يمنحنا القاص العماني عبدالحكيم عبدالله قصصا، كمن يُمنحنا قهوةً تمّ تحضيرها على نار هادئة. رتم القصة لديه بطيء وهادئ ومُنكه بالتفاصيل الصغيرة التي تجعل القهوة ألذ.
لا يعطيك عبدالحكيم عبدالله قصصا ضاجة بتصاعدها الدرامي، وإنما قصصا يُمارس معها خدعة الاستراق. يسترق النظر إلى شخصياته من مسافة قريبة،فتمر الحكايات عبره وتنمو فيه، لتخرج بعد هضم طويل، مشحونة بتوترها الداخلي والخفي.قصص تُلاحق صورة بصرية سينمائية مُكثفة.
عبدالحكيم عبدالله يُقدم لنا في مجموعته القصصية الجديدة «استراق»، الصادرة عن دار مسعى، ضمن البرنامج الوطني لدعم الكتاب بالنادي الثقافي، قصصا تعتني باقتصادها اللغوي بدقة كبيرة، بعيدة الهذر المجاني. جملا رصينة تُحافظ على متانتها من أول القصة لآخرها ويجاور الاقتصاد في اللغة الخفة، إذ تنساب القصة بين يديك بيسر، فتعيد قراءتها مرة ثانية وثالثة ومع كل قراءة تكتشفُ مفتاحا لم تنتبه له ربما في قراءتك الأولى.
يبدأ عبدالحكيم عبدالله مجموعته القصصية بقصة الرجل الذي لا يريد أن يموت، الرجل الخائف من الموت. ليس لأن الموت مخيف، وإنما لأن لديه أطفالا لم يكبروا بعد، ولم يُهيئ لهم بيتا. الرجل الذي لا يريد أن يموت الآن ولا بعد يومين، مُصاب بمرض السكري، ويلبس الجوارب السميكة لتحمي قدميه من الخدوش والجروح ويُصاب أحيانا بإغماءة بسبب السكري.يواجه الرجل الموت بأن يحلم بالبيت المنتظر، بمواصفاته المُبهجة، ويبقى الحلم هو المعادل بين كفتيّ الموت والحياة.لكن الحلم ينطفئ ويتعثر، عندما يقترب موعد الموت، « نمت أعشاب وحشية في زوايا الموزاييك الملون وتصدعت أصص النباتات الصغيرة. طفحت بقع طحلبية في الجدران وظهر الكلس في الأنابيب وامتلأت شقوق الانترلوك بالرمل والأوراق الجافة والحشرات المتحللة. اسودت أطراف الرجل من كثرة وخزات حقنة الانسولين».
يفاجئنا التقطيع الغريب في قصة «العرض»، فالقصة تحكي عن مقاطع لا يوجد بينها رابط حكائي واحد. مجموعة من الرجال خرجوا من قريتهم لمشاهدة عرض قدّمه ثمانية من المهرجين.عرض لم يكن مسليا، أخطأوا في أربع فقرات على الاٌقل.يترك الرجال يشاهدون العرض الممل، ويأخذنا الكاتب إلى صورة سينمائية أخرى عن النساء،» النساء يمكثن في البيوت. أكمامهن مبتلة وهن يغسلن السمك والخضراوات في مغسلة المطبخ تحت صنبور الماء. وفي مطبخ إحداهن قطة بيضاء كثيرة الحركة تمسح فروها الناعم في ساقيّ المرأة وتعترض خطواتها أثناء عملها في المطبخ. المرأة لا تغضب من القطة البيضاء رغم أنها تتعثر أحيانا بسبب اعتراض القطة لخطواتها طوال الوقت ولم تشتم القطة أبدا. لم تكن القطة مشاغبة ولم تكن تبعثر الأواني في المطبخ أو تخلف قذارة هنا أو هناك. القطة جميلة والمرأة تحبها. لا تحبها كثيرا، تحبها بمقدار يكفي بأن لا تفكر أبدا في ركلها بقدمها أثناء اعتراضها لخطواتها وهي تتحرك في المطبخ».
