منذ فجر الاستقلالات سيؤدي انبثاق أدب فرانكوفوني إلى إشاعة تأمل حول ما بعد الكولونيالية: وهي استمرار لفكر نقدي في مواجهة الاستعمار (قام به المغاربيون الذين يكتبون باللغة العربية ومؤلفون فرنسيون بالمغرب العربي أو ببلدهم الأصلي على السواء)، وقطيعة مع كتابات أدبية وأبحاث أنصار الاستعمار.
لكن مسألة موقف المثقفين المغاربيين في مواجهة الاستعمار كانت أكثر تطورا، خصوصا في الجزائر، حتى قبل الاستقلال: والمغاربة كانوا في إنصات إلى أفكار المثقفين المغاربيين، خصوصا الجزائريين، مثل كاتب ياسين، ومصطفى لشرف، وآخرين غيرهم منخرطين في حرب تحرير الجزائر. وهذا ما يفسر أنه، بعيد الاستقلال المغربي، كانت مواقف المثقفين المغاربيين الفرنكوفونيون قريبة جدا (أولئك الذين سيكتبون في مجلة «أنفاس» ليسوا كلهم مغاربة: فقد ساهم فيها تقدميون مغاربيون وأوروبيون) ليس فقط من المسألة الاستعمارية، بل أيضا من مشروع المجتمع.
موقف الكتاب أصحاب مجلة «أنفاس»
لقد أثار مستقبل البلدان المغاربية، بعيد الاستقلال، نقاشا حادا في وسط المثقفين المغاربيين. وترى مجموعة كبيرة منهم، الفرنكوفونيين على الخصوص، أن النظام القائم بموافقة المستعمِر سابقا لا يتجه بما فيه الكفاية نحو تحرير سياسي واقتصادي واجتماعي كما كانوا يتصورونه. ففي المغرب مثلا توكأت الملكية على النخبة الوطنية البرجوازية لعرقلة المقترحات التقدمية للمثقفين وللأحزاب السياسية اليسارية (اشتراكية وشيوعية) ذات الثقافة الفرنكوفونية غالبا. وبالنسبة لهؤلاء، فما سمته السلطة «الاستقلال في الارتباط المتبادل»، لم يكن سوى استعمار جديد مقنع يستبعد مصالح فئات عريضة ناضلت من أجل الاستقلال
ولكي نحصر اهتمامنا على المثقفين الفرنكوفونيين، فموقفهم في البداية كان حرجا: فقد أُخذ عليهم أنهم يعبرون عن أفكار تعتبر غريبة عن الإرث الثقافي الوطني؛ والأكثر من ذلك بلغة المستعمِر سابقا؛ وكانت هذه حججا لم يكن الشعب – وأغلبيته أمية – غير متأثر بها في البداية، مما أثار شكا عند المثقفين الفرنكوفونيين، والكتاب على الخصوص، فبدأوا التفكير في التخلي عن اللغة الفرنسية باعتبارها وسيلة تعبير.
ولكن بداية من 1965، وبعد القمع البوليسي العنيف للشباب، واغتيال المهدي بن بركة، الزعيم الاشتراكي الوطني والعالم ثالثي، اتسعت الهوة بين المثقفين التقدميين والسلطة القائمة، وأصبح مهما ومستعجلا معارضة الحكم ونظامه في اللغة التي نتقنها جيدا.
وعلى المستوى الإيديولوجي تم استلهام نظريات ماركسية ذائعة الصيت عند المثقفين، وخصوصا في البلدان السائرة في طريق النمو، المعارضة تماما للنظام السياسي القائم.
وعلى المستوى الثقافي والجمالي طور المؤلفون الذين يكتبون بالفرنسية حركة حول مجلة «أنفاس»، لعبت دورا حاسما في الإبداع كما في التفكير النظري، لتعبئة الشباب المثقف حول مطالبَ مناهِضة للرجعية. فصارت اللغة الفرنسية، شأنها شأن الأفكار التقدمية التي كانت تنقل غالبا عبرها، وسيلة نضال مقبولة: لقد كان يحكم على الأدب لا من حيث الوسيلة اللغوية المستعملة، بل من حيث إسهامه في الخيارات الإيديولوجية والجمالية التقدمية. لكن هذا الأدب لم يختف، بل سوف يتطور، ويصبح أحد المكونات الأساسية لتجديد الفكر في التاريخ الثقافي في المغرب العربي إلى اليوم. وتترجم الراديكالية الإيديولوجية أيضا في التصورات الأدبية التي تتجه نحو «حرب عصابات لغوية» (محمد خير الدين). ويبحث مدير المجلة، عبد اللطيف اللعبي، وكتاب آخرون مثل محمد خير الدين ومصطفى النيسابوري، ونسبيا الطاهر بنجلون وعبد الكبير الخطيبي، عن هدم شفرات الكتابة الأدبية كما تمت ممارستها إبان مرحلة الاستعمار، متبعين في هذا كاتب ياسين، الروائي المغاربي الرائد، لكن ذاهبين أبعد من ذلك في الإفراط والمغالاة و«عنف النص» (مارك غونتار).
