(1)
ترجع قيمة هذا الكتاب لاحتوائه على أمرين هما؛ الأول: «يضم حقلاً واسعاً من الاهتمامات والمتابعات النقدية». والثاني: في طموحه الكبير «أن تصل القراءة النقدية إلى شفافية اكتشاف التركيب البنائي للنص الأدبي، وفي عملية الاكتشاف هذه، لا يحاكم التأويل النقدي للنص فقط، بل يحاكم أدواته نفسها».
ولكن هذا الطموح لم يكن ليتحقق بالقدر الذي أراده المؤلف، لما يتطلبه من قراءة كاملة شاملة للنتاج الأدبي والثقافي. ولذلك نراه يشير إلى هذه النقطة من خلال هذا الكتاب: «إنه لا يطمح إلى تقديم بانورامية شاملة عن الإنتاج الأدبي والثقافي، إنه مجرد قراءات، وكل قراءة ناقصة بالضرورة، كأن التأويل النقدي يقوم أساساً باستدعاء تأويلات أخرى جديدة».
من هنا نرى أن العملية النقدية تقود دائماً إلى خيوط وخطوات نقدية أخرى، وإلى الدخول إلى مساحات ومناخات لم تكن الرؤية/ الرؤى النقدية الأولى قد استطاعت الولوج إليها لسبب أو لآخر، فرغم محاولة النص النقدي الإبداعي التوصل إلى أقصى ما يمكن من سبر أغوار النص الإبداعي، إلا أنه لا يستطيع عبور مساحة النص الإبداعي أو الغوص فيه بالوصول إلى نهاياته التي قد لا تظهر كلها بسبب تعدد مستوياتها.
(2)
إن العملية النقدية بوصفها إبداعاً آخر للنص الإبداعي الأول، تشكل التلازم الضروري والمكمل له من حيث إنها تقوم بملء ما تبقى من دائرة النص الإبداعي، وكأنه- النص الإبداعي- يبقى ناقصاً، ويترك حيزاً ما في هذه الدائرة.
ولإكمال هذه العملية المعقدة والضرورية في آن، «يجب أن يكون النص نصاً نقدياً من حيث بنيته، أي يجب أن يكون نصاً متعدداً، ويحتمل أكثر من قراءة واحدة، ويشارك في تأسيس لغة نقدية، كأن الكتابة الإبداعية- وهي تنشئ نصوصها- تقوم بتأسيس النص النقدي الذي ينقد/ ينقض، يبني النص ويهدمه في الآن نفسه»، وهو من خلال هذه النظرة إنما يعكس الدلالات والمرامي غير المرئية التي تفجرها العملية النقدية خلال الخوض في أعمال النص، لا من خلال السباحة فوق ظاهره الرطب.
وأشير هنا إلى أن هذه العملية ليست سهلة الارتياد، وهي لا تتحقق من خلال القراءة الأولى، بل تتحقق من خلال الرؤية النقدية الثاقبة، بمراجعها الاجتماعية والتاريخية، والغوص المتكرر لأدق مستويات النص الإبداعي. هنا يتحقق ما أشرنا إليه آنفاً من أن العملية النقدية إبداع مكمل للإبداع الأول.
وأنتهز فرصة كتابة هذه الإشارات لكي أشير إلى أن مناخنا الثقافي هنا، يكاد يخلو من دراسات إبداعية جادة فيما يتعلق بالنقد الإبداعي للنصوص الشعرية الإبداعية التي تنبع من هنا. وتركيز الاهتمام- المقصور- على النصوص الأدبية الأخرى كالرواية والقصة بالرغم من توفر بعض الكفاءات النقدية لدينا. وإنني أدعو إلى تأسيس حركة نقدية ذات رؤية إبداعية للأدب الفلسطيني خالية من أي اعتبار سوى اعتبار النص الإبداعي أساساً لها فقط.
(3)
نعود الآن إلى استعراض مجمل للكتاب قبل أن نركز اهتمامنا على جزء من القسم الثالث منه، والمتعلق بعالم الدلالات في الشعر الفلسطيني، وذلك لأن الهدف من هذه الإشارات هو إيضاح هذا الجانب، والتركيز عليه قدر الإمكان.
يحتوي هذا الكتاب على مدخل ومقدمة بعنوان «النقد والنص النقدي»، وعلى خمسة أقسام هي:
1- في الثقافة العربية الحديثة.
2- في الرواية والقصة.
