محمود قرني *
1
السِّير “ إدوارد فاريل “ ما زال يشعرُ بالعار
يدُه المرتعشة
ووجههُ المُصْفَرُّ مِنْ أثَرِ الصدمةِ
يبدوانِ كمنديلٍ مَلْمُومْ
فَقَدِ اعتَبَرَتِ المَلِكَةُ
أنَّ الضرطةَ التي أفْلَتَتْ مِنه
، وهو ينحني ليُقَبِّلَ يدَها،
تُمَثِّلُ بالضرورة رأيَهُ في سياستِها
وهكذا.. كان منفاهُ البعيد
خَلْفَ مدار السرطان.
2
في أقصى الجنوب
شَرِبَ حتَّى ثَمِلْ
واستمتعَ بثرثرةِ جاراتٍ سمراواتٍ
كُنَّ يَقْرُصْنَ الغِلْمَانَ عَلَى الجسر الخشبي
يَنْشُرْنَ أثداءهُن تحت ضوءِ الشمس
ويكتبنَ فوقها:
تَعَالَوْا أيها العَطْشَى..
مِنْ هُنا يجري حليبُ الرُمَّان،
لكن الرجل الأبيض “ فاترَ المِزَاج “
كان يخشى عَلَى دمِه الأزرقَ مِنَ الاختلاط
فَيَقُلْنَ له:
أيها الدُبُّ الأبيض
صُب ماشئتَ مِن دمنا
في كُوبِك الذهبي
لكن عليك أنْ تَحْذَرَ خُيَلاءَكَ
وأنت تدوسُ بِنَعلِكَ في الأراضي السوداء.
3
في مصرَ رأىَ تعاريجَ لَمْ يصدقها
لعشائرَ بعيدةٍ
كانت شعاعًا أنارَ لِأُنَاسٍ آخرين
أمَّا الثورُ مستقيمُ الظَّهْرِ عظيمُ القَرْنَين
الذي يسيرُ به زنوجُ خَطِ الاستواء
إلى المِعْزَفِ الفَرعوني
فقد صنعَ العاشقُ مِنْ قُرونِه نَاياً رقيقا
وفي الأمسياتِ المُقمرة
كان يبكي مع معزوفاتِه
حتى يَتَنَاهَى صوته إلى تلك السمراء
التي لَمْ يمسسْهَا الغُزاة
لكن كاتبَ الحَمْلَةِ تَأَسَّفَ بَشِدة
عندما كان مضطرا أنْ يخبر قومَهُ
بأنه سقطَ صريعا داخلَ حافلةٍ عسكرية
بسببِ شِجَارٍ مع ممرضة إنجليزية
ثمينةٍ بعضَ الشيء
بعد أنْ التَهَمَتْ، مِنْ غَدَاء الجنود،
خَمْسَ دجاجات.
4
أمام بحيرة فيكتوريا
كان الملكُ لا يزال مشغولاً بنسجِ الأساطيرِ حَوْلَ أجداده
ويؤكدُ أن أباهُ كُلما مَرِضَ
كان “ يذبحُ مائةَ غُلامٍ
حتى تستكنَ الأرواحُ الشريرةُ
ولَمْ يَكُنْ يَخرُجُ
إلا راكبًا مَتْنَ وزيره الأول “
لكنه عندما وقعَ ميتًا
خِيطَ في جِلْدِ أسدٍ
فدَبَّتْ فيه الحياة
وهو الآن يطوفُ حارسًا
للأراضي الأفريقية.
5
رسم “ اللورد فاريل “
خَطَّينِ طُولِيينِ
للحقولِ التي ينوى انتزاعها
لكنه قَبْلَ أنْ يفعلَ ذلك
بعثَ إلى ملكِ البُحيرةِ
بمئةِ مِعْولٍ ومئةِ نِبْلَة
وقال له:
“ إذا كنتَ تريدُ السِلْمَ
فَخُذِ المعاولَ لحرثِ الحقول
وإذا كنتَ تُريدُ الحربَ
فَخُذْ هذهِ النِبَال “.
فاختارَ الملكُ المعاولَ
وأعادَ النِبَال
لكن الرجلَ الأبيضَ،
بَعْدَ أنْ ضحكَ طويلاً
مِنَ الأساطيرِ التي صاغها الملكُ
عَنْ أجدادِه،
أطلقَ مسدسَهُ في الهواء،
وكَمَا أَوْقَعَ بأولِ أسدٍ يقابله
أخذَ الملكَ في قفصٍ إلى الساحةِ العامة
لكن الملكَ الذي لَمْ يبكِ أبدا
دَمَعَتْ عيناه وهو يردِدُ:
أيها الغزاة..
الزِنْجُ يسمعون ويصمتون
لكنهم يتألمون أكثرَ مما يظنُ سادتُهم.
6
هكذا أصبحَ “اللورد فاريل”
مَلِكًا وحيدا عَلَى حقولِ الموز
لكن اللصوصَ الظُرفَاء
كانوا يسرقونَ حقولَهُ
ثُمَّ يعوضونَهُ عن ذلك
بتنقيةِ الحقولِ مِنَ الأعشابِ الضارة
ويهشُّونَ عنها القرود.