غير أن هذا الجيل الأول من كتاب مرحلة ما بعد الكولونيالية كان خاضعا لتناقضات عديدة ما بين الطموحات الثقافية والوقائع الفردية والاجتماعية التي يوجدون عليها؛ وهذا سبب تذبذباً بين نماذج من الحياة غالبا متعارضة: الغرب/المغرب العربي، تقليد/حداثة، علمانية/إسلام، المثال الفردي/المثال الوطني، الالتزام السياسي الجماعي/المقتضيات الجمالية الفردية… كل هذا يفسر أزمتهم الداخلية وانحرافهم عن الوقائع الاجتماعية والسياسية. فالحكم القائم، المتضايق من خطابهم الراديكالي، والواعي بالفجوة بين مواقفهم والوضعية الثقافية للمجتمع، لن يتوانى عن قمعهم بعنف؛ فمنهم من تعرض للاعتقال والتعذيب والعنف، ومنهم من تراجع أو خابت آماله أو ساوم صراحة (إن لم يكن تواطأ).
ومع ذلك، كان لهذا التوتر آثار إيجابية على الكتابة الأدبية، وخصوصا في الجنس المعتمد حديثا، ونعني بذلك الرواية، لأن نصوص هذه المرحلة، في إفراطها وغموضها، تتميز بطاقة مدهشة في اتجاه مزدوج:
الحاجة إلى هدم تقاليد أدبية، وطنية وفرنسية، اعتبرت غير قادرة على التعبير عن التمرد على تعسفات النظام؛
الحاجة إلى بناء شفرات جمالية جديدة تعيد الاعتبار لمتخيل مبتور.
لهذا الهدف كان الكتاب يتبنون الأفكار والوسائل التجديدية والرافضة التي من شأنها أنت قيم القطيعة مع أعمال السابقين؛ وكانوا يستعيرونها أيضا من الثقافة الغربية (الرمزية، السريالية، الوجودية، الفكر الدريدي، النقد البارتي…) كما من الإرث اللغوي والأدب الشعبي العربي- الأمازيغي (الحكايات الشعبية، الأساطير، النصوص الدينية…) التي يعيدون كشفها من أجل تجديدها، وتغيير مسارها، وتحريفها. ورغم أن هذه الأعمال تتبنى الإفراط والكاريكاتور والهذيان فإن بعضها يعتبر من بين أحسن منجزات الأدب الفرنكوفوني: وتلك حالة «أكادير» لمحمد خير الدين على سبيل المثال. وعلى طول هذه المرحلة صارت الرواية الوسيلة الأكثر تدميرا، لأنها الجنس الذي يمنح فيه التعبير حرية في الإيقاعات، وانفتاحا أكثر على الموضوعات والأساليب. وباستثناء محمد خير الدين وإدريس الشرايبي وعبد اللطيف اللعبي، وهم الأكثر حدة، تبنى كتاب آخرون هذا الجنس الأدبي للتعبير عن مرارتهم ومعارضتهم، مثل الطاهر بنجلون صاحب الأعمال الروائية الأكثر خصوبة والأكثر انتشارا، وعبد الكبير الخطيبي الذي يحمل تفكيرا تجديديا باعتباره سوسيولوجيا، وناقدا بل وأيضا روائيا.