3- في الشعر.
4- في المسرح.
5- أقواس وفواصل.
ونرى هنا أن مجريات العملية النقدية التي احتواها الكتاب اشتملت على مختلف العناصر الثقافية الأدبية، وشكلت بمجملها رؤية نقدية إبداعية نستطيع أن نتحسس آثارها من خلال قراءتنا المتأنية والفاحصة للإبداع الآخر، لنخرج بنتيجة مؤداها: أن العملية النقدية الإبداعية ليست ملحقاً أو تابعاً للنص الإبداعي تنتظره لتلحق به أو أن تعكس صورته كما تبدو، بل إنها تأتي لتتشكل مع النص كوحدة واحدة في إطار واحد، رغم أنه- النص- يكون هو نقطة البدء في عملية التشكيل والتكامل، ويحدث هذا- كما أشرنا آنفاً- عندما يكون النص الإبداعي «نصاً نقدياً من حيث بنيته «فاتحاً مجالاً للرؤية/ الرؤى التي يتركب منها النص الأول، ليتحول بعد ذلك إلى ما يشبه النص الواحد لا تكتمل قراءة لغة النص الأول إلا بقراءة لغة النص الثاني.
(4)
في القسم الثالث من الكتاب، والذي حمل العنوان «في الشعر»، موضوع إشاراتنا هنا، يحتوي على تسع مقالات نورد عناوينها:
1- لغة الحلم والاحتمال.
2- الشعر والصمت.
3- الجديد في شعرنا الجديد.
4- عرس اللغة.
5- أقبل الزمن المستحيل.
6- عالم الدلالات في الشعر الفلسطيني.
7- الموت الجانبي.
8- تلك صورتها وهذا انتحار العاشق.
9- على قمة الدنيا وحيداً.
في هذه المقالات يطبق المؤلف نظرياته النقدية من خلال القراءات المتعددة للنص الإبداعي/ القراءات من داخل النص، لتكوين أبعاد أخرى شبه مرئية أو غير مرئية، من خلال عملية تفجير النص الشعري وإعادة بنائه من جديد، بعد تقسيمه إلى عدة مناطق من التداعيات والدلالات المختلفة والمتوالدة من النص الشعري، وربط مدلولاتها ومكوناتها بالسياق التاريخي والاجتماعي. ولقد قام المؤلف بتطبيق رؤيته النقدية على عدة إبداعات شعرية أبدعها شعراء عرب (سعدي يوسف، فاضل العزاوي، سليم بركات، ممدوح عدوان)، وكذلك على عدد من الشعراء العرب الفلسطينيين (عبد الرحيم محمود، أبو سلمى، سلمى الخضراء الجيوسي، معين بسيسو، حنا أبو حنا، محمود درويش، توفيق زياد، أحمد دحبور، سميح القاسم، عز الدين المناصرة، راشد حسين، فدوى طوقان).
وتستوقفنا هنا ملاحظة قد تكون مهمة نستطيع أن نراها بوضوح من خلال إعادة النظر بقراءة الأسماء مرة ثانية، هذه الملاحظة تبدي لنا أن غالبية الأسماء التي احتواها القسم الثالث من الكتاب «في الشعر»، هي أسماء شعراء فلسطينيين منذ الثلاثينيات وحتى اللحظة الراهنة، وأن غالبية الدراسات النقدية كانت قد وضعت عن نتاجهم الشعري، وكأن المؤلف يريد أن يقول لنا إن دولة الشعر الإبداعي الحديث تطورت بمساهمات شعراء فلسطينيين، وواكبهم على تطويرها بعض الشعراء العرب المبدعين، كالذين وردت أسماؤهم في القسم الثالث من الكتاب.
(5)
نحاول الآن أن نتعرض للمقالة السادسة، والتي تحمل عنوان «عالم الدلالات في الشعر الفلسطيني»، لأهميته التاريخية والمرجعية من حيث أن قراءة النص الأدبي الفلسطيني قراء نقدية، «تأخذ معنىً خاصاً حين تأتي من داخل هذا النتاج، «وأن هذه القراءة تأتي بوصف هذا النتاج «ممارسة تتشكل من خلال التقاء مستويين من الرؤيا الإبداعية داخل حقل واحد». المستوى الأول هو: «مستوى الانطلاق من حيز مكاني داخل دلالات المكان»، والمستوى الثاني هو: «مستوى البحث عن مناطق إشعال الواقع وتفجيره». وعندما يلتقي هذان المستويان في نقطة محورية «تتكون الملامح الخاصة للصوت الأدبي الفلسطيني حيث النقطة المحورية هي في دلالات المكان».
