صباح يوم الجمعة السابع من فبراير الماضي قرأت في الصفحة الأخيرة من جريدتي الحياة والشرق الأوسط معا. خبر رحيل الفنان المغربي: العربي باطما. قالت الحياة: الموت غيب الفنان المغربي: العربي باطما. وقالت الشرق الأوسط: رحيل الفنان المغربي: العربي باطما وسواء كان الكلام عن الغياب أو الرحيل. فالموت هو الموت في النهاية.
في هذا الصباح.لعبت الذاكرة لعبتها. وتذكرت أنني من معرض القاهرة الدولي للكتاب الأخير. توقفت أمام كتاب في جناح المغرب. الذي يضم الدور المغربية كلها معا. لفت نظري كتاب. بثلاثة أمور. الأول غلافه. والثاني عنوانه والثالث موضوعه. سألت البائع عن ثمنه. فقال لي: خمسة وعشرون جنيها. أعدته الى مكانه لأن الكتاب لا يشكل اهتماما خاصا لي. فهو سيرة ذاتية. والسير الذاتية تعنيني إنني أريح فيها عقلي بين كتاب مرهق، وآخر متعب.
ولأن السعر غال على كتاب لا يتعدى عدد صفحاته. المائتين وخمسين صفحة. من القطع المتوسط. نحيته جانبا ولكن بعد العودة الى البيت. وأنا أقلب حصيلة ما اشتريته من الكتب. وما أهداه لي بعض الناشرين الاصدقاء. طفت على سطح الذاكرة صورة هذا الكتاب. وندمت أنني لم أدفع فيه المبلغ المطلوب. ورحت استعرض ما ننفق فيه نفس المبلغ دون داع.
رحت أستعرض ما يمكن شراؤه بهذا المبلغ. فاكتشفت أنه لا يكفي "دستة جاتوه" أو وجبة من مطعم متوسط. أو اصلاح سيارة من عطل بسيط. أو أجرة سباك لاصلاح دورة المياه. أو ربع ثمن تذكرة في مسرح القطاع الخاص. بعد هذه الاكتشافات قررت شراء الكتاب عند ذهابي الى المعرض في المرة القادمة.
بعد يومين كنت أقف في نفس المكان. وأقلب في نفس الكتب. اقترب مني البائع. وأراني سعر الكتاب على غلافه الخفي وهو خمسون درهما مغربيا. وأخرج آلة حاسبة وبدأ يترجم المبلغ الى دولارات. ومنها الى الجنيه المصري وقال لي: ادفع عشرين جنيها فقط. وعندما كنت أخرج المبلغ من جيبي خفضه من جديد ليصبح خمسة عشر جنيها فقط.
يوم الخميس السادس من فبراير. مات مؤلفه. وعلمت صباح الجمعة بوفاته. وتذكرت أن معي كتابه. وامتدت يدي الى المكان الذي أخصصه للكتب المشتراة حديثا بانتظار دورها في القراءة. فهناك دائما حلقة مفقودة بين شراء الكتاب وقراءته. الشراء مسألة إمكانية مالية. لكن القراءة قضية استعداد نفسي للتلقي.
لكن ها هي الصدف تجتمع في سياق واحد. والكتاب عن الموت وصاحبه يموت. والموت هو رفيقي منذ أن زارنا في أكتوبر سنة 1995. وأخذ معه أبي. وأنا أنظر الى الحياة على أنها احتضار طويل. وموت مستمر.
تلك هي قصتي مع الكتاب.
ولكن ما هي قصة كاتبه ؟
المعلومات المتوافرة عن العربي باطما. تقول إنه قاد ثورة فنية في المغرب سنة 1970. عندما كون مع أصدقائه: بوجميع وعمر السيد. ومولاي عبدالعزيز الطاهري. والعازف علال فرقة: ناس الفيوان. وأنا أحب نطقها: الناس الفيوان. التي تقول الصحف انها قلبت موازين الساحة الغنائية في المغرب. وبدأ عصر المجموعات الغنائية في مواجهة الفناء الفردي.
