تمهيد:
حين قام الناقد حنا عبود بتوصيف الشعر السوري المعاصر, في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين, على مستوى المضمون أو الرؤيا الشعرية, لم يجد أمامه من التوصيفات النقدية سوى مصطلحات: الرؤى السوداء والمازوكية وجنّاز الطبيعة(1).., حتى إنه جعلها عنوانات لبعض الفصول, لما لها من حضور شعري ضاغط, في تلك المرحلة المدروسة من عمر الشعر السوري. وبصرف النظر عن الأسباب الكامنة وراء ذلك, فإن الناقدعبود يذهب إلى أن الشاعر السوري الذي نقل واقع السياسة من المجتمع إلى الطبيعة,أضفى انفعالاته على عناصرها, فحمّلها أحاسيسه من ضجر وضيق وألم وحزن وكآبة, وهو ما جعله يقوم بكلّ طقوس جنّاز الطبيعة.(2) ويرى عبود أنّ تلك هي خاصة تميّز الشعر السوري من الشعر العربي عامة, في تلك المرحلة.
ونحن هنا لا نريد من استحضار ذلك الرأي النقدي الذي قد نختلف أو نتفق معه في هذه الجزئية أو تلك, سوى توكيد مقولته الكبرى, وهي ارتفاع منسوب البكائيات في الشعر إلى المستوى الذي بدت فيه, وكأنها هي معدن الشعر وجوهره معاً.فجنّاز الطبيعة في الشعر كان في أحد أشكاله تعبيراً حادّاً عن الاغتراب الروحي في الواقع المعيش, والذي تكمن ذروته في افتقاد المتعة في الأشياء والظواهر والقيم والمعاني جميعاً. وهو ما يفسّر انضواء معظم النماذج الشعرية المطروحة, في تلك المرحلة, تحت مفهوم العذاب, وما لم ينضو تحت العذاب انضوى تحت مفهوم التراجيدية أو البطولية, وإذا ما وقعنا,بالمصادفة, على بعض النماذج الشعرية التي تبلور مفهوم الجمال, فإننا لا نعدم ملمحاً مؤلماً فيها, يتأتى في الحدّ الأدنى من الرؤيا الاغترابية التي ترى في الجمال مطمحاً أكثر مما ترى فيه واقعاً حياً, حتى لو كان من عالم الطبيعة الغفل. ولهذا تراجعت نماذج الجميل الممتع أو اللطيف أو المؤنس أو المدهش…, كما هي الحال في شعر نزار قباني في المرأة خاصة, وتصدّرت نماذج القبيح والعذابي والبطولي والتراجيدي.., سواء أكان ذلك في الشعر السوري أم في الشعر العربي عامة, في النصف الثاني من القرن العشرين. ولا يختلف في ذلك شاعر خمسيني عراقي عن شاعر ستّيني سوري عن شاعر سعبيني مصري إلا بالدرجة من جهة,وبالصفة المهيمنة من جهة أخرى. ولهذا قلّما رأينا شاعراً يترنم بالجمال حيّاً من جسد وروح, لا مثلاً أعلى مجرّداً أو حلماً يسعى إليه فحسب, كما هي حال الشاعر صقر عليشي, ومن قبله القباني وفيما بينهما شوقي بغدادي ومحمد الحريري بشكل ملحوظ جداً.إذ إنّ أغلب شعرائنا يكادون يتلفّتون يمنة ويسرة, إذا ما وجدوا أنفسهم متلبّسين بقصيدة منذورة للمتعة أو للفرح, لا ألم ولا حزن ولا كآبة فيها – ألم يقل الماغوط: الفرح ليس مهنتي- أو متلبّسين بقصيدة لا يبدو على محيّاها ملامح الصراع مع الخصوم والأعداء في الداخل والخارج معاً. ألم يقل ممدوح عدوان أيضاً: يألفونك فانفر!.
إننا ندري جيداً أنّ الشاعر العربي, في سورية أو سواها, ليس هو السبب في مثل هذا الطقس الكئيب المتواتر في الواقع والشعر معاً, ولكن ندري أيضاً أن ذلك الشاعر قد أضاع, في زحمة الاغتراب والصراع, الكثير مما هو بين يديه, من جمال حيّ, لا يحتاج كي يراه, إلى أن يتخلى عن قضاياه الكبرى أو الصغرى. بل ألم يحزن هو ويغترب ويصارع أساساً,من أجل تحويل المثل الأعلى الجمالي إلى واقع حيّ..!.
إن ما فعله صقر عليشي, عبر مسيرته الشعرية, هو هذا تحديداً. فقد انصرف إلى الجمال الحيّ, من غير أن ينصرف عن تلك القضايا التي راح ينظر إليها من منظوره الجمالي الخاص. ولعلّه يكون أسبقَنا, نحن أبناءَ جيله من الشعراء, إلى وعي ذلك مبكراً.
تجربة المتعة:
بالرغم من التفاوت الرؤيوي والفني,فيما بين المجموعات الشعرية التي شكّلت مسيرة الشاعر صقر عليشي أو أعماله(3) الكاملة حتى الآن, وهو تفاوت طبيعي مفهوم في إطار التطور الإبداعي للشاعر, فإن ثمة تجربة جمالية ممتدة ونامية, تقف وراء تلك المسيرة, وتحدد إطارها الفني العام, مثلما تحدد خياراتها الأسلوبية الكبرى والصغرى على السواء. بل إنها تحدد أيضاً معجمها اللغوي وأفق الإبداع والتلقي معاً. فليس فيها ما يشي بالتناقض الداخلي أو التحولات الحادة التي يصعب معها الكلام على تجربة واحدة أو متّسقة. وهي تجربة متميّزة ومتمايزة عما سواها, في المشهد الشعري السوري الراهن, إلى الحدّ الذي يسمح لنا بالقول إنهاتجربة الشاعر صقر عليشي في المقام الأول, من دون أن يعني هذا حكماً نقدياً تقويمياً بالضرورة. أي من دون أن نذهب إلى تفضيل هذه التجربة على سواها, أو نذهب إلى القول بضرورة النظر إليها على أنها أنموذج قائم بذاته أسلوبياً أو فنياً أو جمالياً.
إنها تجربة ذات طبيعة مغايرة عما هو مهيمن أو سائد, من التجارب الجمالية التي تتمحور غالباً حول تجربة العذاب, كما أسلفنا آنفاً. وذلك أنها تتمحور حول مفهوم الجمال في منحاه الممتع غالباً. ونقصد بذلك أنها تنهض من قيمة الجمال المتحصّلة من الاستمتاع بالعالم أو بالظواهر والأشياء والمعاني. وقلّما تُعنى بغير الجمال, من مثل القبح أو العذاب أو الجلال أو السموّ…الخ.فهي تجربة تبحث عن العذوبة لا عن العذاب, حتى فيما يبدو أن لا علاقة له بالعذوبة أو الإمتاع في الواقع المعيش.ولهذا فإن متعة الألفة والدهشة تجاه جمالات العالم هي الأصل والفرع أو السبب والنتيجة فيها, سواء أكان ذلك العالم في الطبيعة الحيةوالمتحركة والصامتة أو الجامدة, أم كان في المرأة بمختلف جوانبها الأنثوية والإنسانية,أم في الأشكال والأفراد والعلاقات اليومية الحياتية.
ولا شكّ في أن اكتشاف العذوبة في كلّ ذلك لا يحتاج إلى الكثير من المعاناة أو الجهد, بقدر ما يحتاج إلى «القليل من الوجد» بالحياة نفسها. إنه يحتاج إلى شاعر يرى في الحياة بذاتها مثلاً أعلى ينبغي عيشه والدفاع عنه, والبحث عنه فيما لم تلوثه المعاناة الإنسانية بآلامها ومآسيها وقضاياها الوجودية أو الأيديولوجية الكبرى. إنه بحث عن الممتِع والمفرِح والمُلذّ, لا عن المنفّر والمحزن والمؤلم. وذلك بهدف القول إن في الحياة ما ينبغي أن يعاش خارج معزوفة الألم, أو أنه ينبغي أن يعاش لأن فيه من المتعة ما يجعله ذا جمال حيّ وبهيّ معاً. غير أن هذا لا يعني أن الشاعر يغمض عينيه عن المنفّر والمحزن والمؤلم, فيبدو لامبالياً بالمعاناة الاجتماعية أو الإنسانية عامة.إنه يرى كلّ ما يمكن أن يُرى, ولكن من منظوره الخاص, وهو منظور المتعة. وقد يبدو هذا الكلام غريباً. إذ كيف لنا أن نرى المتعة في المؤلم أو المحزن أو المنفّر!.ولكن قبل الإجابة نتساءل: كيف لنا أن نتفهّم تعبير: استعذاب العذاب, عند المتصوفة!. أو نتفهّم أن يرسم الفنان وجهاً قبيحاً بشكل جميل وممتع,بتعبير النقد الفني!.
إن الشاعر في تعامله الفني مع العالم من منظور المتعة, يحاول أن يرى في الموجع أو المحزن ما هو مضحك, أو كوميدي. أي إن تحويل المؤلم إلى مُلذّ لا يكون باستعذاب العذاب, كما عند المتصوفة. بل بالسخرية منه أو الاستعلاء عليه أو امتلاكه بالابتسامة الساخرة. صحيح أن تلك الابتسامة تنطوي على قدر ما من الحزن والألم, ولكن صحيح أيضاً أن نسبة البهجة فيها أعلى من نسبة الألم, وذلك لامتلاكه النفسي والمعرفي معاً. إن ما لا نستطيع امتلاكه نفسياً أو معرفياً, أو لا نستطيع التحرر منه والهيمنة عليه باكتشاف المفارقة الكوميدية فيه, لا نستطيع بالضرورة تحويله إلى مضحك أو ملذّ جمالياً في الواقع والفنّ على السواء(4). وما تعبير المضحك المبكي إلا شكل واحد من أشكال المتعة المتولّدة من المؤلم الممتَلك معرفياً. حيث يتمّ اكتشاف المفارقة في المبكي, فيتمّ تحويله إلى مضحك. وفي هذا امتلاك له نفسياً ومعرفياً.وذلك من مثل النصّ التالي المعنون بـ«ثورنا». إذ يتمّ الربط بين الثور الهائج والأمين العام أو الحاكم الفاسد المستبدّ, عبر المفارقة الكوميدية المضحكة, لا عبر التصوير التراجيدي المحزن:
تعود بي الذكرى إلى أيام ثورنا الأغرّ
كان مُهاباً بين بقر الجيران,
معتدّاً بقرنيه كثيراً
كان حيثما مضى يُشيع حوله الخطَرْ
كم عاث في زرع عباد اللهْ !
كم خرّب الشجرْ !
*
عرفتُ في ما بعدُ أنّهُ
كان الأمينَ العامَّ للبقرْ[395-396]
لاشكّ في أن صقر عليشي لا يحوّل القضايا الإنسانية أو الاجتماعية المأساوية الكبرى, أو قضايا التحرر الاجتماعي والسياسي, إلى كوميديا أو أنه يُدخلها في المضحك المبكي, وإلا لكان شعره ذا طبيعة عبثية أو فوضوية أو عدمية, وما هو كذلك. إنه لا يطلق الابتسامة الساخرة إلا فيما يقوم على المفارقة أساساً, أو فيما يمكن اكتشافها فيه من إحدى زوايا النظر. أما تلك القضايا التي يتداخل فيها الحقّ والخير والجمال, بالنسبة إلى الوعي الإنساني عامة, فإنه ينظر إليها من منظور الجمال أولاً, أي من منظور المتعة التي ينبغي الدفاع عنها, لأنها الجمال الذي يحيل على الحياة في شكلها الإنساني الأرقى. وهو ما يعني أن خطاب المتعة في شعر عليشي هو خطاب الجمال بمختلف معانيه ومستوياته المتعددة. سواء أكان في الأشكال الحسية أم المشاعر العاطفية أم المعاني المجردة أم القضايا الإنسانية الكبرى. وسواء أكان في الممتع والمؤلم أم الجوهري والعرضي أم الطبيعي والاجتماعي.., الخ. ولعلّ هذا ما يجعل تجربة صقر عليشي هي تجربة الجميل أولاً وأخيراً. بل هي تجربة الممتع منه تحديداً.
وبدهي أننا لا ننفي تقاطع هذه التجربة مع تجربة الجليل أو تجربة البطولي أو التراجيدي…, علماّ أنه يصعب الكلام على قيمة جمالية واحدة في نصّ شعري واحد, بلْهَ أن نتحدّث عنها في تجربة شعرية متنامية وممتدة, على ثلاثة عقود ونيّف من الزمن. فلا شكّ في أن ثمة ملامح متفاوتة من تلك التجارب, ولاسيما تجربة الجليل, في تجربة الممتع لدى عليشي في هذا النصّ الشعري أو ذاك, ولكننا نؤكد ارتفاع نسبة حضور الممتع في مجمل التجربة, عبر أعماله الشعرية, إلى الحدّ الذي يجعلها تجربة خاصة بالشاعر دون سواه من أبناء جيله خاصة والأجيال الشعرية المتزامنة معه عامة. وإذا أردنا أن نتذكر بعضاًمن عرّابي شعر المتعة, في القرن العشرين, فإن سعيد عقل ونزار قباني يأتيان في المقدمة منهم.
