1- استيقظت من النوم
أنيابها تصطخب في عيني… الصحراء المضرجة بالفتك وشواهد القبور تطوقني وتصبغ جسدي بدعاء كثيرة مهدورة في صحائف البراري فأضطرب. تحوم حولي غير عابئة بصراخي وسياج الأغصان الذي ارتجلته بيني وبينها كيما أكمل سد الثغرات في أطراف التجويف الصخري ومن ثم أحكم سد المدخل بالغصن الكبير.. لمست النار فتأججت.. وما إن رأت النار طويلة هادرة حتى تراجعت الكثبان الى الوراء وانبطح السهب الكبير الذي أمامي مباشرة على بطنه..
2- قعدت ليس بي رغبة في مزيد من النوم رغم أن الوقت مازال باردا والصباح لينا كوسادتي:
تحسست فؤادي وحضنته بيدي المليئتين بالشوك ضممت الي كتفي وشددت ظهري الى الصخر الأمن، هاهي كذئب رملي غليظ الرقبة تضغط علي في بطن التجويف. عيونها الثملة بدم الفرائس ترتفع فوق سياج الأغصان وتحدق في باشتهاء فأضطرب.. تحدق في كتلة اللحم الدافئة المائلة على الساعدين في التجويف. كتلة اللحم المضمومة بقوة الى فؤادها الوجل الهارب الى أقصى قبو في الشرايين.
ماتت النار.. تسللت الريح متلفعة بنزق الرمل الى داخل السياج.. دارت حول الرماد، ولما لم تجد وهجا في طياته ذرته في فضاء محدب تحت نتوءات السماء المضيئة.. وشيئا فشيئا رأيت الصحراء تهبط في القبور وتمحو شواهد الموتى.. ثم راحت ترقص رقصة الحرب وتدور حول قصيدة حماسية قديمة.. ثم رأيتها تناوشني.. تعوي من حولي فتفوح من جسدي رائحة الأنياب والمخالب.. تزهر في أنفي جثتي.. ومن شدة الانهاك سال مني عرق الطرائد الموشكة على السقوط.. وفي التجويف المندي بأنفاسي رحت أدفع بجسدي خلية خلية في أقبية الشرايين.. تذكرت أرنبا بريا كنت لاحقته من أول بزوغ الشمس حتى الضحى في نفس المكان.. وفي نفس التجويف كان يلهث من الاعياء ناشرا أذنيه لصق ظهره وأنفه في التراب حين اقتحمت عليه جحره.
3- فتحت النافذة على رئتي:
لا تستسلمي.. الماء الذي في بطون الطلع يرويك تخرجين من الجذوع نقية بحوزتك الأسرار في البطحاء متلقية على ظهرها غب السيل جربي أن تثني ركبتيك، تجندي أصابع يديك لحفرة صغيرة في الرمل، ربما الى مسافة شبر أو شبرين جربي أن تغمري أصابعك في الماء الطالع الى منتصف الحفرة.. بهجة مستديرة لامعة في رمل غيور سراج الغضب والانهيار وأنت طيعة الى أقصى درجة، ناعمة وتستعدين لتمزيق الماء بقبلة على جرعات.. عطشانة متدفقة والرمل مأخوذ بجرأتك فيندفع بشكل دائري فيندفع الى الاسفل نحو هذا الطالع المرتبك الماء.
4- ما إن شعرت بمذاق الهواء الذي سحبته الى رئتي يتغير وتلذعني حرارته حتى أخرجته كله في زفر، واحدة خارج صدري.. تحركت شعيرات الدم في التضاعيف التفرعات وانتصب على قدميه نهار جديد في الأعماق.
