لا يتمتع عز الدين قنون، بملامح الوجوه البيضاء. تلك، ما لا تشير إلى تبادل المشاعر، في لحظة، في لحظات. لا يمتلك ، قنون، خطوط المهرج الرفيعة ولا العريضة، ولا حبال المهرجين. لا كوميديا ولا تراجيديا ، بحياته. لأن حياة المسرحي التونسي الشاب، ليست حياة ساذجة، تقسم الحياة بين الكوميديا والدراما.لطالما احتفظ بشيء من الأمل ، حين اختفى الأمل . وإذ اختفى الأخير ، لم يرفع الرجل الطارئ على تجربة المؤسسين المسرحيين التونسيين، حاجبيه. لم يقطب، على ما يردد من يريد أن يصف أحداً بالتجهم، في مراحل التجهم الأولى. طارئ، لا لأنه لم يمتلك أدوات مسرحه، ولا لأنه هبط بمظلة على تجربة المؤسسين في المسرح التونسي.
الفاضلان الجعايبي والجزيري، جليلة بكار، رجاء بن عمار ، توفيق الجبالي، محمد ادريس والآخرون. لأنه ، لم يهز كتفيه، استهجاناً، وهو يرى تجربة المسرح الثقافي، بآخر القصد، بعد عشرات التجارب، في فرقة « المسرح الجديد» وفرقة « فو» و« التياترو». لم يجد بتلك التجارب شققاً بعمارة، ولا الوقت الأخير في عطلة صيفية، إذ وجد فيها دعوة مستمرة إلى السعي، بعيداً من سيئي السمعة، أو من أردوا، لغاية أو هدف، تقديم أبطال التجارب الطليعية، كغجر أو كفوضويبن ، أصحاب سمعات سيئة.
لا برهان ولا نصيحة. هكذا ، وجد عز الدين قنون ، التجارب التونسية التأسيسية. لا حفل ولا كرنفال. لا آباء ولا أولاد. بلا ردات فعل ، اقترب المسرحي الخفر من التجارب ذات الطبقات الكثيرة في المرآة الواحدة. لم ينظر بالمرآة، لأنه اعتبر انعكاس الشكل فيها، بحيث يبدو الوجه وجه من رأى وجهه، لا من يراه، هو وجه المتأمل بالمرآة. لم يخدع نفسه، حين لم يشعر بالحرج ، بعد أن ترك الأطياف المومضة بالمرآة، بالمرآة. قرأ، بالمكتوب، تحت الأصباغ، لا بالأصباغ ، ولا بالأشكال المرسومة بالأصباغ ذاتها. الأمل، بلا ثمن. ردد عز الدين قنون، هذه الجملة الطيبة، وهو يقفز فوق الفيلل المسرحية، ذات المحاجر الكثيرة والشفاه المزمومة أو المنفرجة عن ابتسامات داكنة أو دافعة إلى إعالة الآخرين بالعرق المتصبب على جباه أصحابها، أو بالصور المخاتلة ، المتصاعدة من تلك الإبتسامات.
أمسك الرجل التجربة من معصمها. لم تأخذه الأضواء وألوان الحلى على المعصم. ما وجد بالأنوار المحلية أنوار فضائية. لم يمسحها من عينيه، لكي لا تغرق عيناه بعتمة كاملة أو شبه كاملة. هكذا ، وجد المسرحيون العرب والأفارقة ومسرحيو أوروبا، رجلاً ينفض مسرحاً بيدين عاريتين، تسبح على منصته وبفضائه، أميرات وجنيات وعرافات وسحرة ومتدربين على السحر، حتى يقدموا ما لا علاقة له بالسحر، المتنكر بالسحر. أبطال مسرح بثياب مسرح وبثياب حياة وعباءات ، لا علاقة لها بفلكلور العباءات على الخشبات العربية الأوروبية ذات الروح الإكزوتيكية. جاء الرجل ، من نار الموقد البعيدة، بظلال شخصيات مسرحه وأطيافها. أجواء غير اعتيادية، لأنه أجواء بلا تنكر، لا تُنكر على الآخرين، أوقاتهم الماضية، الغريبة والرائعة.
حطب بالموقد. ومضت نار تجاربه، ولم تخمد منذ أن اختار أن لا يقلد. منذ أن اختار، أن يشرع بالغناء الخاص، على المنصة الخاصة. لم يلحظ أحدٌ، أي اتهام للآخرين في جديته، أو بأصابعه المذوبة الأيام في لحظات على خشبات محشودة بلمساته الملونة، المتأنية لا البطيئة. الأبرز دفء أنفاس أبطال تجاربه، لأن عز الدين قنون، لم يقنع مسرحه بصخب الموسيقى المثيرة ولا السينوغرافيا ذات الخيالات الزجاجية ولا الثياب واللكنات السوداء أو الفحيح. لم تفق روعة إشتغاله ، على هويات الممثلين ولا مشاعرهم، تلك الخرائب النهائية، على جسد الكثير من التجارب المسرحية العربية. منبع مسرحه، الوجود بالمستقبل لا بالماضي، بدون انهماك بالترافع ضد الفراغ والموت الجسدي والمعنوي بالماضي. وبدون تساؤل ، دائم، عن الطرق الفضلى بكتابة المستقبل، بدون إنكار الجذور المتأصلة بالماضي. لا ترميم، هذه خلاصته. لا عيش بصورة نهائية، بزمن أو وقت. لأن مسرحه، أكد بدون تردد ، أن المشاعر هي منبع إبداع الفنان وغذاء روحه. من المستحيل خصي المشاعر في مسرح عز الدين قنون. راوده شعور حدسي بذلك. وجد بذلك، مرشده الأول والأخير. هنا، وجد أن كل جهد يبذله ، بتجاربه، ليهتدي إلى الدروس المضنية، لن يحدث إذا ما قشر ثمار المسرح ، إنما بزراعة الثمار هذه. لا قشور ، إذن. زراعة. هناك، على المنصات الفقيرة، وجد كرسيه الهزازة، غير أنه إذ وجد بالجلوس عليها، كل ما لا يمت للإثارة الإنسانية بصلة، هز كتفيه بل مبالاة لحركات الكرسي الجذاب، بمجازفة طالعة من حب المسرح الحقيقي، لا الشهرة ولا النجومية، ذات المشاعر المتنهدة وهي تنظر من فوق الأكتاف، إلى صور المسرح النهائية ، الآفلة.
لا موت للجسد. لا حيرة ، أمام الخلاصة هذه. لم يسيطر الإرهاق الذهني ، على أبطال مسرحه، وهو يقودهم بدروب الأحداث، على الأمور الأكثر عمقاً بالمسرح. أو حياة الجسد وحيويته، بحيث لا يضحي البطل فم البطل ، أو بطل على أبواب الفناء، ببدايات ، لا يخامرها الشك بصحة الذكريات. البطل ، بطل ضد البطل الإذاعي. جزم، بدون دوران. لأن الكلام، غالباً، ما جفف الأجساد على الخشبات العربية. لم يعد الجسد يروي، ما يصنعه جفاف الحلق، ولا الخيالات المطابقة للصور ، المطابقة للأمور الحياتية، الغائمة بالأحواض السوداء القديمة. موجات من المشاعر المرتبكة المشوشة، عند أبطال مسرح عز الدين قنون. ثم، موجات من الاشمئزاز، بعد قراءة المشاعر تلك. لا كبت بدرجة أولى. بدرجة ثانية، تلك الأنوار المتسللة، إلى أبدان الأبطال / الممثلين، هؤلاء من حولوا المساحات الحادة، الضيقة ، بالمغالطات القديمة، إلى غبارات رقيقة، لن تلبث ، تحت الأجواء الجديدة، أن تغوي الغبار بحيث يصير زنابق. الفضول ، الفضول ، الفضول، ما انفك يردد ، وهو يمزق الملفات القديمة، الضخمة. وهو يراجع الذكريات ، بالأحلام، على أرض الواقع. لأنه، بعيداً من التنويمات المغناطيسية ، الغابرة، أطعم سمكات المسرح الجديدات، المياه المتموجة لا كسرات الخبز الباقية، على طاولات نجاري المسرح أو حداديه. كوٌَن، أبطال مسرحه، تحت شمس ظهيرة التكوين، لا بليل أراد فيه الكثيرون، بناء حضور البطل بالقش أو بالألوان الباهتة. أو بناء المسرح بالحصى، أو الأعمدة الضخمة، بلحظات تسوية صف الحصى أو كنسها، بيد الآخرين، حين اقتعد العاملون بالمسرح، هذا، الكنبات المخملية، أو ذات الشعر القصير، بعد أن قصوا شعورها بالملل من التكرار.
