حجرته كانت أشبه بخزانة منها بغرفة "الجريمة والعقاب " عندما دخلت الى العمارة القديمة ذات الطوابق الأربعة الواقعة في زاوية شارعين، لم أكن انتظر أبدا أن يكون في استقبالي دوستويفسكي نفسه، بوجناته الناحلة، وجبينه الريني، وعينيه السوداوين الغائرتين في محجريهما. ولكن كنت أتوقع أنني بمجرد تجاوز عتبة الباب المنفرج في الطابق الأول. سيظهر أمامي بور تريه للكاتب بصلعته النصفية ولحيته غير الكثيفة التي لم تكن تغطي جيدا فمه المزبد أثناء نوبات صرعه. فوق سترة رودينفوت
(Rodingote, ) سوداء طويلة، رأس مثبت باستقامة، حاجبان مقطبان تحت جبين شاحب منتفخ، نظرة متعبة ومتألمة.. لقد رأيت فيما مضى هذا البور تريه لدوستويفسكي في موسوعة. وكان هو نفسه على غلاف الكتاب الذي قرأته عندنا باسطنبول، في الغرفة القصية المطلة على ساحة داخلية معتمة: تحت عنوان "الجريمة والعقاب ". في تلك الفترة، كنت عائدا لتوي من الخدمة العسكرية، بمجرد رجوعي، انزويت في الغرفة الأكثر ضيقا في الشقة. كنت أريد أن أبقى وحدي لبعض الوقت. لاستعيد هويتي الضائعة في البرية. لقد عرفت المعاناة. واليأس. كنت مجروحا في جلدي، وكان ذهني فارغا، كأنني نسيت الماضي. لم احتفظ في ذاكرتي إلا بميدان التدريب في الثكنة، والروابي الجرداء المتلفة بشمس الصيف ونور القمر المنعكس على فوهات المدافع. هل كنت مذنبا؟ ولو أنني لم أكن أعرف بدقة ذنبي، وقد عوقبت، لأنني ربما ! ارتكبت جرائم في غرف ضيقة معتمة، وفي أماكن سيئة السمعة في عمق الشوارع التي تتمدد عبر الليل الطويل. ربما أكون قد حضرت جلسات سرية في أقبية منحنية السقف، وشاركت في دسائس تخريبية ولكن في نهاية الأمر كنت أنا من أتلف.
لقد عدت من البرية شبيها بفزاعة غريبة ء أو بقميص مرتق يتأرجح فوق حبل. بمجرد عودتي، أغلقت على نفسي في أضيق غرفة في شقتنا باسطنبول.
لقد كان الأمر عظما توقعت. فبمجرد تجاوز الباب المنفرج للطابق الأول لمحت في مواجهتي دوستويفسكي على الجدار، فوق الفيترينات أين كانت مخطوطاته معروضة. كان ينظر الى صفيحة اسطوانية موضوعة في وسط الصالون، وفوقه كانت الجدران الرطبة الوسخة مدفونة، وضوء أصفر منكسر على النوافذ كان يتلاشى في الماء المضطرب للقنال. من أعلى الجدار كان يتأمل بترسبورغ التي يعرف كل شارع فيها، وكل كوخ قذر كجيبه، كان يفزر كمتروبص القارعات المتجلدة للأرصفة والدروب المسدودة، المضاءة بفوانيس معلقة في أعمدة مدفونة، هل كان يرى سهم الأميرالية وهو يثقب السماء، أو جدار سور قلعة بيير وبول، الذي اقتيد اليه بعد اعتقاله، بحانته المبلطة بالقرميد اللامع ؟ ربما كان يتتبع كتلا من الجليد على مجرى "النيفا". نهر "النيفا" الصافي الشفاف ! المياه المتجمدة التي تنعكس عليها الأجراس والقصور الملكية ! وعلى سطحها الزلج، دغل من الأحلام. أحلام السكيرين ذات الرائحة المتعفنة بنبيذ السوق الجميل، والعاملات المسلولات المقيمات في أزقة موحلة، والعجائز اللواتي كن يجففن غسيلهن في الساحات المعتمة لعمارات متراكمة فوق بعضها. والطلبة المهووسين الذين يعيشون في أكواخ قذرة أحلام القتالين. في فجر صباح جميل، انهار هذا الدغل مقرقعا كقطعة جليدية حملها التقصف وغمرها نهر النينا. في فجر صباح جميل، عندما قصفت السفينة (فجر) ذات الفوهات العالية قصر (الشتاء)، لم تكن كرنسكي Kerensky) ) التي غرقت، ولكن السراب المرعب لبترسبورغ، بعد مدة طويلة من ذلك، تأمل دوستويفسكي من أعلى حائط متحفه بليننغراد هذا السراب في سيبيريا، بمعتقل الأشغال الشاقة الذي بقي فيه مسجونا لمدة أربع سنوات، بينما كان يقرأ الانجيل تحت النور الوامض لشمعدان، أو في المنفى، عندما كان يشعل مصباحه وينحني على أوراقه البيضاء، أو، أيضا في مدن أوروبية بعيدة صاخبة، جالسا الى طاولة لعب رفقة أرستقراطيين.