إن رواياتهم كانت تعبر عن الحلم بمجتمع تحل فيه العدالة والحرية والكرامة محل القمع والممنوعات والخطاب الرجعي لنظام سوسيوسياسي مهترئ؛ وفي الوقت نفسه كانوا يبينون الخيبة والجراح والمرارة الناتجة عن فشلهم كنخبة، هي لسان حال منسيي التاريخ، وشهداء قضية خاسرة. ومع أخذ المسافة تبدو لنا كتابات هذه المرحلة نتيجة لتناقض حاد بين يوتوبيا القناعات الراديكالية (وسيوضح تاريخ الشيوعية فيما بعد أوهامها وإخفاقاتها) للشباب، وعنف الواقع. وأهمية مشروع المجتمع هذا لم تكن تكمن في اقتراحات مثال ما يُحتذى بقدر ما هي في الحماسة والإبداعية والجرأة على فضح نظام سوسيوسياسي متحجر وقومية اختزالية؛ وفي نشر أفكار جديدة خلخلت الأدب، بل وأيضا عقلية شباب طالما خضعوا لنموذج تقليدي لمجتمع أبيسي متحجِّر. أكيد أن هذه النصوص كانت مربكة في كتابتها (وحدها أقلية من المثقفين الفرنكوفونيين في المغرب العربي وفي الغرب يمكنها أن تستوعبها)، إلا أن إسهامها في الحداثة المغاربية، أدبيا وثقافيا، لا يستهان به:
– فهؤلاء الروائيون عملوا على تجديد الكتابة الأدبية الموروثة من الاستعمار التي هيمنت عليها الواقعية الاجتماعية والسيكولوجية (باستثناء كاتب ياسين)، فاتحين بذلك الأدب المغاربي على التجارب الكتابية والجمالية للعالم المعاصر؛
– لقد فتحوا فجوة في المجتمع، وخصوصا الشباب، بحس نقدي اكتسبوه بتأثير من الفكر والأدب العالميين؛
– وقد دمجوا أدبا مكتوبا بالفرنسية أصلا يفترض قارئا جديدا منفتحا على الثقافات المحلية والغربية، سواء أكان من المغرب العربي أو من الخارج. بالإضافة إلى ذلك، وبالنسبة للمستعمر سابقا، على الأقل ذلك الذي ظل يتساءل عن علاقته التاريخية بالمغرب العربي (أو كل غربي يهمه الأمر)، بدا هؤلاء الكتاب «وسائط متميزين لإيضاح المشاكل السياسية والاجتماعية لحداثة مغاربية لم يكن هذا القارئ يدركها إلا عبر رواسمها المشوهة»). ولا ريب أنهم يؤسسون نمطا جديدا من العلاقات مبنيا على تبادل مشترك، ومشاركة المعرفة، وتعرف مغاير عن الآخر.
يبقى أن الكاتب الفرنكوفوني، وهو مأخوذ بين توتر اللحظة واضطراباتها، حصر في الغالب (رغم محاولات إدريس الشرايبي) العالم الأدبي (الزمن، الفضاء، الشخصيات) في التناقضات الداخلية والفرنكومغاربية لوضعيته. فتجربته تذكّر بطبيعة الحال بتجربة مثقفي فضاءات أخرى، وعلى الخصوص في بلدان الجنوب؛ لكن عمله لا ينفتح على ما يجري خارج البلد المغاربي الذي ينتمي إليه. ولعل هذا تعلق آخر بقومية ضيقة، رغم أنها، كما رأينا ذلك، أعيد فيها النظر من خلال أفكار من الخارج.
ففي ما وراء الإيديولوجيا هذا والقيم المحلية، وأيضا في حيويته التعبيرية الأدبية، يكمن تقدم ما بعد الكولونيالي لهذه المرحلة التي سيضيق نفَسها بعد منع المجلة (1972) واعتقال أنشط أعضائها.
فباستخلاص الخطيبي لنتائج تخص هذه المرحلة التي شارك فيها في فترات معينة، سيقوم بتمديد هذا الانفتاح الما بعد كولونيالي، وإعادة النظر في آثار هذه الوطنية التقدمية. فباعتباره سوسيولوجي التكوين فإن فكره يلامس عدة مظاهر سوسيوسياسية وثقافية حول مستقبل المجتمعات المغاربية، لكن من منظور إعادة تحديد مكانتها في السياق العالمي. ولا يمكننا في هذه الدراسة سوى الاقتراب من الجهة التي تلامس المسألة الفرنكوفونية (اللغة والأدب). فوضعية اللغة العربية، باعتبارها لغة كتابة، ولو أنها عرفت تغيرا وتوترا أقل حدة بالنسبة للمرحلة الاستعمارية، فإنها بكل تأكيد عرفت تحولات أيضا. فالتغيرات التي حدثت في الأدب المغاربي المكتوب باللغة العربية تتطلب دراسة خاصة، على ضوء اللغات الوطنية الأم (العربية الدارجة والأمازيغية)، وأيضا الأجنبية المتصلة بها (الفرنسية والاسبانية خصوصا).
وإلى اليوم، حسب علمنا، لم يكن هناك تفكير نظري في المغرب العربي حول وضعية الفرنكوفونية ما بعد الكولونيالية في هذه المنطقة. وبالنظر إلى فكر هذا الكاتب حول المسألة التي نعالجها، وكما حددناها، سنقارب أفكاره المتعلقة بالفرانكوفونية (اللغة والأدب).