استهلال ، ثم تقطيع، ثم تجميع، على دفع المشاهد بالقوى الخارقة للأبطال العاديين. كل شيء يغلي برفق وقوة، في الإناءات المليئة بزيوت الروح. خمرة مشبعة بالملح، هذا ليس وصفاً مبالغاً، لأبطال مسرح عز الدين قنون، بآثارهم الكبيرة. حل رموز ، لا بتأثيرات الخوف. بتأثيرات التسامح والحب والعشق، لتجارب بدت عصية على الفهم، وهي تروي ما يرويه الآخرون، بأشكال معاكسة. عبادة محضة، غير أن العاشق ليس أوديب هنا. المعرفة هي المعبد الجديد. تعريف التجربة، بقدر ما منحته التجربة من ألم ولذة. الألم أولاً. ذلك ، أن عز الدين قنون، بلعبه ألعاب الظاهر بالماهيات والماهيات بالظاهر، أضحى بداهة بقلب الروح الصوفية. أبلغُ معرفة اللامعرفة. لا يطلع النهار، على مسرح عز الدين قنون، إلا إذا حلقت عصافير التمثيل الخفية ، الوفيرة ، المتنوعة في فضائه. عصافير، لم تراودها الأحلام الواقعية، لم تراودها أحلام الواقعية، إلا من خلال أجنحة الواقعية الفريدة. الآداء، مع المؤدي، بأسراره الكثيرة، بقلب اللغة، فوق المواد، بدون الانسلاخ عن المواد هذه. لا جثث على منصات المسرحي الشاب. لأن مسرحه، ضد موت الممثل، ضد الموت. إذ أن الممثل، بدلالاته، يصبح أقوى من جسده في حياته الطبيعية. الجسد طفل الممثل، يربيه الأخير كما لو أنه يربي ولداً أنجبه معلولاً، ولا بد من علاج علله. العلة الشكلية والعلة الروحية وعلل العين والذوق واللمس والسمع. المنصة عند المسرحي ، نظام لا يتوقف نشاطه عن التحدي والابتكار والتجديد. نظام ضد النظام. نظام متحول، بناءٌ على الثقافات المحلية والعالمية، بدون أن يغترب بكل من الثقافتين. وكما هي الحال، لدى معظم المسرحيين المحسوبين بتونس، إنغمس مسرح قنون، بحرب على كل سلطات القمع، المصادرة للحريات الفكرية، المصادرة لانبساط الأقليات بالمجتمع التونسي الواقف عند نهاية الطريق، في نشر ثقافة الواحد الأغلب، لا الجماعة. ذلك، أن أبطال المسرح التونسي ، من الدعاة البارزين، لاحترام صداقات الآخرين وأفكارهم وحضاراتهم وأديانهم وفئاتهم. «اسماعيل باشا» لمحمد ادريس، من أبرز الأعمال ذات القابلية العالية الخاصة بالموضوع هذا. تعامل ، مستمر، مع سياسات البلد ، المخلفة الكوارث الاجتماعية والاقصادية والسياسية ، سواء بسواء. لم يقامر الأبطال هؤلاء، بكراماتهم ولا بكرامات الأقليات. الكرامة الإنسانية. لم يساوموا، لكي يحصلوا على الموارد أو يقتربوا من سبل الرعاية الصحية والتدريب والتعليم وفرص العمل والفرص الاقتصادية الأخرى. لعب عز الدين قنون دوره ، بالمجال هذا ، بطاقة مضاعفة، لردم الفجوات ، بين الذات والآخر، بين النفس والذات، بدون تقصد إيذاء أو إشعال حرب هامشية على الدولة المساهمة بإفقار الآخر. الدولة ، لا السلطة. اتضح ذلك ، يومياً، مع تواتر حضور الأشغال المسرحية، البلا خطابات أو صراخ ولهاث، خلف المكاسب غير المشروعة. لم يغب وجه قنون عن ذلك. لم يغب صوته. إذا غاب الصوت، حضر الوجه. وبالعكس. حدث الأمر، بوعي ، سياسي وتاريخي واجتماعي، بأن الأنظمة الشاملة، التوتاليتارية، لا تحترم الوعي بالاختلاف الإثني ولا تحترم الاختلاف ولا تقدر غناه وتاريخه بالتاريخ أو بالحاضر. لم يسترح قنون، ببدلة، بربطة عنق تلحس قميص المبدع الملون بهواء الروح المنساب من القلب إلى النوافذ القريبة والبعيدة. لعله ، لم يلحظ أصابع قدميه، وهو يقف على رؤوس الأصابع، خلف كل ما يستوجب التوبيخ، من أصحاب الأناقات الفائقة ، بالمكاتب الفخمة. لم يفرمل الرجل، تدهور صحته. علق الصحة على مشجب وهو ينبري ، ببشرته السمراء وشعره الفاحم، المتودد إلى الشيب برفق ولا ممانعة، وهو ينبري إلى نجدة المشاعر، في مساحاتها المغلقة، حتى تخرج من الضيق إلى السعة، حتى تخرج من المهمات الأولى إلى التبلور. متعب ، على مرض، كأن الريح تحته، بحسب المتنبي. أكله السكري وأمراض صداقة المسرح الأزلية. لا شيء إلا المسرح. لا وظيفة ولا كنبة. فرشاة أسنان بالصالات المتآكلة، لكي تمحو التآكل عن الجدران. كما حدث في صالة الحمراء. صالة متحشرجة الحضور ، عارية تماماً من التفاصيل، منحها قنون وجهها الجديد وعينيها وأنفها وأطرافها. شغَّل قلبه من جديد، وهو يرحب بأعطال القلب بقلبه. مكّونٌ، واثق. لم يلجأ إلى التخمين، إلا أمام الأجهزة الكاملة. بالغرفة المخصصة، بالندوة الفكرية، بواحدة من دورات مهرجان دمشق المسرحي الأخيرة، احتفظ الرجل بهيئته الكاملة. أخفى بالهيئة الكاملة، أخفى بالسطح، ما لن يؤكد بالتخمين. ما لم يؤكد ، إلا بالاستوثاق. لم يعد النظر حاراً. لم يعد السمع بالكثير من حياته السابقة. لم يعد قنون، يحتفظ، إلا بمودة المسرح والآخر كاملة. أصاب النقصان ، كل شيء فيه، إلا مودته للآخر، وشكل عازف الساكسفون المتأهب للنوم، بعد طول سهر.
لم يلحظ الأصدقاء بسهولة بتلك القاعة الأشبه بزجاجة الخمر الفارغة. لم يلتفت، إلى النداءات الكثيرة . ما شعر إلا بالقليل من الحراك، بالقاعة المحتشدة بمانيكانات المسرح. رجال مشنوقون بتواريخهم. الأجساد الساخنة، نادرة هنا. جسد عز الدين قنون، من الأجساد الساخنة هذه. سخونته، من حلمه المستمر بالمسرح، بعد مجموعة من الأعمال المسرحية، ذات الوقفات الجياشة. وقوفها أجشٌ. كل واحدة ، كناب فيل، لا يسعه الإختفاء ، حتى بالأحلام. الصفقة أولاً. صفقة بلا صفقة، ببداية الثمانينيات من القرن الماضي. ثم ، أكثر من شذرات في خطاب عشق المسرح، باستعارة أحد عناوين كتب رولان بارت. « ليلة ضائعة تعود»، « خرفني يعيشك» ، « الدالية» ، « قمره طاح» ،»المصعد» ، « طيور الليل»، « حب في الخريف»، « نواصي» ، « لنتكلم بصمت»، « رهائن». كل مسرحية استفاقة من نسيان المسرح المنسي بالبلدان الخاوية من هم المسرح . صورة شاملة، بدون رسائل، لأن المسرح عند قنون ، ليس ساعي بريد. بتغذية وتصويب، بدون تصويب. رجل مناجاة، يقيم ما يقيمه للآخر، بدون توافق. لأن عز، ابتعد عن كل المناورات، الهادفة إلى الدفاع عن مواقع وتحقيق مكاسب. مسرحه يتغير، لا لأنه يفسد. لأن عدم التغير بالمسرح عنده، يفسد المسرح. هذه مادة تفكيره الأولى. المسرح لغز، هذا صحيح. توقفت حياة عز الدين قنون ، على حل اللغز هذا. قوة في مقابل قوة. وضوح قوته من عدم خوفه ، من عدم تأثره بالخوف. المسرح وليمته، بلذته وألمه واسترساله وغيابه وحضوره ودموعه وجنونه وسقامه وتعبه وحاجاته الملحة وإرهاقه. أرهق المسرح قنون، أوقعه في مواطن خطره. المدهش، أنه لم يجد في ابتعاده عن تجربة الستينيات ، واقعه المتصادم، بين دنيا وآخرة. تجلى ، بالرغم من ذلك، ولم يتخل. إذ وجد بكل تجربة، عينة، استجابت لمقتضيات التعبئة الثقافية والسياسية، بتونس ، القائمة على ظاهرة التناقض بالخطاب، على تجربة بورقيبة، التحديثية، العلمانية، غير المتعلمنة بالكامل. لا علمانية كلية ، بتونس العلمانية. لأن العلمانية، لم تعتق شروطها مع الزمن والأجيال وتراكم الخبرات والممارسة. لم تحتم ولادته المتأخرة، عن عصر ولادة التجربة الجديدة، التعاطي مع التجربة من مفهوم نفعي. تعاطى معها ببراغماتية وواقعية وبأسلوب ، حقق ما عجز الآخرون عن تحقيقه. أي الفصل بين سلطة التجربة الماضية، المادية والروحية، وشروط تحققها. ما مكنه من التواصل السليم معها، والتميز عنها. مدخلٌ مغايرُ، لمسرحي جديد، لم تخذله طبائع المواد القديمة، غير المطابقة لعلاقته بدولة المسرح الحديثة، حتى باعتبارنا أنها ذات جوهر واحد، يتصف المتحلقون حوله بنسبية العلاقة به. لم يعتمد القياس. هكذا نجا. هكذا نجت تجربته. هكذا ، امتلكت قواها، بعيداً من تذبذب المنطق، حيث يتذبذب المنطق بالنزعات الحائرة بين التحديث وخيار العلمنة. لعب الرجل في مجاله المسرحي، بدون قطع مع الجهاز اللغوي للتجربة الآنفة، وبدون غرق بالجهاز هذا. بدا قنون، ذا جاذبية واضحة، أمام من لا يزال يتسيد الفضاء المسرحي بتونس، لأنه عمل على إيقاظ الكوامن النفسية، التحتية، من خلال تتالي مفاهيم مبادرات الحوار في مسرحه، بين الأديان والثقافات. بين الإنسان والآخر. بين الواحد وذاته، بكثافة وتوتر، لم تلبث أن شكلت دليلاً للآخرين. لا إمامة ولا خطابة في مسرح قنون. لا أجهزة تأطير أفكار، ولا توظيفات نشر قيم أو إعادة انتاج الأيديولوجيا السائدة. حوار وتسامح وعقلانية. نبذُ غلو. مساواة بين الجنسين، بدون ترجمة تشريعية ، لمدى توظيف ذلك بالحقل التربوي. لأن المرأة خصيصة مسرحه الكبرى، بخصائص المسرح المناهضة للدولنة الطاغية والشعائر الدينية المفرطة الحضور، مع هيمنة الأيديولوجيا القائمة على مراقبة الفضاء العام، عبر الأجهزة الأمنية والسياسية، من أجل تنقية الفضاء هذا ، من العلامات الغريبة.