ولا نقصد هنا أن شعر صقر عليشي يدخل في تناص لغوي أو أسلوبي مع شعر هؤلاء الشعراء, وهو ما لا ننفيه بالضرورة, في بعض النصوص الشعرية, وإنما نقصد ما هو أشمل من ذلك, وهو الرؤية الجمالية المتعوية عامة. فشعر هؤلاء الشعراء جميعاّ ينهض من المتعة الجمالية المتحصّلة من قيمة الجميل في الواقع والفنّ معاً. أي إن النصّ الشعري لديهم لا يتوقف غالباً إلا عند الظواهر الجميلة, والمرأة عنوانها الرئيس؛ ولا يُعنى فنياً إلا بالصورة الفنية المبنية على عناصر لذّوية, والبهجة شكلها الجمالي/ الشعوري الرئيسي أيضاً؛ كما أنه لا يستخدم من المعجم اللغوي إلا ما يتصل بالجميل منه وما يتساوق معه. وما سوى ذلك لا نستطيع الكلام على أولئك الشعراء وكأنهم تيّار شعري واحد أو موحّد, ذو خصائص مشتركة. فلكلّ منهم أسلوبه الخاص ولغته الخاصة وتعامله الفني المختلف مع الظواهر والأشياء. بل لكلّ منهم رؤيته المتعوية المغايرة.ولا مجال هنا لبيان ذلك.
ولكنلا بأس من الإشارة إلى أن الناقد محيي الدين صبحي قد أمسك بتلك القرابة بين شعر عليشي وشعر القباني, معتبراً أن شاعرنا ينتمي إلى الدولة القبانية في الشعر النزاري(5). ولا بأس أيضاً من الإشارة إلى ما يذهب إليه الناقد صبحي في مسألة انضواء شعر عليشي تحت ما يصطلح عليه الناقد بشعر البداهة والفطنة Wit Poetry في الشعر العربي الحديث. بل يرى في صقر عليشي واحداً من أهمّ المساهمين فيه, مؤكداًريادة إيليا أبي ماضي, في بعض قصائده, لهذا النمط من الشعر, وأهمية القباني فيه(6). وهو شعر يقوم على التقاط المفارقة من جهة, والفكاهة من جهة أخرى,مما كنا أشرنا إليه بتعبير الابتسامة الساخرة والمضحك المبكي أيضاً. والحقيقة أن لشعر البداهة والفطنة رواداً كباراً من مثل الشاعر اليمني عبد الله البردوني والشاعر السوري محمد الحريري.
وإذا كنا لا نختلف مع الناقد في النظر إلى شعر عليشي من زاوية البداهة والفطنة. فثمة عدد من النصوص الشعرية تقع تحت ذلك الإطار, على نحو واضح. فإننا نذهب إلى أن الحاضن الجمالي الكلّي لشعر عليشي هو تجربة المتعة. غير أن لتلك المتعة مستويات ومناحي وحوامل متعددة, منها منحى البداهة والفطنة. أي إن هذا المنحى هو الآخر منحى متعوي, يهدف إلى إثارة البهجة من جرّاء اكتشاف المفارقة في الأشياء أو فيما بينها. وقد تتمّ المبالغة في التبهيج بشكلتتقاطع فيه معالتنكيت, وذلك حين ترتبط البهجة بالفكاهة والهزل أحياناً, مثلما نجد في قصيدة «سهرة الأحد».غير أن ذلك كله يدخل في باب المتعة, بصرف النظر عن محتواها الجاد أو الهازل أو ما بينهما من مستويات.
وإذا ما أردنا تحديد حوامل التجربة الجمالية في شعر صقر عليشي, فيمكن لنا القول إنها تتحدد بالطبيعة والمرأة والقصيدة في المقام الأول. وهي حوامل أو أقانيم موضوعاتية وانفعاليةوتخييلية ولغوية ورؤيوية في الوقت نفسه؛ كما أنها أقانيم متحاورة فيما بينها, بشكل يصعب فيه النظر إلى واحدمنها بمعزل عن الآخر. فهي غالباً ما تتداخل فيما بينها في النصّ الشعري الواحد من منظور المتعة, أو الأدقّ أن الشاعر غالباً مايستحضر المعجم الطبيعي والمعجم الأنثوي والمعجم الشعري, في تناوله الجمالي لواحد من تلك الأقانيم/ الحوامل. وكأنها أقنوم واحد, أو كأنالمتعة الجمالية هي الأيقونة الشعورية/ الروحية لتلك الأقانيم, في شعر صقر عليشي.
أقنوم الطبيعة:
تشكّل الطبيعة- الريفية منها على وجه التحديد- جمالية المكان, كما تمثل المادة الأولى للتخييل الفني والمعجم الشعري/ الدلاليعلى حدّ سواء. وذلك بالإضافة إلى كونها موضوعاً فنياً قائماً بذاته. حيث تبدو تلك الطبيعة أشبه بالمثل الأعلى الجمالي فنياً واجتماعياً بالنسبة إلى الشاعر, من دون الوقوع في مسألة المقارنة بين الريف والمدينة, أو الوقوع في نوستالجيا نفسية أو تخييلية شعرية على أقلّ تقدير, كما حدث عند الكثير من شعراء الخمسينيات والستينيات, في القرن الماضي. فصقر عليشي الذي لا يكاد يفارق الطبيعة الريفية في شعره, لا يكاد أيضاً يوحي بأي حنين بكائي إلى عالم الريف, أو بأي اغتراب روحي عن عالم المدينة- دمشق- التي يعيش فيها. ولهذا لا نجد أي شكل من أشكال التوبيخ- ما خلا إشارات محدودة عابرة- للمدينة وعلائقها وأخلاقياتها, في مقابل عالم الريف «النقي الطاهر البسيط الطيّب…» أو عالم الملاذ الروحي.
صحيح أن الطبيعة الريفية ترتفع إلى مستوى المثل الأعلى, في شعره, ولكن صحيح أيضاً أن ذلك المثل لا يتمّ طرحه بوصفه مثلاً اجتماعياً ريفياً يتعارض وواقع المدينة- وإلا ما معنى ذلك الثور في الريف والمدينة على السواء؟- وإنما يتمّ طرحه بوصفه مثلاً إنسانياً عاماً ينبغي إنجازه وتحقيقه. وإذا ما كانت الطبيعة الريفية مادته الأولى, فإن الإطار الإنساني العام هو محتواه القيمي الأساسي.ولهذا لا نجد في شعر عليشي ملامح رومانسية, بالرغم من كثرة الأجواء الطبيعية الريفية الشائعة فيه,وفي شعر الرومانسية من قبلُ؛ كما لا نجد تلك البكائيات الحارة على عالم مفقود عامة, أو مفتقد في المدينة خاصة. حتى يتحول الريف إلى ملاذ آمن نفسياً أو روحياً. إن الشاعر يرى باختصار أن عالم الريف الذي احتضن طفولته ومراهقته الأولى, وملأ عليه ذاكرته الحسية, هو مادة لذوية وقيمية وتخييلية غنية بالعناصر والمعاني والرموز, ينبغي تثميرها في الشعر؛ تماماً مثلما ينبغي تثمير ما يعايشه راهناً من مواد لذوية وقيمية واجتماعية. وهو ما يتناغم ونزوعه إلى الجميل الممتع, في مستواه الحسي أولاً.
فليست تلك الطبيعة إذاً مادة حلمية- نفسية أو رؤيوية- تثير في الشاعر أحاسيس أو مشاعر أو رؤى تندرج تحت النوستالجيا أو الاغتراب أو الرغبة في العودة إلى الرحم أو الملاذ الروحي. بل هي عناصر حية حيوية ممتلئة بالعذوبة والدهشة والألفة:
ينابيع تمرح فوق السفوحِ
تسقسق….
معربةً عن سعادتها الداخليّه
وأخرى, على مهَل, تؤلّف أعشابها
وتقول عذوبتها الأبديّه
*
رؤوس التلالِ
استبدّ بها مغرب الشمس
غادرها وهي محفوفة بالشجى والذهب
صبايا نضجن كما ينبغي
قبل نضج العنب
رجال يلفّون تبغهمُ
ويخوضون في عالم الغيب حتى الرّكَب[357- 363]
يبدو في المقطعين السابقين من قصيدة « منظر عام لعين الكروم»- قرية الشاعر في محافظة حماة- أن عالم البيئة الريفية طبيعةً وبشراً وعلاقاتٍ هو الحامل الجمالي لتجربة النصّ الشعري. وإذا كان من البدهي أن يكون ذلك لاعتبارات الموضوع الفني المطروح, فإن ذلك الحامل يشمل حتى تلك النصوص التي لا تشكّل الطبيعة عنصراً موضوعاتياً فيها, من مثل المرأة والقصيدة والغرفة والحرية والذيل والأصدقاء.. ولهذا لا غرابة في أن تكثر مفردات الطبيعة في الدلالة عما هو طبيعي فعلي, أو اجتماعي, أو أيديولوجي, أو ثقافي. وذلك من مثل الجبل والوادي والسهل, والتفاح والرمّان والخوخ, والنهر والنبع والسواقي, والماعز والديك والثور.., وكلّ ما يخطر, وما لا يخطر في البال من عناصر الطبيعة الحية والجامدة معاً.
ونكاد نؤكد أن شعر عليشي هو الأكثر اشتمالاً على تلك العناصر, في شعر الحداثة عامة, وفي الشعر السوري منه خاصة. فليس ثمة شاعر, كما نزعم, انطوى شعره على تلك العناصر, ما استُخدم منها وما لم يُستخدم, كما انطوى عليه شعر صقر عليشي الذي يتعامل فنياً مع البقر والغنم والماعز, كما يتعامل مع الغزال والفراشة والعصافير, ويتعامل فنياً أيضاً مع البندورة والبصل والبطيخ, كما يتعامل مع التفاح والعشب والياسمين. ولعلّ الشاعر في هذا يكون فريداً بين الشعراء في القرن الأخير(7). ولاسيما أنه غالباً ما يتعامل معها بالسوية الجمالية نفسها. إنها مادة جمالية غنية جداً بالنسبة إليه, وهي جميعاً مادة مثيرة للمتعة والبهجة, ومثيرة للتخييل الشعري ذي التقويم الإيجابي أو ذي المحتوى الشعوري الملذّ. وهو ما لم نألفه في الشعر الحديث بمختلف تياراته المدرسية. فقد عهدنا الشاعر العربي القديم يتعامل فنياً مع الدمنة والأثافي والحنظل والجندب والقُرَاد, مثلما يتعامل مع الظبي والفرس والنخيل والعرار, مما هو قائم في بيئته الطبيعية, حتى تشكّل ما يشبه المعجم النباتي الصحراوي, في شعرنا القديم(8).
وقد درج الشاعر العربي, عبر تاريخه, على التعامل مع تلك العناصر بوصفها عناصر طبيعية شعرية بالضرورة, أو أنها عناصر ممتلئة بالدلالات والمعاني تاريخياً, مهما اختلفت البيئة التي ينتمي إليها الشاعر أو يعيش فيها؛ كما درج المتلقي العربي, باختلاف بيئاته الطبيعية, على التعامل معها, في الشعر تحديداً, وكأنها عناصره الطبيعية البيئية, وما هي كذلك.غير أن البيئة الصحراوية التي شكلت معجم الشعر القديم شكلت كذلك بيئة التلقي الجمالي للشعر, عبر الهيمنة الثقافية/ الجمالية, فبدت كأنها معجم الشعر عامة, بصرف النظر عن البيئة الحقيقية للمبدع والمتلقي معاً.
لا شكّ في أن تلك العناصر قد غابت عن شعر الحداثة, إلا لاعتبارات رمزية, ولم يعد لها ذلك الحضور الذي نلحظه في شعر الكلاسيكية المحدثة. بل إن شعر الرومانسية العربية قد تجاوز, قبل شعر الحداثة, تلك العناصر القديمة, وراح يتعامل مع عناصر طبيعية جديدة هي بنت بيئته المحلية إلى حدّ بعيد(9). غير أنه مال إلى نمط محدّد من عناصر الطبيعة, وهي تلك المقوّمة جمالياً بشكل إيجابي, في الذوق الشعري العام. بمعنى أن ذلك الشعر قد قام بعملية تبييء للغة الشعرية, الطبيعية منها خاصة. ولكنه قام أيضاً بعملية انتقائية لتلك اللغة. حيث اتجه إلى نوعية محددة من عناصر اللغة الطبيعية, هي تلك التي اعترف بها الذوق الاجتماعي العام, على أنها عناصر دالّة على الجمال, أو أنها تحمل شحنة عاطفية ما, وذلك من خلال رمزيتها الاجتماعية.