يأتيني الهرير مكتظا بانهرامات كثبانية راقصة تزحف نحوي تعج بالحرمل وزهور الشري.. خطر في بالي جسد الأرنب يختلج تحت المطواة.. لم تقاوم.. مدت رقبتها ناحية النصل تحرك فرو الذنب مرتين لا أكثر.. عندما نز الدم تراخت العينان هدوء كما لو أنهما تسدلان حجاب النوم على بقية الحواس.. هنا، تحت ركبتي ذبحتها ومسحت المطواة على فروها المتقشف بل أن أسحبها الى الخارج زحفا على بطني حيث الصحراء قاعدة عند قدمي في الضحى تنتحب.. هنا على هذا النتوء سال الدم وحشي ربقا مفزعا من الرعب والخفقان.. لكن العرق اذ يسيل مني بغزارة يترك خلفه دوائر صغيرة متنامية من الوهج على جلد أراها منعكسة على نتوءات التجويف المسحوبة حولي كالمدى.. الصخرة المنداة بفزعي تغص بي.. في هذا التجويف كان الطين، وكان ملح الأحقاب، وكانت العوائق الطبيعية تتجمع في دورتها الأزلية لبعض الوقت لكنها ما تلبث أن تصبح جزءا من المكان.. أشعر بها.. أتشمم روائحها وتلوح لي خيوط متآكلة من وهجها القديم على النتوءات والجدران الداخلية تنتابني رعشة الفناء.. قد يكون الليل أطول من المعتاد فأتحلل، هذا التجويف قبل الصباح.. لكني متشبث بسراديب الحياة في أعماقي، قابض على روحي، أتماسك في مواجهة الكثبان والسهب الذي أقعي قبالتي يردد عواء البيد.. ماتت النار واستحالت رمادا في الليل.. كل ما أحتاجه لرئتي من الهواء، وكل ما احتاجه لجسدي من الوهج، هو كل ما احتاجه لقدمي عبور آمن وخطي عميقة متدفقة لا يدفن بعضها بعضا.. من الفجوة التي تركتها لغصن المدخل رأيت أقرب الكثبان الى السياج يتمرغ في الأغصان. يهيل عليها حبيبات جسده النفاش فأسمع العيدان الدقيقة تنكسر وتخرج تأوهات مثلومة لا تلبث أن تذوب في الصفير وعزف الكثبان المستغرقة في الرقص.. كأني سمعت طبولا تدق.. السهب.. السهب يتمطى بشجيراته المرة ويقبل الى في موكبه الرملي فتنفرج دائرة الكثبان الى أقصى مدى ولما يهدأ الرقص بعد.. الكثيب الذي تمرغ على الأغصان انبسط حتى اذا لم يبق منه شكله النفاش، عاد حبة رمل فوق أخرى الى حالته الأولى ثم مضى بتثاقل جهة صف الكثبان القريب.. من فوق السهب رأيت السماء تدلق نجومها في غبار الموكب المتقدم نحوي كنت جاثيا على ركبتي منحنيا لرؤية المشهد، أتنفس ببطء وعرقي يتفاقم، غير أني أفيض بالوهج وأنوه بنجومي..
أفترش السهب ما وراء السياج وراح عبر الفجوة يتأملني.. انقطع خيط الرقص، وابتلع الرمل طبوله ومزاميره في حضرة السهب الاشهب الذي يحدق في مغتبط الشفتين غير قادر على اخفاء يباس أبدي في وجهه.. ورأيته كلما يغمض عينيه ويفتحهما يتريث قليلا كيما أفرغ من تأمل حروب جديدة.. عيناه تتسابقان الى تفتيتي.. حبة رمل واحدة تسقط مني يتبعها جسدي.. أشار إلي أن: تحات.. ومن داخل التجويف ارتعشت.. ارتعشت لأن ريحا خفية احتكت بي كأنها تمتحن صلابتي انتفضت.. لم أترك في بدني عضلة من دوني ولا خلية.. حضنت المسام وارهفت الحواس واصطفيت الحركة كيلا أتحجر.. كنت أعرف أن الريح لا تأكل من الصخور الا الطبقة الرخوة.. الصخور الساكنة المنكشفة للحث الريحي.. لكني بالحركة كأن أهز جسمي، وأحرك الحرافي، أو أتنفس بوتيرة أعمق وأفكر في رأسي وكيف أني لولاه لسال في بدني لعاب الدود ولحسبته أحد قنافذ الأرض.. أفكر في أشياء حلوة.. آه، "تهام" تنبجس من الرمل صافية وتدس خاتمها العشبي في بشاشة صدري ثم تجذبني اليها بيدين يسورهما خرير الماء. وعندما أتهيأ لاستقبال شيء ما تبعدني برفق الرمل.. تقول والماء يتدفق من يديها الى أعماق.. الرمل يتفشى فيك.. في ثيابك رائحة كثيب وغد.. لكن قلبك مازال يحفر الآبار.. بالحركة أحطم أسنان الريح وأتاخم الشمس.. رأيت السهب يأخذ حفنة رمل من قدمه ويذرها في الريح فتعود ثانية الى قدمه..ومرة أخرى أشار الي أن تحات.. ثم أشار الى صفي الكثبان المتهدلين على جانبيه.. ودون أن أرى شيئا سمعتها تتصارخ وتلوك كلمات تشبه العواء… وفي لحظات ودون أن أسمع شيئا رأيتها تحطم السياج متدافعة الى فجوة في تجويف صخري فارغ فارغ تماما ومعتم.
5- الشمس تقتلع مليمترا بعد مليمتر هدأت الأشياء من حولي.. نفخت رأسها السدرة ودفنت وجهها في عصافير شتى.. بدأ الطوب أولا يلتفت حوله ويتفرس بعضه في بعض وبعد أن اطمأن طفق يزاول مهنته اليومية العزلة.. بيد أن الشوارع وكما لو أنها تتطهر من قذارة نوم طويل مدت أعناقها الى الضوء وكرعت فيه حتى تضلعت منه وفاضت بالمارة. بيد أن المارة، هولاء المارة ملأوني بالضجر.. الكل دون أن يراني يشير إلي أن: تحات.
عواض شاهر العصيمي (قاص من السعودية)