إنها الثامنة صباحا.. ذكر الحمام يدور حول أنثاه على سطح العمارة المقابلة لنافذة مطبخي.. أنا أغسل الأطباق بضجر.. على أن أنهي كل شيء قبل بدء المؤتمر، ويضجر مضاعف استعرض الاجتماع السابق الذي عقده مديرنا العام… سجائر، وأقداح شاي، كعك وقهوة، ساعات تمتد الى ما بعد نهاية الدوام الرسمي.. يقول مديرنا العام بعد أن يلقي نظرة سريعة على الوجوه :
– علينا أن نكون أعلى من مستوى المسؤولية. ثم يرمقني من دون الأخريات بنظرة تخترق ثيابي. تهرب انثى الحمام.. يلاحقها الذكر وهو يهز برأسه في اندفاعات متتابعة.. تقفز صوب جدار آخر.. التعليمات على باب القاعة تقول (يرجى من السادة المجتمعين عدم التدخين ).. يواصل المدير: انها حياتنا ومستقبل الاجيال القادمة… يطفئ سيجارته ثم يوجه الكلام للسكرتير مركزا نظراته على مكان ما.
– دون كل شيء.. سنرفع تقريرا بذلك للوزارة. تتحرك أصابعي حيث ألقى نظره.. أتأكد من سلامة أزرار قميصي.. أقول في سري: اللعنة على هذا الصدر البارز، انه سبب الكثير من متاعبي.. راكب حافلة – قبل يومين – غازلني بعبارات فاضحة وكاد يلمس صدري لولا أنني كنت منتبهة.. أحاول تذكر وجهه، وإذ تصطدم عيناي بعيني المدير أقول مع نفسي: انه الوجه ذاته. طارت أنثى الحمام، تبعها الذكر حيث حطت… الفضاء ملبد بغبار أصفر باهت، إنها نهايات الصيف… أرمي بصري إلى الأفق الداكن.. تعود أنثى الحمام ويستقر إلى جانبها الذكر.. انهما الآن يقفان على منظومة هوائي التليفزيون.. يسقط كوب الشاي ذو العروة من يدي، تنفصل العروة.. علي أن أنتهي من غسل الأطباق.. الساعة العاشرة يبدأ المؤتمر عن تلوث البيئة.. أشعر بجفاف في حلقي.. سعلت كثيرا ليلة أمس بعد أن تشبعت رئتاي بالدخان الكثيف الذي ملأ قاعة الاجتماع.. استوقفني سكرتير المدير العام وأنا أهم بالخروج وهمس في أذني:
– المدير بانتظارك في غرفته. يحوم ثانية ذكر الحمام.. لا معلومات لدي عن أسرار عالم الطيور ولا يمكنني أن أحدد ايهما أكثر شبقا، الإنسان أم الطيور.. يخيل إلي أن الطيور أكثر وضوحا منا نحن البشر في الوصول الى الهدف، فلكل طير أنثاه، في حين لكل رجل نساؤه. دخلت الغرفة وفوجئت بأنها تغيرت كثيرا خلال شهر من وصول المدير العام الجديد الذي يبدو انه ذو نظرة (ثاقبة) لدرجة إنها تخترق الثياب وتذهب إلى أبعد مدى… انفلق الباب من ورائي وانفتح الضوء الأحمر.. تجولت عيناي بسرعة على الاشياء.. ستائر من الدانتيل الأزرق مكتبة زجاجية الواجهة من النوع الايطالي.. موكيت بدوائر متداخلة يناسب نوع الستائر.. نباتات ظل متسلقة ترمي أغصانها الهشة على حاملات خشبية مربعة التشكيل.. كان المدير في هذه اللحظة يعطي أوامره إلى سكرتيره بعدم تحويل المكالمات الهاتفية بعد إن رفع سماعة تليفونه الخاص.. جلست قبالته حيث أشار من دون أن يتكلم.. ابتسامته فقط قالت لي: تفضلي.. تحسست أزرار قميصي ثانية، اتسعت ابتسامته وهو يلاحظ ذلك.. سحب نفسا طويلا من سيجارته ثم نفث الدخان وهو يقلص من اتساع عينيه.. وضع السيجارة على حافة منفضة ذهبية الإطار قبل أن يندلق
– سمعت عنك أخبارا جيدة.. أنت موظفة مجدة تستحقين المكافأة. هل تسارعت دقات قلبي؟ تخيفني كلمة (المكافأة) تلك.. أراد رئيس الشعبة أن يكافئني مرة، وحين رفضت، نقلني إلى المخازن، مع إنني أحمل شهادة أعلى منه.. أعاد السيجارة إلى فمه وامتص كمية من الدخان :
– لا يمكن أن تعمل واحدة مثلك بالمخازن.. لا اسمح بهذا العبث مرة أخرى. وراح يعبث بنظراته.. لملمت ساقي حين اكتشفت انهما متباعدتان قليلا، برغم أن تنورتي تصل القدمين.