ولكن ما هو الدور الذي تقوم به دلالات المكان في هذه العملية الإبداعية؟
يجيب المؤلف على هذا السؤال بأن «هذه الدلالات هي نقطة الانطلاق التي تشحن الرؤيا، وتقيم للزمن الثقافي أبعاده الجديدة». والزمن الثقافي، أو الزمن الأدبي كما يسمى في موقع آخر من الكتاب، يأتي من خلال الحضور المميز لـ»الرمز أو عالم العلاقات الفجيعية ليشكل المقترب الذي يعطي مدلولات جديدة للأشياء».
أما عن كيفية تكون الزمن الأدبي، فإن هذا يكون من خلال «تمايز الأصوات فيما تحاول هي الاقتراب من نقطة مفترضة هي إيصال الوعي العام إلى أقصى درجات توتره». ولإيضاح المعنى الذي يرمي إليه المؤلف والمتعلق بالزمن الأدبي فإنه يعرفه بمعنيين اثنين، أولهما: أن الزمن الأدبي «هو عالم الدلالات التي تتركب داخل كل بنائي»، وثانيهما: أنه عبارة عن «مجموعة من الأزمنة التطورية المتداخلة. فهو ليس زمناً تطورياً، إنه زمن داخلي»، ولذلك فإن دلالات الكلمات التي تختفي داخل النص الإبداعي، تبدو في كثير من الأحيان غير متطابقة مع واقعها الظاهري والتاريخي، لأن دلالات الكلمات لا تتحدد «مسبقاً من داخل تاريخها بل تتحدد من خلال علاقاتها ومستقبل هذه العلاقات الذي تستشرفه».
إن عالم الدلالات الذي يجري البحث عنه، يمكن الإمساك بأطراف خيوطه من خلال القراءات المتعددة للنص الإبداعي، وربطه بالحالة/ الواقع، وبالزمن الأدبي الذي لا يعني زمناً تاريخياً، وذلك من خلال التعامل مع الرمز/ الرموز التي يطرحها النص، لأن الدلالة الأدبية «حين تتخذ من الرمز إطارها أو حين تتوقف عند علاقات اللغة والأشياء ببعضها، لا تحافظ على معانيها المسبقة، بل تأخذ معاني مختلفة، فمعناها هو حاضرها وليس ماضيها». ولذلك فإن المؤلف يخلص إلى استنتاج مفاده «عدم القدرة على بناء نسق موحد».
وبما أن الدلالة الأدبية لا تحافظ على معانيها المسبقة، فإن «الدلالة غير ثابتة»ذلك لأنها «تتبع بنية العمل الأدبي». ويجب أن نشير هنا إلى أن الدلالة قد تختلط «بمعان متضاربة»، ذلك أن النص الإبداعي- ومن خلال مكوناته واستعماله الرموز- قد يظهر هذا التضارب، بمعنى معاكسة الصورة واختلاف الرؤيا، وهذه الحالة/ التضارب قد تكون جزءاً من مكونات النص الإبداعي.
(6)
في القسم الثاني من المقالة، والتي قسمها المؤلف إلى ثلاثة أقسام، يبدأ بوضع صورة أولية للشعر الفلسطيني في الثلاثينيات والأربعينيات ممثلة بالشعراء: (طوقان، محمود، الكرمي)، حيث هذه الصورة بأن الشعر يحمل في تلك الفترة «المسألة الوطنية بوصفها قضيته الأساسية»، ولهذا يرى أن قصائد هؤلاء الشعراء «أشبه بنشيد جماهيري يستقي موضوعاته وبنيته من داخل مهمات الحركة الوطنية»، وبالتالي فإن القصيدة هي «أداة نضالية»وليست «عالم الصياغة الرؤيوية الجديدة للعالم»، فلا «تظهر في جسده آثار انتفاضات تعبيرية»جديدة.
ولم يكن الشاعر/ الشعر في تلك المرحلة من مراحل الشعر الفلسطيني يبحث «عن الفعالية والقدرة على التأثير»نظراً للظروف التي كانت سائدة في تلك الفترة، والتي سعى الشاعر/ الشعر أن يؤثر على وعي الجماعة،في محاولة لإنهاض هذا الوعي وتثويره ضد الظروف الجديدة التي بدأت تلقي بأثقالها عليه، لخلق واقع جديد ودائم، ولو بصورة قسرية كما حدث.