لا شيء للتنجيم بحياة، من نظر إلى شجرة المسرح التونسي العالية، في حديقتها الواسعة، بدون أن يستخدم عصا طويلة، يهزها بها ، لكي تسقط ثمارها بيده. بيد، ذات صوت خافت، وذاكرة من أريج، قفز عز الدين قنون، فوق الذكريات التافهة والملامح المأسوية لمؤرخي التجارب المسرحية، إلى زمن الشجرة نفسه، بقدمين من لحم لا من خيزران. لم يسمح بتداخل الماضي الناقص، بالحاضر الملتمع بالسعادة المفتتنة بالإنجازات. قطف الثمار من أسفل. هكذا ، ترك القطف ، لمحترفي القطف، وهو يعتبر أن اللغة وحدها، تتضمن الصحيح والخاطئ والغامض. ولأنه هكذا، أراد انتزاع الحقائق من أصحاب الحقائق، على بسط حقيقة مشاعره، على طريق معرفة أمر ما يجب أن يقال، حيث إن ما يقال يصبح حقيقة إلى حين. أخذ الحقيقة من أصحابها، حقيقة الحين، لأن العلامات ليست براهين. تلميذ الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري، في « مركز الفن المسرحي» ، أضحى زميل الفاضلين. لأنه لم يترك نفسه، فريسة لهما. لم يجثُ على ركبتيه، أمام يقظتهما المشتركة. لم يشحب ولم تضطرب نفسه أمام ما لم ينفك عن استرجاعه، بهدف التحرر منه. أو تصريفه بأفعال جديدة. سكنته التجربة الكبرى كذكرى، بنفسه الولهانة بالمسرح. لم يؤثر شيء بشهوته للمسرح. حب صاعق. بلا خدع أولاً. أوجده ذلك، في « مركز الفن المسرحي. وإذ منح دبلوم المركز، لأنه لم يفقد عاطفته ولا قوته هناك، غادر إلى دبلومه الآخر ، حين التحق بالمسرح الوطني بستراسبورغ ، على الحدود الألمانية / الفرنسية، بإدارة جان بيار فانسان. أعاد بناء الماضي بحاضره ، بالحب الصاعق. إبن تجربة العام ١٩٧٦ بمركز الفن المسرحي، أبهرته صور أجساد الطلاب الفرنسيين الثائرين ، بالعام ١٩٦٨، بالقفز فوق الانعزال عن سفر الآخرين بتلك الإنتفاضة، المتمردة على الخضوع للصور المجهولة للدولة. استعاد تلك المشاهد البعيدة، بالأجساد القريبة. لم يقع بغرام جملة. وقع بغرام التركيب. أجساد بأوضاع، لا تزال تثير الاهتمام والتساؤل. صور طيبة، صور موجعة. صور فورية في خداع زمني، بعمليات مونتاج رائعة للمجهول. تلك واحدة من صفات الرجل. تلك واحدة من صفات مسرحه. أدرك ، أن شيئاً، يتأتى متوافقاً بدقة مع شهوته المسرحية. تلك بداية من بدايات لن تتوقف عن التكرار بالأطوار غير المستسلمة لأية أوضاع مبتذلة.
دبلوم محلي أولاً. ثانياً، دبلوم أوروبي، توأم دراسته في جامعة السوربون الثالثة. لم تستقر عينه على عدسة، إلا لتتسع العين وتتسع العدسة. انفتاح، كانفتاح الجرح، على الحركات الكثيفات للالتئام. ستارة تتمزق، بحضور المشاهد الجديدة. خروج على إطار اللوحة. لا لأنه صاحب سلوك سلس، ينحني أمام دبلومات البلاد، ثم يعود إلى سوية الحياة الشخصية، كما يراها. لأنه وجد بالدبلوم المحلي، ضرورة، من اتساع التجربة المحلية وانبساطها كتجربة، ذات وحدة. ذات تكامل بصري ، لا معنى لكل الأشياء، خارجها. ذلك أن التجربة المحلية التونسية، غيمت من ارتفاعها فوق الأشجار المحلية، بدون أن يفتها الاستماع إلى عصافير وبواشق ونسور التجربة الأوروبية والعالمية. لا سمات جامدة، بتجربة «المسرح الجديد». لا تشيؤ. انحاز عز الدين قنون إلى التجربة من زوايتها الإنسانية، الطالعة من تكوينها البيولوجي، غير المثقلة بحجمه. تجربة صدى بعيد ومرور لا سريع على الإمارات والمعالم الخاصة، بالحكايات السياسية لانتفاضة الطلاب بباريس وتجارب جان فيلار والمسرح الوطني الشعبي وتجربة مسرح الشمس الرائدة وتجربة بريشت، التاركة خيالاتها على كل الفسح المكشوفة في تجارب الشباب الجدد. قطَّر قنون، امتلاء التجارب المحلية بماء التجارب الطليعية العذب. ثم، بنى عليها تجربته الملغوزة أولاً. التجربة المسحوبة من روحها إلى روحه، مخيماً على تسلسلاتها وتتابعاتها، بعيداً من بعض أجزاء القسوة والكآبة المسيطرة على أجزاء منها. فيزياء أولية، لن تلبث أن تعيد تركيب حضورها الخفيف، على عصب، بنى حضوره على قلق هوسي بالممثل. عند قنون، الممثل نقطة العرض. البدء، الوسط والخاتمة. غناؤه، عنوانه، ألفته وسط الغربة الكبرى والاغترابات الصغرى الكثيرة. حبر العرض، قلمه، ريشة القلم. رؤيته. الدقة والنظام والهيكل الأول بالبناء الأخير. غير أن الرجل ، انتبه من جملة انتباهاته، إلى أن التخصيص، أدى غالباً إلى التزمير. بناء الزمر. لم يجد بالنتيجة هذه، لا الفكرة، قضية لعوباً. هكذا ، حبك عروضه، على على أسماء غير متبئرة. لم يشط عن ذلك أبداً. لذا، قدمت تجربته الكثير من الأسماء، لا أسماء قليلة، كما حدث بالكثير من التجارب التونسية. فرقة المسرح المثلث، كمثال، بنت حضورها على مربع أسماء. زهيرة بن عمار، كمال التواتي، فتحي الهداوي، خالد الكسوري. تجربة المسرح الجديد، انبنت على أسماء محددة. جليلة بكار ، توفيق الجبالي، محمد ادريس، الفاضلان الجعايبي والجزيري. لم تكتمل تجربة قنون، لم يكتمل إشراقها وحضورها ، إلا بالعديد من التحولات على صعيد الأسماء المشاركة. لعب أصحاب الأسماء بداخل التجربة وهم يلولبون بخارجها. إذ أن قنون، صاحب لهفة متأنية، سمحت له بقراءة تجربته كما أحب لا كما أحب لها الآخرون. جحافل بالمعنى الرمزي للكلمة، إذا ما قيست الأعداد العابرة بتجربته، بالأعداد المقيمة بتجارب الآخرين. الأهم، أنه لم يكفر أحداً. لم يصدر فتوى تكفير بأحد، لأنه أبعد عن ذاته فكرة القائد الأوحد، لتجربة فسيحة استبد حضورها بالكثير من البلدان والتجارب العربية.
رويداً ، رويداً، بنى قنون تجربته، على تصنع الأمشاط. كما تتابع الأسنان فيها. وجده العالم خفيفا»، شفافاً، إذ لم يعترض أو ينتفض على شيء، بالتصريح. أشغاله ، تصريحاته. كلامه مع نفسه ، تصريحاته. لم يدحض ولم يفحم، وهو يحفر في عصب التجربة، بسلاسة مشدودة، إلى التشعبات المسرحية القديمة، ذات الانحناءات المتفاوتة، المكتوبة بالألوان أو بالحبر الصيني. نصَّب الرجل الكثيرين بتجربة لم ينصبه عليها أحد، على استفهاماته وقلقه وحيراته المتراجعة والمتصاعدة، بالآن ذاته. لا يسرف الرجل في المحبة، لأنه لا يكره. لم يحرج أحداً بتقبل عشقه للناس والمسرح. سي عز الدين، سمع بآذان المحبين ورأى بأعينهم، حين أصاب سمعه وبصره ، ضعف السنوات الأخيرة. لا علاقة لسحر طيبته بسحر واقعيته السحرية بمسرحه. صمم الرجل مسرحاً، صمم تجربة، صمم حضوراً لا يستهان به، بدون رسومات أولية سريعة. لأن التصميم والتكوين، درجاته الأساسية بدون افتعال ولا زخرفة. حيله واسعة، لأن المسرحي ساحر نفسه، ثم ساحر مسرحه. لا تستقيم الصفة الثانية إلا باستقامة الصفة الأولى. مسرحه، بالمعنى هذا، من تراكم التجارب، تجاربه وتجارب الآخرين. تجارب المسرح بالتحديد.