كان يرى دائما هذا الوهم (Chimere) هذا الدغل المتشكل من الأحلام المتموجة على نهر النينا ممسوكا بالجليد متشكلا ومتفككا حفرت في ذاكرتي سان بتر سبور في دوستويفسكي وأنا أدور حول الصفيحة الأسطوانية الموضوعة وسط الصالون. كان لدي انطباع انني أرى كل شيء الفتيات، العجائز الخبيثات، الموظفين الذين يذرعون البلاطات فوق منظور نفسكي (Nevski) الضباط الذين يتكون الوقت في اكاديميات البيارد النتنة بدخان السجائر. عربات تجرها جياد يتصاعد البخار من مناخرها تمر بقربي. كمان يحرك الهواء المثقل بفوحان الفودكا. كنت أزور أسواقا شعبية، أقبية حقيرة لم (Tandis) مغسولة بماء المواعين، كباريهات يشرب فيها السكارى حتى الموت. كنت أعبر كذلك جسورا ضيقة، أمشي تحت أشجار الزان الجرداء. كان الماء الناضح من جدران هذا الحي القديم المبني فوق مستنقع ينفد قطرة قطرة.
كان يفزي وينشط القلق الذي يسكنني شيئا فشيئا بدأ عالمي يضيق، الطبيعة، الناس، الذكريات تتلاشى، لم أعد أرى البورتريهات المعلقة على الجدار ولا المخطوطات المعروضة في الفيترينات. تاركا خلفي السطوح المكسوة بالكج، والسماء الداكنة لسان بترسبورغ، والكائنات السقيمة في ستيفاتهم الموجودة فوق المياه المضطربة للقنالات، فتحت الباب القريب من اللافتة، وصعدت الدرج الضيق الى الطابق الرابع، حتى غرفة راسكولينكوف.
في الفترة التي كنت أقرأ فيها ( الجريمة والعقاب ) عندنا باسطنبول، في الغرفة القصية المطلة على ساحة داخلية معتمة، كيف كان لي أنني أتخيل في يوم من الأيام سأذهب الى ليننغراد، وعندما سأفتح قليلا باب صالون ذلك البيت الذي سكن فيه دوستويفسكي بعض الوقت، سأصعد الى غرفة راسكولينكوف. في تلك السنة، كنت عائدا من الثكنة مجروحا في جلدي، متعبا، وبمجرد عودتي انزويت في أضيق غرفة بالبيت. أمي كانت تقول أن هذا الانحباس سيكون مضرا بصحتي العقلية، وأنه يجب أن أخرج كانت تدعو أصدقائي. ولكنني لم أكن أريد أن أرى أحدا. عن الباقي لم أكن وحيدا. سواء في الثكنة أو في غرفتي.