أقزامُ الشمال طيبون
وعادةً ما يتركون قِطَعًا مِنْ صيدِهِم للعابرين
وهناك بعيدا عَنْ أعينِ الحُرَّاس
كان كاتبُ البريدِ العمومي يقودُهم كلُّ ليلةٍ
إلى حانةٍ في الخَلَاء
فيرون الرجلَ ذي السِّحْنَةِ الإنجليزية
يسيرُ كنصفِ إله
فيتساءلون:
هل ثمةَ مشيئةٌ يمكنها أنْ تُعِيدَ النظام
فيردُ عليهِم كاتبُ البريد:
“ إنَّ الرب مِنَ العُلوِّ
بحيثُ لنْ يُبَالي برغباتِ الإنسان” !
7
مِئتا ألفَ زنجيٍ
وقفوا في الطوابيرِ
فاغِرِي الأفْوَاه
لِيَحْصُلَ كلَّ واحدٍ منهم عَلَى كُسْوَةٍ ناعمة
وعشرةِ شِلِنَات
ثُم تأخذُهم المركباتُ إلى الحرب.
“ اللورد فاريل “ سيقتلُ بهم ألْمَانَ أفريقيا الشرقية
دون أنْ تتحركَ له يدٌ
المهربونَ وتجارُ الحشيش
كانوا مدينين له بأنْ خَلَّصَهُم
مِنْ لصوص الغابات
والملكُ في قفصِه
يَهْذِي كطاحونَةِ الهواء
الأمهاتُ كُنَّ يبكينَه
ويسألنَ عَن مصيرِ الأبناء
لكنه لَمْ يكن يعرفُ إجابة.
كلُّ ما يعرفُه
أنَّ اللورد فاريل
تَلَقَّىَ مرسومًا ٌإمبراطوريا،
بَعْدَ أنْ كَسَبَ الحربَ،
بالعفو عَن ضرطتِهِ .
8
كاتبُ البريدِ يجلسُ أمام الحَائِكِ
لِيقيسَ سروالًا جديدا
يُغافِلُ الشرطيَ ويَجْرَعُ
كأسًا وراء كأس
ثُم يسألُ نفسَه:
كيف لِرجلٍ أبيضٍ
قصيرٍ وفاترِ المِزَاجَ أنْ يأكلَ وحده
كل حدائق الموز؟!
ومع ذلك يبدو رجلا طيبا
إذ ترك تجارةَ المِلحِ
ثمنًا لِحِرَابِ الزنوجِ وطَرَائِدِهِم
كانت النسوةُ تَتَحَمَّمْنَ
في ماء القنوات الصافي
تتشققُ أصابَعَهُن
وهُنَّ يَجْمَعْنَ المِلحَ مِنْ بين الصخور
لكن النيلَ إلهٌ ذو أهْوَاءَ
عِجْلُهُ الذهبي ليس طيبًا دائما
لكنه يَبعثُ الشمسَ
لتوزع الأرزاقَ
كما توزعُ عرباتُ الحربِ مَوْتاها
في المساءاتِ المُوغِلَة.
9
في الكنيسة قال رجلُ الدين:
“ إن الأبيضَ قد أيقظَ الأسودَ
وصوابًا مافَعَلْ” !
10
كاتبُ البريد تَعَلَّمَ التصويبَ
بمسدسِ أخيه الشرطي
كان يعملُ في وظيفتِهِ نهارا
ويعملُ بالليلِ حَمَّالًا لِسَبَائِطِ الموز
يرصها أمام روافع السفن الكبيرة
لتَملأَ الضفافَ البعيدة.
واللورد “ فاريل “ يَسْكَرُ
حتى يبدو كطيرٍ شَفَّافْ
كاتبُ البريد يُطْعِمُ الطيرَ الحَاِئَم
حَوْلَ البِركِ الآسنة
بينما تَقْرُصُهُ زوجتُه في
مكانٍ يخجلُ مِنْ ذِكْرِه
تُزَجِّجُ حاجِبَيْهَا
تخلعُ ثيابَها
وتشعلُ آخرَ شمعةٍ في البيت
وها هو يخرجُ في الصباحِ مُنتشيًا
بَعْدَ ليلةٍ ذات رائحةٍ نَفَّاذَة
عاقدًا العَزْمَ
عًلَى أنْ يغسلَ عَاَر أفريقيا
لكنه لَمْ يَقُلْ مَتَى!
هامش :
*ينقل “ ول ديورانت “ في الجزء السابع والعشرين “ ص 15 “ من كتابه “ قصة الحضارة “ عن “ أوبري “ أن “ إدوارد دي فر أرل إكسفورد “ وهو ينحني إجلالا للملكة اليزابيث ، ملكة بريطانيا العظمى ، خرجت منه ريح فخجل وشعر بالعار وغادر البلاد لمدة سبع سنين فلما عاد رحبت به الملكة وقالت له : سيدي اللورد لقد نسيت الريح !
أما الأحداث التي وردت في النص فهي فعل الأساطير والتاريخ والتخييل في آن، وهي انطباعات تركتها قراءات مختلفة لنصوص روائية وتاريخية وفلسفية حول مفهوم وشكل الاستعمار التقليدي الذي اتسع نطاقه بداية من القرن التاسع حيث تم احتلال كامل الأراضي الأفريقية وتوزيعها بين القوى العالمية التي صعدت قبل وبعد الحربين. وقد كانت أبرز الانطباعات التي قامت عليها بنية النص مأخوذة من عدة كتب منها “ تاريخ الأمة المصرية للمؤرخ الفرنسي غابرييل هانوتو، كتاب فلاحي مصر العليا تأليف مس و . س . بلاكمن ، وكتاب النيل حياة نهر لإيميل لودفيج “ ، ورواية “ قلب الظلام” لـ جوزيف كونراد .