– لكنني مرتاحة في المخازن.. لقد ألفتها. أجاب وابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيه :
– إنها غير صحية.. ماذا نفعل منذ أسابيع؟ نجتمع.. لماذا؟ من اجل حياة انظف… غدا يفتتح المؤتمر.. وضعت شعاره بنفسي (مخاطر تلوث البيئة على الصحة النفسية ).. المخازن رطبة.. بلا تهوية.. خانقة. وشعرت بالاختناق حين راح يشعل سيجارة ثانية ويتلاعب بتشكيل دوائر متتابعة في فضاء الغرفة.. لا أجرؤ على القول إن نقلي من اختصاص رئيس الشعبة أولا.. ثم أنني لم أتقدم بطلب نقل.. ربما كنت أفكر بذلك بعد مرور عدة أيام على عملي في المخازن لشعوري بالغبن الكبير الذي لحق بي، لكنني اليوم لا أعير الأمر أية أهمية.. لقد ألفت المكان ووجدت فيه بعض الأمان حيث لا أحد يدخل إلا لأمر ضروري يتعلق بتخزين المواد التالفة والملفات القديمة، وتشارك معي ثلاث موظفات عندما يحين الجرد السنوي. هل قال شيئا؟ لم أتبين الحروف التي تلاحقت والجمل التي تساقطت من بين شفتيه.. تحرك كرسيه الهزاز ونهض من مكانه باتجاه النافذة، ألقى نظرة سريعة إلى الأشجار الباسقة والعصافير الهاربة، ولاحظت خلال ذلك انه أقصر مما كنت أراه.. ثم خيل لي أنه يعبث بأزرار بنطلونه، التصق نظري في دوائر الموكيت المتداخلة ومعها دار رأسي:
– هل أنت متزوجة؟ فاجأني فاصطدمت الحروف بين شفتي واندفعت مرتبكة :
– مـ.. طـ.. لـ.. قة. اتسعت مساحة الفرح في عينيه فاحسست إنني تسرعت بالإجابة.. ذكر الحمام يفتح جناحيه ويدور حول أنثاه، والغبار أصبح أكثر كثافة :
– ما رأيك بالعلاقات؟
– لا أجيدها.. أستاذ.. أنا مرتاحة بالمخازن. ضحك ضحكة عالية.. استند على مرفقيه، تشابكت أصابعه تحت فكيه، وهمس برقة متنامية :
– أنت تجيدين أشياء كثيرة. ثم فجأة ارتدى وجهه قناعا رسميا:
– سأنقلك إلى شعبة العلاقات. ورق ثانية :
– إنها تناسب امرأة مثلك تمتلك هذا الوجه الجميل والقوام الممشوق و… نظر إلى صدري.. خلف الأضلاع كاد النبض يتوقف.. ولاحظ ارتباكي:
– هل أنت خائفة؟
– مرتبكة قليلا.. إنني… وجاء صوت السكرتير عبر جهاز الانترباك :
– أستاذ.. الوزير على الخط.. قلت لمدير مكتبه أن تليفونك الخاص معطل.. سأحول المكالمة فورا. وعاد القناع الرسمي سريعا.. قلت مع نفسي.. شكرا سيادة الوزير. رتبت الأواني ونفضت يدي من الماء في اللحظة التي طار فيها زوج الحمام واختفى وراء أحد الجدران.. دخلت غرفتي وجلست أمام المرآة أصفف شعري، وضعت ماكياجا خفيفا على بشرتي، فتحت دولاب الملابس واخترت تنورة طويلة وقميصا مناسبا.. سبقتني خطواتي إلى قاعة المؤتمر.. استوقفني في الممر سكرتير المدير.. سلمني كتاب نقلي إلى شعبة العلاقات.. لاحظت ابتسامة خبيثة على شفتيه وهو يقول المدير العام بانتظارك في غرفته. تحت الأضواء الكاشفة بدت ملامح المدير قاسية، وأمام مكبرات الصوت ألقى كلمة الافتتاح بنبرات غلبت عليها العصبية.. أنا أجلس في الصف الثاني.. أتشاغل من حين لآخر برسم دوائر وخطوط متقاطعة على كتاب النقل، وأرى في مرآة ذاكرتي أنثى الحمام تطير بعيدا. عبر النافذة أتطلع إلى الشارع.. العمارات والبيوت العتيقة التي تقبع خلفها تكتسي بلون رمادي يحجب زرقة السماء.. أسراب الحمام تحلق عاليا… تصبح مجرد نقاط تتلاشى في الأفق.. سيارات (التاتا) تمضي مسرعة وتنفث سموما، لأنها أرواح تحاول التخلص من أشباحها.. مذيع التليفزيون يستعرض أهم الأخبار.. البيئة ملوثة على الرغم من كل التوصيات التي انبثقت عن المؤتمر.
هدية حسين (كاتبة من العراق )