العصر الذهبي لناس الفيوان كان من سنة 1970 الى سنة 1974. وكانت تعتمد على جهد: بوجميع وباطما. وبحثهما المتواصل في أعماق وجذور التراث الشعبي المغربي غير المدون والشفاهي. من خلال حكايات الشيوخ ونبش الذكريات الحية. في محاولة لحماية هذا التراث من النسيان.
في سنة 1974. كانت الضربة الموجعة والأساسية لناس الفيوان. بوفاة بوجميع. ومن بعده نوع العربي باطما من أنشطته التي شملت كتابة المسرحيات أو المسلسلات التليفزيونية. أو لعب الكرة. الذي كان من أهم هواياته. وكان من أبرز المناصرين لفريق الاتحاد البيضاوي. فريق الحي المحمدي الشعبي في الدار البيضاء. وقد شارك في إدارة هذا الفريق في بعض المواسم الكروية.
آخر ما كتبه العربي باطما قبل رحيله وبعد المرض. كان في ديسمبر الماضي. وهو على فراش المرض. وكان عبارة عن رسالة مفتوحة موجهة لأصدقائه. كتبها ليلة رأس السنة الميلادية. نشرتها جريدة الاتحاد الاشتراكي في حينا.
والآن الى الكتاب الذي كان شراؤه صدفة حولها موت صاحبه الى حدث يضاف الى الصدفة والحدث. ان الكتاب من المغرب ذلك البلد الجميل العذب. الذي يكبش في القلب ويمسك في الفؤاد. ولا يستطيع الانسان نسيان لحظة واحدة قضاها فيه.
يدفعني الى قراءة هذا الكتاب ايضا أنه لكاتب مغربي.
والمغرب هو بلد محمد شكري. صاحب أهم سيرة ذاتية في الأدب العربي الحديث "الخبز الحافي " التي عطرت بالصدق وتفوح منها العفوية. لدرجة أن قراءة واحدة لها، تبقى في الوجدان الى الأبد.
الكتاب عنوانه، الرحيل وهو مكتوب بلون أحمر كالدم. وتحته كلمتا "سيرة ذاتية " وصورة صاحب السيرة تملا الغلاف. وهي صورة تقول الكثير عن حب الحياة عند صاحبها ولكي أكون دقيقا أقول: شبق الحياة عند صاحبها. ومكتوب على غلافه منشورات الرابطة وقد تصورت انها رابطة الكتاب في المغرب. فأنا أعرف انها تنشر الكتب ولها مجلة جيدة وجميلة. وان كان كلاهما – الكتب والمجلة – لا تصلان الى مصر. ولكني عند تصفح الكتاب. اكتشفت انها شركة الرابطة وليست رابطة الكتاب.
واستهلال الكتاب عنوانه: سنين الجراد. يقول فيه:
لقد جاء اليوم الذي صممت فيه على الكتابة، حاولت عدة مرات. ولم أدر أن القوة الالهية. كانت تقف ضد ذلك الى أن ابتليت بالمرض القاتل. فوجدت نفسي مدفوعا بيد خفية الى الأوراق والقلم وصممت على الكتابة.
سأحاول الأن كتابة ما مر بي من حياتي. وأنا في سباق مع الوقت. بل إن رغبتي الوحيدة هي أن يتركني الموت هنيهة لاكتب هذه اللحظات وأعبر عن تلك الذكريات.
وكل فصل من الكتاب يبدأ بعبارة طي الضلوع. والفصل الأول عنوانه: طي الضلوع الجميل. ويبدأ هكذا:
– عمي صباحا ايتها الورقة البيضاء.
– عم صياحا أيها القلم.
– ان النهار جميل. وكان الليل بين متاهات الضني.
وبعدها مباشرة يكتب:
– ولدت سنة 1948.
وهو لا يعرف سوى السنة. أما الساعة واليوم والشهر فلا يعرف عن هذه الأمور أي شيء. وبعد ميلاده يقابل الأمر هكذا.
– مالي والحياة. أسوأ من سوء شخص.
أرى لحدي.. ومهدي في عيشي.
وهكذا يتداخل الميلاد والموت معا في لحظة واحدة. وهي ثنائية الوجود نفسه. منذ أن كانت هناك حياة.