أما تلك العناصر الطبيعية التي تبدو «خشنة»أو «نفعية» أو لم يُدخلها الذوق الجمالي العام, في «قائمة النباتات الجمالية» المعتمدة ذوقياً, فقد وجَدت عند صقر عليشي متسعاً للحضور والبروز, بوصفها عناصر دالة على الجمال أيضاً, شأنها في ذلك شأن تلك السائرة في الشعر الرومانسي أو سواه. أي إن الطبيعة برمتها, عند عليشي, ذات قيمة جمالية إيجابية, تمكن الإفادة منها في التخييل الشعري وإثارة المتعة الجمالية, بصرف النظر عن الشائع وغير الشائع, في الشعر, أو المعتمَد وغير المعتمَد ذوقياً. ولعلّ هذا من أسباب كسر أفق التوقّع عند المتلقي, في شعر عليشي. فلم يعتد المتلقي العربي التقليدي والحداثي معاً, على تلقّي مثل تلك العناصر الطبيعية في الشعر تحديداً, ولا يتوقّع أساساً أن يرى البطاطا والبصل والفاصولياء والبطيخ في قصيدة ما, فكيف به يراها وقد أصبحت مادة تخييلية وشعرية مثيرة للمتعة الجمالية!:
عندما تولد القصيدة
مزهوّةّ بقواف خضراء من الفاصولياء
تتشظى أرحام السماء[ 26]
*
عندما تولد القصيدة
تضرب الفؤوس بشدّة
عميقاً في غباء التربة
وتزدحم أحشاء السهول بالبصل والبطاطا
ويتوقد الفولاذ كشهاب محترق[ 27]
إن الجرأة في استخدام مثل تلك المفردات الطبيعية بكثرة لافتة, وفي كسر أفق التوقّع لدى المتلقي, لا يمكن النظر إليها على أنها فقط جرأة لغوية, أو محاولة فنية للخروج على المألوف الشعري- التقليدي والحداثي- رغبة في التجديد. إن المسألة تتعلق أولاً بالتعامل الجمالي مع مادة طبيعية, اختبرها الشاعر وعاشها وعرفها معرفة فعلية حياتية, لا معرفة نظرية أو شعرية أو لغوية عامة. ولهذا فإن إحساسه الجمالي بها هو إحساسٌ حيّ ممتلئ بالمعايشة والانفعال والمعرفة, إحساسُ مَن ذاق فعَرف, كما تقول المتصوفة. إن من لا يشاهد- بل يعايش- حقول الفاصولياء والبصل والبطاطا…لا يستطيع النظر إليها, والتعامل معها بالطريقة التي قام بها الشاعر. وهو ما يطرح علينا سؤال العلاقة بين الجمالي والمعرفي, في الشعر والفنّ عامة.
لسنا هنا في معرض الكلام المفصّل على تلك المسألة الجمالية, ولكن لا بأس من الإشارة إلى أن الجمالي معرفي بالضرورة, غير أن المعرفي فيه ذو طبيعة ذاتية حسية لا موضوعية تجريدية, من جهة, وذو طبيعة عقلية تركيبية ترابطية لا عقلية تحليلية استقصائية, من جهة أخرى. ولهذا فإن جان ماري شئيفر يذهب إلى اعتبارها- أي المعرفة الجمالية- معرفة من المستوى الأول, في حين يرى المستوى الثاني متمثلاً بالمعرفة العلمية(10). فالموقف الجمالي إذاً موقف معرفي بمستوى ما؛ وكذا هي الحال في الشعر الذي ينطوي هو الآخر على ذلك المستوى, لا بالنسبة إلى عملية التلقي فحسب. بل بالنسبة إلى عملية الإبداع أيضاً. فالمبدع الذي لم يعايش جمالياً العناصر التي بين يديه في أثناء الإبداع, لا يمكنه أن يغذّيها بالدفق الجمالي والبعد المعرفي معاً, ولا يمكنه أن يطبع نتاجه بطابع الإبداع أصلاً. ولا شكّ في أن الخبرة الحياتية الجمالية تسهم بشكل فعّال, في توجيه هذه التجربة أو تلك, من تجارب الإبداع, إلى أحد أنماط التعبير اللغوي والتصويرالفني. وإذا ما اختار شاعرنا توجيه نصه الشعري نحو الطبيعة بمختلف عناصرها الحية والمتحركة والجامدة, فلا يعود ذلك إلى خيار لغوي بقدر ما يعود إلى خيار جمالي, كما لا يعود إلى رغبة فنية في الاختلاف بقدر ما يعود إلى معرفة حية بتلك العناصر, إضافة إلى رؤية فكرية محددة لديه تجاه الطبيعة والعالم من حوله. يقول في نص بعنوان « وئام»:
ليس بيني وبين التراب خلافْ
يسود التفاهم ما بيننا
ويسود الشجرْ
وأنا وجلال الصخورْ
ربينا معاً…
ورضعنا معاً من حليب القمرْ
ليس بيني وبين التراب خلافْ
ليس بيني وبين الشجرْ[ 116]
إن ذلك الوئام بين الشاعر والطبيعة هو الذي يقف وراء لغته الشعرية الخاصة, وصوره الفنية ذات المادة الطبيعية, مثلما يقف وراء جمالية المكان في شعره. فالطبيعة الريفية التي هي مادة التخييل الأولى في شعره, هي التي تشكّل أيضاً جمالية المكان فيه, وهي جمالية الأماكن الخضراء المرتفعة التي تحيل على الألفة والدهشة خاصة. حيث نلحظ أن الشاعر لا يكاد يغادر تلك الأماكن, وذلك لألفتها المثيرة للدهشة باستمرار!.أي إن جمالية المكان تقوم أساساً على الارتفاع والانفتاح بما يثيرانه من ألفة ودهشة. وهو ما يعني غياب الأماكن الضيقة أو المغلقة أو المظلمة أو المحدودة, سواء أكان ذلك بالمعنى الفيزيائي أم النفسي أم الروحي.
فكلّ ما هنالك من أمكنة, في شعر عليشي, يتسم بالرحابة والعلو والانكشاف أو الضياء فيزيائياً ونفسياً وروحياً. وهذايتكامل وجمالية الألفة والدهشة اللتين هما من خصائص تلقي الجميل في الطبيعة عامة. وبالرغم من أن الأمكنة المرتفعة, من مثل الجبل والأفق والسماء, غالباً ما تحيل على قيمة الجليل أو السامي, في الطبيعة والفنّ معاً, فإن شعر عليشي يذهب بها إلى قيمة الجميل الممتع غالباً, وذلك من خلال صفة الاخضرار فيها. أي إن الارتفاع مقرون بالاخضرار, وهذا مقرون بالغنى أو التنوع على المستوى اللوني ومستوى العناصر. وهذا الاقتران يولّد البهجة والدهشة لا الرهبة والهيبة. ولعلنا نتذكر في ذلك جمالية المكان في شعر بدوي الجبل, من حيث الارتفاع والاخضرار والمتعة, لا من حيث الرؤيا الفكرية العامة(11).
إن نظرة سريعة أو متأنية, إلى شعر صقر عليشي, سوف تخرج بعدد هائل من الأمكنة الجبلية والمفردات الدالة عليها, والكائنات التي تعيش فيها, والصور الحياتية اليومية التي تتوالى في جوانبها المختلفة. وهي جميعاً تثير الألفة والدهشة. وكأن الطبيعة منذورة لكلّ هذا الجمال الحي والمتنوع واللانهائي. وهو جمال ذو طبيعة حسية ونفسية وروحية, في الوقت نفسه.فالشاعر الذي يتوقف, أمام الطبيعة, باستمتاع بصري وسمعي, بل باستمتاع حسي كلّي, لايبقى في هذا المستوى فحسب, وإنما يتوقف أيضاً أمام الانطباعات النفسية المتولّدة منها, والدلالات الروحية الممكنة فيها جميعاً.
إن تلك الإشارة تسعى إلى القول إن الشاعر لا يتعامل مع المعجم الطبيعي من منظور رمزي, فتبدو عناصر الطبيعة عندئذ رموزاً إلى معان تجريدية أو روحانية أو نفسانية. ولا يتعامل معها من منظور وصفي, فتبدو عندئذ مشاهد حسية جميلة فحسب. وإنما يتعامل معها تعاملاً جمالياً كلّياً كيانياً, ولهذا تأتي الطبيعة بعناصرها المختلفة, في شعره, محمّلة بالقيمة الجمالية بمختلف أبعادها ومستوياتها.الأمر الذي يعني أن الشاعر يحاول استنفاد معرفته الجمالية بالطبيعة ومعايشته إياها, واستثمارها إلى أبعد حدّ ممكن, في استنطاقها الدلالي والتخييلي. ولهذا تبدو الطبيعة بين يديه حيّة وغضّة وعذبة دائماً. فلا غرابة, وهذه الحال, إذا ما كان الشاعر متصالحاًبشكل نهائي مع الطبيعة من حوله. ألم يقل إنه لا خلاف بينه وبين التراب, أو بينه وبين الشجر؟.
منذ رسوخي في علم التفاحْ
ما شاهدني أحدٌ
إلا وأنا مرتاحْ
من لا تمحو الأسرار الغضّةُ ظُلمتَه
لن يُجدي معه مصباحْ[ 244]
إن علم التفاح, أو المعرفة الفعلية بالطبيعة عامة, هو الذي أتاح للشاعر ذلك التعامل المتنوع والخاص مع أسرارها ومظاهرها, وجعله يبتكر الكثير من المجازات والانزياحات والتراكيب الشعرية المبنية على تلك الأسرار والمظاهر, مثلما جعله يرتاح ويتلذذ بمعانيها وأشكالها «الغضّة» دائماً, سواء أكان هذا بالمعنى النفسي أم بالمعنى الروحي. بل إنه يرى في الطبيعة المعلّم الذوقي الأول, ومن دون تربيته الجمالية الذوقية, لن تكون المرأة التي هي الجمال نفسه عند الشاعر, إلا فظّة غليظة في التعامل الإنساني أو العاطفي:
فظّةً كنتِ واللهْ
مثل من لم يشاهد مدى عمرهِ
وردةً… أو قمرْ
مثل من لم يمرّ النسيم بواديه
مثل من لم يبلل له وجنتيه المطرْ
فظّة كنتِ, بالمختصرْ[239]
وقد يفيد القول هنا إن معجم الطبيعة, عند الشاعر, يقوم في جانب واسع منه, على الطبيعة المثمرة أو على مفردات الثمار الغضّة, من مثل التفاح والدراق والخوخ والتين والعنب… الخ, مما يحيل على اللذة الحسية الشهوية, من حيث الدلالة الأولى, وعلى المتعة الجمالية, من حيث الدلالة العامة. وهو ما سوف نعود إليه لاحقاً.
أقنوم المرأة:
غالباً ما تمّ التعامل مع المرأة, في شعر الحداثة, من منظور الدلالات الرمزية, ولاسيما على مستوى الأنوثة فيها. حيث تمً تجريد الأنوثة إلى رموز متنوعة متعددة, بحسب رؤى العالم عند هذا الشاعر أو ذاك. فقد تماهت الأنوثة مع الأرض والوطن والخصب والانبعاث والتجدد والحرية والحلم والخلاص…الخ, فتناثرت عناصر الجسد الأنثوي في مناحي الرؤى الشعرية, بحسب الخطاب الجمالي العام, مما تمكن دراسته النقدية الثقافية في أبعاده الاجتماعية التاريخية المختلفة. وإذا ما استثنينا قصائد الحب الصريح تحديداً, فإنه يصعب الكلام على المرأة في شعر الحداثة عامة, بمعزل عما هو رمزي أو معنوي أو تجريدي, بالرغم من حضور جانبها الأنثوي بقوة. وقد يتقاطع شعر الحداثة, في ذلك, مع الشعر الصوفي الذي ذهب إلى هذا التعامل الرمزي, في وقت مبكر.غير أن هذا التعامل لا نلحظه في شعر صقر عليشي إلا نادراً. فقد تعامل الشاعر مع المرأة من منظور عاطفي ومتعوي ولذوي شهوي, مثلما تعامل معها من منظور اجتماعي إنساني, وإن يكن المنظور الأول هو الأعلى حضوراً عنده, مثلما كان عند القباني. وقد انعكس ذلك على مختلف المستويات النصية, في شعره, معجمياً ودلالياً وتخييلياً. أي إنه تعامل معها كتعامله مع الطبيعة تماماً. فقد حاول استنفاد طاقتها الحسية والدلالية, في محاولته التعبير عنها,وعن علاقته المتعددة الجوانب بها:
بعضهنّ كما العشب يمتدّ أخضرَ… أخضرْ
بعضهنّ كما النبعُ
يُحكِم حولك رقّته وعذوبتَه
بعضهنّ يدير علينا النبيذَ…
وبعضٌ يدير الفلكْ
بعضهنّ كما الغيم…
يمضي, ولكنه يترك الأفق لَكْ [ 212]
باختصار: إن المرأة جميلة فحسب. وهي جميلة بأطوارها ومستوياتها وطبائعها جميعاً, ولا يمكن النظر إليها إلا من هذا المنظور. وهذا التعميم الشعري الجمالي لا يتعلق بجنس المرأة فحسب, بل يتعلق أيضاً بكلّ امرأة بإطلاق. فالمرأةجنس جميل, ولا يتأتى منه إلا ما هو جميل, وليس ثمة استثناء في ذلك. تماماً كالطبيعة التي هي بعناصرها وأطوارها كافة مرغوبة ومحبوبة. ولاشكّ في أن ثمة روحية مثالية في هذا, ولكنها روحية تنهض مما هو جمالي لا مما هو فكري. بمعنى أننا لا نستطيع أن نرى في التعميمات الجماليةعامة موقفاً فكرياً قطعياً أو نهائياً. لكننا نستطيع أن نرى فيها أبعاداً ثقافية تتقاطع مع هذا الخطابالاجتماعي أو ذاك.