لينتهي العرض ويجلس الرجال ليتحدثوا عنه فينشغل الراوي بأن يخبرنا عن ضحكة أحدهم التي اعتادها منذ الصف الرابع الابتدائي، «ينحني بجذعه إلى الأمام ويمسك ذراع أقرب صديق يقف بجانبه ثم يتقهقر إلى الوراء مفجرا قهقهات مُجلجلة ولكن دون أن يسقط على ظهرة أو يجر صديقه بقوة. كان يفعل ذلك في مرح ولطف ومراعاة». يلي ذلك مشهد العودة إلى القرية ومشاهدتهم لمعتوه يتحرك في مساحة صغيرة فوق العشب، يأكل بسكويتا من نوع رديء الطعم، ثم محاولته لتسديد ركلة لكرة وهمية، «فاعتراهم خوف على نظاراتهم أن تهشمها هذه الكرة الثقيلة، رغم أن أحدا منهم لم يكن يضع نظارات على عينيه». يصل الرجال إلى القرية، «سمعوا ثغاء الأغنام وحركة الدجاجات تلتقط طعامها». أما المفاجأة فهي أن تنتهي القصة بهذه الجملة: «لم يكن بينهم رجل يجيد الرسم على الزجاج». العمود الفقري لهذه القصة هي حركة الرجال من مشاهدة العرض إلى الرجل الضاحك إلى الرجل المعتوه إلى القرية. تشعر بحاجتك لأن تعيد قراءة النص مجددا علّك تكتشف الرابط بين كل هذه المفارقات أو لعلك تقول: «هذه هي الحياة جملة من المفارقات تُشاغبنا وتمضي».
المشهد السينمائي لا يغفل تفصيلا صغيرا في قصة «المصافحة» التي تحكي لحظة مصافحة يعقوب بن جمعة ليد الوزير الحمراء المنتفخة بنعومة مثل وسادة. العمامة والنقوش التي تطرزها. المعدن الصقيل للخاتم الكبير بفصه الارجواني المشع في إصبع الوزير . يُقابل ذلك صورة أخرى ليعقوب بن جمعة بلباس العمل الخشن والابتسامة المعوجة، ووجهه المنهك وبشرته المُسمرة جراء العمل المضني.
نظن كقراء أنّ المشكلة ستكون في المصافحة، لكنها لم تكن في المصافحة ولا في الكلمة التي تدرب يعقوب بن جمعة على قولها وإنما في المفاعل الكيماوي الذي كاد أن يشتعل بسبب نوم عامل التشغيل. ثم يستدرك، «المصنع كان بلا غرفة مفاعل نووي كان ينتج المواد الغذائية البطاطس والبفك الهش والمقرمش». ربما ثمة إشارات سياسية تكشفها مفردة «المفاعل النووي». ولكن النقلة كانت سريعة ومفتعلة ولم تقدم مبرراتها الكافية. ليس بالضرورة أن تكون النهاية كما توقعنا، ولكن من الضروري أن تكون مقنعة ضمن سياقها الفني.
في قصة استراق يسترق الرجل النظر فيدفع ضريبة غالية. يصف لنا امرأة في غرفة الانتظار في المستشفى يصفها بكثير من النفي: «دون مساحيق تجميل في وجهها، لا تتحرك،لا تهز قدمها، لا تومئ، لا تفرقع أصابعها، لا تنظر إلى النافذة، لا تستجيب لحركة الداخلين والخارجين..» وعندما غفا البطل في نومة قصيرة تلاشت المرأة. فأخذ يجتر أفكارا مُسبقة حول إمكانية أن تخرج المرأة من مكان ما كما يحدث في أفلام الرعب، وليته أبقى القصة عند هذه الأسئلة المزروعة فينا، ولكن عبدالحكيم عبدالله تعداها، وذهب بقصته إلى ما تفعله أفلام الرعب، لتخلق الإثارة: «نظرتُ إلى إطار المرآة العلوي حيث كان خيط دقيق من مادة سوداء ينبجس ليتحول إلى سائل أسود يتشكل في أعلى زجاج المرآة.. عين امرأة حمراء دامية تغمض وتفتح وسط الظلام».
