهمية مطلقة على الجمل الشعرية كبراها وصغراها. وكان تصوير المكان والماضي والحاضر بالمفردات التي تبدو متناثرة منفصلة لا يجمعها إلا مونتاج شعري ذكي، يسهم بربط مفرداته قاريء ذو خبرة سينمائية. لعله أحد الخارجين الى النور من عتمة القاعة نفسها، والحاشدين اليها للسؤال عن مصير البشر.
إذا شئنا تسمية الجمل المغرى فسنجدها في:
1- مخزن الأمتعة… كغبار
2- ها هنا كانت الشاشة… والدموع.
3- للمكان روحه… متعلقة بالجدار.
4- من ترى يتذكر ؟ لحظة تتصاعد وشوشة الناس.
5- وهل غادر الناس… على شاشة خالية.
إننا لا نحفل بطول الجمل لتعيين موقعها في النص. فجملة (غياب الشاشة) ليست جملة نحوية فهي مصدر ومضاف اليه. لكن تقدير الحذف: هذا غياب الشاشة. أو المروي هنا غياب الشاشة. أو لماذا غياب الشاشة: يجعلنا نعطيها صفة جملة. بل نجعلها جملة النص الكبرى. ولهذا لم يكن الشاعر محتفيا بالبناء الجملي الداخلي. بل يتجاوز وقفات العروض والقوافي والدلالة والتركيب ليصنع جمله من عبارة واحدة أو كلمة واحدة أحيانا:
كغبار
والدموع
السكون
بينما يحشد أكثر من جملة نحوية في سطر شعري واحد يفصلها عامدا بنقطة (= علامة الانتهاء).
المهود التي صدئت. الأسرة ذات النقوش
ولتعمد الفصل في غير مكانه النحوي يلجأ الشاعر الى وسيلتين 1- العطف الجملي بلا عاطف نحوي، 2_ الانتهاء بالنقطة ثم ترك بياض أو فراخ قبل استئناف جملة جديدة واذا ما تأملنا مفردات السطر أعطينا الشاعر الحق في هذا الفصل. فالكلمة الأولى في السطر (المهود) ستؤول دلاليا بعد الكبر والزواج الى لم الأسرة). وذلك يلزم صمتا مكانيا يهيىء للانتقالة الدلالية. فما بين صدأ المهود ونقش الأسرة عمر، نكبر به ونجتاز المسافة من المهد الى السرير بمتعة، سنرى أنها كاذبة حين يتساوى المهد والسرير في أرضية قاعة باهتة الروائح، مظلمة فارغة.
ان الاختزال الرائع للعمر بـ (المهود التي..) و (الأسرة ذات) إنما يعتمد على مشاركة القاريء وسياق الدلالة المشترك. فالسرير مكان جنسي ورمز المضاجعة والنوم المشترك مع الزوجة أو المرأة عامة. أما المهود فهي حاضنة البراءة والنوم المحايد غير الموظف لمتعة. ولنتأمل سطرا آخر يراكم مفردات المخزن المهجور الذي كان قاعة عرض صاخبة تضج بالوجوه والسفن والنساء والكنوز والبيوت والفرسان..
الأواني. المعاطف. الأغطية
إن هذه الموتيفات الثلاث غير متشابهة رغم أن الشاعر وضع نقطة بينها ليباعدها. فالأواني غريزية – طعامية. والمعاطف تدثرية طقسية. والأغطية: تدثرية سريرية. لكنها تشترك في انسانيتها أولا كونها جموعا تدل على ممارسة الحياة من خلالها.
النقطة إذن فاصل داخل السطر كما هي خاتمة في نهايته.
أما النقاط الثلاث التي تلي إضاءة لمصابيح فلها دور امتدادي. إنها تقول للقاريء أن ثمة حدثا سيجري: يخرج من الأحلام والمتعة. من العدم المريح والتذكر لينغمسوا في التعب اليومي، لذا صاغها الشاعر خطيا هكذا:
حين تضاء المصابيح ثانية…
أما الأقواس التي تؤطر كلمة (النهاية) فهي استخدام حدا ثوي أيضا. تلاعب الشاعر بكلمة النهاية فقوسها ليصور ظهورها المكاني على الشاشة إيذانا بانتهاء الفيلم المعروض ثم ليمزج ذلك بنهايتين: 1- نهاية النص نفسه 2- نهاية الحياة. وهما متولدتان من نهاية الفيلم التي تحملها حروف كلمة (النهاية). وعلى المستوى الإيقاعي دور الشاعر الأسطر الثلاثة ليصل الى النهاية. لأن قراءة كلمة (حروف) دون إضافة الى النهاية يوقع في كسر إيقاعي سببه الخطأ العروضي. أما القراءة المتصلة فتظل فيها التفعيلة ضمن جو المتدارك (=الخبب) وتفعيلته (فاعلن /فعلن) والخارجة الى (فاعلان) أحيانا.