لا يقرأ مسرح عز الدين قنون، إلا بتكيفاته مع مختلف البيئات والمناخات ، غير القادرة إلا على تجديد المساحات ، لا تحديدها. بتحولاتها المتنوعة، الثرية، الزاخرة بالثراء. دوام مسرحه من ابتعاده، عن نسائج المباني التقليدية. تغيراته على العمارة، برسوم لم تلبث تخالف القوانين، بصالح الممثل. لم يعد التمثيل ، عنده، تقديم صورة. خصائص جسد الممثل في مسرحه، من مكونات أبعد من مكونات عالم الميكانيكا. سلوك ، لا خصائص. ولو أن الخصائص، ترسم السلوك. فقدت الأجساد، هنا، الاستمرارية الخطية. أو الحضور بالكتابة وحدها. بالأدب. بالإنشاء. لا يرتفع الجسد بالمسرح، إلا على أمواج الطاقة والسلوك غير المتوقع، ما يضحي على خشبات الواقعية السحرية، جزيئات متوقعة بعالم غير متوقع. للحوارت تأثير. غير أن الممثل وحده، يبقيها حية، في فصاءات تتدروش فيها الأجساد حد الإقلاع وهي لا تزال ، بعد، على الأرض. المشهد الطبيعي، فوق طبيعي. الممثل الطبيعي، لا طبيعي. لأن آداءه، ثمرة بحث شديد التعقيد والدقة. ملهم ، من التزام صاحبه العمل الصارم على ذلك، بحيث يدمر الإلتزام الصارم التعقيدات ، بتوجهاتها العاكسة نظاماً، يجزم الكثيرون، إنه إنما يختصر كوناً، بقفزه فوق التعقيد ، إلى البساطة لا التبسيط. المسرح عند قنون، عملية إجتماعية/ ثقافية، لا تبقى حية إلا بتكامل العالمين بعالم واحد. لم يسيطر المعمار المسرحي، على عمليات البناء المستمرة في مسرح قنون. لأنه الأدرى، بأن ذلك، لن يؤدي إلا لإضعاف التصاعد بعمليات البناء. البناء ، عنده، غير منظور ، لأنه موجود بالهواء، يشكله المبدع في الهواء الملسوع بالإضاءة الطبيعية والصناعية. واحدة من عمليات المحافظة، على حياة الممثل المتوجة بالحياة، بالمسرح، خنق كل ما يقف بطريق حياة الممثل. هكذا، اقتصد كثيراً ، من كل ما لا يحافظ على الجودة الطبيعية ، للبيئة الاستثنائية للممثل ، على خشبة المسرح . الديكور ، كمثال. الإكسسورات ، كمثال آخر. كفاح ضد الإستعارة بالآداة. عشق ، مذهل ، لطبيعة الممثل. أفق المسرح الأول والأخير. قنون، ممثل. غير أنه نحات ، أوّل كل ادواته في حفر حضور الممثل على « ركحه». لعله استطاع أن يحرر الممثل من كل الاستعارات المادية الماضية للشكل. انحاز إلى التحولات لا الإستعارات. ذرة ذرة، واجه المشكلة، بمعرفة شبه مطلقة عن عالم اختاره ليعمل فيه ، على مدى عمره. اقتراب من نظرية التوحيد الكبرى. بحيث ، انكشف الممثل، بروحه، بلمعات عروقه ، تحت الأضواء الوامضة، بكل شيء إلا بالتلوث.
كل شيء يكمل الشيء الآخر في مسرح عزالدين قنون. مسرح قنون، كمسرح الجعايبي ورجاء بن عمار والجبالي. مسرحه يعرف به، وهو يعرف بمسرحه. اقتضى ذلك، قضاء حياة لا معذبة غير أنها ليست مريحة، بالطريق إلى الشكل الصلب لمسرحه. البرسونا، بحسب غوستاف يونغ، رصيد مسرحه الأول. رصيد مسرحه الأخير. البرسونا، بالمسرح، وخارج المسرح، بإقامة الألفة بين الداخل والخارج، بالمسرح. هكذا أقام عشرات ورش التكوين، لا بوجهين متعكسين، بوجه واحد ، على وجهي عملة واحدة. كل من زاره. في محترفاته التكوينية، وجد نفسه في موضوع الورشات ورسومها. رسم عز الدين قنون، الموزع على رسوم، طوافة بكل اتجاه. لم يتوقف الأخير ، عن التحول، عن التطور ، بين شهر وآخر، بين سنة وأخرى. صيرورة قدر خاص. لن يترك قنون تلاميذه على سطح التجربة. إذ يغوض بهم تحت الطبقات الجلدية لها. تموج أولي، ثم اهتزازات تمحو العالم المغلق، بصالح العالم المفتوح للمسرح، على الحياة والاختلاف والتوالي ، لا الثبات ولا الجماد ولا الموت ولا التكلس. اختلاف الذات عن الذات، قضت بتأليف ذوات مختلفة، غير أنها لا تنفك ترسم صور تجارب، متفاوتة، كثيفة، تؤكد بعضها وهي تخوض بالإختلاف إلى اللحظة الأخيرة.
لم يصب الرجل الطيب ، بخيبات أمل، من الحياة السياسية، بطرفيها . الدولة والأحزاب. لأنه، لاحظ باستمرار، تحالفات غريبة بينها، أثارت إستغرابه، غير أنها لم تحبطه. سخر من ذلك، بدون أن يصاب بالانعزال. أدان ذلك، وأسهم في فضحه، بدون أن يختار الحلول الأسهل بالإدانة والإسهام بالفضح. لم يراهن على دعم المؤسسة السياسية للمؤسسة الثقافية. ما دفعه إلى احتواء تسلط أحد وزراء الثقافة، على الثقافة، في مرحلة من المراحل. لم يتهكم عليه، إذ أجابه ببوست مقرؤ على صفحته الفايسبوكية. احتوى حراكه العدواني، حين اتهمه بغربته عن دوائر الأدب والثقافة. واجه نرجسية الوزير، برد من عيار ثقيل. « لا لقاء إلا بعد تتعرف بي». أنهى الرجل الطيب، اللطيف، تهويمات السياسي بالضربة القاضية. قام السياسي بالحركة المباشرة، واضطلع المثقف والفنان، بالحركة الجذرية، أمام هجرة السياسي، من دوائر الفن والثقافة. وجد بالثقافة والسياسة ، قطبي حياة، ضرورين للحياة ذاتها. هكذا، بان الطابع الإنساني العالي النبرة في مسرح عز الدين قنون، بإدراك الخاصية الثقافية من خلال دفع السياسة، بحضورها المباشر، إلى الانكماش في مسرحه.خيار أنقذه من السكتة الدماغية، بحث النفس على الإنتفاض على ما علق بالتجارب المسرحية، من انهزام طالع من ربط الثقافة نفسها بالسياسة، بعملية مزدوجة، جعلت الثقافة على حافة الهاوية باستمرار. ثقافة آيلة للسقوط، في ما ينقصها من شفافية وبعد إنساني والرؤية العميقة للأشياء. بقي الرجل أحد كبار المعارضين المدنيين للنظام. حدد المسافة بينه وبين النظام ، منذ اللحظة الأولى. حمى مسرحه ، بذلك، من شهية السياسة المفتوحة، على الاحتواء والتلسط.
مسرح عز الدين قنون، منظومة تقنيات ، غير أن الأمر، لم يعنِ، أن المسرح هذا، إذ ابتعد الوضع السياسي الموبؤ ، ابتعد عن السياسة، بطبائعها الأولى ولعناتها وكوارثها وسرعاتها المختلفة، المجبولة بالصراع. لم يسمح لسلطة أن تحوله إلى واحد من حراس دساتيرها. بقي بعيداً عن الوصايات السياسية، وهو في حال خلق وإبداع مندمجين بالحال السياسية العامة، بعيداً من السلطات الإدارية بالدولة والسلطات الحزبية. كل ما قدمه، قراءات عميقة، بأسباب النكوصات العربية والعنف ذي الطبقات العديدة بالدول العربية. طاف خلف مناخات المدن، لإدراك تأثيرات المدن على الإنسان، على طبائعه وهويته. هكذا ، أعاد الحياة إلى مسرح الحمراء. غيره ، حين صوره على حدود المهنة، بنقاطه المرجعية المعمارية. حرفي ومبدع. مخطط ومعمار. تقوم محاولاته على المحافظة على ميزات النسيج التقليدي وعلى عمارة الشوارع وعلى الكتل المبنية بالشوراع، حين رفع أعمدته الحرة، في مفرداته المسرحية، الحديثة. انصبت ، كل أعماله، بالبحث عن الهوية وعدم المراوحة بالدوران في حلقات بناء الذات وحدها. قفز، بذلك، فوق الفجوة الكبرى، بين المكتسبات الجديدة من أنماط وسلوكيات وثقافات خارجية، وبين القديم. أي السلطة الكلاسيكية للكلاسيك، على الحياة المسرحية. فوَّر ، الأمر، الأفكار الإبداعية، لدى أحد أفضل من يستطيع تقدير المواقف، وتقييم حياة الفرد في المجتمعات الكلية أو التقليدية، ذات النبرات المتخلفة ، الواضحة. أراح كل الإطراف بذلك. هو والأصدقاء والأعداء. ثم، أن قفزه فوق أزمة القيم، قفزٌ فوق الإحباط والنفور والسخط، على ارتباط البيروقراطية، إلى حدود كبرى ، بأزمة الثقة في المواذن وفي تصرفاته وسلوكياته، بالعالم العربي وبأفريقيا، على حد سواء. لأن معتركات الحياة الواقعية، بتونس، معتركات لا تقع بالتناقض، إذ تقرأ في حيوات المواطنين العرب والأفارقة، من موقع تونس العربي/ الأفريقي. ريشة الأسرة أوسع حركة، أكبر حجماً، من الريش الأخرى في معظم الدول العربية الأخرى.ذلك، أن تونس، لم تعاقب نفسها، لأنها وجدت نفسها على خطوط الطول والعرض العربية والأفريقية والأوروبية، كما لم يفعل السودان ( كمثال) ، وهو لا يزال يعاني من عدم القدرة على تسوية أوضاع أزماته. بالأخص، أزمة الهوية. عقَّد السوداني أزمة الهوية. قفز التونسي، فوق هذه الشبكة، بالقليل من العناء، إذ وجد في نفسه المتعددة، نفساً أممية. لا وقوع بالخطأ، بهذا المجال لدى التونسي. وجد بالشبكة، ميزة، لا عورة. ترسخت قيم علمه وتعليمه هنا. لم يعد مشوشاً، إذ أضحى الأمر عقداً فطرياً في حياته، بدل أزمة نفسية، على علاقة مباشرة بأزمة الهوية والبحث عنها. قوة على قوة. هكذا، بنى مسرح الحمراء، كمؤسسة ثقافية ، تونسية، عربية، أفريقية، وسط الساحات المكتظة بالدكاكين المحشودة بالسلع الصينية، الضاجة بالهامشيين، على تقاطع شارعي ألمانيا والجزيرة، وسط العاصمة. أضحت السينما القديمة، المعمَّرة، بالعام ١٩٢٢، صالة مسرح حديث، بعد أن هددتها العمرانيات المستجدة، بفقدان الصبغة الثقافية، كما حدث مع الكثير من الصروح الثقافية التونسية القديمة. من قلب، هذا البناء، المنشود ، دعا قنون أفراد أجيال البطالة والمعاناة والتمرد والغضب والتغيير، إلى القفز فوق السلبيات، بفتح « المركز العربي الأفريقي للتكوين والبحوث المسرحية». مركز بالمركز. لن يتردد عشرات الشباب المسرحيين، المئات على الأرجح، عن رواية، الاستفادة من خدماته بتكوين أو إعادة تكوين تجاربهم، في مختلف الاختصاصات المسرحية. لا يتمتع عز الدين قنون، بملامح الوجوه البيضاء. تلك، ما لا تشير إلى تبادل المشاعر، في لحظة، في لحظات. لا يمتلك ، قنون، خطوط المهرج الرفيعة ولا العريضة، ولا حبال المهرجين. لا كوميديا ولا تراجيديا ، بحياته. لأن حياة المسرحي التونسي الشاب، ليست حياة ساذجة، تقسم الحياة بين الكوميديا والدراما.لطالما احتفظ بشيء من الأمل ، حين اختفى الأمل . وإذ اختفى الأخير ، لم يرفع الرجل الطارئ على تجربة المؤسسين المسرحيين التونسيين، حاجبيه. لم يقطب، على ما يردد من يريد أن يصف أحداً بالتجهم، في مراحل التجهم الأولى. طارئ، لا لأنه لم يمتلك أدوات مسرحه، ولا لأنه هبط بمظلة على تجربة المؤسسين في المسرح التونسي.