وبالرغم من أن الشاعر صقر عليشي لا ينطلق من رؤية ثقافية ذكورية بحت, في موقفه من المرأة, فإن الكثير من تقويماته الجمالية وصوره الفنية ومشاعره العاطفية تنهض مما هو ذكوري/ ثقافي تجاه المرأة بوصفها جسداً. بل إن كثيراً من قصائده يقوم على ما هو شهوي, يتداخل فيه الجنسي والبصري واللمسي, وله في هذا آباء وأجداد كُثر, في شعرنا العربي الكلاسيكي قديمه وحديثه, بدءاً بالمنخّل اليشكري وابن أبي ربيعة وأبي نواس.. وانتهاء ببدوي الجبل وأبي ريشة والقباني, على تفاوت في الصراحة التعبيرية عما هو حسي شهوي,وعما هو ذكوري ثقافي, تجاه الأنثوي والاجتماعي في المرأة أو تجاه أحد أعضائها:
إنه نهدْ
مئةٌ بالمئهْ
لا تشوب صلادته شائبهْ
جوهرٌ فردْ
من قديم السنين
يشعّ حقائقه الغالبهْ
سليل أباطرة أوّلينَ..سليل مكينْ
من أعاليه يحكم مملكة السند والهندِ
أرسى مناقبه جيداً
واستتبّ له كلّ مجدْ[ 271- 272]
إن ثمة تأريخاً تقويمياً للشهوة أكثر منه توصيفاً للنهد بوصفه عضواً أنثوياً,وفي الواقع فإن لتلك الشهوة منعكسات لا تحصى في التاريخ البشري الجمالي وتاريخ الفن خاصة؛ تبدأ بأدوات الزينة والأساطير القديمة, ولا تنتهي بأحدث أغنية في الحبّ. حيث تتداخل الشهوة الجنسية في كلّ من المتعة الجمالية والموقف الثقافي الذكوري تجاه المرأة تداخلاً, يصعب فيه التمييز الدقيق بين كلّ منها, وما الغالب أو الأساس فيها.وهو ما انعكس تاريخياً حتى في نظرة المرأة إلى جسدها وقيمته الثقافية الذكورية!.
وعلى الرغم من أن المقطع, والنصّ عامة, يسعى إلى توصيف الهيمنة الأنثوية الجنسية, من خلال إعطائها أوصافاً ذات طبيعة لاهوتية- جوهر فرد/ له كلّ مجد- وذات طبيعة اجتماعية أرستقراطية استبدادية- سليل أباطرة/ من أعاليه يحكم…- تجعل الجسد أو النهد حاكماً مطلقاً لا محكوماً, مما يذكّرنا بألوهة المرأة والعصر الأمومي عامة, نقول: بالرغم من ذلك, فإن في النصّ أبعاداً ثقافية ذكورية غالبة, تجعل النهد الذي يشعّ حقائقه الغالبة, والذي استتبّ له كلّ مجد, نهداً محكوماً بالرغبة الجنسية الذكورية تحديداً, نهداً منظوراً إليه على أنه نهد فحسب, لا على أنه ثديٌ أيضاً. فللثدي أبعاد أمومية لا يحتملها النهد. هي تلك الأبعاد التي كانت تطبع العصر الأمومي وثقافته الاجتماعية.ومع أن الثدي يحتمل إيحاء لذّوياً بيولوجياً ونفسياً وروحياً, من خلال الرضاعة والأمومة, فإنهقد لا يحتمل ذلك الإيحاء اللذّوي الجنسي فحسب, كما هي حال النهد الذي تبدو جماليته, في هذا المقطع والنص عامة, متأتية من الإثارة الحسية والجنسية معاً. وهي الإثارة الطاغية في شعر عليشي, فيما يتعلق بالمرأة/ الأنثى. حيث يرتفع المستوى الجنسي لديه إلى الحدّ الذي يجعله يتغلب,في بعض النصوص, على المستوى المتعوي, من دون أن يعني هذا أننا أمام نصوص جنسية أو شهوية بحت. فثمة نصوص شعرية, يتصدر فيها الإيحاء الجنسي, من دون أن ينفرد بها, أو يستنفد دلالاتها الشعرية. وهو ما يبقيها في حدود الحقل الجمالي ولا ينحرف بها إلى الحقل الجنسي.
فمن المعلوم أن الحقل الجمالي يتقاطع مع مجمل الحقول الاجتماعية والإنسانية كافة, من دون أن يتطابق أو يتماهى مع واحد منها. والحقل الجنسي أحد تلك الحقول.الأمر الذي يجعل الحقل الجمالي متعدد الجوانب والمستويات.وكذا هي الحال في الحقل الجنسي الذي يشتمل على ذلك التعدد, مما يسمح بالتعامل معه فنياً, من دون الوقوع فيه, أو في دلالته الصرف.أي إن دخول هذا الحقل إلى الحقل الجمالي هو دخول بدهي, غير أن المسألة تتعلق بكيفية الدخول ومستواه, لا بالدخول ذاته.
وإذا ما كان الجسد الأنثوي كلّه موضوعاً فنياً ومادة تخييلية ومتعوية, في شعر صقر عليشي, فإن للنهد, على وجه التحديد, حضوراً لا ينازعه فيه أي عنصر من عناصر الجسد الأنثوي. بل إننا نذهب إلى أن النهد يمثّل محور الدلالة اللذوية الجسدية, مثلما يمثّل التفاح محور الدلالة اللذوية الطبيعية, ولذلك لا غرابة في أن يحيل الواحد منهما على الآخر, أو أن يتبادلا الدلالة الجمالية, أو أن يكونا محورين رئيسين من محاور المعجم الشعريوعناصر التصوير الفني معاً. إن كلاً منهما يرتفع إلى مستوى الأيقونة, فالنهد أيقونة الجسد, مثلما التفاح أيقونة الطبيعة:
لم تُعطِ تفّاحتَها آدماً
كي يهبطا من بعدها الأرضَا
حوّاءُ بالتفّاح كانت, فقطْ
تريده أن يعرف العضّا[ 245]
نلحظ, هنا, تداخلاً إيحائياً مقصوداً بين التفاحة والنهد. إذ يبدو أن آدم لم يأكل بإيعاز من حوّاء تفّاحة المعرفة, وإنما تفّاحة الجسد. وهي لم تكن تهدف إلى الخروج من الجنة. بل العيش فيها عبر اللذة الجنسية. ولهذا التداخل الإيحائي بعدٌ رؤيوي استراتيجي مهمّ, وهو التماهي بين الجسد والطبيعة عبر أيقونة كلّ منهما. بل أيضاً عبر أيقونة كبرى واحدة وهي الشكل المكوّر, أو الشكل الدائري الذي هو أكمل الأشكال الهندسية في الفكر العربي- الإسلامي. وهو أيضاً أوضح الأشكال بروزاً, في شعر صقر عليشي.
إن بين «نهد» الطبيعة و«تفّاحة» الجسد الأنثوي علاقة شكلية واضحة, من حيث التكوير, وعلاقة رمزية ممكنة من حيث الشهوة, وعلاقة مكانية قائمة من حيث الارتفاع, وعلاقة لذوية فعلية, من حيث حاسة البصر واللمس والذوق. ولهذا فمن الممكن جمالياً أن يتبادل النهد والتفاح الدلالة على معطى لذّوي محدد. وقد لا يكون صقر عليشي متفرداً في ابتكار هذه العلاقة التشبيهية بين النهد والتفاح. ففي الأدب الشعبي السوري خاصةً شيء كثير من هذا, ولكن الشاعر من أكثر المستثمرين لتلك العلاقة, مما يرفعها إلى مستوى الخاصة التصويرية والدلالية في شعره عامة. وإذا ما أشرنا إلى أنه غالباً ما يُجري تبادلاً دلالياً بين عناصر الجسد الأنثوي وعناصر الطبيعة الملذّة تحديداً, فإن هذا يعني أننا أمام تعامل جمالي عام, وهو التبادل الدلالي بين الجسد والطبيعة.وذلك من مثل:
أرأيت الألوان على الشرفات
جلسن عرايا حتى من ورق التين؟ [ 12]
*
أخبريني أيتها الحقول
أيّةَ تنهيدةٍ تطلقين
عندما يرقد هذا النهر
على بطنك, بجسمه الثقيل البارد؟ [ 34]
*
أحبّ أن أذوق غامض التفّاح
أكثر مما لو أذوق
ثمر الخلود [246 ]
*
وكانت السماء
من فوقنا تمتدّ لذّة زرقاءْ [ 332]
*
يسيل حريرُ النور, من عنقٍ له
ويطلع وردٌ من خدود غريزتهْ12
إن هذا التبادل الدلالي بين الجسد والطبيعة يتأسس على المتعة الجمالية في مستواها الحسي أولاً. وبهذا فالانزياح غالباً ما يقوم على تلك العلاقة التبادلية بين الجسد والطبيعة. حيث تُعطى الطبيعة دلالات جسدية شهوية, وكذا هي الحال في الجسد الذي يُعطى دلالات طبيعية لذوية. فتبدو الطبيعة أشبه بالجسد الأنثوي من حيث إثارة اللذة, ويبدو الجسد أشبه بالطبيعة من حيث إثارة المتعة. وما بين اللذة والمتعة, والألفة والدهشة يتوزّع شعر صقر عليشي. لكن لا بأس من القول أيضاً إن ذلك التبادل الدلالي بين الطبيعة والجسد يقع أيضاً بينهما وبين القصيدة- الأقنوم الثالث- حيث نجد: نهد الصورة, ونهود المجاز, ولمست قصائدها, وللبحر قصائده…الخ. ونلحظ ذلك التبادل كلّه في قوله:
مددتُ يدي
ولمستُ قصائدها تحتُ
في العمقِ,
عشبُ المجاز ازدهى وتألّقَ
والريح سارت كما نشتهي(13)
أقنوم القصيدة:
يمكن التوكيد أن صقر عليشي من أكثر شعراء جيله احتفاء بالشعر أو القصيدة, لا بمعنى أنه الأكثر اشتغالاً واعتناء بها على الصعيد الفني. بل بمعنى أنه الأكثر استحضاراً لها وكلاماً عليها في نصّه الشعري. فلا تخلو مجموعة شعرية, لديه, من عدد من القصائد والمقاطع التي تتوقف عند العملية الإبداعية الشعرية, أو البهجة والحبور لمجيء القصيدة, أو انتظارها القلِق اللذيذ, أو الاشتغال الفني عليها, أو الكلام على وظيفتهاوأهميتها…الخ. بل إن القصيدة تغدو,شأنها شأن الطبيعة والمرأة, منجماً دلالياً ومتعوياً, يمدّ الشاعر بأسباب الطمأنينة والأنس والمجاز والتخييل جميعاً.
وعلى الرغم من التحوّل الملحوظ في نظرة صقر عليشي إلى وظيفة الشعر, عبر مسيرته الشعرية, من نظرة تؤكّد الوظيفة الاجتماعية/ الثورية أولاً, إلى نظرة تركّز على الوظيفة الجمالية أولاً, فيمكن التوكيد أن ثمة تنامياً واتساقاً في ذلك التحول. فليس هنالك انقلاب أو انقطاع حادّ في تلك النظرة.إذ لم يزجّ الشاعر, عبر تلك المسيرة, بقصيدته في معترك الخطاب السياسي المباشر, أو الخطاب الأيديولوجي الثوري الصريح, بالرغم من إعلانه الشعري عن منبته الطبقي الاجتماعي وبيئته الجبلية الريفية, وانتمائه الأيديولوجي اليساري, عبر مجموعاته الشعرية, ولاسيما مجموعة «أسرار». فهو لا يفتأ يعبّر عن ذلك المنبت والانتماء بمستويات متفاوتة, ولكن من دون ضجيج أيديولوجي. بل يصحّ القول إنه كثيراً ما يبتعد عن ذلك الخطاب بخطاب لذّوي لا يأتلف وذلك الخطاب ائتلافاً واضحاً. وذلك حين يرفع من شأن اللذة في الشعر إلى الحدّ الأقصى, وحين يعلن, كما في القصيدة المعنونة بـ«تغيير العالم», أنه لا يسعى إلى تغيير العالم ولا حتى نصف العالم, وأنه لن يسعى إلى تغيير مجرى النهر. إنه فقط يريد تغيير ذاته بزجاجة خمر!.لكن إذا كان منطوق النصّ يوحي بالعبثية واللامبالاة, فإن مفهوم النصّ يوحي بما هو أبعد من ذلك,إنه يوحي بضرورة التغيير, تغيير كلّ شيء. وإلا فلماذا لا رغبة لديه في التغيير, إن لم تكن ثمة حاجة ملحة إليه, وإحساس قوي بضرورته؟. غير أنه لا يستطيع فعل التغيير خارج ذاته, ولهذا يبادرها بما ملكت يده, كما فعل طرفة بن العبد قديماً.