لا يهتم عبدالحكيم عبدالله بالإطار العام لحركة القص، وإنما يبتكر طريقته الخاصة به. فلا يذهب إلى حكايات تنمو وتطور وتنتهي بشكل صادم أو غير صادم، بقدر ما يعتني بالشخصيات والتفاصيل الصغيرة. في قصة قهوة مُرة « وقف الشاب عند النافذة واضعا يده على عارضة السرير حيث تجلس جدته على حافته تُداعب مسبحتها الخضراء ناقصة الخرزات مُدلية رجليها وتؤرجحهما.. العجوز تشتهي حساء الذرة لكنها خجلت أن تخبر حفيدها» .
وكعادة عبدالحكيم عبدالله ينسل من حكايته إلى حكاية أخرى جانبية : «شاهد فتاة تمشي تذكر فتاة رآها في مكان ما فأحبها. تذكر أول ما أسر روحه حين لمحها. تلك الألوان في ثوبها.أشكال ساذجة لزهرات مرسومة ببساطة تكاد تكون ركيكة بدا له أنّ ثمة عيب في الصنعة لفرط السهولة التي رسمت بها تلك الزهرات المزرية بألوانها الكئيبة» .
يترك قصة الجدة ويذهب لقصة الحبيبة ثم يأخذنا إلى قصة الخشب في الغرفة،»الخشب الأملس واللامع بلونه البني العتيق كان صامتا، خشب السرير وخشب الكرسي وخشب المنضدة، حتى خشب النعش لحظة وضع جسد العجوز الخفيف عليه كان صامتا». هكذا يجعل الخسارات إلى جوار بعضها البعض. كل خسارة تستدعي الأخرى. فالحزن على حال الجدّة استدعى الحزن على رحيل حبيبة لم تعد إليه: «أدرك أن الحزن خادعه فتسلل إلى حنجرته بحيلة ماكرة».
في قصة «الريب»، يتابع عبدالحكيم عبدالله اصطياد التفاصيل الصغيرة التي يمكن أن نمرّ عليها ونتجاوزها كأننا لا نراها. «الريب» هذه المفردة الضخمة والشائكة والمعقدة، يمكن أن تكون في صور يومية وعابرة وغير مُكترث بها. قصة قلم رصاص يتدحرج فوق الطاولة، فيصطدم بكأس شاي ويصدر رنينا خافتا. يد المرأة تعيده فيتدحرج ثانية ومن ثم تضيع المرأة في تفسير الصوت الذي تسمعه هل هو تهويدة أم تهز مهد رضيعها أم توليفة نغمية لأطياف البخار المتصاعد من الشاي متماهية مع أنفاس تنهداتها.
يقول لنا عبدالحكيم عبدالله «أنا لست هنا»ولكن بطريقة أخرى: «هذه غرفتي. دشداشتي ليست مُعلقة على المشجب، طاقيتي ليست على حافة المنضدة، نظارتي ليست مُلقاة على كتاب مفتوح… « في قصة «الدليل».
وبالرغم من وجود قصة كبيرة وشكوى هائلة لفتاة تتعذب من المرض وأهلها لا يستطيعون أخذها للعلاج في الخارج إلا أن عبدالحكيم عبدالله لا يشتغل على القصة المأساوية وإنما على البحث عن وسيلة جيدة للتعبير عن هذه الشكوى المُرّة. ففي قصة «تعبير» يقف الرجل أمام شجرة ليشكي همّه عندما لم يجد من يسمعه.