حين تشع حروف
(النهاية)
إن الشاعر يرسمها (النهاية) بقوسين، مستقلة على سطر لما لها من دور بنائي ودلالي، جعله يغفل عن صلتها العروضية أو الايقاعية بما حولها، ويتجاوز اضافتها الى كلمة (حروف).
أما الأسئلة المتلاحقة في الخاتمة فقد جعلها الشاعر مختومة بعلامة الاستفهام التي لا نجدها في الاستفهام العمودي (أي الشعر المنظوم تقليديا).
إن هذه العلامة (؟) ذات وجود بصري يضاعف بنية السؤال ومعناه إذا ما غفل القاريء أو طال السؤال أو تجزأ أحيانا:
من ترى يتذكر؟ أين الوجوه التي ائتلقت ؟
وللشاعر في التقنية الداخلية عدة أساليب منها: الاستطراد بالوصف وهو أكثر الأساليب تردادا (20 صفة صريحة + 5 صفات بالاسم الموصول). وهذا يناسب مقام الإخبار عن (غياب) الشاشة أما مجيء الحال بالصيغ التي أكثر منها شعراء الحداثة لتقوية بناء الجملة مثل (البيوت رافلة) أو (السعادة خالصة) فهناك (أربعة أحوال):
البيوت رافلة /السعادة خالصة /المناضد مكسورة / الخزانات مغلقة)ويكون التتابع التركيبي حسب درجة ترداده أسلوبيا كالآتي:
1- الجمل الاسمية (أخبارها جمل فعلية).
2- الموتيف المتراكم بالمفردة.
3 – بالوصف.
4- بالحال.
5- بالتشبيه (3 مواضع فقط: كرماد/كغبار/كما تتلاشى..).
ويلزمنا أخيرا تأمل موقع الايقاع في البناء الجملي الجديد. فإذا كانت الدلالة [= التحسر على ما آلت اليه الحياة والأحلام ] هي المهيمنة انبثاقا من جملة النص (= جملة العنوان: غياب الشاشة) فإن الإيقاع بمستوييه العروضي والتقفوي يؤازر توزيع الجمل الشعرية. فكما أن الشاعر لم يراع النظام البيتي أو السطري لصالح البناء أو الانتظام الجملي الأعم، فإنه لم يراع التوزيع العروضي رغم أن تفعيلة المتدارك تسمح بصلة أكثر حميمية لتقارب سكناتها وقصرها (فاعلن – فعلن) لكن الشاعر جعل منها امتدادا للدلالة والصوغ. فلم يلتزم بوقفاتها. هكذا نقرأ (والأثاث القديم): فاعلن/فاعلان. ونقرأ كلمة الختام في المقطع الخطي الأول: (والدموع): فاعلان. وكذلك (للمكان): فاعلان… أما التقفية فهي مهملة في شعر البريكان دائما. وفي هذا النص جاءت القافية في المقطع الأول:
.. الشاشة الساطعة
………………
القاعة الواسعة…/ والمغامرة الرائعة
ثم تظهر غير مكتملة في كلمة (والدعة) تفصل بينها أسطر كثيرة بحيث لا يظل جرس القافية من أثر في نفس المتلقي الذي يتسلم معاني لا أصواتا في هذا النص الكتابي الحديث. وفي المقطع الثاني سطران مقفيان تتابعيا:
روحه الصامتة
.. روائحه الباهتة
سرعان ما تنسى إذ نفرق في أسطر مرسلة دون تقفية. لكن مهيمنة صوتية أخرى تفاجئنا هي حروف المد الكثيرة في النص التي تتواتر لتصل الى حد تصويت القافية أو الايقاع مثل الناحلة /الشاحبة / الفارعة / خالية /
وقبلها/ الرائعة وقوافيها والباهتة وقوافيها..
