منذر مصري *
– أذكر، ولا أظنّ عمري وقتها يزيد عن العاشرة، أنّي صادفت أبي بقبعته القش وقميصه الكتاني الأبيض ذي الصدر المفتوح والكمين القصيرين، أمام مبنى البريد القديم، خارجًا من عمله في وكالة (غرغور وصوايا) البحرية، التي تقع بالقرب من الباب الرئيسي للمرفأ القديم، غير البعيد عن حديقة (الشيخ البطرني)، حيث كنّا أنا وأخي ماهر وأولاد الحارة نسبح يوميًا لساعات طويلة، أذكر كيف وضع يده على رأسي وعبث بشعري، وقال مندهشًا من سوادي: «صاير نيجرو».
– أعطتني جدّتي البارحة عبوة بلاستيكية كبيرة، وطلبت مني أن أملأها لها بماء البحر، لتنقع به قدميها، بناءً على نصيحة جارتها الأرمنية. فسبحت بعيدًا إلى عمق البحر، وملأت العبوة بالمياه الصافية، لأصعد درج بيتها في الطابق الرابع حاملًا إياها على كتفي، وأملأ بمائها بناء على طلبها الطشت النحاسي الكبير، الذي تستخدمه لغسل الثياب بدعكها بيديها، رافضة أي نوع من الغسالات الكهربائية، ولكن ما أن همت بأن تضع فيه قدميها المتورمتين، حتّى راحت تنظر لي باستغراب، وتقول: «أتضحك عليّ يا ملعون؟ هذا ليس ماء بحر، لونه ليس أزرق!».
* * *
[أمّا ما تقولينهُ عنّي – فهوَ بحر – وعدا عن أنَّ البحرَ – ليسَ لهُ أمان… فإنَّ البحّارَ – مقامرٌ حزين..]
* * *
[حبّي لكِ – صفيرُ مركبٍ يُبحر – نظرةُ بحّار – زيارةُ نورسٍ لمنارة..]
* * *
[خلفَكِ مضيت – على يميني آثارُ خطاكِ – وعلى يساريَ البحر.
ولو استدرتِ عائدة – لرأيت آثارَ أقدامِ عاشقينِ اثنين – يسيرانِ سويةً – على رمالِ الشاطئ.
كانَ هناكَ أنت – الّتي رأيتني – وناديتُكُ فالتفتِّ إلى نورسٍ حطَّ بالقربِ منك.
وكانَ هناكَ أنا – مَن راحَ يراقبُ الأمواج – وهيَ تتسلّلُ لتمحو – آثارَ خطواتي الوحيدة.
وكانَ هناكَ البحر – والشمسُ الّتي سقطت في حافَّتهِ القصية – كمصكوكةٍ ذهبية – في حصّالةٍ بلا قاع..]
* * *
[معكم على الجبل – لا تعمّرونَ بيتًا ولا تغرسونَ أشجارًا – وفي البردِ لا تشعلونَ نارًا.
معكم على دروب – مشوا عليها ورجعوا منها – وفي بساتينَ جنوها – وحطّبوا أشجارَها – وراءكم في الصّيف – فلا تينًا ولا عنبًا – تقطفونَ وتأكلون – ولا ترتدونَ الملابسَ الخفيفة – ولا تذهبونَ إلى البحر..]
* * *
[تصطفُّ أشجاري السوداء – على كتفِ الأفق – مغموسةً بالليل – لا فمٌ لها ولا ساعد – ويقفُ وراءَها البحر – تذكارَ
زُرقةٍ غابرة..]
* * *
– لم يجد سوى كتف صخرة ليبكي عليها. صخرة مدببة مبللة بزبد الموج.
– على شاطئ مهجور، جندي بكامل عتاده الحربي، يقف.. يمشي ببطء يمينًا، يقف.. يستدير ويمشي ببطء شمالًا، يحرس البحر.
– أربعة رؤوس سوداء تطفو فوق السطح الماء، والبحر يلمع كنصل سكين.
– يُخامرني الآن ذلك الشعور الذي لا أدري كنهه، وأنا أنظر إلى إحدى السفن وهي تخرج من الميناء.
* * *
(إلى محمّد كامل الخطيب)
[يا لكَ من أبله – يا لكَ من أبله – أفي صباح كهذا – وقد أسعدكَ الحظُّ – على غير عادته – بمقعد خال في آخر المقهى
لصقَ نافذةٍ مشرّعةٍ يملؤها البحر – تجلس منكبًّا على تصفّح الجرائد!.]