يخيل الي أن العربي باطما كتب هذا الكتاب مرة واحدة. ولم يعد كتابه أي جزء فيه. فالعفوية هي أهم ما في هذا الكتاب. وأبرز سماته ما يرد على الخاطر يدونه دونما تفكير. وهذا يجسد حالة كتابه. خاصة وأن الكاتب فنان لا يعد محترف كتابة.
– سرت في طريق الغواني أغني لم أجد الا البيع والشراء. فبعت الهوى في محافل الرذيلة وما كان الهوى الا تجارة. فأكثر الفاتنات تافهات جمال غافل. وما أقل العقل المنبه. فالحب ذل في شرعهن. ولا دليل عما قلته. كلام قالته لي قوادة في يوم كنت بمدينة أغادير.
وعن أهله يكتب:
– اسم أبي رحال. اسم جدي رحال. اسم أمي حادة. الرحيل، الحدود،الحدة، أسماء تعني العنف والألم وعدم الاستقرار، هكذا كانت طفولتي رحيلا بين الدار البيضاء والقرية. حتى في كل شيء في تربيتي الجنسية.
– عشت بين الشك واليقين، وفي كل مرة. كنت أسأل نفسي، وأجد الحكمة تطو فوق كل التساؤلات.
– المهم، ولا شيء مهم إلا أنا.
– أعطي عمري كله شريطة أن أعود الى ذلك الزمن الفتي.
– لم نتعلم شيئا من ذلك الزمن. لكنه كان زمنا جميلا.
– يعود الى ظروف كتابه هذا، ويقول:
– أكتب هذا، وأنا في سباق مع الموت. لقد أخبرني الأطباء بأن المرض قد امتلك الجانب الأيمن من رئتي. بعد أن تجاوز الجانب الأيسر.
– لا يعلم بالعمر ونهايته الا الخالق "والموت علينا واجب » والعمر بأيدي الله. في البيت المجاور – وهو ملك لقوادة – تتردد أغنية المرحوم محمد عبدالوهاب "يا مسافر وحدك " عجيب. أن الظروف في حياتي لها لقاء خاص. فمن جعل إذني تلتقط هاته الأغنية. وأنا أكتب عن مرضي. وعن السفر المنتظر من كل البشر. يا سبحان الله.
ويقول العربي أن له ثمانية أشقاء آخرين. ستة ولدوا في البادية واثنان ولدا في المدينة.
وينهي الكاتب طي ضلوعه الجميل. بهذا الكلام العذب:
– كان أحب الأوقات لدي هو منتصف النهار. عندما يهرب الكل الى الظل، حيوان وبشر. فأختفي في مكان وأراقب السراب المتصاعد على صفحة الأرض. أدخل وسطه بعقلي واسمع ضجيج المدينة الذي رافقني طيلة حياتي بالبادية.
كنت ممزقا بين البادية والمدينة. جاهلا عذاب المدينة وصفاء القرية.
كل هذا القبح
والفصل الثاني عنوانه: طي الضلوع القبيح. وهو فصل المرض الخبيث ويكتب فيه:
– أنا الآن وحدي في البيت.
بعض الناس من الجمهور يتمنون لي من خلال الهاتف سنة سعيدة.
بقولون: ألو.
أرد: ألو سنكون.
يجيب: أنا معجب بناس الغيوان وأتمنى لكم سنة سعيدة.
أتصور أنا سنتي القادمة. أي سنة 1995.
صممت أن أبكي. عند اعلان الساعة الثانية عشرة ليلا. فربما إن استقبلتها بالبكاء قد يكون فيها شيء من السعادة. هذا ان عشت. فمريض مثلي مصاب بمرض خبيث. لا يمكن له أن يتصور ويتحدى الموت في كل دقيقة. فعندما كنت أنام فيما مضى. أي في السنة الماضية. كنت أقوم في الصباح. وأقول، بل أسأل نفسي: هل أنا لا أزال حيا؟!
الآن أبكي، وقد أعلنت الساعة دخول السنة الجديدة، سنة1995.
كم من شخص الآن من العالم قبل صديقه أو حبيبته أو أخاه مهنئا اياه ؟
أنا قبلتني دموعي.
كم من عتيق عانق عتيقته.
