يعتبر الدكتور عادل فاخوري من أفضل الباحثين في علم المنطق الرياضي، ومن أبرز المطبّقين لعلم المنطق الرياضي على الّلغة، كونه كان يهتم بعلوم اللغة أو اللسانيات. وهو أكاديميّ لامع بتفسير علمه الذي يعتبر من أصعب العلوم الفلسفية. أيضاً، هو الباحث، الذي كان على معرفة واطلاع دائم بكل ما يحصل في التقنيات الرقمية وربط ذلك بالذّكاء الاصطناعي. إضافة إلى أنه كان يتابع كل ما ينشر في العالم عن الموضوع، ساعدته في ذلك معرفته للغات عديدة؛ فهو أتقن العربية، الفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، الإيطالية، اللاتينية، واليونانية القديمة.
لعادل فاخوري قيمة علميّة وفكريّة سبّاقة في العالَمين العربيّ والغربيّ، لناحية رؤيته للتطوّرات والتغيّرات في العلوم الإنسانيّة، أي تأثّر هذه العلوم بكل المتغيّرات الحاصلة على مدى السنوات السابقة من جرّاء إدخال الحاسبات الالكترونيّة إلى الحياة في مطلع الثمانينيات.
لقد تميّز عادل بأنّه استطاع أن يجمع بين كل هذه العلوم ويستثمرها بالشكل المطلوب، فمجمل العلوم التي عمل عليها متداخلة بعضها ببعض. فعلم السيمياء يؤدّي إلى استثماره في القصيدة الإلكترونيّة والبصريّة (سنأتي عليها لاحقاً) وعلم المنطق يؤدّي إلى فهم المعنى بمعادلات رياضيّة دون أن تكون ملتبسة، كل ذلك مرتبط بعلم الدلالة، لأنّ كل نشاطاتنا الفكريّة تتعلّق ببناء المعنى مهما كانت الطريقة والوسيلة لذلك.
ليس بإمكاننا أن نتكلّم عن كتاب واحد لعادل فاخوري، من دون أن نتطرّق إلى باقي الكتب، كونها مترابطة كلّها ببعض من ناحية بناء المعنى من النصوص، إن كان كتابه المرتبط بعلم السّيمياء، “تيارات السيمياء”، الذي يهتم فيه بتفسير الإشارات، أو كان “علم الدّلالة عند العرب”، أي علم المعاني الذي يهتم بتفسير النّصوص لخلق المعنى؛ على سبيل المثال: “ناولني الملحاة” معنى ذلك أن الطّعام، حلو المذاق، ينقصه الملح”.. أو كان كتاب “أنا أفكر إذن: أنا كومبيوتر”، أو أول كتاب صدر له وهو “المنطق الرّياضي”. كل هذه الكتب تؤدّي إلى خلق المعنى للإنسان أو لخلق برامج حاسوبيّة.
المنطق الرياضي
لم يكتفِ عادل فاخوري بالتعرّف على اللسانيّات والإبداع فيها من خلال عمله على علوم الدلالة والسيمياء، بل تعدّى ذلك إلى البحث والتنقيب عن أصول المصطلحات والمفاهيم الحديثة في الثقافة العلميّة عند العرب وإبرازها. ويتجلّى هذا دائماً في كتبه، بالأخصّ مقدّمة كتابه “المنطق الرياضي”، إذ يقول إنّه استقى المفردات والمفاهيم من التراث الذي امتدّ من الكِندي إلى الكلنوي، ولم يستحدث مصطلحاً إلّا نادراً. فالمنطق الذي كان يسعى إليه هو كيفيّة الاستدلال عن قضيّة جديدة من قضايا أخرى حاصلة. فقد كان يقول العرب إنّ التفكير المنطقيّ هو عملية انتقال من المعلوم إلى المجهول، على هذا ارتكزت ممارسته المعرفية لأبحاثه المنطقية. وإذا كان قد كتب في مقدمة كتابه “المنطق الرياضي”: “إننا اعتقدنا أن المنطق ولد كاملاً مع أرسطو”، فأرى أنّ هذا الكتاب هو جزء من تاريخ المنطق الرياضي في اللغة العربية، أي تاريخ للمنطق باللغة العربية من ناحية، ومن ناحية ثانية هو استحداث رموز لكتابة المنطق المسمّى “المنطق الرمزي”. إنّ أكثر ما كُتب عن الموضوع كان “فارغاً من حيث الجوهر ومنسوخاً”، كما أشار في كتابه.