* * *
– مؤخّرة الصيف، البحر يركض في الهواء الطلق، والشمس تحترق، والطاولة مستلقية على ظهرها فوق الرمل رافعة إلى الأعلى قوائمها الأربعة.
– قالت لي: «ساقاك بحيرتان»
* * *
[فقط – ضعي يدَكِ الصغيرة – روحَكِ العاريةَ ذاتَ الأصابع – هنا – على قلبي – الذي تهدرُ الأمواجُ فيه – كقوقعةٍ بحريةٍ فارغة..]
* * *
[على رمالَ شاطئٍ مهجور – تحتَ سماءٍ مهجورة – هياكلُ عاريةٌ من حبالٍ وصوارٍ – لأربعةِ مراكبَ جانحة – دونَ أشرعة
دُون مجاذيف – أتمّت استعدادَها للإقلاع – في بحر الهجران..]
* * *
– لم يكن باستطاعتي أن أرجئ لصيف آخر عودتي له. صار عمري أربعين شتاء، قلت في نفسي. سوف أبادر أنا إلى مصالحته، هذا واجب الابن، ما يتوقع من الابن تجاه أبيه، ليعتبرني ابنًا ضالًا. أنا لم أؤذه قط، كيف لي، بل آذيت فقط نفسي. سأهرع وأرتمي في حضنه، سيضمني. وإن لم يفعل سأقع عند قدميه، حينها لا ريب سينحني ويرفعني.
من بعيد رأيته، هو حيث هو، لم يغادر المكان الذي تركته به، ممددًا يزفر ويلعب على عتبته الرملية. هو بكل تلك السنين التي يحملها على كاهله، وبكل حجمه وبكل جبروته، يلعب على الرمل، ولا يملّ اللعب. لا ريب أنّه بدوره رآني، لكنه لم يتوقّف لحظة عما كان يلهو به. استقبلني وكأنّ شيئًا لم يحدث بيننا، وكأنّه لم ينتبه لغيابي، كأنّ السنين الثماني التي قضيتها جافًا ويابسًا بعيدًا عنه لم تكن، لم تكن أكثر من ليلة واحدة قضاها ابن له أول بلوغه خارج البيت. أدخلني دون أن يتح لي أن أسأله سماحًا أو مغفرة، لم يسامحني ولم يغفر لي لأنّه بدا وكأنّ لا شيء يستحق منه مسامحة أو غفراناً. وكأنّي لم أخنه ولم أتنكّر له ولم أهجره قط. عدت، وكان أقصى رجائي، أن يقبل توبتي، أن يقبل مرّة ثانية قسمي بأني سأبقى بارًا يه وفيًا له للأبد، أن يعتبرني، لا أكثر من واحد من ملايين أبنائه وأحفاده. فإذ به يعاملني وكأنّي من خاصته، ومن أخلص وليفيه وأحبائه. أعطاني كما يعطي عابديه، أدخلني إلى حيث جنته، دون سؤال، أو محاسبة، دون عدل أو حق. هكذا يفعل مع الجميع، لم يقل، فقط أسبغ علي كلّ أشعة الشمس التي أستطيع أن أتحمّلها، كل الزرقة التي أستطيع رشفها، ومن جديد، كلّ الحرية التي تركته يومًا لأجلها.
* * *
[الحياةُ أبي والموتُ أمّي – لأنّ الحياةَ شارعٌ والموتُ بيت – لأنّ الحياةَ نبعٌ والموتُ بحر – ولأنّ الحياةَ منيّ… والموتُ رحم.]
* * *
– كان علي أن أمضي غربًا، باتجاه طرف المدينة المفتوح على البحر، هناك حيث السماء تقوم باستعراضها المسائي الكبير.
– النافذة على البحر، كأنّها عينك، كأنّني أقف الآن وأطلّ من عينك.
– في الذهاب شاهدنا سربًا كبيرًا من طائر الحوم يحلّق فوق شريط الساحل، بهت بها (شكيب) وخاف عندما راحت تحوّم فوقنا على ارتفاع منخفض جدًا. وفي العودة، سمعنا صوت طلقات نارية، ولمحنا رجالًا يحملون بنادق ويتبعهم أطفال. ثم قرب البيت رأينا رجلًا يحمل طائرًا كبيرًا من جناحيه، أو قائمتيه، لم أستطع أن أحدد، وصوت منقار الطائر يطرق على الأرض، كعصا طويلة يجرها طفل.