أنا عانقت دموعي.
أنا.
أنا الآن شي ء ينتظر الموت ويعلم بأن الكل ينتظر قدومه. لكن الفرق بيني وبين الكل. هو أنني أعرف موضي القاتل. والآخرون لا يعرفون.
فالحمد لله والشكر لله على كل شيء.
}وتمنوا الموت إن كنتم صاد قين {.
} صدق الله العظيم {.
ويحكي يوم إخباره بمرضه هكذا:
– كنت بصدد تصوير مسلسل تليفزيوني من تأليفي. وكانت اللقطة التي نصورها في أحد المستشفيات. فانتقيت طبيبا وأخبرته بآلام أشعر بها. ولم أندم في حياتي على شيء قمت به. كندمي على تلك اللحظة التي أخبرت فيها الطبيب. أما كان الأحري أن أسكت واترك الجرثومة تنهشني في جسمي. ثم أموت بدون عذاب وبدون اشاعة وهموم وتحليلات. أما كان الأجدر بي هو السكوت.
قال لي الطبيب يومها: سنجري لك عملية بسيطة. ثم كان الخبر المفجع. قال الطبيب:
– انه حلم مفزع. وستستيقظ منه ان شاء الله.
– لا يا دكتور. انه حلم مفزع أعيش فيه. ومازلت أراه في كل وخرجت من مكتب الدكتور. وقد اغرورقت عيناي بالدموع.
كانت الساعة تشير الى منتصف النهار.
وقد احببته فيما مضى، وأنا طفل بالبادية. وكرهته ساعتها. ووقع الخبر فوق رؤوس الأهل كالصاعقة مخوفة الفن لا تترك للفنان حرية الستر.
ويختم هذا الفصل الباكي بقوله:
– انها ذكريات طي ضلوع قبيح. حاولت جمعها وأنا أعلم بأني نسيت الكثير منها. عذاب الغربة والهوة بالرغم من أني أحب هذه الأخيرة.
ان الحياة كلها ذكريات طي ضلوع قبيحة. لكن علينا قبولها ومحاولة التعايش معها. مستعينين بالنسيان الذي هو أكبر هبة وهبها الله لخلقه. عطفا منه عليهم سبحانه وتعالى. فلولا النسيان لجن الكل.
لا أمل
وفي الفصل الثالث الذي عنوانه: طي الضلوع الفني يبدأه بكلمات حادة مديدة:
– أنا لم يبق لي الحق من الأمل.
أنا لا يمكن لي تصور الغد.
أنام الليل ولا انتظر قيامي في الصباح. ولما استيقظ وأجد نفسي فوق الفراش. اتطلع الى سقف بيتي لاتيقن من حقيقة وجودي. ثم أقول لنفسي. لقد ربحت ليلة البارحة. فكيف سيكون النهار؟
جسمي الذي كان مضرب الأمثال للوسامة. صار الآن ان لم تحقق فيه لا تراه.
نعم، أنا الذي لم يبق لي حق في الأمل.
لقد صعدت فوق صرح المجد والشهرة. وأطرب صوتي آلاف القلوب الحزينة. وكانت أغنياتي مربية لجيل بأكمله. كان ينام في حوض آسن. تطفو عليه أمواج سياسية قمعية. وعندما سمع كلمات أغنياتي. ثار ضد تلك الأمواج وهاجر الحوض الآسن.
ناس الغيوان
في كتاب العربي باطما. بعد فصل الموت وفصل الرحيل يبقى أمامنا فصلان. هذا الفصل الذي خصصا للكتابة عن الفن. والفصل الرابع وهو الأخير من الكتاب بتجربة ناس الفيوان. وأعتقد أن هذا ترتيب مقصود من قبل الكاتب فهو لا يريد الا يعتبر الموت نهاية كل النهايات. وبعد الكلام الحزين عن الموت لا يحب أن يقول كلمة وداعا. ولكنه يستأنف الحكي من جديد عن الموضوعين اللذين يشكلان تجربة عمره كلها. الفن وناس الفيوان.