فالمنطق الرياضي أو المنطق الحديث كما صوّره عادل فاخوري هو علم جديد يؤسّس لمناهج فكريّة تقوم على المنطق الأرسطي. وهو بالنسبة إليه الصورة الأكمل والأشمل لعمليّات الاستدلال الصوري، وهو في النهاية يرتكز على المفاهيم والطرق المنطقيّة الأرسطيّة “التصريحية” من ناحية فكرية بحت، ويتجاوزها في دقة التعريفات وصرامة الصياغة الرمزية ويقينيّة الاستدلال وتعدّد مجالات التطبيق. فكتابة المنطق الرياضي شكل وسيلة لا غنى عنها للتعريف بعلم المنطق، وفهم الكثير من العلوم كضرورة جازمة لها. لأنّه يُقوّم الهيكليّة الأساسيّة للمعرفة الفلسفيّة المعاصرة، كونها حاجة أساسيّة لعلم الرياضيات الذي يشكّل بدوره جزءاً منها، بعد أن كانت قد انتقلت من مجالها الفلسفي الخالص الى مجال الرياضيات، على يد عالم المنطق الإنكليزي “جورج بوول” (1815-1864)، لتصبح فرعاً من فروع الرياضيات التطبيقية على العلوم كافةً. فالترابط بين المنطق الرياضي والرياضيات حتميّ. وقد بات أساساً يستعان به في المعارف الإنسانيّة خصوصاً اللسانيّة منها.
الخوارزميات أساس البرمجة
لقد دُرِّس هذا الكتاب في معظم الأقسام الفلسفيّة في الجامعات العربيّة التي درّس فيها، انطلاقاً من منطق القضايا ومنطق المحمولات اللّذين يعتبران الركنين الأوّلين اللذين يعتمد عليهما للبحث عن المعنى، كركيزة أساسيّة من علوم الدلالة التي شكّلت هاجساً عند عادل فاخوري. وقد كتب خصيصاً في هذا الموضوع كتاب “علم الدّلالة عند العرب”، الذي كان يُفتّش فيه عن المفاهيم والمصطلحات التي تأتي من الغرب، وعن أساس هذه المصطلحات في اللّغة العربيّة؛ أين توجد في الكتب العربيّة، وهل فكّر العرب أصلاً فيها. فبحث فاخوري عنها ووجدها وعثر على مصدرها وعلى من تكلّم عنها، وفي أيّ حقبة من الزّمن، وتفسير ما كان يعنيه كلّ مصطلح، وكيف حُكيَ عن هذا المنطق، وكيف كانت تلك المعادلات موجودة. كان يردّد دائماً أنّ المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في مجالات الحوسبة المعلوماتيّة الغربيّة، ببعدها وأساسها المفاهيميّ كانت موجودةً عند العرب في كثير من الأحيان. وإذا ما نظرنا إلى الأمر بهذه الصورة فإن أسس البرمجة ترتكز على علم الجبر وعلى الخوارزميات التي هي في أساسها آتية من إبداعات الثقافة العلميّة عند العرب.
لقد عرف كيف يخلق الرّموز ويعرّبها، كي تصبح مستخدمة في العالم العربي، وكلّ الذين كتبوا من بعده، استفادوا منه؛ فعلماء المنطق الرياضيّ في العالم العربي لا يتعدّى عددهم أربعة أو خمسة أشخاص، وعادل أوّلهم.
استطراداً، فإنّ المنطق الرياضي يُساعد على حوسبة اللغة، كجزء من الذّكاء الاصطناعيّ؛ أي كيفيّة معالجة اللّغة آليّاً، وإنشاء برامج للترجمة الآليّة، وللتنقيب عن المعلومات، وكل ما هو مرتبط بالتعبير الرمزي عمّا يجول في فكرنا. فالذّكاء الاصطناعي مرتبط بعمليّة فكريّة، يُعَبَّر عنها بالّلغة، والّلغة هي مجموعة من الرّموز، هذا هو المنطق الذي كان يعمل عليه عادل فاخوري لصناعة البرنامج.
لهذا عندما نقرأ كتابه الأخير “أنا أفكر إذن: أنا كمبيوتر” الذي هو زبدة عمله والذي يجمع فيه المعرفة بالذكاء الاصطناعي بكل جوانبه، نفهم جيداً أنّ فاخوري، منذ بداياته من خلال عمله في المنطق الرياضي، كان كباقي علماء العالم الذين تبصّروا التطوّر التقنيّ. وكان يؤمن بأن التقنيات ستكون فعلاً ثورة، لأنّها تغيّر في المفاهيم العلميّة والبراديغميات (النماذج الفكريّة)، بالأخصّ في العلوم الإنسانيّة واللسانيّة، كون اللسانيات- وبالتالي النص- هو أساس المقاربات لهذه العلوم.