وعلى أية حال, فإن صقر عليشي يرى أن التغيير الذي يستطيعه عامة هو القصيدة, هو إبداع الشعر, هو إنتاج المتعة الجمالية. أي إنه يعيد إنتاج المتعة التي يحصل عليها في تجاربه الحياتية إلى المتلقي. فالقصيدة هي قناة المتعة بين الشاعر والمتلقي. ولعلّ هذا يكمن وراء انشغال الشاعر المستمرّ بالقصيدة. إنه ينشغل بما يستطيعه ويستطيبه معاً, مع التوكيد أن انشغاله بالقصيدة هو انشغال بالأقنومين الآخرين: الطبيعة والمرأة. فهذه الأقانيم الثلاثة هي نفسها عناقيد اللذة عند الشاعر:
أنهيتُ تحليقي لهذا اليومِ
في فضاء الشعرْ
أمضيتُ وقتاً ممتعاً
في حضرة العلا
التهمتُ لُبّ النور في شهيةٍ
ومن هناك… رحت أرمي القشرْ[480]
فالقصيدة هي المتعة في عوالم نورانية عُلْوية, وهي الحقيقة المطلقة, وما سواهاإلا قشور!. إنها متعة لا يستشعرها إلا من عاش التأمل الجمالي, وذاق نكهة السموّ فوق الزمان والمكان, في لحظة المعايشة التأملية, ورأى أن ما سوى الجمال مجرد قشر لا قيمة له. وقد يبدو أن في هذا تناصاً مع المتصوفة في مواجيدهم وأشعارهم, وهو كذلك, ولكنه تعبير شعري لائق بطبيعة التجربة الجمالية التي قال فيها الكثير من علماء الجمال, إنها تجربة خارج الزمان والمكان, وأنها تجربة تتلخص بالمتعة تحديداً عند بعضهم. وقد يبدو أن الشاعر يرمي بكلّ ما هو اجتماعي وراء ظهره, بوصفه قشوراً, على اعتبار أن الجمال بمتعته هو اللّبّ, وما سواه القشر بإطلاق. ولكن المسألة ليست على هذا النحو تماماً.
نشير أولاً إلى تلك الصورة الفنية التخييلية القائمة على التقاط صورة واقعية حقيقية, لطفل ريفيّ أو متنزّه, يجلس على قمة الجبل أو التلّ, مستمتعاً بالطبيعة من حوله, وبأكل الثمراللذيذ رامياً بقشرته دون مبالاة بأي شيء أو همّ أو قضية. إنها لحظة جمالية نعيشها بشكل فعلي, من دون أن نفطن إلى أننا لا نحسّ بالزمان والمكان بوصفهما وعائين لنا. إن الشاعر لم يفعل غير أن نقل المشهد الواقعي الحقيقي إلى مشهد تخييلي مفارق لكن إيحاءه حقيقي واقعي. وهو أن التجربة الجمالية تجربة تحليق فوق المشاغل اليومية النفعية أو الحاجات الغريزية أو القضايا الحياتية الملحّة.ونحن عندما نفعل ذلك لا نخون قضايانا الكبرى, أو نتخلى عن منافعنا وحاجاتنا الفردية أو الاجتماعية. لكنها تبدو لنا, في لحظة التجربة, أنها مجرد قشور أمام المتعة العليا التي نعيشها. ولا يقول هذا النصّ نقيض ذلك, كأن يقال إن الشاعر يرمي بالدنيا وقضايا البشر وراء ظهره, ويلتفت إلى لذائذه الذاتية الخاصة؛ أو يقال إنه يدفع بالشعر إلى نظرية الفنّ للفن, كما صرّح هو في أحد تعبيراته الشعرية.
والحقيقة أن الفن لا يمكنه أن يكون للفن, حتى لو ادعى الفنان ذلك, وادعاه أيضاً من ورائه أو من أمامه المنظّرون. ولكن بالإمكان أن تكون القيمة الاجتماعية أو المعرفية أو الثقافية في حدّها الأدنى, في هذا النتاج الفني أو ذاك, أو أن يتمّ التركيز فيه على ما يبدو عرضياً ثانوياً أو جزئياً, أو ما لا قيمة بادية فيه, بشكل لا يتناسب والقضايا الاجتماعية أو السياسية الملحّة, في هذه المرحلة أو تلك. غير أن ثمة قيمة ثقافية فيه بوصفه نتاجاً جمالياً. إن الجمالي ثقافي معرفي بالضرورة, كما أسلفنا, بصرف النظر عن مستواهما فيه. ومعأنشعر عليشي, بمجمله, ليس شعر القضايا الاجتماعية الكبرى والمعاني الفكرية أو الفلسفية المجرّدة. بل هو شعر الظواهر والأشياء الحسية الكبيرة منها والصغيرة, شعر اللحظات الخاطفة أو العابرة على السواء. فإن هذا لا يؤدي إلى القول بضآلة المعنى فيه أو عرضيّته. إذ يمكن التعمّق في أبسط الأشياء وأكثرها عرضية, من خلال المنظور والرؤيا والتشكيل.
يقول بعد أن يشير إلى أن هنالك من يكتب عن الحبّ, ومن يكتب عن الحرب, ومن يكتب عن السادة النجباء, ومن يكتب عن الرحابة عند النساء واحتدام الجمال فيهنّ:
وأما أنا يا كرامْ
فإني سأكتب بعض الكلامْ
عن حمار حزينْ
كنت صادفتُه عرَضاً في الطريق
أظنّ سأكتبُ عنه كلاماً عميقْا[402]
ومع أنه ممن يكتبون عن الرحابة واحتدام الجمال عند النساء, فإنه سوف يكتب أيضاً بشكل عميق عما يبدو عرضياً. ولكنه لم يكتب ذلك الكلام العميق عن الحمار الحزين, وإنما كتب كلاماً عميقاً في مسألة الشعر أو الفنّ في تنوّعه وغناه ومستوياته-تماماً كما كتب في مسألة التجربة- وأن الفن يمكن أن يتناول كلَ شيء في الحياة مع بقائه فناً, ولا يمنع وجود هذا النمط من وجود ذاك, حتى لو كان نقيضاً له.فالتنوع الجمالي تعبير عن التنوع الحياتي عامة. وما اختيارات الشاعر, أو الفنان, إلا نوع من الاستطاعة والاستيطاب. والنتيجة أننا أمام تنوّع واسع جداً, في لوحة الفن.
فقد شهدت الحداثة الشعرية, والشعر العربي الحديث عامة, كثيراً من الدعوات التي رأى الشاعر فيها نفسه نبياً أو أشبه بالنبي, ومجنوناً أو أشبه بالمجنون, وصعلوكاً أو أشبه به, ومتمرداً وثورياً ومصلحاً وفوضوياً ومحبطاً ومغترباً…لقد مرّ هؤلاء جميعاً في لوحة الشعر الحداثي, وتركوا بصماتهم محفورة على جدرانه, ولكلّ منهم نصّه الشعري أو قصيدته الخاصة التي لا تشي به, بقدر ما تشي بجوهر الحداثة الذي هو مفهوم الحرية. تلك الحرية التي تجعل صقر عليشي يُقبل على كتابة ما يريد متفهماّ ومتقبلاً ما يكتبه الآخرون, مهما تباعد أو تناقض مع نزوعه الشعري.
يتوقف صقر عليشي كثيراً عند القصيدة وأسبابها ولذائذها وأوجاعها ووظائفها وعلائقها, يتوقف عند غيابها المقلق وحضورها البهي, عند دلالها وعنادها؛ كما يتوقف عند الشاعر والشعراء وأهدافهم وأذواقهم…الخ. يقول تحت عنوان «مذكرات شاعر»:
حين مررنا بالدروبِ
لم نمرّ دون أن نزيح عن كاهلها حجرْ
حين مررنا بالغروبِ
لم نمرّ دون أن نضيف روحنا إلى الشجرْ
حين مررنا
لم نمرّ دون قامةٍ
ولم نضع على رؤوسنا أقلّ من سماءْ
في البدء قلنا
قبل أن تنبس بالحليب حلمةٌ
وقبل أن يقول النبع: ماااءْ [478- 479]
إن وظيفة الشعر والشاعر, بوصفه مبدعاً, هي وظيفة الجمال التي لا تعني المتعة الفردية الحسية الشكلية الخاصة. بل تعني إشاعة الجمال في المحيط الاجتماعي والإنساني, وذلك بإزالة ما يعيق ويضرّ, وأنسنة العالم أو الطبيعة, ورفع سقف الكرامة والحرية فردياً واجتماعياً, بما يتناغم وسقف الجمال الذي لا مهادنة فيه, أو كما يقول:
إنما ليس تأخذني بالجمالْ لومةُ لائمْ[443]
عند ذلك يكون للشعر والشاعر مجال اجتماعي- إنساني لائق بالمتعة والبهجة. وهو حلم فردوسي إنساني عتيق, لا تخبو شعلته مهما بدت مطفأة.غير أن للقصيدة طريقة فنية رؤيوية خاصة في إشاعة الجمال وإزالة القبح من هذا العالم. أما خارج القصيدة أو الفنّ فثمة طرائق عملية أخرى, للوصول إلى ذلك, سياسية أو قانونية أو أيديولوجية عامة.
إن المتعة هي أيقونة القصيدة, مثلما أن التفاح هو أيقونة الطبيعة, والنهد أيقونة المرأة, عند صقر عليشي, ومن دون المتعة يصعب الدخول إلى وعي العالم الشعري, عنده, تجربة ورؤية وتشكيلاً. أما تلك المتعة فهي متعة الجمال في الدرجة الأولى والأخيرة أيضاً.
وكما مرّ بنا من قبل, فإن للمتعة الجمالية أنساقاً ومستويات متعددة ومتفاوتة. فمتعة الجميل ليست هي متعة الجليل أو السامي أو متعة العذابي, أو الكوميدي أو البطولي…أو متعة القبيح في الفن. إنها متعة تتداخل فيها اللذة والغبطة والألفة والدهشة, وما الأمر كذلك في بقية القيم الجمالية. وبما أن الفنّ ينطوي على طبقتين متراكبتين من المتعة, وهما طبقة المتعة الحسية الشكلية, وطبقة المتعة الثقافية الروحية؛ وبما أن هاتين الطبقتين لا تتوحدان في المنحى إلا في تلقّي الجمال, فإن ذلك يعني أن المتعة الجمالية عند صقر عليشي هي متعة ذات نسق واحد, هو نسق الجمال, وذات مستويات متعددة, حسية أو نفسية أو روحية متفرقة أو مجتمعة في الوقت نفسه. ولعلّ هذا ما يسوّغ وجود تلك الكثرة الكاثرة من المفردات اللذوية المتعوية, في شعره:
لن أخلّي الجمال يرتاح حتى
يرتمي ضارعاً إلى أبياتي[196]
دلالة المعجم اللغوي:
وتوكيداً لما سلف, نتوقف عند المعجم الشعري, الذي نهض بدوالّه ودلالاته, بتلك الأقانيم الثلاثة التي دفعت به إلى أن يتوزّع على ثلاثة حقول دلاليةكبرى,تنقسم بدورها إلى حقول دلالية صغرى أو جزئية. وهي الحقل الحسي الطبيعي, والحقل الشعوري, والحقل الروحي. أما الحقل الطبيعي فيشتمل على مجمل جزئيات الطبيعة الجبلية الخضراء, من مثل:الجبل والتل والقمة والسفح والوادي, والحور والصفصاف والعشب والورد, والتفاح والرمان والخوخ والتين, والطير والفراش والنحل, والنبع والسواقي…, كما يشتمل على حقل الجسد الأنثوي, من مثل: النهد والوجه والساق والخصر والسّرّة والعنق والشفاه..؛ أما الحقل الشعوري فيتنوّع بين الحسي والنفسي, من مثل: الشهوة والرغبة والراحة والعذوبة والرهافةوالرقّة والرشاقة, ومن مثل: السعادة والفرح والحبور والرحابة والألفة والدهشة والذهول والمرح واللعب…, أما الحقل الروحي فينقسم إلى حلقين اثنين: الأول منهما هو حقل القيم الأخلاقية/ الشعبية, من مثل: الطيبة والودّ والمحبة والوئاموالشموخوالكرامة والقناعة. والثاني هو حقل القيم الثقافية العالمة كالشعر واللوحة والحوار والمعرفة والعلم والفلسفة والحقيقة والكمال…الخ.