الفاضلان الجعايبي والجزيري، جليلة بكار، رجاء بن عمار ، توفيق الجبالي، محمد ادريس والآخرون. لأنه ، لم يهز كتفيه، استهجاناً، وهو يرى تجربة المسرح الثقافي، بآخر القصد، بعد عشرات التجارب، في فرقة « المسرح الجديد» وفرقة « فو» و« التياترو». لم يجد بتلك التجارب شققاً بعمارة، ولا الوقت الأخير في عطلة صيفية، إذ وجد فيها دعوة مستمرة إلى السعي، بعيداً من سيئي السمعة، أو من أردوا، لغاية أو هدف، تقديم أبطال التجارب الطليعية، كغجر أو كفوضويبن ، أصحاب سمعات سيئة.
لا برهان ولا نصيحة. هكذا ، وجد عز الدين قنون ، التجارب التونسية التأسيسية. لا حفل ولا كرنفال. لا آباء ولا أولاد. بلا ردات فعل ، اقترب المسرحي الخفر من التجارب ذات الطبقات الكثيرة في المرآة الواحدة. لم ينظر بالمرآة، لأنه اعتبر انعكاس الشكل فيها، بحيث يبدو الوجه وجه من رأى وجهه، لا من يراه، هو وجه المتأمل بالمرآة. لم يخدع نفسه، حين لم يشعر بالحرج ، بعد أن ترك الأطياف المومضة بالمرآة، بالمرآة. قرأ، بالمكتوب، تحت الأصباغ، لا بالأصباغ ، ولا بالأشكال المرسومة بالأصباغ ذاتها. الأمل، بلا ثمن. ردد عز الدين قنون، هذه الجملة الطيبة، وهو يقفز فوق الفيلل المسرحية، ذات المحاجر الكثيرة والشفاه المزمومة أو المنفرجة عن ابتسامات داكنة أو دافعة إلى إعالة الآخرين بالعرق المتصبب على جباه أصحابها، أو بالصور المخاتلة ، المتصاعدة من تلك الإبتسامات.
أمسك الرجل التجربة من معصمها. لم تأخذه الأضواء وألوان الحلى على المعصم. ما وجد بالأنوار المحلية أنوار فضائية. لم يمسحها من عينيه، لكي لا تغرق عيناه بعتمة كاملة أو شبه كاملة. هكذا ، وجد المسرحيون العرب والأفارقة ومسرحيو أوروبا، رجلاً ينفض مسرحاً بيدين عاريتين، تسبح على منصته وبفضائه، أميرات وجنيات وعرافات وسحرة ومتدربين على السحر، حتى يقدموا ما لا علاقة له بالسحر، المتنكر بالسحر. أبطال مسرح بثياب مسرح وبثياب حياة وعباءات ، لا علاقة لها بفلكلور العباءات على الخشبات العربية الأوروبية ذات الروح الإكزوتيكية. جاء الرجل ، من نار الموقد البعيدة، بظلال شخصيات مسرحه وأطيافها. أجواء غير اعتيادية، لأنه أجواء بلا تنكر، لا تُنكر على الآخرين، أوقاتهم الماضية، الغريبة والرائعة.
حطب بالموقد. ومضت نار تجاربه، ولم تخمد منذ أن اختار أن لا يقلد. منذ أن اختار، أن يشرع بالغناء الخاص، على المنصة الخاصة. لم يلحظ أحدٌ، أي اتهام للآخرين في جديته، أو بأصابعه المذوبة الأيام في لحظات على خشبات محشودة بلمساته الملونة، المتأنية لا البطيئة. الأبرز دفء أنفاس أبطال تجاربه، لأن عز الدين قنون، لم يقنع مسرحه بصخب الموسيقى المثيرة ولا السينوغرافيا ذات الخيالات الزجاجية ولا الثياب واللكنات السوداء أو الفحيح. لم تفق روعة إشتغاله ، على هويات الممثلين ولا مشاعرهم، تلك الخرائب النهائية، على جسد الكثير من التجارب المسرحية العربية. منبع مسرحه، الوجود بالمستقبل لا بالماضي، بدون انهماك بالترافع ضد الفراغ والموت الجسدي والمعنوي بالماضي. وبدون تساؤل ، دائم، عن الطرق الفضلى بكتابة المستقبل، بدون إنكار الجذور المتأصلة بالماضي. لا ترميم، هذه خلاصته. لا عيش بصورة نهائية، بزمن أو وقت. لأن مسرحه، أكد بدون تردد ، أن المشاعر هي منبع إبداع الفنان وغذاء روحه. من المستحيل خصي المشاعر في مسرح عز الدين قنون. راوده شعور حدسي بذلك. وجد بذلك، مرشده الأول والأخير. هنا، وجد أن كل جهد يبذله ، بتجاربه، ليهتدي إلى الدروس المضنية، لن يحدث إذا ما قشر ثمار المسرح ، إنما بزراعة الثمار هذه. لا قشور ، إذن. زراعة. هناك، على المنصات الفقيرة، وجد كرسيه الهزازة، غير أنه إذ وجد بالجلوس عليها، كل ما لا يمت للإثارة الإنسانية بصلة، هز كتفيه بل مبالاة لحركات الكرسي الجذاب، بمجازفة طالعة من حب المسرح الحقيقي، لا الشهرة ولا النجومية، ذات المشاعر المتنهدة وهي تنظر من فوق الأكتاف، إلى صور المسرح النهائية ، الآفلة.
لا موت للجسد. لا حيرة ، أمام الخلاصة هذه. لم يسيطر الإرهاق الذهني ، على أبطال مسرحه، وهو يقودهم بدروب الأحداث، على الأمور الأكثر عمقاً بالمسرح. أو حياة الجسد وحيويته، بحيث لا يضحي البطل فم البطل ، أو بطل على أبواب الفناء، ببدايات ، لا يخامرها الشك بصحة الذكريات. البطل ، بطل ضد البطل الإذاعي. جزم، بدون دوران. لأن الكلام، غالباً، ما جفف الأجساد على الخشبات العربية. لم يعد الجسد يروي، ما يصنعه جفاف الحلق، ولا الخيالات المطابقة للصور ، المطابقة للأمور الحياتية، الغائمة بالأحواض السوداء القديمة. موجات من المشاعر المرتبكة المشوشة، عند أبطال مسرح عز الدين قنون. ثم، موجات من الاشمئزاز، بعد قراءة المشاعر تلك. لا كبت بدرجة أولى. بدرجة ثانية، تلك الأنوار المتسللة، إلى أبدان الأبطال / الممثلين، هؤلاء من حولوا المساحات الحادة، الضيقة ، بالمغالطات القديمة، إلى غبارات رقيقة، لن تلبث ، تحت الأجواء الجديدة، أن تغوي الغبار بحيث يصير زنابق. الفضول ، الفضول ، الفضول، ما انفك يردد ، وهو يمزق الملفات القديمة، الضخمة. وهو يراجع الذكريات ، بالأحلام، على أرض الواقع. لأنه، بعيداً من التنويمات المغناطيسية ، الغابرة، أطعم سمكات المسرح الجديدات، المياه المتموجة لا كسرات الخبز الباقية، على طاولات نجاري المسرح أو حداديه. كوٌَن، أبطال مسرحه، تحت شمس ظهيرة التكوين، لا بليل أراد فيه الكثيرون، بناء حضور البطل بالقش أو بالألوان الباهتة. أو بناء المسرح بالحصى، أو الأعمدة الضخمة، بلحظات تسوية صف الحصى أو كنسها، بيد الآخرين، حين اقتعد العاملون بالمسرح، هذا، الكنبات المخملية، أو ذات الشعر القصير، بعد أن قصوا شعورها بالملل من التكرار.
