ولد الأديب غيورغي غوسبودينوف عام 1968، صدرت له العديد من الدواوين أهمها «رسائل لغاوستين»، «شجرة كرز لأحد الشعوب». شاركت قصائده في المختارات الأدبية. صدرت روايته «رواية طبيعية» في ستّ نسخ باللغة البلغارية وترجمت لما يزيد على عشر لغات ومنها الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية، الدنماركية، التشيكية وغيرها. تناولت الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية “New York Times”, “Guardian”, “Frankfurter Algemaine Zeitung” وغيرها أعماله بالدراسة والتحليل.مجموعاته القصصية مترجمة للعديد من اللغات العالمية. حازت مسرحيته “D.j” على الجائزة الوطنية «إيكار». وله العديد من الأعمال في معظم الأصناف والفروع الأديبة. رشّح الفيلم الذي اعتمد قصّته «فاشيا العمياء» لجائزة الأوسكار للدورة 2017. يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب البلغاري الحديث من معهد الآداب التابع لأكاديمية العلوم البلغارية.
ГЕОРГИ ГОСПОДИНОВ
ЧОВЕКЪТ С МНОГОТО ИМЕНА
الخطوات العابثة وحدها الرابحة – غاوستين
لم يكن هناك أحد في المدينة يعرف كيف ومن أين ظهر وما اسمه الحقيقي! يختار الرجل الاسم المناسب لكلّ عمل يقوم به. وها قد انقضى عشرون عامًا منذ وصوله إلى هنا. البعض يؤكّدون أنّه في بداية المطاف وحين كان سويًا أكثر من حالته الراهنة، أفاد بأنّ اسمه الحقيقي غاوستين. لكنّ غاوستين هذا لا يعني شيئًا لأهالي المدينة، لذا استبدلوا اسمه بآخر، «غوشو، غوشو مركز المدينة»، لكثرة تواجده هناك، واعتبر أحد مجانين المدينة اللطيفين والهادئين، وغالبًا ما كان يشاهد أمثاله في كلّ مدينة آنذاك. انتشرت شائعات تفيد إنّ الرجلَ مصابٌ بلوثة لكثرة قراءته في مرحلة الشباب (هذا سبب كافٍ لتأكيد جنونه)، يعرف اليونانية واللاتينية ويُقال كذلك بأنّه قد تمكّن من قراءة كلّ ما كتب بهاتين اللغتين، الإشاعة على أيّة حال ساعدت الكثيرين لتفسير قدراته المتميزة وصحّته الجيّدة.
غاوستين أو غوشو مركز المدينة يحبّ التنزّه ليس فقط في الساحة ولكن في السوق أيضًا (هو نفسه أطلق على السوق اسم المجمّع) ويحبّ التفلسف في كافّة القضايا والمسائل، وكان من الممكن رؤية الكثير من الجماعات المتحلّقة في حضرته، يستمتعون بمعاشرته مستمعين لحكاياته. أهل المدينة يحبّونه ويقدّمون له الطعام وهو بدوره يدفع الثمن بمزيد من الحكايا وسرد الأخبار، وهذا مصدر رزقه ولم يخشَ يومًا من الجوع. منذ وقت قريب والأهالي يتذكّرون حكايته عن الذبابة والدودة، وهما في الواقع ملاكا خلود سماويان ويمثّلان أيضًا حالات التحوّل الأبدية، لأنّ جهديهما المضني يسعى لإعادة كلّ جيفة فانية إلى أديم الأرض. تعملان على تحليل المواد العضوية لمكوّناتها غير العضوية وكلّ ما هو غير عضوي خالد حسب غوشو.
يتذكرون أيضًا الندوة التي تحدّث فيها عن الزهرة التي نمت ليس مصادفة دون قامة الإنسان، كي يتمكّن الأخير من شمّ رائحتها الزكية حين يرغب منحنيًا لها تكريمًا واحترامًا. أتعرفون لمن ينحني الإنسان أيضًا حين يفعل ذلك أمام الزهرة؟ وإذا سارع أحدهم بالردّ «للزهرة طبعًا»، عندها يضيف قائلا «وهل ينحني لهذه الزهرة فقط أم لكلّ الزهرات في الحديقة؟ وقد ينحني لزهرة مثالية بحدّ ذاتها تتواجد في مكان ما!». عندما يجدون أنفسهم في حيرة أمامه سيعترف هو أيضًا بعدم معرفته للإجابة الدقيقة وأنّ هناك ضرورة للبحث عنها طويلا. ويضيف: يمكن القول أيضًا بأنّك حين تنحني لشمّ زهرة، تنحني إكرامًا للمزارع الذي اعتنى بها».
هكذا كان يتحدث والعدم رفيقه، من سيرة زهرة عابرة يقودك حيث يشاء في سبل التحليل. لذا لم يبذل الكثيرون جهدهم للاستماع إليه باهتمام وتركيز ولم يفهموا كلّ ما يقول، لكنّهم يدركون بأنّ ما يقوله ليس هذرًا على الإطلاق.