إن السمة الغالبة التي حملتها تلك المرحلة تظهر القصيدة «كسطح من المشاعر والتداعيات الخارجية»، وإن تلك المرحلة- كما يشير المؤلف- حملت في واقعها «توتراً مأساوياً»برز في الشعر الفلسطيني من خلال ثلاثة أبعاد مترابطة هي:
1- الاقتراب من الغنية الشعبية.
2- الطرح السياسي- النضالي.
3- من خلال هذين البعدين، يتبلور وعي ثالث هو الوعي الأساسي الذي سيطبع الشعر الفلسطيني فيما بعد.
وهناك بعض الدلالات الرئيسة التي طبعت شعر تلك الفترة، من خلال دراسة بعض النقاط الدلالية: الأرض- الوطن، الموت، المستوى السياسي- الانتقادي. وهذا الجانب له مؤشران:
1- الوعي النقدي.
2- أشكال التعبئة، كما أوردها المؤلف في كتابه.
ثم يقدم في نهاية التحليل الأولي لمختلف الدلالات في شعر تلك المرحلة استنتاجين أولهما: تقييم بنية القصيدة أكثر من بعد واحد؛ البعد الأول هو التحريض، والأبعاد الأخرى هي محاولة إدراج الواقع السياسي داخل رؤيا خاصة، تنطلق من أشكال التعامل مع قضايا الحياة، من خصوصية التجارب وفراداتها. ثانيهما: إن هذه المعادلة داخل القصيدة تقود إلى تمركز الدلالة حول النقطة المباشرة. تحاشي الغموض، والنسج على أنموذج حماسي في الشعر.
(7)
المرحلة التالية التي أعقبت مرحلة بدايات الشعر الفلسطيني الحديث في الثلاثينيات والأربعينيات، والتي تعتبر استكمالاً لهذه المرحلة، «استطاع الشعر الفلسطيني القادم من الأرض المحتلة أن يتحول إلى ظاهرة شعرية متكاملة، بفضل الظروف التي سمحت له بأن يصبح المعبر الأساسي عن مرحلة صعود رومانسية عامة ترافقت مع صعود حركة المقاومة»، إلا أن المؤلف يؤكد على وجود «فجوة معترضة»، وهذه الفجوة هي «مرحلة الحركة الشعرية الجديدة التي خرجت على العمود الخليلي للشعر إلى قصيدة التفعيلة في بداياتها الأولى وكما رسمها الرواد الأوائل لهذه الحركة.
إن هذا التحول الذي عبر عن مرحلة جديدة كان له طرفان، أولهما: «التطور الانقطاعي الدائري»حيث طرح «رؤية جديدة للشعر»من حيث إن هذا الشعر ليس للإلقاء بل للقراءة»، وهذا الطرح بمفهومه العام كان قفزة نوعية في الشعر لم تكن مألوفة قبل تلك المرحلة، وثانيهما «التطور من خلال نموذج خارجي»حيث أصبح الشعر الجديد «متداخلاً في مدارس شعرية وفنية متنوعة، فيسقط على الواقع الأدبي السابق محدثاً ثورة بلا مقدمات وبلا نتائج تراكمية».
لكن.. أين موقع الشعر الفلسطيني في تلك المرحلة؟ يجيب المؤلف على هذا السؤال بأنه: «يصعب الحديث عن شعر فلسطيني خاص، فالتشرد والتمزق الذي عاناه الشعب الفلسطيني، جعل لأصوات الشعر الفلسطيني في هذه الفترة مذاق الأنماط المختلفة للحركة الشعرية العربية»، ولقد تمثلت هذه المرحلة/ الفترة بالشعراء: (سلمى الخضراء الجيوسي، فدوى طوقان، أبو سلمى)، وإن كان الأخير قد كتب قصائده بالشكل الخليلي للشعر، مما يجعله إحدى حلقات الوصل بين مرحلة الثلاثينيات والأربعينيات وما تلاها، على الرغم من بروز شعر (معين بسيسو) في مجموعاته الأولى «محاولة لتطوير الرؤية الفلسطينية من موقع الاتجاه الواقعي في الشعر»، إلا أنها لم تكن تخرج عن أنماط الحركة الشعرية العربية آنذاك.