إن غياب الشاشة أو خلوها بالضياء والضجيج ثم بالفراغ والغبار لهي كناية بجملة واحدة طويلة عن النهاية. ذلك السؤال اللغز الذي حير جلجامش وظل على صدور البشر الشعراء حتى يومنا هذا فلقد غاب بغياب الشاشة المشهد والمشاهد ومكان المشاهدة معا.
ملاحظات ما بعد القراءة:
1- يمكننا فحص العنوان (غياب الشاشة) بكونه نواة أو جملة كبرى أو بؤرة مولدة لخلايا النص البنائية والدلالية.
2- القصيدة مصورة بخط الشاعر. وهذا يبرر فحص (مقصدية الشاعر في تعيين حدود الأسطر والجمل الشعرية ودلالات علامات الترقيم التي نضع لها في القراءة موضعا خاصا.
3- يحرص الشاعر على توزيع الفراغ داخل الأسطر لاشتقاق الدلالات وتحولاتها، ولتحقيق تحولات في البنية التركيبية أو الايقاعية.
4- يمكن أن نلخص هنا تجريدا خطيا للنص عبر هذا الجدول:
1- جملة كبرى غياب الشاشة
2- جملة صغري خمس جمل (مشار اليها في التحليل)
3- مقاطع خطية ثلاثة مقاطع:
1- مخزن الأمتعة..
2- للمكان
3- لحطة تتصاعد..
4- مقاطع داخلية أربعة (مشار اليها)
5- تراكيب أسماء / صفات /مفردات
أحوال / تشبيهات
فصل /وصل
6- ثنائيات كبرى: الموت / الحياة
صغري: الحاضر/الماضي
عتمــة /إضاءة
غيــاب / حضور
مخزن قديم / قاعة -شاشة
7- تقنيات كتابية
نقطة النهاية
نقطة الفصل
العطف بلا عاطف
الاقواس
علامة الاستفهام
نقاط الامتداد…
8- التقفية خمس قواف (مشار اليها)
9- الايقاع الوزني
فاعلن / فعلن
فاعلان + أحرف المد
5 – يمكن الاهتمام بدلالة التاريخ 1990 الموضوع بين قوسين آخر القصيدة. بينما كانت البصرة – مكان الكتابة – حرة دون تقويس. ففي ذلك انعكاس لانشغال الشاعر بالزمن وأهمية التاريخ لديه.
غياب الشاشة
شعر: محمود البريكان
مخزن الأمتعة
والأثاث القديم
يتنفس فيه السكون
يتساقط فيه الزمن
كغبار
هاهنا كانت الشاشة الساطعة
وسط هذا الجدار
وهناك كانت القاعة الواسعة
قاعة العرض مكتظة في الظلام
والشعاع الذي يتراقص بين الظلال
يموج عوالم للحب والسحر والخوف والانتصار
والمغامرة الرائعة
ورجال الفروسية الاولين
والنساء الجميلات، والسفن الخالدة
وبلاد الكنوز الخفية
والمدن الهائلة
والبيوت البسيطة رافلة في الدعة
والسعادة خالصة
والدموع
·
للمكان
روحه الصامتة
للهواء روائحه الباهتة
كرماد حريق قديم
السكون
وحده يتنفس.
الكائنات الخفية تكمن داخل أشيائها
المهود التي صدئت. الأسرة ذات النقوش
الكراسي بأذرعها الناحلة.
المناضد مكسورة بعض أطرافها.
الخزانات مغلقة.
الزهور الصناعية الشاحبة
الأواني. المعاطف. الأغطية
أطر الصور الفارغة
متعلقة بالجدار
·
لحظة تتصاعد وشوشة الناس في قاعة العرض
حين تشع حروف
(النهاية)
حين تضاء المصابيح ثانية…
من ترى يتذكر؟ أين الوجوه التي ائتلقت ؟
والعيون التي شاهدت كل شيء ؟
وهل غادر الناس أحلامهم وانتهوا؟
وانطوى مهرجان الحياة، كما تتلاشى الظلال
على شاشة خالية ؟
البصرة 1990
حاتم الصكر ( ناقد من العراق)