باسطنبول، كنت مطاردا بذكرى كتاب مرعب يجعلني قبل أن أنام أجلس وترتجف كل أعضائي مثلما كان يفعله عادة المحكوم عليهم بالأشفار الشاقة في (ذكريات عن بيت الموتى لم داخل جناحهم الخانق أين يهذي الاف الذكور المحرومين من النساء، هناك أيضا وهم يقتربون من فراشي كانوا يحيطون برأس سريري بجماجمهم المجزوزة المشوهة، وسحنا تهم البشعة، وأجسادهم المشعرة، المجلودة. إذا ما غفوت كانوا سيقدمون للانقضاض علي لاغتصابي أو خنقي. هذه الكائنات المنسية في الضفة الأخرى للعالم لتكفر عن جرائمها، الفاقدة للكرامة الانسانية بكل أنواع الاحتقار وسوء المعاملة، كانوا مع ذلك أصدقائي. كان يلزمني أن أجتذبهم الي، وأبحث عن رفقتهم، وأتقاسم معهم الامهم. لأننا نعاني نفس المحنة، ونخضع للشروط نفسها. بعد ذلك، تركني في حالي المحكومون بالأشغال الشاقة الذين خرجوا من كتاب دوستويفسكي وأقاموا في غرفتي. في البداية قل عددهم. وما إن أغنت عيني، لم يعودوا منتشرين حولي مثلما كانوا يفعلون في جناح الثكنة. ثانوا يلوحون خفية عند الباب، ثم يتلاشون في العتمة. شيئا فشيئا كانت زياراتهم تتباعد. ما إن تعرفت على راسكولينكوف، حتى عادوا من حيث جاءوا، وانضموا الى الوحدة الباردة لقلعة أومسك Omsk وبقيت رأسا لرأس مع راسكولينكوف في الغرفة القصية لشقتنا باسطنبول.
كانت غرفة راسكولينكوف فعلا خزانة، روعي أثناء تشكيلها النموذج الأصلي. كان مغطاة بورق أصفر مغبر، يتقشر بقطع. كان السقف منحنيا كثيرا، مما اضطرني للجلوس على السرير بعد أن تضايقت من الوقوف. دون أن أنهض، أدرت مزلاج الباب، وتركت نفسي أقع في عمق السرير الضيق. رأيت أولا السقف، بعد ذلك العنكبوت الموجودة على الحائط المقابل. بقيت طويلا دون حران. كان الصمت يسود الغرفة المضاءة بضوء رمادي يأتي من النافذة. حينئذ سمعت صوتا. كأنه مسمار يدق في حاجز رقيق. نهضت، اقتربت من النافذة ونظرت ال الساحة أسفل. لم يكن هناك أحد. على النافذة الحابلة، رأيت أصص جيرانيوم مصنفة بصروا. عادت الغرفة ال الصمت. حينما تركت النافذة وتمددت من جديد فوق السرير رأيت أن العنكبوت مازالت في مكانها. وبعد أن بقيت لفترة طويلة نوعا ما جامدة. تحركت. ثم جرت بسرعة، واختفت في فجوات الورق المغبر. في هذه اللحظة ذاتها، سمعت صوت راسكولينكوف. كان يتكلم دون أن يرد نفسه كأنه هيال ثلجي من الكلمات. سيل تضخم بانجراف الثلوج المتدحرجة الى الوادي، الحامل معه كتلا صخرية "حينئذ قبرت نفسي في حفرتي كالعنكبوت في زاويتها..! هل تعرف أن الروح والعقل يختنقان في الغرف الضيقة المنحنية ؟ آه ! كم أكره هذا القبو! ومع ذلك لم أكن أريد أن أخرج عمدا! كنت أقضي فيا اياما بأكملها دون حراك، دون رغبة في العمل. لم أكن منشغلا حتى بالأكل، كنت دائما متمددا" (1).
مثلك يا راسكولينكوف، انزويت في حجرة ضيقة بعد عودتي من الثكنة كانت أمي تحضر لي الطعام، فآكله، والا أمضيت يومي دون أكل. بالاضافة الى أنه لم يكن لدي مثلك فكرة تنخرني. أحيانا كنت أغفو، فأراني في برية مستندا الى شجرة متوحدة. في الفراغ الممتد حتى أقصى البصر. لم يكن يوجد لا بيت ولا أحد. كان حفيف الأوراق فوق رأسي. مع ذلك، لا نسمة تحرك الهواء. الشمس بقيت جامدة في السمت. كنت مستريحا في الظل، ولكنه لم يكن يفعلي إلا مساحة صغيرة، الأرض كانت محمومة وجذع الشجرة متصلبا. وبما أنني لم أكن أستطيع الذهاب الى أي مكان. كنت أشعر بالراحة في أسفلها. حينئذ شغلوا الفضاء فجأة، قاطعين الحقول، انقضوا علي كغيمة من الجراد، كنت مسحوقا تحت أجسادهم ألهث. كانوا يبدون لي مخيفين في بزاتهم، بسحناتهم المسمرة، وأفواههم الكبيرة جدا. خاصروني في اللحظة التي كنت سأنام فيها. اختاروا الوقت المناسب للانقضاض علي وهم يرصدونني بعيونهم الجاحظة. مستحيل أن أهرب منهم يا راسكولينكوف ! أينما ذهبت كانوا في اعقابي. كنت أحس