لا شكّ في أن ثمة حقولاً أخرى, تصعب الإحاطة بها جميعاً, في هذه الدراسة.غير أن همّنا الدراسي يتركّز في استبيان منعكسات التجربة الجمالية, في هذه الفقرة, على مستوى المعجم اللغوي الشعري. وهي منعكسات مؤتلفة متكاملة. يبدو ذلك واضحاً في ائتلاف تلك الحقول وتكاملها الدلاليين. حيث نلاحظ أن الحقل الطبيعي يكاد يشمل الطبيعة برمتها, من غير إهمال جانب من الجوانب, أو التركيز على جانب دون آخر, وهو ما يعني أن الطبيعة هي المادة التخييلية الأولى, وهي كذلك البيئة المكانية الأولى, ونكاد نقول البيئة الوحيدة أيضاً.فقد غابت البيئة المدينية عن ذلك المعجم غياباً شبه تام, من غير أن يعني هذا غياب المدينة عن شعر صقر عليشي, سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالمكان المديني أم يتعلق بالقيم الاجتماعية المدينية. فلم ترتفع المدينة إلى مستوى التشكّل في حقل دلالي خاص. وكلّ ما يتلامح به المكان المديني لا يعدو أن يكون شارعاً أو رصيفاً أو غرفة ضيقة أو نافذة.., والشيء نفسه يقال في العلاقات المدينية.وكان بالإمكان أن يكون لمثل هذه العناصر فيما لو ارتفع حضورها اللغوي حقل دلالي خاص. بل حقول متعددة. غير أن هذا لم يحدث إلا في قصائد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة, مثل قصيدة» يوم الجمعة المقدّس». وعدم حدوثه ذو قيمة دالّة على ذلك الحضور المهيمن لجمالية الريف طبيعة وعلاقات. وهذا يتناغم مع ما يقوله الشاعر:
صحيحٌ بأنّا تركنا القرى منذ وقت طويلٍ
ولكن
تُرى هل وصلنا المدينهْ؟[389]
وكذا, فإن الحقل الطبيعي يتوزع على عدة دلالات أساسية, وهي دلالة الارتفاع والاخضرار والتكوير والطزاجة. وهي دلالات نجدها مجتمعة ومتفرقة, في هذا العنصر أو ذاك, من مثل: التفاح والرمان والخوخ, حيث الدلالات الأربع مجتمعة. ومن مثل الحور والصفصاف والسنديان, حيث الارتفاع والاخضرار. ومن مثل القمر والنجم والجبل والتلّ والنهد, حيث الارتفاع والتكوير.
أما الحقل الشعوري فإنه يدلل, بكلّيته, على النزوع اللذوي المتعوي, في هذه التجربة. حيث غابت مفردات الحزن والألم والاغتراب وما يشاكلها أو يتقاطع معها, على نحو لافت للنظر, مع حضور هائل مكثّف لما هو لذوي شعورياً. الأمر الذي يعبّر تعبيراً شديداً عن النزوع الجمالي العام والخاص إلى الجمال الممتع دون سواه. ومع أن هنالك ما يحيل على المحزن أو المؤلم, في هذا الشعر, فإن تأثيره النفسي يكاد يكون معدوماً. وذلك لوروده غالباً عبر المفارقة والابتسامة الساخرة. أي عبر التطريف والتبهيج.
أما الحقل الروحي فقد انصرف هو الآخر إلى القيم الاجتماعية الإيجابية خاصة, وكاد يخلو من القيم السلبية كالحقد والغدر والخيانة.وهو ما يحيل على أن الشاعر معنيٌّ بالقيم التي تتناغم ومثله الجمالي الأعلى, لا بالقيم التي تتناقض وإياه. غير أن ذلك يحيل أيضاً على غياب التناقض والصراع والنزعة الدرامية عامة, عن شعر صقر عليشي ذي السمة الغنائية المهيمنة. فهو شعر القيم البسيطة غير المركبة أو المعقدة, شعر الوئام لا شعر الصراع. ولا شكّ في أن هذا يتكامل ودلالات الحقل الشعوري الذي غابت عنه تقريباً المشاعر المركّبة أو المعقّدة أو الحادة.
إن التدقيق في تلك الحقول الثلاثة سوف يؤكد أن المتعة هي أيقونة القصيدة, بل التجربة الجمالية عامة, في هذا الشعر. فالحقل الحسي الطبيعي يدلّل, في معظمه, على اللذيذ والممتع. سواء منه ما كان له علاقة بالطبيعة المثمرة أم بالطبيعة الخضراء, وسواء أكان له علاقة بالارتفاع أم الامتداد والانفتاح. وكذا هي الحال في الحقلين الشعوري والروحي اللذين تحدّدا بالممتع والإيجابي شعورياً وقيمياً.
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الشكل المكوّر أو الدائري هو الأيقونة الكبرى, في شعر صقر عليشي. وكأن المتعة تتلخص, لديه, بذلك الشكل اللانهائي الذي يرمز إلى المطلق لاهوتياً وفلسفياً. فهو أكمل الأشكال الهندسية, وأكثرها تعبيراً عن الحركة, وأقلّها حدّة, أو لا حدّة فيه أصلاً,وأكثرها ليونة ورشاقة. ونحن هنا لا نتكلّم على شكل هندسي صرف, من منظور علمي. بل عن شكل هندسي ذي دلالات لاهوتية وأسطورية وفلسفية وصوفية وتشكيلية, كان لها جميعاً حضور ملموس في هذه المرحلة الفكرية أو تلك. فعلى الرغم من اختلاف المنطلقات في النظر إلى الشكل الدائري, فإنه احتفظ بأهميته الرمزية الدالة على تلك المعاني, التي لا تسترعي انتباهنا في تلك المنطلقات فحسب. بل تسترعيه أيضاً في هذا الشعر ومعجمه اللغوي وصوره الفنية:
والخصر باقة طازجة من النعيمِ,
محور الجمالْ
يمكن أيضاً أن نقول إنه:
دائرة الكمالْ[334]
فقد ارتفع حضور دلالات الشكل المكور أو الدائري إلى الحدّ الذي يجعله حقلاً دلالياً قائماً بذاته, حقلاً يتقاطع مع تلك الحقول, من حيث العناصر والمستويات الحسية والروحية, ويستقلّ عنها من حيث الأبعاد الرمزية اللاهوتية أو الفلسفية. ومع أنه لا يمكن الذهاب إلى أن تلك الأبعاد الرمزية هي المستند الرؤيوي أو الفكري في الميل إلى الشكل الدائري,في شعر عليشي, كما هي حال الشعر الصوفي مثلاً, فإنه لا يمكن في المقابل غضّ النظر عن الدلالات الرمزية لذلك الشكل, ولاسيما أن الشاعر غالباً ما يميل إلى إجراء التناص, عبر التراكيب الشعرية, مع هذه الفكرة اللاهوتية أو تلك, في تناوله الفني للأشكال الحسية المكورة, كالنهد والتفاح. أي إنه ينقل المعنى اللاهوتي التجريدي للشكل الدائري إلى المعنى الحسي, فيكسبه بعداً رمزياً, كما لاحظنا ذلك في المقطع الذي توقفنا عنده, حول النهد الحاكم المكين.
وإذا ما أردنا استعراض تجليات الشكل الدائري أو المكور, في المعجم الشعري, فإننا سوف نجد أنها تتوزع على الكوني والطبيعي والجسدي, وهي جميعاً تدخل في باب الجميل. وذلك من مثل: الشمس والقمر والنجم والكوكب, ومن مثل: التفاح والدراق والخوخ والعنب والبصل والبطاطا والبندورة, ومن مثل: النهد والعنق والخصر والسرّة. يقول تحت عنوان: قالت الدائرة(14):
عندما أحببتُ أن أظهرَ
في شكلٍ جميلْ
صرتُ للمرأة سُرّهْ
وهكذا فإن أمتع تجليات الدائرة أو أجملها هو تجلّيها الأنثوي في السرّة أو النهد الذي هو كما يقول الشاعر: ملخّص الأنثى أو أيقونة الجسد.
شعرية الأسلوب:
في القصيدة المعنونة بـ«في منتهى الياسمين» التي يتوقف فيها صقر عليشي, عند رحيل الشاعر نزار قباني, مقطع ذو دلالة فنية مزدوجة, يقول فيه:
في أصيص البساطة يزرع أشعاره
ويوزّعها للنوافذ والشرفاتْ
مثل الحبقْ
يعزّز ألوانه في النباتْ
ويفرض منهجه في العبقْ[ 304]
أما الدلالة المزدوجة فهي امتداح البساطة في شعر القباني, ومن ثمّ امتداحها في الفنّ عامة, من جهة أولى, وامتداح العلاقة الجمالية الحيّة بالأشياء, لا العلاقة الرمزية أو التجريدية بها من جهة أخرى. وواقع الحال أن ما يمتدحه عليشي في القباني هو مذهبه الفني- الجمالي الذي هو مذهب عليشي في الوقت ذاته. ولو عدنا إلى القصيدة كاملة, لوجدنا أن الشاعر يرى أن في شعر القباني وصايا, ينبغي الحفاظ عليها بالشكل الذي يليق بصاحب الوصية. إنها وصية الشاعر للشاعر.
إننا نريد من ذلك أن شعر صقر عليشي ينهض من مفهوم البساطة, سواء أكان ذلك على الصعيد الأسلوبي أم الرؤيوي أم الثقافي. فليس ثمة في شعر عليشي ما هو معقّد أو مركّب أو مجرّد, على مستوى المادة اللغوية والموضوع الحياتي والشكل والأسلوب والقيمة والرؤيا والانفعالات جميعاً؛ وكذا فليس ثمة قصائد مطوّلة أو درامية أو ملحمية, كما هي عادة الكثير من شعراء الحداثة.إننا أمام قصائد محدودة الحجم, أو قصائد مقطعية أو مقاطع قصيرة, في الأعمّ الأغلب.إنه شعر اللحظة الجمالية لا شعر المشروع الفني.ولكن ذلك لا يعني أن الشاعر لا يقوم على الصناعة الفنية, أو لا يعاني فنياً في الهيمنة على مادته اللغوية وموضوعه الجمالي وأسلوبه الشعري. غير أنها معاناة من أجل تأدية المتعة في أبسط شكل وأسلوب ممكنين, بالنسبة إلى الشاعر الذي يقول في علاقته بالقصيدة:
أنا لست نبعاً لا يجفّ من السلاسة والسهولهْ
أنا لن أظلّ هنا
أسيلُ لها شفافيةً
أنفّض عن نمارقها غبار الوقت
ادفع بالمباشر من سجاياها إلى الأعلى
وأحرسها من الجُمل الدخيلهْ[190-191]
أما أبسط شكل ممكن فهو المقطع الشعري أو القصيدة المقطعية, وهو ما اعتمده صقر عليشي في مجمل شعره, فحتى النصوص الطويلة نسبياً لا تتوالى من دون وقفات مقطعية. بل حتى المقاطع القصيرة نلحظ فيها نوعاً من التقطيع الداخلي.وليس هذا فحسب, بل إن القصيدة أو المقطع غالباً ما يكون البناء الفني المجرّد فيها بناء أشبه بالدائري. حيث لحظة البدء هي نفسها شعورياً وفنياً لحظة الختام؛ وحيث التعبيرات اللغوية تتوالد من بعضها, لتكتمل الدائرة. وقد يحيلنا ذلك على الشكل الكروي الذي هو الأيقونة الكبرى, في هذا الشعر. وقد يكون لتلك العناصر الصغيرة المكوّرة المهيمنة, كالنهد والتفاح, أثر في نزوعه الفني العام إلى الأشكال الشعرية المقطعية. أي إن اهتمامه الجمالي بالأشياء الصغيرة, بما تنطوي عليه من رشاقة ورقة ورهافة, هو الذي يسوّغ ذلك النزوع إلى المقاطع الشعرية الصغيرة أيضاً. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, فإن شعر اللحظة الجمالية لا يحتمل التطويل أو التعقيد في البناء الفني أو المشاعر أو الأساليب.
وأما أبسط أسلوب ممكن, فهو الأقرب إلى درجة الصفر في الكتابة, من حيث التراكيب اللغوية/ النحوية, لا من حيث الدلالة والرمز, أو المجاز والانزياح, أو التخييل عامة. فمن المعلوم أنه كلما اعتمد الشاعر, في تراكيبه اللغوية, على التقديم والتأخير والحذف والفصل والوصل…ابتعد, بحسب درجة اعتماده عليها, عن الدرجة الصفرية في التركيب اللغوي؛ وهو ما يعني أن التركيب الشعري يمكن أن يتراوح بين شدة البساطة التي قد تلتبس بالسردية أو بالنثرية, وبين شدة التعقيد التي قد تلتبس بالإبهام والتلغيز. فهنالك الكثير من الدرجاتوالممكنات التركيبية, في اللغة الشعرية, التي تسمح بالاختيارات التعبيرية والأسلوبية عامة. وإذا ما أضفنا إلى تلك الممكنات ممكنات أخرى لانهائية, على مستوى الدلالة والرمز والتشبيه والكناية والاستعارة والإيقاع.., فإن ذلك يؤدي إلى انفتاح لانهائي في الأساليب الشعرية التي تسمح لها بالابتعاد عن الدرجة الصفرية في الكتابة عامة, لا في التركيب اللغوي/ النحوي فحسب.