موقف الخطيبي:
موقف عبد الكبير الخطيبي في سياق «أنفاس»
سيقارب عبد الكبير الخطيبي بحذر وتيقظ في أعماله الأولى مسألة وضعية اللغات في المغرب، وبشكل عام في المغرب العربي. ففي أطروحته حول «الرواية المغاربية» اختصر مختلف مواقف الكتاب المغاربيين إزاء اللغات في المغرب العربي بعد الاستقلال. لقد تأثر بتكوينه السوسيولوجي الشديد التمركس في البداية، فكتب:
«اللغة تنقل التصورات الثقافية، وأنساق التفكير المتعلقة، في نطاق واسع، بالتكوين المدرسي وبالنماذج البيداغوجية، وبشروط اجتماعية معينة».
وردا على موقف محمد ديب الذي يرى في استعمال الفرنسية انفتاح الأدب الجزائري على العالمي حين قال:»بفضل الفرنسية نجتنب عقبة الإقليمية»، قال: «عالمية؟حقا! لكنها عالمية منظور إليها عبر زاوية خاصة، زاوية الثقافة الفرنسية». ويضيف: «التعرف على العالمية الحالية، على مستوى السياسة الدولية، يعني قبول علاقة القوة المحابية لثقافات المجتمعات المصنعة ولغاتها، ويعني المجازفة بتنمية الثقافات الوطنية على المستوى الرسمي؛ ويبدو أنه للوصول بقدم راسخة إلى العالمية فالكاتب محكوم عليه بإقامة الحوار مع بلده الأصلي».
وتأكد لنا على طول هذه المرحلة التجانس الفكري مع كتاب «أنفاس»؛ لكن منذ وضعية البداية هذه سنسجل الاحتياطات التي اتخذها عبد الكبير الخطيبي في التعبير: سنلاحظ العبارتين «في نطاق واسع»، «يبدو أنه». فعندما نبحث كيف أنه، فيما بعد، «أقام الحوار مع بلده»، لا يمكننا إلا أن نلاحظ تعزيز نسبية موقفه من اللغات بالمغرب، والابتعاد عن وجهة النظر الراديكالية المتمركسة، وفي الوقت نفسه عن القومية الشائعة.
. موقف عبد الكبير الخطيبي
بعد تجربة مجلة «أنفاس»
انطلق من وضعيته كمثقف، وقد حددها مرات عديدة، فابتدع عملا إبداعيا أدبيا وأبحاثا، من بداية السبعينيات إلى المرحلة الراهنة، يُعمِّق فيها هذا الحوار في اتجاه انفتاح اللغات والثقافات الوطنية من جهة على بعضها، ومن جهة أخرى على اللغات الأخرى. ففي مختلف المجالات التي يعالجها (التاريخ، الفلسفة، الاستطيقا، اللغة)، يركز على العلاقة بين التجربة المحلية والدولية، سواء تعلق الأمر بحياته الخاصة، أو بحياة مجتمعه.
وحول المسألة اللغوية، بشكل خاص، مثلما الشأن في المسائل الثقافية الأخرى، يعتمد عبد الكبير الخطيبي على مبادئ عقلانية وأخلاقية وجمالية تؤسس رؤيته. وعلى طول عمله يهيئ عبد الكبير الخطيبي هذه المبادئ شيئا فشيئا، راجعا في كل كتاباته لإعادة التفكير فيها، ولتدقيقها أو لربطها بأخرى؛ وسنذكر منها تلك التي تبدو لنا متواترة بما فيه الكفاية، وقد وضعها منذ الكتابات الأولى (خصوصا في أطروحة الدكتوراه حول «الرواية المغاربية» وفي كتاب»جرح الاسم الشخصي»، وتم تعميقها على طول سنوات الثمانينيات والتسعينيات)، حيث يبدو أنه بقي وفيا لها وظلت تضيء موقفه حول اللغة والأدب:
فمن المبادئ العقلانية «المسافة» و»التمييز»: فالصرامة الثقافية تقتضي مسافة ووضوحا دائما لتجنب طغيان الاعتباطية في الفكر.
ومن المبادئ الأخلاقية «الاهتمام بالذات» (يعني الأخذ بعين الاعتبار تفرده عوض إغراق شخصيته في غفلية الجماعة)؛ لكن باضطلاعه بغيرية مبنية على «الضيافة»، أي «إنصات للآخر باعتباره آخرا، الإنصات إليه لاستقباله في تفرده». وبهذه المبادئ نبتعد عن «الهوية العمياء» من جهة، وعن «الغيرية المستبدة» من جهة أخرى.
ومن المبادئ الجمالية العلاقة المبنية على معرفة الغير والكائنات والأشياء والأفكار التي تحرك الوجود: علاقة رغبة وحكمة، تختلف في درجتها وفي قيمتها حسب اتخاذها شكل الشغف أو العشق أو الصداقة؛ علاقة أيضا باللغات المتعددة التي تنسج لغة كل واحد في اللذة والألم.