أنقاسهم فوق رقبتي، كنت أسمع أصواتهم تدوي في رأسي. أنت، إذا ما دخلت غرفتك، كنت تصبح وحيدا، تستطيع أن تنعزل رغم ذلك الهاجس الغريب الذي كان يعذبك. بقتلك لتلك العجوز المرابية ستتحرر. ولن تنقذ نفسك فقط، بقتل وسرقة هذه العجوز المخلوقة الشريرة، المقيتة، ولكن ستخلص البشرية جمعا،، وترتقي الى صف النخبة كما أن هذه العجوز المرابية كانت موجودة فعلا، ولم تكن وهما. أنا لم أكن لأستطيع الهروب منهم يا راسكولينكوف، ولا فلق رؤوسهم البارزة الآذان لأرتاح. كنا معا في كل مكان. في ميدان التدريب، في المطعم، في الجناح. حتى في الحمام أين كانوا يقودوننا مجموعين مرة في الأسبوع. كان الماء القذر يلطخني بينما كانوا يتبادلون حك ظهورهم بأيديهم العريضة القصيرة الأصابع، في حين كانت قبة الحمام تدوي من قهقهاتهم، ولم تعد الصهاريج مملوءة بالماء ولكن بالوحل. كانوا يبدون بشعين بأجسادهم الربعة وسواعدهم الطويلة. شعر كث كان يغطيهم، وأنا كنت واحدا منهم.حيوانيا مثلهم. بشعا أيضا. كنت آخر في بخار الحمام، أترك جسدي المنهك يقع على البلاطات السحنة. وما إن كنت أبدأ في الاسترخاء، حتى يهجموا هارين نعالهم الخشبية. هذا الكابوس، هذه الرؤيا المرعبة كانت تستمر أياما وليالي. أفقد وني القدرة عل النوم، قطعوا شهيتي. بعد شهور في الغرفة التي حبست فيها نفسي بعد عودتي من الثكنة، لم أنجح في التخلص من حضورهم. كانوا دائما عند رأس سريري. مفترسا بالخمود، كنت أصمد ضد الموت، والقتل، في انتفاضات لا تنتهي. هل كانت أخطائي، تأنيبا تي يا راسكولينكوف: هل كانت جراحاتي المتقيحة، وتعاساتي المتراكمة ؟
فيما بعد تعرفت عليك. ل الفترة التي كنت تهيم مثل مروبص في الشوارع الموحلة لسان بترسبورغ، على امتداد القنالات. إنها كانت أياما للمرض والهذيان. كنت تمشي دون توقف لامسا الجدران الوسخة. كأنك كنت تنجرف في امتداد التيار دون أن تعرف من أين أتيت، ولا أين تذهب. كنت تعبر جسورا. جسورا حجرية قديمة مغطاة بالطحلب. كان ظلك يمتد. عندما كنت تبرز فوق أرصفة النيفا، كان السماء تنكشف، فضاء أزرق وأبيض كان ينفتح أمامك. ولكن كنت تعود فورا الى الأحياء الفقيرة للمدينة. كنت تمر أمام أقبية قذرة نتنة بالتبغ، أمام نوافذ مكسرة، الزجاج تعكس الشمس الشاحبة، أمام ورشات مغطاة بالبصاق. هذه العفونة المعروفة جدا من البترسبورغيين، غير الصادرة من الريف، تخدش أنفك. كنت تتذكر العبارات التي تفره بها سفيدرقايلون Syidrigailon بسخرية شيطانية: (انا مقتنع أنه يوجد ببترسبورغ أشخاص كثيرون يمشون وهم يكلمون أنفسهم بصوت مرتفع. ونلتقي غالبا بأنصاف مجائين.. ليس هناك أي مكان تكون فيه الروح خاضعة لمثل هذه التأثيرات السوداوية والغريبة ) في الواقع ليست شوارع بترسبورغ التي كنت تشقها طوال اليوم. لكن كنت تضيع في متاهة وحدتك. وفي روحك المتألمة. كانت الشوارع التي كنت تمشي فيها مكتظة وقذرة. كنت تقطع الحشد مثل متملص سابح في بحر الفاقة، كنت تترك خلفك الأطفال الجائعين، النساء البائسات، الآباء
السكارى. كنت تسير لتهرب من حجرتك الضيقة. تسير في حلم، وفي اشر اقة متجددة، تسير ليس على البلدان وعل العالم. مسكونا بنموذج نابليون، كنت تحتقر التصرفات الجائرة. وكلما تقدمت، كان قصدك يأخذ شكلا، وينضج في رأسك مثل كتكوت يكسر قرقعته، لأنك كنت بعيدا عن الآخرين. ومختلفا. كنت تغدو قصدا فريدا بضجرك ووحدتك. كلما تقدمت في السير، كانت الشمس الغائمة للصيف تعلب خطوتك. في هذا الوقت، حين كنت تتسكع هكذا في شوارع بترسبورغ، وحيدا ومصمما، لم تكن تشك أن الصغيرة سونيا الشقراء، كشس الشمال، ستتبعك دون أن تتخل عنك أبدا، وأنك حيثما قادك قدرك ستسهر محمومة عليك كملاك حارس مثلما لم أشك أنا أيضا، في أن بقائي برفقتك فقط في غرفتي باسطنبول كان سيخفف من الرؤى المرعبة التي كانت تفزوني، ثم يبددها كلها.