– عندما قرأ لي صديقي ومعلّمي محمّد سيدة، قصيدته تلك التي يتمنّى فيها بعد أن يموت أن يصبح موجة بحر زرقاء تمسح برفق قدمَي (اللاذقية) إلى الأبد. قلت له: «أمّا أنا فأفضل لو أصبح صخرة على شاطئ (اللاذقية) تشبه أصبعًا من أصابع قدمَيها». وأحسب أن هذا ما حدث فعلًا، فها آنذا الآن أجلس على الشاطئ لا أحرك ساكنًا كصخرة، وها هو محمّد يغسلني موجةً إثر موجة.
– رمى بي الحبّ على شاطئ الأثداء المدببة.
– لو كنتُ امرأة، تسكن بيتًا بنافذة تطلّ على حوض المرفأ القديم الذي تعبره السفن وهي تخرج إلى البحر، لأقمت للبحارة المتوحدين عرضًا وداعيًّا كل مساء.
– طلب منها أن تحضر له كوبًا من الماء، ليريها ما أحضر لها من حصى الشاطئ، فأحضرت له كوبًا من الحليب.
– لا أدري سبب قلقي، وأنا أسبح وحيدًا في عرض البحر، عندما رأيت قاربًا صغيرًا صدئًا، بدون شراع، يعتليه رجلان، أحدهما يجذّف بجهد، والثاني جالس على حافّة القارب يدخن سيجارة، فإذ بي أسمع صوتًا خشنًا يقول: «السلام عليكم». أجبت: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته».
– تفاجأت برؤية امرأة تعتل على ظهرها طفلًا ويتبعها ولدان صغيران، يهبطون من جسر سكة القطار باتجاه الشاطئ. وما زاد دهشتي أضعافًا أنهم ما إن وصلوا إلى البحر، حتّى راحت المرأة تنزع عنها قميصها البالي، وكأن لا أحد يراها! وكأنّ لا أحد حولها. آه.. يا للحسرة، لم تكن امرأة، بل مجرد رجل بشعر طويل وثديين كبيرين.
– بين حصى الشاطئ المبللة وجدته، مقلوبًا على ظهره، يدير قرنيه الطويلين شمالًا ويمينًا، ويحرك قوائمه الست بوهن ظاهر، محاولًا أن يستوي على بطنه علّه يستطيع الطيران، أو الابتعاد ما أمكنه عن أمواج البحر. رأيت بعد أن أعدته إلى الوضع الصحيح، جناحيه المعدنيين يفصل بينهما مثلث أبيض عاجي، ودائرتين حمراوين خلف عينيه الكبيرتين… جعل ملكي فرعوني، ماذا أتى به إلى هنا؟.
* * *
[لستُ كلبًا سارحًا على الشاطئ – يشمُّ بخيشومِهِ الرطبِ علبَ الصفيح – وأغطيةَ الزجاجاتِ البلاستيكية – وفرداتِ الأحذيةِ الفاقدةَ السيورِ دائمًا – التي لفظها البحر..]
من أينَ لي هذا المصير – هذه الخاتمةُ السعيدة – لتلكَ الحربِ التي افتعلتُها – بين الشعرِ والمعنى – الذائبِ فيهِ كالملحِ في الماء – ليغدو الشاعرُ – بعرفي – مصاصَ دماء – أقصدُ مصاصَ معان – فتقول: «الموت لا يحتاج استعارة.»]
* * *
– ماذا دفعني، لأن أذهب إلى البحر ذلك اليوم، وماذا دفعني لأن أهبط إلى الشاطئ، وقد رأيت ما كانت عليه الأمواج العالية وهي تشن هجماتها على الصخور، تريد تحطيمها. ثم ماذا دفعني، لأني أرمي بجسدي في خضمه!؟ أمجنون أنا أم مجنون أنا!؟ لا لست مجنونًا، أنا ابن البحر، ليس شعرًا أن أقول: «البحر أبي»، وليس مجازًا أن أقول: «أخو الفقمات والدلافين أنا»، وليس ادّعاء أن أحيا وأنا أعتبر أنّي حيوان برمائي، لا أعرف نفسي إلّا وأنا أركب الأمواج وكأنّها ظهور أحصنة برية أقوم بترويضها؟.