استهلال ، ثم تقطيع، ثم تجميع، على دفع المشاهد بالقوى الخارقة للأبطال العاديين. كل شيء يغلي برفق وقوة، في الإناءات المليئة بزيوت الروح. خمرة مشبعة بالملح، هذا ليس وصفاً مبالغاً، لأبطال مسرح عز الدين قنون، بآثارهم الكبيرة. حل رموز ، لا بتأثيرات الخوف. بتأثيرات التسامح والحب والعشق، لتجارب بدت عصية على الفهم، وهي تروي ما يرويه الآخرون، بأشكال معاكسة. عبادة محضة، غير أن العاشق ليس أوديب هنا. المعرفة هي المعبد الجديد. تعريف التجربة، بقدر ما منحته التجربة من ألم ولذة. الألم أولاً. ذلك ، أن عز الدين قنون، بلعبه ألعاب الظاهر بالماهيات والماهيات بالظاهر، أضحى بداهة بقلب الروح الصوفية. أبلغُ معرفة اللامعرفة. لا يطلع النهار، على مسرح عز الدين قنون، إلا إذا حلقت عصافير التمثيل الخفية ، الوفيرة ، المتنوعة في فضائه. عصافير، لم تراودها الأحلام الواقعية، لم تراودها أحلام الواقعية، إلا من خلال أجنحة الواقعية الفريدة. الآداء، مع المؤدي، بأسراره الكثيرة، بقلب اللغة، فوق المواد، بدون الانسلاخ عن المواد هذه. لا جثث على منصات المسرحي الشاب. لأن مسرحه، ضد موت الممثل، ضد الموت. إذ أن الممثل، بدلالاته، يصبح أقوى من جسده في حياته الطبيعية. الجسد طفل الممثل، يربيه الأخير كما لو أنه يربي ولداً أنجبه معلولاً، ولا بد من علاج علله. العلة الشكلية والعلة الروحية وعلل العين والذوق واللمس والسمع. المنصة عند المسرحي ، نظام لا يتوقف نشاطه عن التحدي والابتكار والتجديد. نظام ضد النظام. نظام متحول، بناءٌ على الثقافات المحلية والعالمية، بدون أن يغترب بكل من الثقافتين. وكما هي الحال، لدى معظم المسرحيين المحسوبين بتونس، إنغمس مسرح قنون، بحرب على كل سلطات القمع، المصادرة للحريات الفكرية، المصادرة لانبساط الأقليات بالمجتمع التونسي الواقف عند نهاية الطريق، في نشر ثقافة الواحد الأغلب، لا الجماعة. ذلك، أن أبطال المسرح التونسي ، من الدعاة البارزين، لاحترام صداقات الآخرين وأفكارهم وحضاراتهم وأديانهم وفئاتهم. «اسماعيل باشا» لمحمد ادريس، من أبرز الأعمال ذات القابلية العالية الخاصة بالموضوع هذا. تعامل ، مستمر، مع سياسات البلد ، المخلفة الكوارث الاجتماعية والاقصادية والسياسية ، سواء بسواء. لم يقامر الأبطال هؤلاء، بكراماتهم ولا بكرامات الأقليات. الكرامة الإنسانية. لم يساوموا، لكي يحصلوا على الموارد أو يقتربوا من سبل الرعاية الصحية والتدريب والتعليم وفرص العمل والفرص الاقتصادية الأخرى. لعب عز الدين قنون دوره ، بالمجال هذا ، بطاقة مضاعفة، لردم الفجوات ، بين الذات والآخر، بين النفس والذات، بدون تقصد إيذاء أو إشعال حرب هامشية على الدولة المساهمة بإفقار الآخر. الدولة ، لا السلطة. اتضح ذلك ، يومياً، مع تواتر حضور الأشغال المسرحية، البلا خطابات أو صراخ ولهاث، خلف المكاسب غير المشروعة. لم يغب وجه قنون عن ذلك. لم يغب صوته. إذا غاب الصوت، حضر الوجه. وبالعكس. حدث الأمر، بوعي ، سياسي وتاريخي واجتماعي، بأن الأنظمة الشاملة، التوتاليتارية، لا تحترم الوعي بالاختلاف الإثني ولا تحترم الاختلاف ولا تقدر غناه وتاريخه بالتاريخ أو بالحاضر. لم يسترح قنون، ببدلة، بربطة عنق تلحس قميص المبدع الملون بهواء الروح المنساب من القلب إلى النوافذ القريبة والبعيدة. لعله ، لم يلحظ أصابع قدميه، وهو يقف على رؤوس الأصابع، خلف كل ما يستوجب التوبيخ، من أصحاب الأناقات الفائقة ، بالمكاتب الفخمة. لم يفرمل الرجل، تدهور صحته. علق الصحة على مشجب وهو ينبري ، ببشرته السمراء وشعره الفاحم، المتودد إلى الشيب برفق ولا ممانعة، وهو ينبري إلى نجدة المشاعر، في مساحاتها المغلقة، حتى تخرج من الضيق إلى السعة، حتى تخرج من المهمات الأولى إلى التبلور. متعب ، على مرض، كأن الريح تحته، بحسب المتنبي. أكله السكري وأمراض صداقة المسرح الأزلية. لا شيء إلا المسرح. لا وظيفة ولا كنبة. فرشاة أسنان بالصالات المتآكلة، لكي تمحو التآكل عن الجدران. كما حدث في صالة الحمراء. صالة متحشرجة الحضور ، عارية تماماً من التفاصيل، منحها قنون وجهها الجديد وعينيها وأنفها وأطرافها. شغَّل قلبه من جديد، وهو يرحب بأعطال القلب بقلبه. مكّونٌ، واثق. لم يلجأ إلى التخمين، إلا أمام الأجهزة الكاملة. بالغرفة المخصصة، بالندوة الفكرية، بواحدة من دورات مهرجان دمشق المسرحي الأخيرة، احتفظ الرجل بهيئته الكاملة. أخفى بالهيئة الكاملة، أخفى بالسطح، ما لن يؤكد بالتخمين. ما لم يؤكد ، إلا بالاستوثاق. لم يعد النظر حاراً. لم يعد السمع بالكثير من حياته السابقة. لم يعد قنون، يحتفظ، إلا بمودة المسرح والآخر كاملة. أصاب النقصان ، كل شيء فيه، إلا مودته للآخر، وشكل عازف الساكسفون المتأهب للنوم، بعد طول سهر.
لم يلحظ الأصدقاء بسهولة بتلك القاعة الأشبه بزجاجة الخمر الفارغة. لم يلتفت، إلى النداءات الكثيرة . ما شعر إلا بالقليل من الحراك، بالقاعة المحتشدة بمانيكانات المسرح. رجال مشنوقون بتواريخهم. الأجساد الساخنة، نادرة هنا. جسد عز الدين قنون، من الأجساد الساخنة هذه. سخونته، من حلمه المستمر بالمسرح، بعد مجموعة من الأعمال المسرحية، ذات الوقفات الجياشة. وقوفها أجشٌ. كل واحدة ، كناب فيل، لا يسعه الإختفاء ، حتى بالأحلام. الصفقة أولاً. صفقة بلا صفقة، ببداية الثمانينيات من القرن الماضي. ثم ، أكثر من شذرات في خطاب عشق المسرح، باستعارة أحد عناوين كتب رولان بارت. « ليلة ضائعة تعود»، « خرفني يعيشك» ، « الدالية» ، « قمره طاح» ،»المصعد» ، « طيور الليل»، « حب في الخريف»، « نواصي» ، « لنتكلم بصمت»، « رهائن». كل مسرحية استفاقة من نسيان المسرح المنسي بالبلدان الخاوية من هم المسرح . صورة شاملة، بدون رسائل، لأن المسرح عند قنون ، ليس ساعي بريد. بتغذية وتصويب، بدون تصويب. رجل مناجاة، يقيم ما يقيمه للآخر، بدون توافق. لأن عز، ابتعد عن كل المناورات، الهادفة إلى الدفاع عن مواقع وتحقيق مكاسب. مسرحه يتغير، لا لأنه يفسد. لأن عدم التغير بالمسرح عنده، يفسد المسرح. هذه مادة تفكيره الأولى. المسرح لغز، هذا صحيح. توقفت حياة عز الدين قنون ، على حل اللغز هذا. قوة في مقابل قوة. وضوح قوته من عدم خوفه ، من عدم تأثره بالخوف. المسرح وليمته، بلذته وألمه واسترساله وغيابه وحضوره ودموعه وجنونه وسقامه وتعبه وحاجاته الملحة وإرهاقه. أرهق المسرح قنون، أوقعه في مواطن خطره. المدهش، أنه لم يجد في ابتعاده عن تجربة الستينيات ، واقعه المتصادم، بين دنيا وآخرة. تجلى ، بالرغم من ذلك، ولم يتخل. إذ وجد بكل تجربة، عينة، استجابت لمقتضيات التعبئة الثقافية والسياسية، بتونس ، القائمة على ظاهرة التناقض بالخطاب، على تجربة بورقيبة، التحديثية، العلمانية، غير المتعلمنة بالكامل. لا علمانية كلية ، بتونس العلمانية. لأن العلمانية، لم تعتق شروطها مع الزمن والأجيال وتراكم الخبرات والممارسة. لم تحتم ولادته المتأخرة، عن عصر ولادة التجربة الجديدة، التعاطي مع التجربة من مفهوم نفعي. تعاطى معها ببراغماتية وواقعية وبأسلوب ، حقق ما عجز الآخرون عن تحقيقه. أي الفصل بين سلطة التجربة الماضية، المادية والروحية، وشروط تحققها. ما مكنه من التواصل السليم معها، والتميز عنها. مدخلٌ مغايرُ، لمسرحي جديد، لم تخذله طبائع المواد القديمة، غير المطابقة لعلاقته بدولة المسرح الحديثة، حتى باعتبارنا أنها ذات جوهر واحد، يتصف المتحلقون حوله بنسبية العلاقة به. لم يعتمد القياس. هكذا نجا. هكذا نجت تجربته. هكذا ، امتلكت قواها، بعيداً من تذبذب المنطق، حيث يتذبذب المنطق بالنزعات الحائرة بين التحديث وخيار العلمنة. لعب الرجل في مجاله المسرحي، بدون قطع مع الجهاز اللغوي للتجربة الآنفة، وبدون غرق بالجهاز هذا. بدا قنون، ذا جاذبية واضحة، أمام من لا يزال يتسيد الفضاء المسرحي بتونس، لأنه عمل على إيقاظ الكوامن النفسية، التحتية، من خلال تتالي مفاهيم مبادرات الحوار في مسرحه، بين الأديان والثقافات. بين الإنسان والآخر. بين الواحد وذاته، بكثافة وتوتر، لم تلبث أن شكلت دليلاً للآخرين. لا إمامة ولا خطابة في مسرح قنون. لا أجهزة تأطير أفكار، ولا توظيفات نشر قيم أو إعادة انتاج الأيديولوجيا السائدة. حوار وتسامح وعقلانية. نبذُ غلو. مساواة بين الجنسين، بدون ترجمة تشريعية ، لمدى توظيف ذلك بالحقل التربوي. لأن المرأة خصيصة مسرحه الكبرى، بخصائص المسرح المناهضة للدولنة الطاغية والشعائر الدينية المفرطة الحضور، مع هيمنة الأيديولوجيا القائمة على مراقبة الفضاء العام، عبر الأجهزة الأمنية والسياسية، من أجل تنقية الفضاء هذا ، من العلامات الغريبة.