يا راسكولينكوف لم يحدث أن أردت، الى هذا الحد، أن أبقى وحيدا، أثناء هذه الفترة، بعيدا عن انظار الناس، ولو في الأوضاع السيئة، وأن أهرب من رقابة عالية. بعد أن تعرفت عليك، فهمت جيدا أصل هذه الرغبة مثلما كتبه في (ذكريات عن بيت الموتى) من خلقك وأ عطاك الحياة، أكثر التهذيبات قسوة كانت بالنسبة اليه الا يستطيع البقاء وحده. كما بالنسبة لي في الثكنة. الا تنجح في الانعزال، ولو لدقيقة أو ثانية. أن تستيقظ ودائما هناك أحد بجانبك. أو تقتسم الماء والخبز مع الآخرين، أن تتنفس نفسر الهواء لا بأخوة كأ شجار غابة، ولكن بشعور أن الآخر لا يترك لك أية مهلة. أن تحسر دائما أن هناك أحدا بقربك، أن تحيا تحت نظراته وثقله المطبق. وأن ترده يتكاثر. ناسيا فر دانيته نفسها وذاتيته، أن تنام مع مائة من أمثالك، وتستيقظ مع ألف. في الجناح، في المطعم في ميدان التدريب، أثناء الاستراحات، وحتى في المراحض. وأن تكون ملتصقا بهم. معك أنت ياراسكولينكوف ذقت سعادة الخلوة والانعزال. في الفترة التي حبست فيها نفسي برفقتك في الغرفة القصية لشقتنا باسطنبول. الآن. وبعد وقت طويل من ذلك، بعيدا عن الكابوس الذي عشته بثكنة في البرية،أنا من جديد معك. رغم أن سنوات تفصل بيننا، ولكن أيضا الجدران التي ترتفع بين الواقع والخيال. صعب تجاوزها، هذه الجدران. مع ذلك فأنا معك.
هذا الصباح تهت ل شوارع المدينة التي تأملتها للمرة الأخيرة بعيون أسير، في اليوم الذي نفيت معتقلا ال (بيت الموتى) محكوما عليك بالاشغال الشاقة. في شوارع بترسبورغ التي ستملأ أحلامك في المعتقل، ولن تستطيع محوها من ذاكرتك، كم تغيرت الأشياء منذ ذهابك اختفت الأزقة الموحلة، والأكواخ الحقيرة. نفس الشي ء بالنسبة للسكارى المدمنين، والعاهرات المسلولات. لقد خطت ممرات واسعة، وساحات جديدة، والسكان هادئون التراموات والتروليباسات تتتابع. قضبان المقرو تمني جيئة وذهابا تحت الأرض في كل مكان، هناك تماثيل، وبنايات حديثة. أجمل الساحات الأن ساحة الديسمبريين. في الوسط بيير Pierre الأكبر، الرائي، يشبب حصانه الذي يكاد أن يثب بقفزة فوق النيفا حتى الضفة الأخرى. الحصان ينتصب بنشاط فوق القاعدة. الملك منتشر بفرحة أن يحلق في سماء الحي الذي يحمل اسمه. ولكن الذنب الضخم للحصان يشده الى الأرض. مانعا إياه من الارتفاع الى السموات منذ تلك النافذة التي فتحتها روسيا على أوروبا. منذ ذهابك. حدث كثير من التغيرات في هذه المدينة التي بناها بيير الأكبر بمساعدة مهندسين غربيين. مثلما هدمت