قلنا إن صقر عليشي مال إلى أبسط أسلوب ممكن, من أجل تأدية المتعة أو القيمة الجمالية. وقد بدا ذلك على مختلف المستويات اللغوية/ الشعرية, بدءاً بالمستوى الصرفي وانتهاء بالدلالة والمجاز. ونودّ التوقف, في هذا المجال, عند التركيب النحوي والإيقاع الشعري والانزياح الدلالي أو المفارقة عامة. وذلك في سعي منا إلى استبيان تجليات تلك التجربة في الأسلوب الشعري, وسوف نكتفي بالإشارة إليها, تاركين التوسع الدرسي والنقدي فيها إلى وقت آخر, أو ناقد آخر.
إن عودة إلى المقبوسات الشعرية السابقة والمنتمية إلى فترات زمنية متباعدة نسبياً, سوف تبين لنا أن الشاعر غالباً ما يميل إلى التراكيب النحوية النموذجية القريبة جداً من الدرجة الصفرية, والتي يتمّ تلقّيها الجمالي من دون فسحة للتفكير أو التأمل النحوي فيها, فهي أشبه نحوياً بالكلام العادي أو السردي أو النثري عامة. فالتركيب النحوي النموذجي عامة يقع في متناول البداهة اللغوية بالنسبة إلى المتلقي قارئاً أو سامعاً. أي إن صقر عليشي لا يتصرّف كثيراً بالتركيب النحوي النموذجي. فثمة الفعل والفاعل والمفعول به أو الحال أو المفعول المطلق أو التمييز.. بتوالٍ نموذجي غالباً, أو ثمة المبتدأ والخبر, أو المنعوت والنعت من دون تقديم أو تأخير أو حذف أو فصل. وذلك من مثل المقبوسات التالية:
وبقيتَ تنتظر القصيدهْ
متململاً…
مستنجداً بقذيفة
تلقيكَ في عمق المدارِ [8]
*
معي قبلةٌ
ليس تكفي جميع النساء لها
معي ضمّةٌ
ليس تقدر كلّ خصور الجبال
على حملها [86]
*
وقفت قدّام المرآة
فامتلأت أعماق المرآة ذهبْ [264]
*
أعرف أنك لا تزال مشغولاً
باستقبال المهنئين
من الملائكة والأقمار العليا والكائنات النورانية
إلا أنني جئتك مستعجلاً
ومعي كيس من التبغ المهرّب[538]
لنقل أولاً إن كون هذه المقاطع مقتطفة عشوائياً, لا يؤكد في ذاته مصداقيتها في التعبير عما نذهب إليه, غير أننا حاولنا استبيان تلك المصداقية في الأعمال الكاملة كلها, فلم نجد ما ينفيها بوصفها سمة مهيمنة, أو يتناقض معها بشكل جذري, ولاسيما أننا لا نزعم أن التركيب النحوي النموذجي هو الوحيد في تلك الأعمال. بل نؤكد أنه المهيمن عليها فحسب. فلا يُعقل أساساً أن يكون هو الوحيد حتى في نصّ نثري, فكيف ونحن أمام نصّ شعري, يقتضي بالضرورة انزياحات على مختلف المستويات النصية, ومنها النحوي!.
نلحظ, في تلك المقاطع, هيمنة التركيب النموذجي واضحة, ففي المقطع الأول مثلاً فعل وفاعل وجملة فعلية واقعة حالاً, والجملة الحالية هي الأخرى تشتمل على فعل وفاعل ومفعول به وحال أولى وحال ثانية, ثمّ شبه جملة, وجملة فعلية وصفية تشتمل على فعل وفاعل ومفعول به, ثمّ شبه جملة. كلّ ذلك بترتيب نحوي نموذجي. وكذا هو الأمر في بقية المقاطع التي لا تختلف عن المقطع الأول, ما خلا البدء بشبه جملة في المقطع الثاني, وهو بدء داخل في النموذجية, أما المقطع الأخير فليس فيه أي قيمة نحوية غير مألوفة في النثر, بلْه الشعر.
فثمة إذاً التزام عالٍ بالتركيب النموذجي الذي يعنيلسانياً الميل إلى الوظيفة التواصلية, ويعني جمالياً الميل إلى البساطة والسهولة, في التراكيب اللغوية عامة. وإذا ما أشرنا إلى أن المعجم اللغوي الذي ينهل منه النصّ الشعري, عند عليشي, معجم متداول, في معظمه, في الحياة اليومية والثقافية, ولا ينطوي إلا نادراً على مفردات تخرج, من حيث المعنى المعجمي, عن الفهم المباشر؛ ولاسيما أن المكوّن الرئيسي في ذلك المعجم هو مفردات الطبيعة والجسد والمشاعر,فإن ذلك يعني أن الشاعر ينزع, في تعبيره عن المتعة الجمالية, إلى شعرية متأتية حتى للمتلقي العام وغير النموذجي, سواء أكان ذلك على مستوى التراكيب أم الألفاظ. وربما قيل, في هذا المجال, إن شعر المتعة لا يحتمل أساساً ذلك التعقيد النحوي والتغريب اللغوي, لما ينطوي عليه من طبيعة حسية لذّوية؛ لكن مثل هذا القول الذي يمتلك وجهاً صحيحاً, يمتلك أيضاً وجوهاً خاطئة عدّة. فطرائق تأدية المتعة الجمالية نحوياً غير محدودة. فلا تتناقض المتعة مع التعقيد النحوي, أو كسر النموذجية النحوية, بالضرورة. فسعيد عقل, شاعر المتعة الأمهر, هو سيد التعقيد النحوي في الشعر الحديث.
فلا تفترض المتعة إذاً مستوى معيناً في التراكيب والألفاظ؛ وذلك أن الأمر يرتبط بمنحى المتعة وطبيعتها وعلائقها الجمالية. فقد تنحو المتعة نحواً سمعياً إيقاعياً صرفاً, أو نحواً صورياً مشهدياً, وقد ترتبط بالأناقة لا بالبساطة, أو الرصانة لا العفوية, وقد تكون ذات طبيعة تجريدية مهيمنة لا حسية غالبة, وقد تتركّز المتعة فيما هو تركيبي, لا فيما هو دلالي أو تخييلي… والنتيجة أن النزعة الجمالية الواحدة تمتلك إمكانات تعبيرية أسلوبية غير محدودة, لطبيعتها ومنحاها ورؤياها وعلائقها المختلفة. ونعتقد أن ذلك كلّه قد أسهم في اعتماد الشاعر غالباً على تلك التراكيب النحوية النموذجية التي لم تساعده فقط, في الميل إلى البساطة التعبيرية. بل ساعدته أيضاًفي اعتماد الأسلوب الشعري السردي, في الكثير من النصوص:
حين وصلتِ
كنتُ واقفاً منتظراً على الرصيفْ
نزلتِ من سيارة الأجرةِ…
سلّمتِ.. ومن بعدُ مشينا تحت مطر خفيفْ15
وما يعزّز النزوع إلى البساطة- والسردية أيضاً- هو ذلك الإيقاع الشعري الخافت, أو الخفي,في أغلب النصوص الشعرية. وإن يكن هذا لا ينفي حضور النبرة الإيقاعية العالية أو الإيقاعات التطريبية الجهيرة- فنحن نتحدث عن تجربة شعرية لا عن نصّ واحد أو مجموعة شعرية محددة- غير أنه حضور أقلّ بروزاً, قياساً بتلك النسبة الكبيرة من النصوص ذات الإيقاعات الخافتة. ولا نقصد هنا نصوص قصيدة النثر. بل تلك المعتمدة علىالتفعيلة بوصفها الوحدة الإيقاعية المتكررة. حيث يتمّ الميل فيها إلى تخفيف حدة التفعيلة, بما لا يجعلها ملموسة لذاتها, أو معلنة عن صوتها الجهير.وهو ما يكاد يدفع بالنصّ أحياناً إلى أن يبدو أشبه بقصيدة النثر, من حيث الإيقاع السمعي, غير أن ما يمنعه من ذلك هو الالتزام العام بالتشطير والقافية وأحرف الروي.
ولكن ذلك الالتزام لا يمنع الشاعر من التعامل الحرّ مع القوافي وأحرف الروي, على عادة شعر التفعيلة, مما يخفف أيضاً من حدة الإيقاع السمعي في نصّه الشعري. وإذا أضفنا إلى ذلك كثرة اعتماد الشاعر على تفعيلات» فاعلن- فعولن- مستفعلن» الأقلّ حدة إيقاعية من سواها, فإن الخفوت يغدو من سمات الإيقاع في شعر صقر عليشي.
وثمة خاصة أسلوبية إيقاعية تندرج تحت الخفوت, وهي التنويع غير المنتظم بين عدة تفعيلات, بشكل يصعب فيه تحديد الإيقاع المحوري أو الأساسي, في الكثير من النصوص,بالرغم من انتهاج إيقاع التفعيلةبشكل عام.وذلك من مثل قوله, وقد مرّ بنا, من قبل:
في أصيص البساطة يزرع أشعاره
ويوزّعها للنوافذ والشرفاتْ
مثل الحبقْ
يعزّز ألوانه في النباتْ
ويفرض منهجه في العبقْ [304]
حيث نلاحظ أن المقطع يبدأ بتفعيلة «فاعلن» المتوالية مع جوازاتها, حتى نهاية السطر الثاني, ثمّ نلحظ تفعيلة « مستفعلن» واحدة, في السطر الثالث, ثمّ تفعيلة « فعولن» بجوازاتها في السطرين الأخيرين. ولو تابعنا المقطع في الديوان فسوف نلاحظ عودة إلى فاعلن, ثمّ فعولن, ثمّ مستفعلن فاعلن معاً, من دون تواتر معين أو انتظام ما. لكن الذي أمسك بالنصّ إيقاعياً, وأعلن عن شيء من الحدة الإيقاعية هو الالتزام والتنويع في القوافي وأحرف الروي, مع أسطر شعرية قصيرة. علماً أن القصيدة كاملة, وهي» في منتهى الياسمين» تسير على ذلك التنويع غير المنتظم بين التفعيلات, وكذا بين القوافي وأحرف الروي, كما تُزاوج بين شعر التفعيلة والشعر الخليلي على نحو غير منتظم أيضاً.
لقد أدّى التخفيف من حدة الإيقاع إلى هيمنة البساطة الشعرية, بشكل تبدو فيه القصيدة أشبه بالنص السردي أحياناً, لكنه نص ّشعري مشدود إلى إيقاع خفي خافت؛ كما تبدو أشبه بالمونولوج أو المناجاة الذاتية, لا صوت ضاج ولا إيقاع عالٍ ولا تراكيب معقدة ولا مفردات خارجة عن المألوف أو المفهوم. ولا شكّ في أن الميل إلى الخفوت الإيقاعي يتكامل والميل إلى التراكيب النحوية النموذجية. إذ كلما ارتفع المستوى الإيقاعي, فوق النثرية, ارتفع أيضاً الميل إلى المستوى النحوي. فدرجة الإيقاعية غالباً ما ترتبط بدرجة النحوية(16), وإن كنّا لا نقول بأن هذه هي تلك بالضرورة. لكن ارتفاع وتيرة الإيقاع تفترض اللجوء إلى التقديم والتأخير والحذف والفصل والوصل.., مما يؤدي إلى الانزياح عن التركيب النحوي النموذجي, أو ارتفاع درجة النحوية.
يمكن التوكيد أن المستوى الدلالي هو الأبرز في التعبير عن المتعة الجمالية, في شعر صقر عليشي. حيث يكثر الاعتماد على المفارقة إلى الحدّ الذي يصعب معه الركون إلى المعنى المعجمي أو المعنى المباشر في التراكيب والألفاظ. إن معنى المعنى هو المعتمد الأساسي, في هذا الشعر, وهو الذي يمنعه من الانحراف من البساطة إلى السطحية, ومن الإيحائية إلى المباشرة, ومن الجمالية إلى التواصلية, ومن الشعرية إلى النثرية جميعاً. فثمة مستويان دلاليان غالباً في الحدّ الأدنى. ولعلّ السبب الرئيس ينهض من الانزياح الدلالي. حيث يتمّ الاستبدال بين المتباعدات والمتناقضات, على مستوى الدلالة المفردة والتركيب الدلالي, مع الركون إلى القيمة الجمالية للظواهر والأشياء, أي دون الإخلال بالقيمة الواقعية المعتمدة في الذوق الجمالي الموروث. مما يجعل المسافة بين القيمة الفنية والقيمة الواقعية مسافة قريبة وممكنة, بالرغم من ذلك الجمع أو الاستبدال, من مثل المقطع التالي:
أنا من هناك…
حيث كلّ شيء مرتفع
الروابي والنهود والجباه
رعيتُ الأبقارَ والماعز والسواقي
وركضتُ.. مع الصباحات النشيطة
مع الشعاب الجبلية
حتى تمزًقت جوارب المنعطفات[17]
يبدو المشهد التخييلي للمقطع مشهداً واقعياً مألوفاً, في الريف عامة. ولكن ما ليس مألوفاً هو ذلك التركيب اللغوي الذي يوحّد دلالياً بين الروابي والنهود والجباه, بجامع العلو والارتفاع, غير أن لكلّ مفردة منها معنى المعنى في العلوّ والارتفاع. ففي حين يذهب معنى المعنى في الروابي إلى السموّ, يذهب في النهود إلى النضوج الغريزي والصلابة الحسية, ويذهب في الجباه إلى الكرامة والشموخ. وليس في التراكيب اللغوية ما يصرّح بذلك, غير أن تلك الدلالات تتحصّل من السياق, ومن الاتكاء الدلالي على الموروث الشعبي. ذلك الموروث الذي أقام تلك الدلالات في الإبداع والتلقي معاً.