منطق الحقوق والأخلاق
أمّا في كتابه “الرسالة الرمزيّة في أصول الفقه”، فيستشهد في المقدمة بقول لاتينيّ: “حيث المجتمع ثمّة شرع”، فيعتبر أنه قد سُنّت في العالم قوانين وأعراف عبر التاريخ، لكن المجتمع الإسلاميّ هو أوّل من بيّن منطق الشرع وخطّه تحت علم سمّاه “أصول الفقه”. لكنّ هذا العلم لم ينشر ويترجم في الغرب كونه مغايراً لعقيدته، لذلك فالحضارة الغربيّة، التي لحقت بالحضارة العربيّة، تأخّرت حتى القرن العشرين في وضع أسس المنطق للحقوق والأخلاق. فعلم أصول الفقه ليس مرتبطاً بدين، ولكنّه اعتبر كذلك لأنّه منذ نشأته متعلّقاً بالفقه الإسلامي، وبالتالي بأحداث تاريخيّة عينيّة. فهذا العلم برأيه وحسب ابن خلدون، هو من العلوم العقليّة وليس من العلوم النقليّة، وقابل للتجريد، لذا من الممكن كتابته شكلانيّاً ورمزيّاً، وهو يقيم انطلاقاً من الأصول منطقاً حديثاً للحقوق والأخلاق.
في كتاب “محاضرات في فلسفة اللّغة” يتطرّق إلى الأفعال التي يقوم بها المتكلّم عند القيام بتلفُّظات معيّنة، كالأمر والوعيد والتهنئة والتحذير، خصوصاً تلك الأفعال التي تقع عند التلفُّظات الإنشائيّة، مثل التسمية والطلاق ومراسيم التعيين والأحكام القضائيّة إلخ… وبالتالي تحديد الشروط التي يجب مراعاتها لإحداث تلك الأفعال. وإن كل ما يكتب قابل للكتابة الصورية والرمزية، إذ يشرح جيداً في هذا الكتاب أنّه في اللّغات المنطقيّة الصُّوريّة، تكون بنية العبارات محدّدة بشكل دقيق، لا يسمح بأي غموض أو التباس، ولذلك فالقضايا التي يمكن تحصيلها منها تعتمد أساساً على الاستقراء والاستنباط. أما في اللّغات الطبيعيّة، كالعربيّة مثلاً، فالجُمَل تحتمل وتضمر عدّة معانٍ وفقاً للسياق والاستعمال وقصد المتكلِّم. وأوضح شاهد على هذا الاختلافُ في المعاني بين لغة المنطق واللغة العربية. والغرض بالتالي من هذا العمل كان عرض طرق الاستدلال على المعاني التي تستدعيها الجمل في اللّغات الطبيعيّة، وذلك تحت باب الاقتضاء التداوليّ وباب الاستسلاف التداوليّ.
الشعر البصري الإلكتروني
الشعر البصري والإلكتروني كان أول أعماله الحداثوية. فمعرفته بعلم السّيمياء، العلم الذي يؤدّي إلى تحليل الإشارات والرّموز والبحث عن معانيها، أدّى إلى إبداعاته في هذا المجال. لذلك عَمِلَ على القصيدة الإلكترونيّة في الثّمانينيات، والقصيدة البصريّة، أي أن يكون المعنى مرتبطاً بالشكل، مثلاً، إن تكلّم عن التفاحة أو المفتاح يرسمهما بالكلمات، إضافة إلى ذلك، فقد كانت القصيدة الإلكترونيّة والقصيدة البصرية، نوعاً من الأصوات، وتعبّر عن صرير الأدوات الإلكترونيّة. الآن أصبحنا في مرحلة القصيدة الرّقميّة وهي موجودة بشكل كثيف، على أساس الربط بين الصّورة والصّوت والنّص. وكان فاخوري أوّل من بدأ بهذا النّوع من القصائد في العالم العربي، وحتى قبل أن يكون الكومبيوتر الشخصيّ موجوداً بشكل شائع مثل اليوم.