لا شيء للتنجيم بحياة، من نظر إلى شجرة المسرح التونسي العالية، في حديقتها الواسعة، بدون أن يستخدم عصا طويلة، يهزها بها ، لكي تسقط ثمارها بيده. بيد، ذات صوت خافت، وذاكرة من أريج، قفز عز الدين قنون، فوق الذكريات التافهة والملامح المأسوية لمؤرخي التجارب المسرحية، إلى زمن الشجرة نفسه، بقدمين من لحم لا من خيزران. لم يسمح بتداخل الماضي الناقص، بالحاضر الملتمع بالسعادة المفتتنة بالإنجازات. قطف الثمار من أسفل. هكذا ، ترك القطف ، لمحترفي القطف، وهو يعتبر أن اللغة وحدها، تتضمن الصحيح والخاطئ والغامض. ولأنه هكذا، أراد انتزاع الحقائق من أصحاب الحقائق، على بسط حقيقة مشاعره، على طريق معرفة أمر ما يجب أن يقال، حيث إن ما يقال يصبح حقيقة إلى حين. أخذ الحقيقة من أصحابها، حقيقة الحين، لأن العلامات ليست براهين. تلميذ الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري، في « مركز الفن المسرحي» ، أضحى زميل الفاضلين. لأنه لم يترك نفسه، فريسة لهما. لم يجثُ على ركبتيه، أمام يقظتهما المشتركة. لم يشحب ولم تضطرب نفسه أمام ما لم ينفك عن استرجاعه، بهدف التحرر منه. أو تصريفه بأفعال جديدة. سكنته التجربة الكبرى كذكرى، بنفسه الولهانة بالمسرح. لم يؤثر شيء بشهوته للمسرح. حب صاعق. بلا خدع أولاً. أوجده ذلك، في « مركز الفن المسرحي. وإذ منح دبلوم المركز، لأنه لم يفقد عاطفته ولا قوته هناك، غادر إلى دبلومه الآخر ، حين التحق بالمسرح الوطني بستراسبورغ ، على الحدود الألمانية / الفرنسية، بإدارة جان بيار فانسان. أعاد بناء الماضي بحاضره ، بالحب الصاعق. إبن تجربة العام ١٩٧٦ بمركز الفن المسرحي، أبهرته صور أجساد الطلاب الفرنسيين الثائرين ، بالعام ١٩٦٨، بالقفز فوق الانعزال عن سفر الآخرين بتلك الإنتفاضة، المتمردة على الخضوع للصور المجهولة للدولة. استعاد تلك المشاهد البعيدة، بالأجساد القريبة. لم يقع بغرام جملة. وقع بغرام التركيب. أجساد بأوضاع، لا تزال تثير الاهتمام والتساؤل. صور طيبة، صور موجعة. صور فورية في خداع زمني، بعمليات مونتاج رائعة للمجهول. تلك واحدة من صفات الرجل. تلك واحدة من صفات مسرحه. أدرك ، أن شيئاً، يتأتى متوافقاً بدقة مع شهوته المسرحية. تلك بداية من بدايات لن تتوقف عن التكرار بالأطوار غير المستسلمة لأية أوضاع مبتذلة.
دبلوم محلي أولاً. ثانياً، دبلوم أوروبي، توأم دراسته في جامعة السوربون الثالثة. لم تستقر عينه على عدسة، إلا لتتسع العين وتتسع العدسة. انفتاح، كانفتاح الجرح، على الحركات الكثيفات للالتئام. ستارة تتمزق، بحضور المشاهد الجديدة. خروج على إطار اللوحة. لا لأنه صاحب سلوك سلس، ينحني أمام دبلومات البلاد، ثم يعود إلى سوية الحياة الشخصية، كما يراها. لأنه وجد بالدبلوم المحلي، ضرورة، من اتساع التجربة المحلية وانبساطها كتجربة، ذات وحدة. ذات تكامل بصري ، لا معنى لكل الأشياء، خارجها. ذلك أن التجربة المحلية التونسية، غيمت من ارتفاعها فوق الأشجار المحلية، بدون أن يفتها الاستماع إلى عصافير وبواشق ونسور التجربة الأوروبية والعالمية. لا سمات جامدة، بتجربة «المسرح الجديد». لا تشيؤ. انحاز عز الدين قنون إلى التجربة من زوايتها الإنسانية، الطالعة من تكوينها البيولوجي، غير المثقلة بحجمه. تجربة صدى بعيد ومرور لا سريع على الإمارات والمعالم الخاصة، بالحكايات السياسية لانتفاضة الطلاب بباريس وتجارب جان فيلار والمسرح الوطني الشعبي وتجربة مسرح الشمس الرائدة وتجربة بريشت، التاركة خيالاتها على كل الفسح المكشوفة في تجارب الشباب الجدد. قطَّر قنون، امتلاء التجارب المحلية بماء التجارب الطليعية العذب. ثم، بنى عليها تجربته الملغوزة أولاً. التجربة المسحوبة من روحها إلى روحه، مخيماً على تسلسلاتها وتتابعاتها، بعيداً من بعض أجزاء القسوة والكآبة المسيطرة على أجزاء منها. فيزياء أولية، لن تلبث أن تعيد تركيب حضورها الخفيف، على عصب، بنى حضوره على قلق هوسي بالممثل. عند قنون، الممثل نقطة العرض. البدء، الوسط والخاتمة. غناؤه، عنوانه، ألفته وسط الغربة الكبرى والاغترابات الصغرى الكثيرة. حبر العرض، قلمه، ريشة القلم. رؤيته. الدقة والنظام والهيكل الأول بالبناء الأخير. غير أن الرجل ، انتبه من جملة انتباهاته، إلى أن التخصيص، أدى غالباً إلى التزمير. بناء الزمر. لم يجد بالنتيجة هذه، لا الفكرة، قضية لعوباً. هكذا ، حبك عروضه، على على أسماء غير متبئرة. لم يشط عن ذلك أبداً. لذا، قدمت تجربته الكثير من الأسماء، لا أسماء قليلة، كما حدث بالكثير من التجارب التونسية. فرقة المسرح المثلث، كمثال، بنت حضورها على مربع أسماء. زهيرة بن عمار، كمال التواتي، فتحي الهداوي، خالد الكسوري. تجربة المسرح الجديد، انبنت على أسماء محددة. جليلة بكار ، توفيق الجبالي، محمد ادريس، الفاضلان الجعايبي والجزيري. لم تكتمل تجربة قنون، لم يكتمل إشراقها وحضورها ، إلا بالعديد من التحولات على صعيد الأسماء المشاركة. لعب أصحاب الأسماء بداخل التجربة وهم يلولبون بخارجها. إذ أن قنون، صاحب لهفة متأنية، سمحت له بقراءة تجربته كما أحب لا كما أحب لها الآخرون. جحافل بالمعنى الرمزي للكلمة، إذا ما قيست الأعداد العابرة بتجربته، بالأعداد المقيمة بتجارب الآخرين. الأهم، أنه لم يكفر أحداً. لم يصدر فتوى تكفير بأحد، لأنه أبعد عن ذاته فكرة القائد الأوحد، لتجربة فسيحة استبد حضورها بالكثير من البلدان والتجارب العربية.
رويداً ، رويداً، بنى قنون تجربته، على تصنع الأمشاط. كما تتابع الأسنان فيها. وجده العالم خفيفا»، شفافاً، إذ لم يعترض أو ينتفض على شيء، بالتصريح. أشغاله ، تصريحاته. كلامه مع نفسه ، تصريحاته. لم يدحض ولم يفحم، وهو يحفر في عصب التجربة، بسلاسة مشدودة، إلى التشعبات المسرحية القديمة، ذات الانحناءات المتفاوتة، المكتوبة بالألوان أو بالحبر الصيني. نصَّب الرجل الكثيرين بتجربة لم ينصبه عليها أحد، على استفهاماته وقلقه وحيراته المتراجعة والمتصاعدة، بالآن ذاته. لا يسرف الرجل في المحبة، لأنه لا يكره. لم يحرج أحداً بتقبل عشقه للناس والمسرح. سي عز الدين، سمع بآذان المحبين ورأى بأعينهم، حين أصاب سمعه وبصره ، ضعف السنوات الأخيرة. لا علاقة لسحر طيبته بسحر واقعيته السحرية بمسرحه. صمم الرجل مسرحاً، صمم تجربة، صمم حضوراً لا يستهان به، بدون رسومات أولية سريعة. لأن التصميم والتكوين، درجاته الأساسية بدون افتعال ولا زخرفة. حيله واسعة، لأن المسرحي ساحر نفسه، ثم ساحر مسرحه. لا تستقيم الصفة الثانية إلا باستقامة الصفة الأولى. مسرحه، بالمعنى هذا، من تراكم التجارب، تجاربه وتجارب الآخرين. تجارب المسرح بالتحديد.
لا يقرأ مسرح عز الدين قنون، إلا بتكيفاته مع مختلف البيئات والمناخات ، غير القادرة إلا على تجديد المساحات ، لا تحديدها. بتحولاتها المتنوعة، الثرية، الزاخرة بالثراء. دوام مسرحه من ابتعاده، عن نسائج المباني التقليدية. تغيراته على العمارة، برسوم لم تلبث تخالف القوانين، بصالح الممثل. لم يعد التمثيل ، عنده، تقديم صورة. خصائص جسد الممثل في مسرحه، من مكونات أبعد من مكونات عالم الميكانيكا. سلوك ، لا خصائص. ولو أن الخصائص، ترسم السلوك. فقدت الأجساد، هنا، الاستمرارية الخطية. أو الحضور بالكتابة وحدها. بالأدب. بالإنشاء. لا يرتفع الجسد بالمسرح، إلا على أمواج الطاقة والسلوك غير المتوقع، ما يضحي على خشبات الواقعية السحرية، جزيئات متوقعة بعالم غير متوقع. للحوارت تأثير. غير أن الممثل وحده، يبقيها حية، في فصاءات تتدروش فيها الأجساد حد الإقلاع وهي لا تزال ، بعد، على الأرض. المشهد الطبيعي، فوق طبيعي. الممثل الطبيعي، لا طبيعي. لأن آداءه، ثمرة بحث شديد التعقيد والدقة. ملهم ، من التزام صاحبه العمل الصارم على ذلك، بحيث يدمر الإلتزام الصارم التعقيدات ، بتوجهاتها العاكسة نظاماً، يجزم الكثيرون، إنه إنما يختصر كوناً، بقفزه فوق التعقيد ، إلى البساطة لا التبسيط. المسرح عند قنون، عملية إجتماعية/ ثقافية، لا تبقى حية إلا بتكامل العالمين بعالم واحد. لم يسيطر المعمار المسرحي، على عمليات البناء المستمرة في مسرح قنون. لأنه الأدرى، بأن ذلك، لن يؤدي إلا لإضعاف التصاعد بعمليات البناء. البناء ، عنده، غير منظور ، لأنه موجود بالهواء، يشكله المبدع في الهواء الملسوع بالإضاءة الطبيعية والصناعية. واحدة من عمليات المحافظة، على حياة الممثل المتوجة بالحياة، بالمسرح، خنق كل ما يقف بطريق حياة الممثل. هكذا، اقتصد كثيراً ، من كل ما لا يحافظ على الجودة الطبيعية ، للبيئة الاستثنائية للممثل ، على خشبة المسرح . الديكور ، كمثال. الإكسسورات ، كمثال آخر. كفاح ضد الإستعارة بالآداة. عشق ، مذهل ، لطبيعة الممثل. أفق المسرح الأول والأخير. قنون، ممثل. غير أنه نحات ، أوّل كل ادواته في حفر حضور الممثل على « ركحه». لعله استطاع أن يحرر الممثل من كل الاستعارات المادية الماضية للشكل. انحاز إلى التحولات لا الإستعارات. ذرة ذرة، واجه المشكلة، بمعرفة شبه مطلقة عن عالم اختاره ليعمل فيه ، على مدى عمره. اقتراب من نظرية التوحيد الكبرى. بحيث ، انكشف الممثل، بروحه، بلمعات عروقه ، تحت الأضواء الوامضة، بكل شيء إلا بالتلوث.