فجأة وجدتني في عرض البحر، أنظر إلى الشاطئ ولا أراه. كان حال البحر يحول دون أي رؤية فكيف من هذا البعد، أمواج عملاقة ترتفع وتتلاطم، لا ريب أن تيارًا معاكسًا قد سحبني كل هذه المسافة. ولكن لا بأس، لا بأس، أستطيع أن أتمالك نفسي، وأسبح عائدًا ولو ذراعًا ذراعًا، ولو قدمًا قدمًا، الأمر الآن لا أقل من قضية حياة أو موت، وعلي الآن أن أنظم تنفسي وأقتصد في جهدي لأحافظ ما أمكن على قوة كافية، أستطيع بها أن أقترب من الشاطئ، وأنجو!.
التصرّف الأوّل الذي خطر لي، هو أن أدير ظهري إلى الشاطئ، وأستقبل الأمواج وجهًا لوجه، لأتمكّن من أخذ شهيق عميقٍ كلما أتيحت لي الفرصة، بدل أن تفاجئني وأبتلع الماء المالح حين أتنفس في الوقت غير الملائم. ومن ثم يأتي التصرف الثاني، وهو أن أسبح على ظهري وأستخدم يديّ وكأنّها مجذافا قارب صغير، وأجذّف بقوة وروية، دون هلع ودون استعجال، المهم هو أن أصل إلى الجانب غير الصخري من الشاطئ.
أدير وجهي وأنظر، اقترب، اقتربت، اقتربت كثيرًا، ها آنذا أرى أحدهم على الشاطئ، يا لحظي، دائمًا هناك من يأتي في اللحظة الأخيرة، وينقذني. أشير، ألوّح بكلتا يدي، مرّات، كيف له أن يراني بين هذه الأمواج؟ يلتفت، يلوح لي بادئ الأمر ثم ينشغل بشيء، أصيح بصوت عال ما أمكنني: «ساعدني، أنا أغرق، ساعدني».
الأمواج نفسها التي كانت تحاول قتلي، تدفع بي الآن بقوة نحو الشاطئ، ولكن عليّ أن أنتبه كي لا ترمي بي على الصخور، حصل ذلك في هذا المكان العديد من المرّات. ترفع الموجة السابح الفاقد كل حيلة وتقذفه على الصخور، لتسحبه، وتعود وترفعه وتضرب به الصخور ثانية وثالثة، حتّى يتمزّق.
ما كان للرجل أن يجرؤ على الهبوط بجسده للبحر وانتشالي من شدقه المزبد المفتوح، وقد بانت أنيابه وبراثنه. وحقيقة، كان في هذا مخاطرة كبيرة واضحة، غير الأحمق لا يقوم بها، إلا أنّه انتقى المطرح الأقرب لي، ومدّ يده، وسحبني.
«أنقذتني.. أدين لك بحياتي» قلت له. أجابني: «لم أفعل شيئًا.. الله كان ينظر إليك، الله رآك.. مكتوب لك النجاة».
أأنا من تفعل به هذا؟، أنا من فتّح عينيه في مياهك، من وعي الدنيا في خضمّك وبين أمواجك؟، من يعتبرك أباه ويعتبر نفسه ابنك؟. آه يا بحر.. سمعتهم، سمعت الكثيرين يتكلمون عن قسوتك وغدرك، فلم أصغ لهم، ولم أعطهم أذنًا، ولا طرف اهتمام. حتّى وإن كنت يومَا عكر المزاج، حتّى وإن كنت غاضبًا، فليس أنا من يخاف قوتك وبأسك، وليس أنا من يتوقّع أنه سيكون يومًا ما هدفًا لبطشك، فيقلق له يحسب حسابه ويتردد قبل أن يرمي نفسه في أحضانك. ليس أنا من تخدعه بصفائك، وحنانك، وأبوتك، ثم وهو غاف في حضنك، ساندًا رأسه على فخذك، دون إنذار، تغدر به، وبيديك الجبارتين تخنقه!.
أم، ربّما، كنت ترى أنّه قد حان الوقت، أنّه الوقت الملائم، لتعيدني إلى رحمك؟.