هذه الاقتضاءات (العقلانية والأخلاقية والجمالية) التي تغرف من التراث العربي الإسلامي والعالمي، هي أساس فكر يساهم به في فضائه الوطني الخاص؛ وانطلاقا منه يسعى إلى إضاءة الظواهر السوسيوثقافية، ومن بينها مسألة اللغات والآداب.
فهذه المسألة تأخذ أهمية أساسية في عمل عبد الكبير الخطيبي؛ وهي وثيقة الصلة بمسألة الهوية وبالعلاقة بالغير؛ ولذلك عالجها في مختلف أعماله اللاحقة، في أبحاثه (خصوصا في «المغرب العربي المتعدد»، أو في «المغرب العربي أفقا للفكر»، وفي رواياته على حد سواء (خصوصا في «عشق اللسانين» و»صيف في ستوكهولم»).
ومظهران اثنان يبدوان لنا مهمين لتقديمهما في إطار الموضوع الذي نعالجه هما:
موقف عبد الكبير الخطيبي من المواقع المخصصة لمختلف اللغات المستعملة في المغرب؛
وموقفه من اللغات الراهنة ذات النزعة العالمية التي تتعايش في المغرب.
. موقفه من وضعية اللغات في المغرب
عكس الخطابات المتمركزة على الذات، والتي تريد اختزال اللغة في المغرب إلى لغة واحدة مهيمنة (العربية الكلاسيكية) أو نضالية (تمازيغت)، فعبد الكبير الخطيبي يطالب بالتعدد اللغوي باعتباره ثراء.
وهذا الموقف، على بداهته (ولا يمكنه إلا أن يفتح المغرب على حوار محلي ودولي خصب)، يميز عبد الكبير الخطيبي. وليس ذلك عنده مجرد موقف مبدئي، بل أتبعه بآثار عملية: فمع أنه يكتب بالفرنسية، قبل كل شيء، في كل كتاباته النقدية أو الجمالية، فإنه يدمج البعد الثقافي المتعدد للكائن المغربي في حوار دائم مع الثقافات الأخرى. فالكتاب والباحثون المغاربة، سواء أكان تكوينهم بالعربية أو بالفرنسية، حتى حين يدعون إلى الانفتاح على اللغات الأخرى، غالبا ما لا يدركون أعمالهم الملموسة سوى في شكل أحادي الجانب للغة المهيمنة.
. اللغة الفرنسية
اللغة الفرنسية لغة لها مدى عالمي أوسع من اللغة العربية. وبالإضافة إلى ذلك مازالت تتمتع الآن بحظوة أكيدة: فالكتاب الذين يكتبون بالعربية، حتى أولئك الأكثر انتقادا للفرنكوفونية، هم فخورون برؤية أعمالهم مترجمة إلى الفرنسية، أو مكافأةً بجائزة من السفارة الفرنسية، ويفخرون أكثر إذا كافأتهم مؤسسة موجودة في فرنسا ذاتها.
وليس لمثقف مثل عبد الكبير الخطيبي أي عقدة حول مكانة اللغة الفرنسية في المغرب. فهو يدرك أنها كانت لغة المستعمِر، لكنه يميز طرقا عدة للنظر إلى هذه اللغة:
– اللغة التي ساعدت على إخضاع الشعوب المسيطَر عليها لـ«فرنسا الكلاسيكية، وهي وحدة متوهَّمة بين لغة الحاشية وسلطة ربانية وقومية لاهوتية حية (…)، نموذج مقياس هوية الفرنسيين: نموذج فرنسا حول مركزية بلد ودولة ولغة ودين. وهذه المطابقة بين الذات ونفسها قد أرستها بشفرات القواعد الشكلية التي مازالت تحكمها بوصفها الهيكل الملكي للغة الفرنسية».
هذه الفرنسية التي رسمتها مختلف السلط قضت في طريقها على اللهجات الوطنية المحلية المختلفة، رغم أنها قاومت، سواء بإدماجها أو بحصولها على قنوات أخرى، بواسطة الشفوية. لكن حتى هذه الفرنسية ليست سوى تخييل، ما دامت قد دمرت وأعيد بناؤها من لدن مختلف الاتجاهات الثقافية التاريخية: «أصبحت اللغة الكلاسيكية إنسية مع عصر الأنوار؛ ولحقتها أولى الاضطرابات مع الثورة الشعرية في القرن التاسع عشر»، وذلك من خلال «التجارب النموذجية» لبودلير أو رامبو، شاعري حداثة اللغة الفرنسية، وإخراجها عن تربتها، لأنهما فتحاها على فضاءات الفرد والمجتمع الجديدة، بحركة منشقة، «متوحشة» (بالمعنى الذي عند عبد الكبير الخطيبي: المعنى الذي كان سائدا في نهاية القرن التاسع عشر: بمعنى هدم النظام القائم، وتشغيل طاقة (…) وتحقيق نظام جديد سيكون حامل إمكانات جديدة. وهذه التدابير المنعشة الخاصة لفتح لغة على ما وراء الحدود التي رسمت لها، وتواصلت في القرن العشرين بمختلف الاتجاهات التي عبرتها، ساهمت في عالمية ثقافة فرنسا. لكن هذه التدابير لم يكن لها أثر كاف في اللغة الرسمية، إذ ظلت موسومة بكلاسيكيتها، لأن هذه الفرنسية تكبت قوتها الشعرية، كما كبتت قبل ذلك بخمسة قرون تنوعها اللهجي، وفي الوقت نفسه، لم تقم معيارا من شأنه تنشيط حركة أدبية دولية».