يرسم عبدالحكيم عبدالله القصة في اتجاه لنجدها تذهب في جهة أخرى. كأن شخصياته الطائشة تُفلت من بين يديه، وهي عصية على الترويض. فيظن الرجل الذي شاهد امرأة على شفير الغشيان وملابسها مُغبرة وقدماها مجروحتان، وقشرة جافة من دمعات تُغطي رموش عينيها وشفتاها ملتصقتان بقروح ودماء يابسة بأنها امرأة تحتضر من شدة العطش لكنها تقول «يا ولدي أنا فيني وجع كبير هنا. وجع في فوادي يعصرني دوم.. دوم». وتنتهي القصة عند هذا المشهد في قصة «القصة الكاملة في عينيها»، هكذا يحملك الكاتب على أن تكون شريكا له، فتنظر إلى عينيّ المرأة في خيالك، لتكتشف الحكاية الناقصة من عينيها.
هنالك قصص قريبة من الواقع وتقدم نقدا ساخرا ماكثا بين السطور. ففي قصة «شغل» يصر على أنهم «عمانيون وعيونهم عمانية»، وأنهم جاءوا للبحث عن عمل. يحكي قصة انتظارهم الطويل لهذه الفرصة، «صفوا براد الماء ثلاث مرات في غرفة الحارس». مائتان وأربعة عشر عمانيا سجلوا أسماءهم جميعا. عشرون عمانيا فازروا: « أمهاتهم كنّ الأكثر الحاحا في ادعيتهن». لكننا نصعق عندما نعرف نوع العمل الذي ينتظرهم، «تسلموا لباس العمل الأزرق واستلم كل منهم معولا ورفشا وهم يكتمون ضحكات الفرح لئلا تُفضح رزانتهم المفتعلة».
قصة «المعبيلة ليس فيها بحيرة بجع» قصة تحتوي عدة قصص ولكن لا نجد لهذا العنوان أي مبرر أو حكاية أو أسباب وربما يكون عبدالحكيم قد تقصد ذلك، لنبحث عن حكاية غير موجودة، أو لنصنع نحن القراء هذه الحكاية وننسجها. لكننا نجد حكايات أخرى من قبيل، «تفادي الحزن». تُعرفنا على وسائل مُجربة لتفادي الحزن من مثل، النظر إلى قمصان الرضع التي كتب عليها الكلمات الآمنة والتي لونت بألوان جميلة، «لا ينال الحزن منا إذ أننا نفرح بكل شيء نفعله ويفعله الآخرون لنا، إدراك صلاة المغرب، قراءة آية الكرسي، تناول الخبز التنوري مع الشاي الاحمر الخالي من الهيل..» . قصة «مديح الأصدقاء» تحكي عن قصة رائقة لحياة الأصدقاء وأحاديثهم التي لا يعرقلها ألم الاسنان ولم تمت أم أحدهم قبل ثلاثة أيام ولم يُسرق هاتف احدهم أيضا. كأنه يُقدم لنا حكاية بالمعكوس، كمن يقاوم الحزن بحكاية وردية ومبتهجة.الحقيقة كنت أقرأ شيئا آخر: نحن الأصدقاء نُعاني البؤس، لأن أحدنا يُعاني ألما في ضرسه وثانينا ماتت أمه قبل ثلاثة أيام وثالثنا سُرق منه هاتفه.
أما رحلة المعاقين في قصة «كلام الحافلة»، فهو ينقل لنا قصة تدور بحركة الأعين والأيدي. قصصا شهية عن مشابك الشعر وعن احتراق مشاكيك حديد وسقوط الوردة البلاستكية من صندل شهد بين حصيات الوادي وبخل خالوه سعيدة التي عيّدت البنات بملصقات بارني وفلّة بدل ورقة المائة بيسة الجديدة. ولا أدري صدقا كيف جعل عبدالحكيم عبدالله الصم والبكم في تلك الرحلة، متمتعين بكثير من الصخب والضجيج والقهقهات. كما جعل زينب الضريرة تكتب رسالة الى حبيبها الذي تسميه عادل وأحيانا حسام والذي يترك لها وردة عند افريز النافذة.