فالقصيدة البصريّة لم تكن عند فاخوري “فانتازيا” بمعناها الحرفي كما كان يفهمها الآخرون، بل كانت فانتازيا بمعنى اللعب على الكلمات ومعناها المتجذر بالإشارات التي ترسم صورة ما يُعبَّر عنه، كل ذلك كي نصل إلى بناء نصّ يحاكي التغيّرات التقنيّة آنذاك التي كانت في بداياتها، بالأخصّ مع رموز عالم الحاسوب والمعلوماتيّة في الثمانينيات. وإذا كان عادل قد كتب هذا النوع من القصائد نظراً إلى تبصرّه في التغيّرات التي ستحدث عن التقنيّات، وعلى سبيل المثال استخدام الكلمات التي تحتوي على الصوت “سين” يكون المجال الشعري للصورة التي أراد أن يوصلها كما في المثال الآتي: “هسهسات السّنابل/ صليل/ في الهوا/ ينتهي رحيل/ سين. سين. سين./ سرساب أسود/ عصفور يطير/ يتبعثر في الرّيح”.
وقد استوحى العديد من الرسامين والخطاطين من كتابات عادل فاخوري لإظهار جمالية الخط العربي ومرونته، سواء كان صوفياً أو كوفياً أو ديوانياً، في لوحات اعتمدوا فيها على دراسة الدلالات والإشارات التي قام بها.
أنا أفكّر إذن: أنا كمبيوتر
عند قراءة كتابه الأخير “أنا أفكر إذن: أنا كمبيوتر”، نرى أنه، برغم كونه مغرماً بالترميز المعنوي، ليس “للفنتازيا” بل للتفتيش عن معنى العمليّة الفكريّة المعتبرة عملية ذكية، لا بد من السؤال الذي كان من أوّل الأسئلة التي طرحت من قبل العاملين في مجال الذكاء الاصطناعيّ: هل بإمكان الحاسوب أن يفكّر؟ وما هي مقدرة الآلات على التفكير؟ هكذا سؤال يقتضي الخوض في طبيعة وماهيّة التفكير وهو ما كان يعرفه عادل جيداً. فمن الصفحات الأولى للكتاب من جراء بدئه ببرنامج المحادثة الالكترونية “أنا وأليزا” والبرامج المشابهة له نفهم من السطور الاولى أنه كان غير مُسلّم بكل ما يقال في هذا المجال، ولكن كان يتعامل معه على أساس أنه موجود.
لكن الهدف هو البحث عن أساليب تؤدّي إلى أن نكتب النّصوص بشكل يفهمه الحاسوب، أي نستطيع برمجتها. لنعطي مثلاً: الأديب فلان.. “هل “الأديب” هو فعلاً أديب، أم اسمه “أديب”؟ كيف سأجد البرنامج الذي يُعرّف الكومبيوتر، معنى الكلمات؟ هذا هو ما يبحث عنه عادل فاخوري بكتابه بدءاً بالعمل على النّظريّة، وبناء المفاهيم، وصولاً إلى خلق التطبيقات العمليّة.
يوضح فاخوري في كتابه الأخير هذه الأمور، الموجودة من بدء الذّكاء الاصطناعي، والمرتبط أكثرها باللغة، لا بـ”الروبوت” بشكل عام. وترتبط مفاهيم فاخوري بالترجمة، بالبحث عن المعلومات، بالحوار بين الحاسوب والإنسان.
وأوّل برنامج كتب عنه عادل فاخوري في كتابه هذا كان “أليزا”، ويعود هذا الاسم إلى طبيبة نفسيّة، تعالج الجالس أمامها، وكلّ هذه العمليّة الحواريّة بطبيعة الحال، مُقدّمة عن طريق الإنسان.
وعلى الرغم من استفادة بعض الأكاديميّين من كتب فاخوري، التي دُرّسَت حين كان أستاذاً جامعيّاً، إلا أنّ الكتاب الأخير لم يأخذ حقّه، ولم يُستفَد منه، لأنه ذهب إلى التقاعد، وليس هناك من أساتذة، بإمكانهم أن يُدرّسوا علم المنطق الرياضي، إلا ما نَدُر، لهذا السّبب كانوا يطلبونه للتدريس في عدّة جامعات في الدول العربيّة، كذلك ربّما لم يأخذ حقه لأنّه كان مبتعداً ومحبطاً لأنه لم يجد من يفهمه.