ماذا عن فرنسية أخرى، تلك المشتركة في البلدان الفرنكوفونية؟
إنها، حسب عبد الكبير الخطيبي، فرنسية يجب أن تكون مفضلة باسم عالمية حقيقية، تلك التي تناسب، بشكل أحسن، نزوع فرنسا إلى أن تكون في الوقت نفسه أوروبية ومتوسطية وفرانكوفونية. هذه هي عناصر هويتها الثلاثة». هذا القدر يحتم عليها الانفتاح على التعدد اللغوي، إذا أرادت أن تضطلع بهوية في صيرورة، وأن تكون متناغمة مع التاريخ. لكن هناك سببا آخر ذا طبيعة دولية يجب أن يأخذها إلى انفتاح آخر، هو تقبل التنوع اللغوي لشعوب البلدان المسماة «فرانكوفونية». وباستحضار عبد الكبير الخطيبي الموقف الجريء نسبيا لـ «تييري دوبوصي (في كتابه «خطاب جديد حول عالمية اللغة الفرنسية») يعتبر أنه لكي تستطيع اللغة الفرنسية أن تكون لها أبعاد عالمية حقيقية، لابد من «إعادة توجيه الفرنكوفونية» توجيها يتأسس على مبدأين اثنين: «احترام التنوع اللهجي، واحترام عالمية متعددة، لها أقطاب كثيرة»؛ وهو ما يفترض:
1 – العدول عن علاقة أحادية الجانب وتراتبية بين دولة متمركزة، مهد الحضارة – فرنسا – والدول التابعة المحيطة المستقلة عن الأولى؛
2 – تطوير شراكة حقيقية مشيدة على احترام كل ثقافة، وخاضعة «لقوانين الضيافة في اللغة المشتركة نفسها» (أي الفرنسية). لكن ما هذه الفرنسية المشتركة؟
في رسالة موجهة سنة 1989 إلى ألان ديكو، الوزير المكلف بالفرنكوفونية آنذاك، اهتم الخطيبي بتدقيق الاختلاف بين اللغة الفرنسية (العابرة للأوطان) والانتساب إلى الدولة الفرنسية (الوطنية)، وفي الوقت نفسه ما يقصده من «الفرنكوفونية»؛ قال: «هناك خلط يحافظ المسؤولون الفرنسيون عليه حول مفهوم «الفرنكوفونية».ليس لأننا نتكلم اللغة الفرنسية ونكتب بها فنحن الى جانب فرنسا سياسيا، فهما نظامان يجب الفصل بينهما. فاللغة الفرنسية عابرة للأوطان ككل لغة». ومثل هذا التصور للفرنسية يقتضي رؤية جديدة للهوية، تلك التي وصفها بـ«الهوية في صيرورة»: «إذا قبلنا بفكرة هوية لم تعد ثابتة في الماضي أمكننا الوصول إلى مفهوم أكثر دقة، هو مفهوم الهوية في صيرورة، يعني أنها إرث من الآثار والكلمات والتقاليد المتحولة مع الزمن الذي كُتب لنا أن نعيشه، مع هؤلاء وأولئك. فالإنسان الذي لا يعيش سوى بفضل ماضيه المضيء هو مثل ميت محنط، ميت كأنه لم يعش أبدا».