هل هي رغبته في تحدي الموت ؟! جائز. هل هو البحث المضني للانسان عن الخلود؟! ربما. وفي كل الأحوال فالرجل يحب أن يؤكد لنا معنى الاستمرارية التامة وان الموت لم يكن بالنسبة له. نهاية النهايات. ربما كان بداية مرحلة أخرى مرحلة من نوع جديد. هي رحلة الخلود.
على أن الجديد في هذين الفصلين. هو موقف الفنان من الفن. حبه لهذا الفن قضية لا تحتاج الى تأكيد. ولكن العذاب الذي سببه له الفن لدرجة أنه يتمنى أن يعمل في أي عمل آخر غير الفن. هو الجديد.
يكتب:
لقد عذبني الفن طيلة حياتي. وكم من مرة تمنيت لو كنت عطارا أو خضارا أو جزارا. فعلى الأقل ستكون حدة المشاكل أهون من مشاكل الفن.
ويقول في الفصل التالي:
لو كنت أعلم الغيب. لبقيت حارسا للدراجات. أو اشتغلت في السكة الحديد. مكان أبي. انني أقول الآن لنفسي: أما كان الأجدر بي. أن أبقى في باديتي الحبيبة لأموت هناك بعيدا عن الأضواء والشهرة ومحاصرة أعين الناس من كل جانب.
ويتوقف العربي باطما أمام هذه الواقعة:
قالت لي عاهرة في يوم. عندما تموت سأزور قبرك ثم أبكي. وأهرق زجاجة بيرة فوقه.
كم كرهتها ساعتها.
لا أظن بأن في الحياة شيئا يستحق العيش.
ها هي ذي الأشياء تأتي تباعا. نهاية الأغنية. آخر ساعة. آخر يوم. آخر ليلة. تمزق باد في كل شيء. أحزان وألم في كل دقيقة. فكيف كانت البداية وما سر النهاية. أنا أحبك أيها الفن وأكرهك. أنت أصل الراحة والعذاب.
وعندما يتجول العربي باطما وهو على سرير المرض بين ذكرياته يتوقف أمام زمن الصبا.
آه. ان حياة الصبا هي أجمل ما وجد فوق الأرض فالصبي يحب وينسى في كل دقيقة. يبكي ويضحك ويعدو يتعارك ويتسامح. لا يحتمل الحقد لأي كان. إنها حياة تعد خليطا من عدة أشياء. تجعل الأحلام سعيدة فنفني للامل.
ومهما حاول العربي باطما الهروب من المرض لابد من العودة اليه. انه القدر الذي ليس هناك هروب منه أبدا. يكتب:
الجسم آلة. عندما يدخله المرض يحس العقل بأن شيئا هناك قد تغير. فتشب حرب بين العقل والاشياء الأخرى. الدنيوية والروحانية والجسمانية خصوصا من كان أيضا مثلي. انه شي ء غريب. أن يعيش الانسان وهو يعرف أن حياته مهددة في كل وقت. ودرب الأمل يبتعد عنه. ويرى اقتراب الظلام. يشاهده قادما ولا يجد قوة للهروب منه الى النور.
اللهم اني لا أملك سوى التشبث بك والايمان بك.
ان مريضا مثلي. لا يمكن له قول غدا. ذلك لأنه محكوم عليه بالاعدام. ينتظر الذين سيأخذونه الى المقصلة.
وعندما يروق له الجو ويذهب الى ذكرياته الجميلة والعذبة يكتب كالطفل:
آه. ما أحلى هاته الذكريات التي أخطها الآن. فحتى وان أخذت تعبير المتنبي وفحولة شعر امريء القيس ووصف طرفة بن العبد لن أصل الى وصفها:
ان فصل طي الضلوع الفيوان. أقصر فصول الكتاب وآخرها ويخيل الي أنه كتبه عندما بدأ العد التنازلي. عندما يبدأ الانسان رحلة عمره. ولكن بالعكس. في الاتجاه الآخر. ويعمل حسابا لكل احتمال. وهكذا يكتب وهو يجري ويلهث. انه السباق بين القلم والموت.
يتحدث عن الليلة التي قدمت فيها فرقة «ناس الفيوان ».
وسكرنا تلك الليلة. وكان الضحك يعم أصداء عالمنا النفسي تملكنا نشوة الأمل. والتطلع الى مستقبل منير.