لم ينسَ أن العرب قد اهتموا أكثر بعلم النّحو، ولهذا السبب نلجأ دائماً إلى “سيبويه”، إذ تصبّ كل كتاباته في بناء المعنى، ويُساعد النّحو في حوسبة الّلغة. هنا، لم يعد الهدف، كيف سيستوعب الإنسان النصّ، بل يهمّنا كيف سيستوعب الحاسوب النصّ. وكونه كان مهتماً بحوسبة اللغة، فقد بحث أيضاً في كيفية الاستفادة من النحو على الطريقة التشومسكية من اللسانية التوليدية والتحويلية التي طبقها على اللّغة العربيّة، وعرض البنية الشجريّة لبعض الجمل، التي من الممكن أن يستفاد منها في الكتابة المعلوماتيّة للجمل، عند البحث عن الأنماط النحوية فيها للكلمات، وتراكيبها داخل الجمل، وتناسقها التركيبيّ.
إلى ذلك، فقد كان هناك نقاش دائم بين فاخوري وبين الغرب، من خلال كل ما كتبه، من دون الذّهاب إليهم. كالبحث عن المفاهيم الغربيّة المستخدمة، وإن كان لها من أصول في الكتب العربيّة التي تهتمّ بالعلوم والفلسفة. وكان من الباحثين الذين يعملون وحدهم، بينما في الغرب هناك مؤسّسات تستثمر.
رحل عادل فاخوري، وحزن عليه أصدقائه، لكن عدم الاكتراث الفعليّ لعمله يتجذّر في ثقافة التجهيل الممارَسة في العالم الأكاديميّ العربيّ. لذلك، على الرّغم من أهميّته العلميّة، لم يُعطَ إنتاجه الفكريّ أهميّةً كافية لكي نتمكّن من معرفتنا لخفايا التغيّرات الإبستمولوجية في العلوم. لم يعرف العالم العربي كيف يستثمر فكر عادل فاخوري، ولو كان المجتمع الأكاديمي قد فهم عادل فاخوري لما كنّا قد وصلنا إلى ما نحن عليه في ما يخصّ مادة الفلسفة في المدارس والجامعات؛ إذ تقلّص تعليم الفلسفة في الجامعات والمدارس بشكلٍ كبير، لدرجة أنّ أقسام الفلسفة في أكثر الجامعات العربيّة لم تعد موجودة، وإذا ما وجدت فهي عقيمة، أمّا عن تدريس الفلسفة في المرحلة ما قبل الجامعيّة، فالمحاولات جارية لإلغائها كما حصل السنة الماضية في لبنان من قبل وزارة التربية والتعليم، وهذا عكس ما كان يفكّر فيه عادل فاخوري.
وإذا أردنا التعمّق أكثر في الأمر، لا يمكن أن تتطوّر العلوم وأن تُفتح الاختصاصات على سوق العمل إلّا من خلال تدريس الفلسفة، وبالأخصّ علم المنطق، في الصفوف ما قبل الجامعيّة أوّلاً، لأنّها ركيزة البرمجة المعلوماتيّة؛ والمستقبل، بحسب الدراسات، هو للمبرمجين المعلوماتيين… يجب أن تدرَّس الفلسفة لكلّ الاختصاصات في الجامعة، ليكون بإمكاننا خلق الفكر النقدي، والتساؤل في العلوم الإنسانيّة والاجتماعية من خلال الفلسفة وشقّها الرمزي، ألا وهو المنطق الرياضي.
هل كان عبثياً؟
كان عادل فاخوري يحاول في العديد من المرّات أن يشرح لمستمعيه كيف يمكن للحاسوب أن يؤلّف نصّاً أدبيّاً أو شعراً، وذلك من جراء تعليم الحاسوب على أسلوب الكاتب وإعطائه المؤشّرات اللغويّة اللازمة لكي ينتج نصّاً ما. كان مؤمناً بأن ذلك ممكن، ولكن بما أنّه يعرف كيف تجري العملية، فإيمانه بالأمر لم يكن مطلقاً. والنتيجة لم ولن تكون مئة بالمئة، لأن الذّكاء الاصطناعيّ مرتبط باللّغة فقط، واللّغة بطبيعتها الوظيفيّة ملتبِسة، والكلمات لها عدّة معانٍ.