فاللغة الفرنسية في تصورعبدالكبيرالخطيبي هي لغة تتحدد بالمرونة والقابلية لاستقبال اللهجات والثقافات الأخرى، لغة تنعشها طاقة متجددة. وعمل المزج هذا للغات التي يتغذى ويغتني بعضها من بعض من شأنه أن يواصل عمل التجديد الدينامي الذي أنجزته، على مستوى آخر، الاتجاهات السالفة الذكر. فبعض الكتاب الفرانكوفونيين، المغاربيين وغير المغاربيين، مثل جويس بالنسبة للإنجليزية، قد نجحوا في إبداعاتهم الفنية في بعث الروح، والإيقاع، وصدى الأصوات واللهجات المحلية، في الكتابة باللغة الفرنسية. لكن هذه «الضيافة» التواقة إلى العالمية عن طريق اللغة مازالت في بداياتها، لأن المؤسسات الرسمية التي تسهر على اللغة بالكاد بدأت تحس هذا التجديد الكوني للغة الفرنسية. ودون السقوط في التشاؤم، بالنسبة لهذه اللحظة، فـ»الواقع محدد (…) بالتراتبية، وبقوة هؤلاء وأولئك، وبتعددهم اللامتماثل، وغير المتجانس: منفى اللغات وذبول اللهجات وتشتتها، وحُبسة هؤلاء وكآبتهم، والصمت المجمَّد لأولئك، كل هذه الآلام هي أيضا جزء من الفرنكوفونية».
ولئن كان بإمكان الفرنسية أن تحتل موقعا متميزا على المستوى الثقافي (مع التحفظات المذكورة)، فإنها لا تستطيع أن تنافس الإنجليزية، لأنها كما قال عبد الكبير الخطيبي، تعاني من «التأخر الحاصل (…) في مواجهة الانتشار العالمي للإنجليزية الأمريكية»، وهو ما يفسر الانفتاح المتسارع للبلدان المغاربية (كغيرها من البلدان) على هذه اللغة «المعولمة» أكثر من غيرها.
. اللغة الفرنسية باعتبارها لغة الكتابة الأدبية
لا تضطلع الفرنسية بدورها العالمي الأكثر تقدما إلا بوصفها لغة أدبية؛ ويحيل عبد الكبير الخطيبي على الكتاب الفرنسيين الذين أعطوها بعدا عابرا للأوطان، وكانوا نموذجا للحوار الإنساني بين الأمم.
وباستحضاره لتجربته الشخصية، باعتباره كاتبا في لغة الأم الأخرى، يفسر كيف حررته هذه اللغة، بتبنيها له، من تجذر شخصي ومحلي مختزل.
وبكتابته بالفرنسية، لغة ليست لغة الأم، يأخذ عبد الكبير الخطيبي مسافة صحية لذاته ولمجتمعه، مسافة تمكنه من اكتشاف نفسه بشكل آخر، في هوية جديدة: «ينظر إلى هويته وهوية شعبه بطريقة أنطولوجية أدبية. فبقدر ما يتقدم في هذا الاتجاه يكتشف هذا الكاتب حسنات التغريب والاضطرابات التي يحدثها».
فاختيار اللغة الفرنسية لغة كتابة منبعه مجتمع يفضل الوضعية الجماعية والعلاقة التراتبية بين أفراده؛ ولذلك يجعل من شرعية الفرد كيانا مستقلا. وهذا عند عبد الكبير الخطيبي ولادة جديدة حقيقية: «الكتابة في لغة أجنبية طريقة لتشييد شرعية فعل الكتابة. فهذا الكاتب يقول أولا وقبل كل شيء: هذه ولادتي، وهذا اسمي، وهذا «حِماي»، وهذا قلبي الذي لا ينبض إلا لأجلكم». الكتابة في لغة أجنبية هي من قبيل الحب؛ تحدث فيها نفس تجربة الغيرية، بما في ذلك من علاقات الاتصال والانفصال، الانسجام واللاانسجام، المرح واللامرح، الذي نعيشه مع المحبوب: فهي فعل مقلق يقود إلى الخروج من الذات نحو لقاء الآخر: فـ»في الوقت نفسه الذي تقوم فيه الفرنسية بإعادة بنينة اللغة الأم تدخل في لعبة الافتتان: الافتتان بالكلمات المنتظمة الواحدة مع الأخرى في لغة الحب التي تحافظ على قواعد الرقة واللطافة». فهذه العلاقة المتفردة للغة الأم مع اللغة الفرنسية – التي سيسميها عبد الكبير الخطيبي بالازدواج اللغوي – وضحها في روايته «عشق اللسانين»، مختبر حقيقي في قالب تخييلي لتعدد التجارب اللعبية (Ludique) واللغوية، والأحاسيس والمشاعر، ثم اختبارها في علاقة مع اللغة (مع المرأة) الأجنبية.