تزارتزيم Tsarytsime وسميت الآن فولجوجاد Volgograd، بعد ستالينغراد، أصبحت سان بترسبورغ ليننغراد. إنها تحمل اسم الرجل الصغير ذي الجبين العريض. الذي حالما نزل ني محطة فنلندا Finland الأرض الروسية. لأنه في يوم من أيام أكتوبر، لم يتغير فقط مصير هذه المدينة، ولكن مصير روسيا كلها، في يوم من أيام أكتوبر عندما خطب في الجمع المتجمهر في سمولني Smolny قائلا (امس لم يكن الأوان قد آن بعد، وغدا يكون الوقت قد فات، فإما الآن أو لا) تغير مصير السهوب الأوكرانية الممتدة، وأيضا مصير ضفاف ارتش Irtych التي أمضيت فيها عقوبتك، السفينة (فجر) قصفت قصر (الشتاء) والآن، وقد تحول الى متحف، بقي عند الرصيف. بينما كنت تعبر مخبولا شوارع المدينة نحو المعتقل السيبيري لم تكن لتعرف أن سان بترسبورغ ستسمى فيما بعد ليننغراد ولا أن تخمن في رعب الأيام التي ستقضيها في هذا المعتقل المطل على الارتش. مدافع السفينة (فجر) لم تعد مصوبة باتجاه قصر (الشتاء)، ولكن باتجاه فندق سياحي ذي بياض لامع، تنعكس واجهته في (النيفا)الذي لم يتغير. مياهه هادئة دائما، وقطع الجليد تشف، الأنهار تعيش أطول من المدن. لاشك أنك فهمت ذلك أثناء الكورفيات Les corvés ضفة الارتش في الأربعين درجة تحت الصفر. هكذا، إذن يا راسكولينكوف سرت على طول الأرصفة التي كنت تذرعها سابقا.سماء زرقاء شاحبة انكشفت أمامي، وعالمي اتسع. متجاوزا السفينة (فجر)اتجهت الى الضفة الأخرى، سرت بمحاذاة قصور مهيبة، وحدائق مرسومة بخيط الشاقول (Cordon) نظرت الى ناحية قلعة بيير – وبول، مازالت تطل على القرميد اللامع الذي يفعلي حافة جدار السور، شمس الشمال الأليفة اليك. أشياء كثيرة تغيرت منذ ذهابك، يا راسكولينكوف، ولكن المدينة بقيت. إن المدن تعيش أطول من الناس. أطول من البيوت والغرف. لاشك أنك فهمت ذلك عندما كنت تصارع نفسك بغرفتك وأنت في قمة الهذيان. اعلم من الآن فصاعدا أن الناس لن يبدوا يائسين تحت الاضاءة التافهة للكباريهات، إنهم يؤمنون بمستقبلهم، ولكن قطع السمك فوق الصحون مازال لها دائما المظهر الحزين، واذا كان سفيدريفايلوف (SvidrigaiIov )يريد الانتحار اليوم، فإن كلبا بشعا، ذا ذيل قصير، سيستطيع من جديد عبور قارعة الطريق أمامه. أعرف أنك، بخلاف سفيدريفايلوف، لم تكن تريد الاعتداء على حياتك، ولكن على حياة المرابية. بالأخص ستحمل الساطور لا بهدف القتل فقط، ولكن من أجل ذاتك. لكي تؤكد حريتك. الرأس المحدب للمرأة الخبيثة سقط كرمانة. ورأيت الدم، الدم الساخن يرشك.