ويتكلم عن الخطر الأول على الفرقة وهو المال. والبذخ وسحر البرجوازية الخفي. يقول:
كنا أربعة أنا وبوجمعة الطاهري ومحمود السعدي. أما عمر فقد ظل بعيدا عن هذا الوسط. وبدأت الأفكار تتغير من غير أن نعلم. حتى أن الغرور بدأ يتسرب الى بعضنا، النساء الجميلات وعشرة البرجوازية المتعفنة. والمال الذي كانوا يعطونه لنا جعلنا ننظر الى الأشياء بشكل مغاير. وبدأت الكراهية تزرع بيننا.
والحادث الثاني الذي وجه الضربة القوية الى الفرقة كان وفاة بوجمعة:
حكى لي شخص. كان يحرس النادي بأن بوجمعة. دخل حوالي الساعة الواحدة. بعد منتصف الليل ثم نام ولما جاء الحارس ليوقظه وجده ميتا.
وأذكر شيئا وقع لي في ذلك اليوم. ولا أدري حتى الآن أهو من محض الصدفة. أم هو واقع حقيقي؟!
كنت وحدي بجانب جثمان بوجمعة. وهو ممدد أمامي. انتظر مجيء الفقيه لغسل جثمانه. نظرت اليه طويلا وشريط الذكريات يمر بعقلي وفجأة قلت:
أهكذا يا بوجميع.
وفي تلك اللحظة المصباح الكهربائي انير بسرعة.
لم أحك هذا في يوم لأحد خوفا من نعتي بالجنون أو شيء
العامية والفصحى
يبقى أمر يخصني في هذا الكتاب. الا وهو محاولة العربي باطما استخدام العامية المغربية أحيانا. وأنا من الذين كانوا يميلون الى استخدام العامية في القصص لأسباب كثيرة. ليس هذا مجال الاستفاضة في الحديث عنها.
وان كنت قد توقفت أمام بعض الكلمات العامية. التي دونها. ولأنه كان مدركا صعوبة فهمها. فقد دون نفس العبارات بالعربية الفصحى. والفارق بين الاثنتين لابد وان يدفع الانسان الى اعادة النظر في الأمر كله.
يكتب:
وكان أبي يفتخر بي أمام أصدقائه ويقول مبتسما:
العربي غادي يخرج راجل ان شاء الله. كيقور الفلس من صباح الزيانة.
ويكتب نفس الجملة بعد ذلك بالفصحى هكذا:
أي العربي ابني سيكون رجلا يبحث عن رزقه وماله تحت جناح ذيانة.
ويستطرد بعد ذلك:
أتمنى أن يكون شرحي لهاته الجملة الدارجة صحيحا لأن اللغة الدارجة ولا أقول اللهجة الدارجة. لها معان يصعب ترجمتها. لأنها دور في أعماق البحر كامنة. بالرغم من تقلب اللهجات الاستعمارية. ودخول بعض الكلمات اليها.
وكم من مرة كان يناديني صائحا
والعربي زا الماشينا حركت.
فأعلم أنه يريد شربة ماء. فأحمل له الماء.
ألست معي في أنه لابد من اعادة النظر في استخدام العامية ؟! مكتوب على الصفحة الأخيرة من الكتاب.
سحب في 000ر10 نسخة بمطابع فضاله بالمحمدية – المغرب.
وهذا أمر مفرح يسعد القلب ويجعلنا نتوقف أمام هذا الأمر في مصر. ذلك أن أرقام ما نطبعه من كتب أدبية. في حدود علمي. حتى الآن من هذه الكتب ولنضرب مثلا بنجيب محفوظ – أول وآخر الحاصلين على نوبل في قرننا العشرين- هو ثلاثة آلاف نسخة تحتاج الى خمس سنوات لتسويقها.
سألت نفسي: أين العيب ؟! ومن المسؤول عن هذا الوضع ؟ وكيف الخروج من هذا النفق المظلم الذي يمر به الكتاب المصري؟! وربما الكتاب العربي ربما رغم الرقم المفدح المدون في آ خر كتاب العربي باطما.
يوسف القعيد (كاتب من مصر)