وزيادة على إغناء الهوية الشخصية، فالكاتب يحقق حرية لا يستطيع أن يجدها في لغته الأم، لأن اللغة الأجنبية تسمح له بـ«الانفلات» وبالتحرر من هيمنة الجذور التي تمسك بكل لغة أم؛ وفي الوقت نفسه يحقق امتيازه بالنسبة أيضا للكاتب الفرنسي الذي هو من سلالة هذه اللغة. وهذا يسمح له بالوصول إلى المعنى العميق لعالمية اللغة: فـ»الازدواج اللغوي، سواء عاشه بطريقة فعالة أو مولدة للبس، فإنه يمنحه اكتشافا آخر. فيدرك عندئذ أن هذه اللغة لا هي اللغة الأم، ولا اللغة الأب؛ وباعتبارها تجربة كتابة فهي شخصية. لا شخصية؟ نعم، بمعنى مزدوج: فمن جهة ليست اللغة ملكا لأحد، ومن جهة أخرى عندما تتملكها مجموعة أو بلد مهيمن فعندئذ ينزع عنها قناع الممتلكات الرمزية التي تُبادلها». وتجربة الحرية هذه لا تخلو من إكراه؛ وعبد الكبير الخطيبي تعرض في الرواية، كما في البحث، إلى صعوبة الكتابة في اللغة الأجنبية: عذاب فعل الكتابة الذي لا يتسم بشكل تلقائي، بل هو عذاب اجتماعي أيضا، راجع إلى التفاوت الذي يعانيه بالنسبة لمجتمعه، كما بالنسبة لمجتمع أصحاب اللغة الأصليين. وهذا الاختلاف المزدوج هو الثمن الذي عليه أن يؤديه إن أراد أن يدخل في علاقة «الرغبة القاتلة» هذه مع لغة الكتابة التي تفتح له الطريق إلى التجربة «العابرة للأوطان» لكل كاتب. فالدخول إلى الأدب هو، بمعنى من المعاني، التضحية بالمحلي من أجل العالمي، كيفما كانت اللغة المتبناة. وبالنسبة لعبد الكبير الخطيبي، فبواسطة هذه اللغة يحاول الدخول إلى العالمية.
وفي الختام يمكننا القول إن هذه المرحلة كانت غنية على مستوى الأفكار الجمالية والسوسيوثقافية، إذا ما احتكمنا إلى أبحاث ومقالات المجلات، مثل مجلة «أنفاس». وعلى مستوى التخييل، فالمرحلة أيضا خصبة في مختلف الأجناس (الشعر، المسرح، القصص القصيرة، وعلى الأخص الرواية). وأهم الروائيين هم إدريس الشرايبي ومحمد خير الدين والطاهر بنجلون وعبد الكبير الخطيبي. فهؤلاء الروائيون سيسمحون للأدب المغربي أن يصبح معروفا، وغالبا مستحسنا خارج المغرب. وسيلعب الطاهر بنجلون على الخصوص دورا فعالا في شهرة الرواية المغربية على المستوى الدولي. ولئن لم نتوقف بما فيه الكفاية عند هؤلاء الكتاب الأساسيين فذلك أولا لأن أعمالهم معروفة بما فيه الكفاية بواسطة العديد من الإصدارات الوطنية والخارجية. ومن جهة أخرى، فالاسترجاع العام إطار أضيق من أن يبرز الأهمية الموضوعاتية والجمالية لإبداعهم. ومع ذلك نشير إلى الإصدارات التي قدمتهم.
فعبد الكبير الخطيبي أكثر إغراء في دراستنا لأنه قام بتأمل عميق حول اللغة والأدب والرواية. وفي التأمل الذي أتينا على عرضه باختصار نستوعب أثر أفكار هذا الكاتب، ليس فقط على جيله، ولكن أيضا على الأجيال اللاحقة في البلدان المغاربية كما في الخارج: نجد في هذا التأمل وعيه الحاد فيما يخص أهمية التعدد اللغوي في كل لغة، وعلى الخصوص في اللغة الأدبية. وأيضا نجده يبرز مسألة الهوية الفردية في فعل الكتابة، وتحقيق استقلالية الذات المفتوحة على التعدد الثقافي واللغوي؛ وهو موضوع لا يمكن إدراكه سوى في إطار تقبل الغيرية. وهذه الأفكار تطبع النصوص الروائية (وغير الروائية) إلى اليوم، وتقيم مبادئ الفرنكوفونية الحالية (وكان هو أحد روادها)، وتنبئ شيئا فشيئا بـ»العربوفونية» المتمخضة (الروائي محمد برادة مثلا).
وبحضور عبد الكبير الخطيبي، على الخصوص بفكره النقدي طيلة هذه المرحلة، سيتميز في العقود اللاحقة بإبداع أدبي ناضج ومنسجم مع تفكيره. وبالإضافة إلى ذلك سيكون له أثر على جيل المثقفين والروائيين الذين سيكتبون فيما بعد.
[ «مظاهر الرواية المغربية» منشورات زاوية، 2006، (ص: 28- 40).
عبد الله المدغري العلوي
كاتب وأكاديمي من المغرب