في الوقت الحاضر، إذا كان هناك من يستطيع معرفة الفكرة التي كانت تنخرن وكشف القاصل وراء الكائن الملي ء بالحب، فهو أنا بالتأكيد. لأنني نظرت طويلا الى الرجال الذين كانوا يحاصرونني بنظرة هذا القاصل. مثلك، لم أكن لأقدر الهروب منهم ولا أن أبقى وحدق. إنها الأيام
التي كانت فيها غريزتي في البقاء تتحامل على كل شيء. هذه الأيام اللامنتهية مرت في البرية بفضلك استطعت أن أجد الراحة، عندما تركت ساطورك يسقط فوق رأس المرابية، اختفوا بأجسادهم الفائحة بالعرق، وآذانهم المنتصبة كأشرعة من كل جانب من رؤوسهم المجزوزة. أنت من قتلهم، يا راسكولينكوف إنهم كانوا أخطائي و تأنيباتي. جراحي المتقيحة وتعاساتي المتراكمة إنك أنت من قتلهم وبالقضاء عليهم، خففت عني. بفضلك استطعت أن أجد النوم والهناءة استعلت أن أبقى أخيرا وحدي. استطعت أن أتمالك نفسي. أنت ذهبت للقائهم من أجل استرجاع هويتك الضائعة في بترسبورغ، وأصبحت واحدا ههم، نفيت نفسك في جناح "بيت الموتى" حيث كانوا ينتشرون. لا أحد من القريبين منك فهم الدافع الحقيقي لتصرفك، يا راسكولينكوف ولكن أنا كشفته في وضح النهار بالغرفة المطلة على ساحة معتمة بشقتنا بأسطنبول. الآن وبعد سنوات من ذلك، في هذه الغرفة التي هي امتداد لغرفتي، أعتقد أنني أسمع صوت أمك بو لخيريا ألكسندر ووفنا Poulkheria Alexenlrouvna المتعجبة "أي مسكن حقير لك يا روديا، كأنه تابوت ! أنا متأكدة أن هذه الغرفة هي على الأقل نصف السبب في كآبتك. راسوميخين ينحني نحوي ويهمس في أذنيه:"هو ذلك طالب فقير أصبح لا يعرف من البؤس، والنور ستينا (الوهن العصبي)، شاب فخور، واع بقيمته، وقد أمضى ستة شهور مقبورا في زاويته، دون أن يرى أحدا" نعم، بعد وقت طويل من ذلك، متمددا فوق سريرك في غرفتك نفسها، فكرت فيك، يا راسكولينكوف أتخيل نظرتك الذكية، الملامح الدقيقة لوجهك الطويل، وجسدي يتلوى من الألم في الغرفة القصية عندنا باسطنبول. مهاجما بالكوابيس، ينجذب الى العزلة. بعد قليل سأخرج من هنا. عندما سيأتي حارس المتحف ليغلق الباب بالمفتاح، سيجد السرير فارغا. بعد قليل سأهبط الدرج الضيق الذي صعدت منه وألتحق بفندقي، وغرفتي الواسعة في فندق افروبيسكايا Evropeïskaia).)
نديم غورسيل
كاتب يوضع على رأس الحساسية الجديدة في الأدب التركي. وهو من مواليد 1951. يعيش في صنفاه الباريسي الذي انتقل اليه منذ 1972 بعد الانقلاب العسكري في وطنه. حيث يعمل باحثا في المعهد الوطني للبحث العلمي (C.N.R.S.) ويدرس في السر بون. من بين أعماله المهمة روايته (صيف طويل في اسطنبول ) ومجموعتاه القصصيتان (ارانب الرائد ) (الترامواي الأخير)، يشتغل ضمن مناخات الترحال والحنين والعزلة. ويكثف هذه الحالات عبر لغة شعرية تتوغل في عمق الدواخل النفسية لبطله /أبطاله من خلال عمل شفاف للذاكرة وهي تؤثث بيت الحنين.
في القصة التي اخترناها من مجموعة (أرانب الرائد) والتي عنوانها (غرفة راسكولينكوف ) يخوض الكاتب تجربة هي استمرار للمناخ الذي يسود مساره الابداعي. فعبر استحضار لبطل رواية (الجريمة والعقاب ) لدوستويفسكي، وأجواء النفى السيبيري في رواية (ذكريات عن بيت الموتى) يحاول الكاتب ان يجد الخيط الروحي الذي يربط بطله الذي يعيش تشظي الذات بين اللحظة التي يزور فيها متحف دوستويفسكي، وبين ازمنة الوحشة في وطنه حيث تسل الخدمة العسكرية عقوبة يخسر فيها الكائن مواصفاته بمفهوم أروبي سيزيل Musil) ) ويعود فارغا إلا من رنين الهذيان.
إن هذا النص الرحال (Nomade) بامتياز يمل تحاورا شفافا بين رؤيتين متماهيتين لا سيد فيهما إلا اللعنة المقدسة والهذيان المرعب. حيث خيط اريان وحده يضيء خراب الروح وجنونها الجميل.
للكاتب التركي نديم غورسيل
ترجمة: حكيم مليود (شاعر ومترجم من الجزائر)