كل شيء يكمل الشيء الآخر في مسرح عزالدين قنون. مسرح قنون، كمسرح الجعايبي ورجاء بن عمار والجبالي. مسرحه يعرف به، وهو يعرف بمسرحه. اقتضى ذلك، قضاء حياة لا معذبة غير أنها ليست مريحة، بالطريق إلى الشكل الصلب لمسرحه. البرسونا، بحسب غوستاف يونغ، رصيد مسرحه الأول. رصيد مسرحه الأخير. البرسونا، بالمسرح، وخارج المسرح، بإقامة الألفة بين الداخل والخارج، بالمسرح. هكذا أقام عشرات ورش التكوين، لا بوجهين متعكسين، بوجه واحد ، على وجهي عملة واحدة. كل من زاره. في محترفاته التكوينية، وجد نفسه في موضوع الورشات ورسومها. رسم عز الدين قنون، الموزع على رسوم، طوافة بكل اتجاه. لم يتوقف الأخير ، عن التحول، عن التطور ، بين شهر وآخر، بين سنة وأخرى. صيرورة قدر خاص. لن يترك قنون تلاميذه على سطح التجربة. إذ يغوض بهم تحت الطبقات الجلدية لها. تموج أولي، ثم اهتزازات تمحو العالم المغلق، بصالح العالم المفتوح للمسرح، على الحياة والاختلاف والتوالي ، لا الثبات ولا الجماد ولا الموت ولا التكلس. اختلاف الذات عن الذات، قضت بتأليف ذوات مختلفة، غير أنها لا تنفك ترسم صور تجارب، متفاوتة، كثيفة، تؤكد بعضها وهي تخوض بالإختلاف إلى اللحظة الأخيرة.
لم يصب الرجل الطيب ، بخيبات أمل، من الحياة السياسية، بطرفيها . الدولة والأحزاب. لأنه، لاحظ باستمرار، تحالفات غريبة بينها، أثارت إستغرابه، غير أنها لم تحبطه. سخر من ذلك، بدون أن يصاب بالانعزال. أدان ذلك، وأسهم في فضحه، بدون أن يختار الحلول الأسهل بالإدانة والإسهام بالفضح. لم يراهن على دعم المؤسسة السياسية للمؤسسة الثقافية. ما دفعه إلى احتواء تسلط أحد وزراء الثقافة، على الثقافة، في مرحلة من المراحل. لم يتهكم عليه، إذ أجابه ببوست مقرؤ على صفحته الفايسبوكية. احتوى حراكه العدواني، حين اتهمه بغربته عن دوائر الأدب والثقافة. واجه نرجسية الوزير، برد من عيار ثقيل. « لا لقاء إلا بعد تتعرف بي». أنهى الرجل الطيب، اللطيف، تهويمات السياسي بالضربة القاضية. قام السياسي بالحركة المباشرة، واضطلع المثقف والفنان، بالحركة الجذرية، أمام هجرة السياسي، من دوائر الفن والثقافة. وجد بالثقافة والسياسة ، قطبي حياة، ضرورين للحياة ذاتها. هكذا، بان الطابع الإنساني العالي النبرة في مسرح عز الدين قنون، بإدراك الخاصية الثقافية من خلال دفع السياسة، بحضورها المباشر، إلى الانكماش في مسرحه.خيار أنقذه من السكتة الدماغية، بحث النفس على الإنتفاض على ما علق بالتجارب المسرحية، من انهزام طالع من ربط الثقافة نفسها بالسياسة، بعملية مزدوجة، جعلت الثقافة على حافة الهاوية باستمرار. ثقافة آيلة للسقوط، في ما ينقصها من شفافية وبعد إنساني والرؤية العميقة للأشياء. بقي الرجل أحد كبار المعارضين المدنيين للنظام. حدد المسافة بينه وبين النظام ، منذ اللحظة الأولى. حمى مسرحه ، بذلك، من شهية السياسة المفتوحة، على الاحتواء والتلسط.
مسرح عز الدين قنون، منظومة تقنيات ، غير أن الأمر، لم يعنِ، أن المسرح هذا، إذ ابتعد الوضع السياسي الموبؤ ، ابتعد عن السياسة، بطبائعها الأولى ولعناتها وكوارثها وسرعاتها المختلفة، المجبولة بالصراع. لم يسمح لسلطة أن تحوله إلى واحد من حراس دساتيرها. بقي بعيداً عن الوصايات السياسية، وهو في حال خلق وإبداع مندمجين بالحال السياسية العامة، بعيداً من السلطات الإدارية بالدولة والسلطات الحزبية. كل ما قدمه، قراءات عميقة، بأسباب النكوصات العربية والعنف ذي الطبقات العديدة بالدول العربية. طاف خلف مناخات المدن، لإدراك تأثيرات المدن على الإنسان، على طبائعه وهويته. هكذا ، أعاد الحياة إلى مسرح الحمراء. غيره ، حين صوره على حدود المهنة، بنقاطه المرجعية المعمارية. حرفي ومبدع. مخطط ومعمار. تقوم محاولاته على المحافظة على ميزات النسيج التقليدي وعلى عمارة الشوارع وعلى الكتل المبنية بالشوراع، حين رفع أعمدته الحرة، في مفرداته المسرحية، الحديثة. انصبت ، كل أعماله، بالبحث عن الهوية وعدم المراوحة بالدوران في حلقات بناء الذات وحدها. قفز، بذلك، فوق الفجوة الكبرى، بين المكتسبات الجديدة من أنماط وسلوكيات وثقافات خارجية، وبين القديم. أي السلطة الكلاسيكية للكلاسيك، على الحياة المسرحية. فوَّر ، الأمر، الأفكار الإبداعية، لدى أحد أفضل من يستطيع تقدير المواقف، وتقييم حياة الفرد في المجتمعات الكلية أو التقليدية، ذات النبرات المتخلفة ، الواضحة. أراح كل الإطراف بذلك. هو والأصدقاء والأعداء. ثم، أن قفزه فوق أزمة القيم، قفزٌ فوق الإحباط والنفور والسخط، على ارتباط البيروقراطية، إلى حدود كبرى ، بأزمة الثقة في المواذن وفي تصرفاته وسلوكياته، بالعالم العربي وبأفريقيا، على حد سواء. لأن معتركات الحياة الواقعية، بتونس، معتركات لا تقع بالتناقض، إذ تقرأ في حيوات المواطنين العرب والأفارقة، من موقع تونس العربي/ الأفريقي. ريشة الأسرة أوسع حركة، أكبر حجماً، من الريش الأخرى في معظم الدول العربية الأخرى.ذلك، أن تونس، لم تعاقب نفسها، لأنها وجدت نفسها على خطوط الطول والعرض العربية والأفريقية والأوروبية، كما لم يفعل السودان ( كمثال) ، وهو لا يزال يعاني من عدم القدرة على تسوية أوضاع أزماته. بالأخص، أزمة الهوية. عقَّد السوداني أزمة الهوية. قفز التونسي، فوق هذه الشبكة، بالقليل من العناء، إذ وجد في نفسه المتعددة، نفساً أممية. لا وقوع بالخطأ، بهذا المجال لدى التونسي. وجد بالشبكة، ميزة، لا عورة. ترسخت قيم علمه وتعليمه هنا. لم يعد مشوشاً، إذ أضحى الأمر عقداً فطرياً في حياته، بدل أزمة نفسية، على علاقة مباشرة بأزمة الهوية والبحث عنها. قوة على قوة. هكذا، بنى مسرح الحمراء، كمؤسسة ثقافية ، تونسية، عربية، أفريقية، وسط الساحات المكتظة بالدكاكين المحشودة بالسلع الصينية، الضاجة بالهامشيين، على تقاطع شارعي ألمانيا والجزيرة، وسط العاصمة. أضحت السينما القديمة، المعمَّرة، بالعام ١٩٢٢، صالة مسرح حديث، بعد أن هددتها العمرانيات المستجدة، بفقدان الصبغة الثقافية، كما حدث مع الكثير من الصروح الثقافية التونسية القديمة. من قلب، هذا البناء، المنشود ، دعا قنون أفراد أجيال البطالة والمعاناة والتمرد والغضب والتغيير، إلى القفز فوق السلبيات، بفتح « المركز العربي الأفريقي للتكوين والبحوث المسرحية». مركز بالمركز. لن يتردد عشرات الشباب المسرحيين، المئات على الأرجح، عن رواية، الاستفادة من خدماته بتكوين أو إعادة تكوين تجاربهم، في مختلف الاختصاصات المسرحية.
عبيدو باشا / كاتب ومسرحي من لبنان