(8)
أواخر الستينيات تغير الواقع الشعري الفلسطيني وانطلق يحمل مميزات خاصة بالقصيدة الفلسطينية «تؤشر لتطور من نمط جديد في مرحلة الشعر الفلسطيني».
يطرح المؤلف قضية مناقشة الشعر الفلسطيني في تلك المرحلة، حيث يجري طبع هذه المرحلة «بطابع رومانسي»، ولذلك «يصبح النقد غير النقد»بسبب «تغييب النقد لمصلحة أحد اتجاهين»، الاتجاه الأول «يتعامل مع هذا الشعر بما يشبه القداسة»، والاتجاه الثاني «الذي نظر إلى هذا الشعر من موقع عدم ثقة مسبقة». ولكن المؤلف يذكر أن «بين هذين الاتجاهين قاسما مشتركا أساسيا، هو محاكمة الشعر بمقاييس غير شعرية، أي محاكمته من واقع الدلالة السياسية المباشرة.
إن دلالات هذه المرحلة، والتي حددها المؤلف بأربع دلالات، هي نقطته الأساس التي انطلق منها في دراسته لدلالات الشعر الفلسطيني في هذه المرحلة «في وضعه داخل سياقاته التأسيسية». والدلالات الأربع هي:
1- دلالة الشكل، حيث لا يدخل ضمن المعاناة إلا بوصفه لباسها الخارجي، فالقصيدة وعاء الشعر.
2- دلالة الإيقاع، حيث يشحن هذا الإيقاع نفسه بأرضية التواصل البسيط في أشكاله الأولية.
3- دلالة الحكمة الشعبية، غالباً ما يجري تضمين مقاطع من الشعر الشعبي داخل القصيدة الفلسطينية.
4- دلالة اللغة، وهي أكثر دلالات هذا الشعر أهمية، لا تظهر هذه الدلالة بشكل مستقل، لكنها هي الإطار العام الذي يغلف التجربة الشعرية في الأرض المحتلة، فاللغة هي إطار الصمود.
بقي أن نذكر هنا أن المؤلف أوضح بشيء من التفصيل معاني هذه الدلالات من خلال دراسته لقصائد عدد من الشعراء الفلسطينيين: (محمود درويش، توفيق زياد، أحمد دحبور، سميح القاسم، عز الدين المناصرة) من حيث إن في قصائدهم ما يعبر عن توضيح هذه الدلالات، ومن حيث إنهم بعض ما يمثل هذه المرحلة الشعرية التي بدأت منذ أواخر الستينيات؛ مرحلة تمايز الشعر الفلسطيني، استقلاليته بطابعه وطعمه الخاص، وقيادته للحركة الشعرية العربية في الآن نفسه وحتى هذه اللحظات.
(9)
في ختام رؤية المؤلف لعالم الدلالات في الشعر الفلسطيني، يصرح بأنه لم يصل «إلى لوحة بيانية لمعنى الدلالة في الشعر الفلسطيني الحديث»، وأنه استطاع- على الأقل- أن يتوقف «عند محطات أساسية»، وأن هدفه الأساس في طرحه لهذا الموضوع «هو الوصول إلى افتراض ثبات نسبي للدلالة في الشعر الفلسطيني، هذا الثبات ينشأ من واقع سياسي محدد. ويضيف المؤلف في موقع آخر بأن هذا الشعر قد قفز- أيضاً- من دائرة استقلاليته ومذاقه الخاص إلى دائرة الإنجاز الشعري العربي، وأن هذه القفزة التي أثبتت خصائصها «تفترض تداخلاً في هذا الإنجاز أكثر عمقاً وفعالية، أي الوصول إلى قصيدة البحث التي تبحث عن الشكل الشعري الجديد.
(10)
إن الكلمة الشعرية لا تقف عند معناها الأول ضمن سياقها، بل إنها «تحاول اختراق معانيها جميعاً. إنها داخل العملية الإبداعية تترك لهذه العملية جميع إمكانات الوصول إلى آفاقها الرحبة». ولهذا فإن الكلمة الشعرية الفلسطينية تتمتع بخصائص ومميزات جعلتها في عالم القصيدة الحديثة، وأنها قد أثبتت قدرتها على التحول والبقاء، وأنها قد أسهمت بفعالية غير قابلة للنفي، تأسيسها للقصيدة الحديثة في الحركة الشعرية العربية والعالمية في الوقت نفسه.
محمد حلمي الريشة