وقد كان عادل على تواصل دائم مع جيل الشباب ومشجّعاً لهم للغوص في الفلسفة، بالأخصّ علم المنطق الرياضي. هذا التقرّب من الشباب تُرجم من خلال جلسات المقهى في الكليّات التي كان يدرّس فيها. وللمفارقة فإنّ هذه التصرّفات في بعض الجامعات والكليّات في العالم لا تُفهم كما من المفترض بها أن تُفهم. بل يترجمها البعض وكأنّها نوع من الاستلشاء والعبثية، ولكن من يعرف عادل فاخوري عن قرب كان يعلم جيداً أنه يحاول من خلال “الفانتازيا”، كما كان يُعبّر، التخفيف من وطأة علم المنطق، وتقريب ذلك من الناس، لكي تصبح عمليّة الفهم أجدى وأسهل. في النهاية كل ذلك يصبّ في صُلب تثقيف المجتمع من وراء هذا التبسيط العلميّ للمفاهيم الصعبة.
فاستخدام أسلوب السخرية في التعاطي مع شرحه للعلوم لم يكن إلا لتخفيف ثقل الفلسفة عند غير المختصّين. فقد كانت الفلسفة عنده طريقة في الحياة، لهذا نراه أستاذاً ناجحاً في الجامعة، ورفيقاً ودوداً في الأماكن العامة والمقاهي التي كان يرتادها لأنّها هي مسرح الحياة الحقيقيّ. وعلى الرغم من أنّ عادل فاخوري يوحي أحياناً بالعبثيّة في الحياة – بمفهومها الساذج – بسبب القلق الكبير الذي كان يعيشه، من النّاحية العلميّة والحياتيّة، إلا أنّه بذاته لم يكن كذلك أبداً، فقد كان يعمل بجد وبشكل متواصل مؤمناً بما يعمل عليه. وإذا أردنا أن “نفلسف” الأمور، فما يحصل في عالمنا حاليّاً يؤدي إلى حتميّة العبثيّة عند المفكرّين، لأنّه لم يعد من معنى ولا مغزى لمجهودهم الفكري كأفراد في مجتمعات غير ديمقراطيّة لا تستثمر في الفرد كأهم أسس رأس المال المعرفي.
الخامسة فجراً عام 2014
لقد أتى فاخوري من علم المنطق إلى الذّكاء الاصطناعي، وكاتب هذه السطور أتى من الكومبيوتر إلى الذّكاء الاصطناعي. وهما يكمّلان بعضهما، لكنّه لم يكن مأخوذاً بالذّكاء الاصطناعي، وكان عنده شكّ. كنّا نفهم بعضنا ونجتمع لساعات طويلة ونتحدّث. كان يأخذ الموضوع، كعادته، بشكل ساخر كونه يعتقد أن لا أحد سيفهم عليه. في إحدى المرّات، أتاني في الخامسة فجراً، ليعطيني كتابه “أنا أفكر إذن: أنا كومبيوتر”، وجلسنا نتحدّث عن الكتاب وعن إمكانية الكتابة عن الكتاب. لم أفعل ذلك في حياته، بالرغم من النقاش الدائم معه حول الموضوع، لكني أكتب بعد رحيله. فعالم المنطق في العالم العربي يرحل بصمت، دون الاكتراث لذلك، لا من قبل الأكاديميين ولا من قبل السياسيين ولا حتى الإعلاميين… فصور من أغرقونا بالفساد تملأ الصفحات والشاشات وصور من نحن بحاجة إليهم تبقى طي الكتمان.
لذلك مرّ خبر وفاة المفكّر الكبير عادل فاخوري بصمت، فوسائل الإعلام، للأسف لا تساهم بنشر العلوم والثقافة وتبسيطها، بل تقتصر، إذا ما فعلت ذلك، على نشر الأدب والشّعر كأنهما الثقافة كلها، هذا إن جرى الاهتمام بهما في العمق.
قبل أسبوع من وفاته، كنّا نجالسه في المقهى، وأنا أعتقد أنّ ما بقي في منزله من أبحاث، ومسوّدات، هي خزّان كبير من المعلومات، لا أعرف كيف سيتمّ استثمارها. ولن يكون تكريم هذا الباحث إلا عبر نشر علومه وتعليمها في الجامعات. فهو ترك العمل الأكاديمي منذ 15 عامًا، من دون أن يُستثمر فكره فيها؛ حينها، لم يكن في الجامعات أيّ فِرَق بحثيّة، تهتم بحوسبة اللغة العربيّة كما هو حاصل حالياًّ في بعض الجامعات العربية، حيث أنّ حوسبة اللغة العربيّة باتت متاحة، ونشهد إنشاء بعض البرمجيّات والتطبيقات الحاسوبيّة التي تعالج الّلغة آليّاً، لذلك من المفترض بنا اعتماد ما عمل عليه فاخوري في الابحاث الاكاديمية الحديثة.
غسان مراد