أما الجمع بين رعاية كلّ من الأبقار والماعز من جهة ورعاية السواقي من جهة أخرى, فهو الآخر غير مألوف, ويتكئ أيضاً على الموروث الشعبي الريفي. حيث رعاية الأبقار والماعز لها علاقةبرعاية السواقي أو الاهتمام بها. بمعنى أن هذه تفترض تلك واقعياً, وإن لم تكن مألوفة في التراكيب الشعرية المتوارثة. ثمّ إن هنالك دلالة أخرى متحصّلة من ذلك الجمع بين الماعز والسواقي, بجامع الحركة, وهي دلالة الحيوية والنشاط, وهما من صفات الطفل الذي يرعى؛ أما الأبقار, بما فيها من ضخامة, فتوحي بالقوة المفترضة في الطفل الذي يرعاها. ومع تلك الحيوية والنشاط والقوة, لا غرابة في أن يتراكض الطفل مع الصباحات النشيطة الدالّة على الإشراق, وعلى الطفل النشيط معاً, أو أن يتراكض مع الشعاب الجبلية القاسية. وبسبب من تلك الحركة القوية النشطة, لا غرابة في أن تتمزّق الحشائش والأعشاب تحت أقدامه الطفلية, أو تتمزّق جوارب المنعطفات!. حيث تمّ استبدال الحشائش بالجوارب, مما أوحى بأن المنعطفات هي الأخرى تتراكض مع الطفل وصباحه الربيعي الحيوي.
فثمة مشهد تخييلي واقعي مألوف, لكن ثمة تشكيلاًً دلالياً غير مألوف. وهو تشكيل يقوم على الجمع والاستبدال بين المتباعدات, من دون الإخلال بقيمتها الجمالية الواقعية. وهو ما أشار إليه جان كوهن, في معرض حديثه عن الانزياح الدلالي ومفهوم العجيب, بأن القصيدة الشعرية) ليستالتعبير الأمين عن عالم غير عادي, إنما هي التعبير غير العادي عن عالم عادي)(17). الأمر الذي يعني أن المتعة الجمالية المتحصلة هي متعة المشهد التخييلي الواقعي ومتعة التشكيل الدلالي المفارق في الوقت نفسه. وذلك بخلاف الأنماط التخييلية البارزة في شعر الحداثة عامة. ولعلنا نؤكد أن صقر عليشي من القلائل الذين يحافظون على تلك القيمة, أو الذين يستثمرونها بشكل شعري فني. وهو فيما يتعلّق بهذا الاستثمار أقرب إلى القباني وشوقي بغدادي ونزيه أبو عفش, منه إلى أدونيس ومحمد عمران وفايز خضور مثلاً.
ويدخل في هذا الجانب عدد هائل من التشكيلات اللغوية المفارقة, والدالة على مشاهد أو مواقف حياتية واقعية, من مثل: لذّة زرقاء, في وصف الاستمتاع بمنظر السماء؛و سقسقة الأسرار, في التمتع بالإصغاء إلى الطبيعة, وجسد المرأة أيضاً شاهق الأسرار, وغبار الضجر, وحرير الحبور, وياقوت المعاني, في المعنى الشعري الغريب, وأسارير الدرج, ووقْعُها الغضّ في النفس, في الأثر النفسي الذي تخلّفه الحبيبة, وجراح غضّة…, حيث نلاحظ التباين بين المسند والمسند إليه, من دون الوقوع في التغريب, أو الخروج عن الإيحاءات الواقعية.
وثمة مفارقة جمالية أخرى, تكمن في الجمع, على المستوى التركيبي أو التصويري أو الدلالي, بين عناصر دلالية تنتمي إلى حقول حياتية أو ثقافية مختلفة أو متباعدة. كأن يتمّ إسناد الحقل الحسي إلى الحقل الفلسفي التجريدي, كـ فلسفة لها نهود, أو إسناد اللاهوتي أو الأرستقراطي إلى الحسي الشهوي, كوصف النهد بأنه جوهر فرد, وسليل أباطرة أولين, أو إسناد الحقل الأخلاقي إلى الحقل الطبيعي, كـ وصايا الصفصاف وتعاليم الأعشاب أو إسناد ما له علاقة بالقضايا الكبرى اجتماعياً أو إنسانياً إلى الأشياء الصغيرة أو العرضية, كوصف «شقاوات» الطفولة الريفية, على النحو التالي:
ركبنا العصيّ وطرنا مع الريحْ…
على كلّ سفح تركنا تدحرُجَ أحجارنا
ولم يبقَ بيت هنالكَ
إلا تراخت مفاصله وارتعبْ
عمِلْنا مذابحَ لا يستهان بروعتها
في كروم الجوارِ
وسالت غزيراً دماءُ العنبْ[337]
أو كأن يقول:
قَرّبا مربط القصيدة مني
واتركاني أهيم في فلواتي[196]
وثمة الكثير من مثل ذلك الإسناد الذي يقوم على المفارقة الثقافية- أو التناص الذي يكسر أفق التوقع عند المتلقي- بين الحقول الحياتية والثقافية المختلفة. وغالباً ما يكون الغرض التعبيري في ذلك, هو توسيع مجال الدلالة, أو تعميقها أو توجيهها في منحى مغاير عما هو قارّ في الأذهان والأذواق, كما يهدف أحياناً إلى التطريف وإثارة البهجة من جراء المفارقة الكوميدية, وهو ما كنّا أشرنا إليه سابقاً, في كلامنا على تجربة المتعة عند الشاعر.
تلك هي التجربة الجمالية في شعر صقر عليشي, بقيمتها المحورية وأقانيمها وأيقوناتها وتجلياتها اللغوية وأسلوبيتها الشعرية. إنها تجربة شعرية جمالية, تتأسس على قيمة الجميل الممتع حسياً ونفسياً وروحياً, وتتوزع على أقانيم أساسية ثلاثة, وهي الطبيعة والمرأة والقصيدة. لكلّ منها أيقونته الخاصة, ولها جميعاً أيقونة كبرى واحدة. إنها أقانيم موضوعاتية بقدر ما هي أقانيم تخييلية وموادّ دلالية وعناصر حسية ولذّوية وثقافية, يتمّ التعامل الفني معها من منظور المتعة والبساطة التعبيرية, بالشكل الذي يسمح بتأدية قيمتها الجمالية الواقعية والرؤيا الشعرية, من دون تغريب تخييلي أو تعقيد تعبيري أو تأزيم شعوري انفعالي أو تجريد ذهني. إن ثمة تجربةشعرية تمتلك تعاملها الفني المتفرد, وبنيتها التعبيرية المؤتلفة, وخطابها الثقافي الخاص, في فضاء الحداثة الشعرية العربية عامة, والسورية منها خاصة. وبدهي أن هذا لا يعني انقطاعها الفني أو الأسلوبي عن التجارب السابقة أو المتزامنة معها؛ كما لا يعني تفوّقها على سواها, مما يمتلك مشروعية الإبداع ومصداقية التجربة. إنه يعني فحسب أن صقر عليشي شاعر حقاً.
* *
*
1- عبود, حنا: النحل البري والعسل المرّ, دراسة في الشعر السوري المعاصر. وزارة الثقافة, دمشق- 1982. را: الباب الأول.
3- المرجع السابق, را: ص: 99.
3- سوف نعتمد في توثيق المقبوسات الشعرية على الأعمال الكاملة, في طبعتها الأولى الصادرة عن دار الينابيع, دمشق- 2008, لا على المجموعات الشعرية المتفرقة, واضعين أرقام الصفحات إلى جانب المقبوس الشعري.
4- يحدّد هنري برجسون الضحك بأنه مادة إنسانية اجتماعية دالة على التحرر العاطفي والعقلي من المضحك. راجع كتابه: الضحك. تر: سامي الدروبي وعبد الله عبد الدايم. مكتبة الأسرة, القاهرة- 1998.ص: 16- 18.
5-راجع مقدمة محيي الدين صبحي لديوان» قليل من الوجد» لصقر عليشي. دار الينابيع, دمشق- 2000. ص:26. .
6- نفسه, را: ص: 6- 8.
7- تجدر الإشارة هنا إلى الشاعر محمد عمران ومعجمه الشعري النباتي الضخم, غير أنه على ضخامته لم يتسع لما اتسع له معجم صقر عليشي الشعري, من حيث التنوع والجرأة.
8- راجع في ذلك: مصطفى حسن, د. حسن: نباتات في الشعر العربي. جامعة الملك سعود. الرياض- 1995.
9- قد يكون من الطريف أن نشير, في إطار الهيمنة الثقافية الجمالية للغة الشعرية, إلى أن شعر الرومانسية في الجزيرة العربية, في القرن العشرين, ممثلاً بالشعر السعودي خاصة, قد أعاد إنتاج الطبيعة الشامية الخضراء دون سواها, وكأن اللغةالرومانسية إما أن تكون» شامية خضراء» أو لا تكون البتة!.
10- عزّاب الفن. تر: موريس جلال. دار أطلس, دمشق- 2006. را: ص: 176- 177.
11- راجع في ذلك بحثنا المعنون ب» جمالية المكان في شعر بدوي الجبل», في « وقائع الندوة العربية عن الشاعر بدوي الجبل». وزارة الثقافة, دمشق- 2007.
12- مجموعة « الغزال». دار الينابيع, دمشق- 2009. ص: 93.
13- المصدر السابق. ص: 81- 82.
14- لم تُنشر القصيدة بعد, إنما ألقيت في عدة أمسيات شعرية.
15- مجموعة» الغزال». ص: 9.
16- راجع في ذلك: فضل, د. صلاح: أساليب الشعرية المعاصرة. دار الآداب, بيروت- 1995. ص:22-24.
17- بنية اللغة الشعرية. تر: محمد الولي ومحمد العمري. دار توبقال, المغرب- 1986. ص: 113.
18- عبود, حنا: النحل البري والعسل المرّ, دراسة في الشعر السوري المعاصر. وزارة الثقافة, دمشق- 1982. را: الباب الأول.
19 – المرجع السابق, را: ص: 99.
20- سوف نعتمد في توثيق المقبوسات الشعرية على الأعمال الكاملة, في طبعتها الأولى الصادرة عن دار الينابيع, دمشق- 2008, لا على المجموعات الشعرية المتفرقة, واضعين أرقام الصفحات إلى جانب المقبوس الشعري.
21- يحدّد هنري برجسون الضحك بأنه مادة إنسانية اجتماعية دالة على التحرر العاطفي والعقلي من المضحك. راجع كتابه: الضحك. تر: سامي الدروبي وعبد الله عبد الدايم. مكتبة الأسرة, القاهرة- 1998.ص: 16- 18.
22 – راجع مقدمة محيي الدين صبحي لديوان» قليل من الوجد» لصقر عليشي. دار الينابيع, دمشق- 2000. ص:26. .
23- نفسه, را: ص: 6- 8.
24- تجدر الإشارة هنا إلى الشاعر محمد عمران ومعجمه الشعري النباتي الضخم, غير أنه على ضخامته لم يتسع لما اتسع له معجم صقر عليشي الشعري, من حيث التنوع والجرأة.
25- راجع في ذلك: مصطفى حسن, د. حسن: نباتات في الشعر العربي. جامعة الملك سعود. الرياض- 1995.
26- قد يكون من الطريف أن نشير, في إطار الهيمنة الثقافية الجمالية للغة الشعرية, إلى أن شعر الرومانسية في الجزيرة العربية, في القرن العشرين, ممثلاً بالشعر السعودي خاصة, قد أعاد إنتاج الطبيعة الشامية الخضراء دون سواها, وكأن اللغةالرومانسية إما أن تكون» شامية خضراء» أو لا تكون البتة!.
27- عزّاب الفن. تر: موريس جلال. دار أطلس, دمشق- 2006. را: ص: 176- 177.
28- راجع في ذلك بحثنا المعنون ب» جمالية المكان في شعر بدوي الجبل», في « وقائع الندوة العربية عن الشاعر بدوي الجبل». وزارة الثقافة, دمشق- 2007.
29- مجموعة « الغزال». دار الينابيع, دمشق- 2009. ص: 93.
30- المصدر السابق. ص: 81- 82.
31- لم تُنشر القصيدة بعد, إنما ألقيت في عدة أمسيات شعرية.
32- مجموعة» الغزال». ص: 9.
33- راجع في ذلك: فضل, د. صلاح: أساليب الشعرية المعاصرة. دار الآداب, بيروت- 1995. ص:22-24.
34- بنية اللغة الشعرية. تر: محمد الولي ومحمد العمري. دار توبقال, المغرب- 1986. ص: 113.
سعد الدين كليب / شاعر وناقد من سورية