يسألونه هل حقًا اسمك غاوستين؟ ويجيب: أحيانًا، وفي أيام التسوّق يكون اسمه سقراط. سيشرح عن طيب خاطر كيف أنّ أحدهم يمكن أن يحمل اسم «كراتيل» أكّد أنّ الأسماء صحيحة وفقًا للطبيعة، لكنّ كراتيل هذا يجهل إنّ الطبيعة متقلبة، وحسب الطبيعات الكثيرة، يمكن لشيء واحد أن يحمل تسميات عديدة والعلاقات مترابطة، لا يمكن لأحد أن يتذكّر وينطق كلماته بدقّة.
أحيانًا يجلس غاوستين، غوشو مركز المدينة أو سقراط على الرصيف أمام مدخل أحد المباني، يتناول من جيبه دفترًا متجعّدًا وقلم حبرٍ نتَفَ طرفه حتّى ازرقّ لسانه ليبصقه بعد ذلك. يكتب شيئًا في الدفتر، وإذا ما سأله أحدٌ في الأثناء نفسه «ماذا تكتب الآن يا سقراط؟»، سيجيب دون أن يرفع رأسه: «عندما أكتب لا أعود سقراط، أصبح أفلاطون».
هذه هي أنماط أحاديثه، ومن خلالها كان يقدّم معلومات جمّة للمواطنين، فأفلاطون بالنسبة إليهم أمرٌ غامضٌ وغير مفهوم والمثقّفون يربطون اسمه بالحبّ العذري فقط، الأمر الذي يرفضه جملة وتفصيلا.
إذا صادفه أحدٌ يومًا يصطاد السمك متفكّرًا في مياه نهر تونجا الخاملة، وسأله على سبيل المثال: – يا غاوستين، غوشو، سقراط أو أفلاطون، هل نلت نصيبك من اصطياد السمك؟». عندها يجيب بهدوء، «حين أكون بمحاذاة النهر لا يمكن لاسمي أن يكون سوى هيروقليطس». وكان سيضيف أيضًا «لا يمكن لأحد أن يصطاد سمكتين في نهر واحد».
من المؤكّد أن هذا الإنسان يغيّر أسماءه أكثر ممّا يغيّر ملابسه، ويرتدي بلوزة واحدة صيفًا وشتاءً ويسير دومًا حافي القدمين وهو محظوظ لأنّ الشتاء قصير في هذه الأنحاء. لحيته ما تزال سوداء تنمو كما يحلو لها، مع أنّ البوليس حلقها لأكثر من مرّة لمخالفتها للذوق العام، لكنّهم تخلّوا عن ذلك لاحقًا وسلّموا بالأمر الواقع. لا ينام خلال ساعات الليل، بل يواصل مسيرته الطويلة في الساحات، يهبط إلى جسر الحديقة، يسير بمحاذاة النهر وغالبًا ما يلقي محاضراته أمام الضفادع لخواء المرافق العامة من البشر ليلا.
مع اقتراب رأس السنة يتحوّل لبابا نويل (وكاد أن يصبح فيما بعد سانتا كلوز). إدارة المتنزّه تقدّم له البزّة الحمراء ذاتها التي خيطت من لحاف، يعطونه جزمة طويلة ويرشّون لحيته ببعض النخالة، ليسارع الأطفال بالتقاط الصور التذكارية معه. كان بإمكانه أن يرتدي البزّة الجديدة ويحتفظ بالاسم الجديد لبضعة أيام، يبقي خلالها على ابتسامة مشرقة على وجهه وذقنه. راوي هذه الحكاية يفخر أيضًا بالحصول على صورة تذكارية معه، وهي الصورة الأخيرة التي التقطت معه أثناء أعياد الميلاد. بعد أسبوع وجدوه قد غرق في مياه كانون الثاني لنهر تونجا الباردة. لكنّ هذه حكاية أخرى، وقبل سنوات أخبرني صديق عائلة الدكتور أسيزوف حادثة شارك فيها الرجل ذو الأسماء الكثيرة. وهذا نصّ حكاية الدكتور (شارك بنفسه في أحداثها) كما دوّنتها في ذلك المساء.
كنّا قد اجتمعنا في الأول من شهر كانون الثاني مساءً عند هوميروس كي نصحو من سُكرنا. هوميروس يمتلك مرآبًا أسماه «إلياذا»، وعلى مدخله درع آخيل القديم مطليٌ بالزنك، والدرع أحد أملاك المسرح، يشبه غطاء برميل لغلي الفواكه أكثر منه درعًا ولكنّ هذه حكاية أخرى. هوميروس صاحب ذوق فني ومن هنا جاءت التسمية. تأخّر الوقتُ بنا وبقينا ثلاثة أشخاص فقط في المرآب، أنا وهوميروس وصديق آخر، يعمل محرّرًا في صحيفة محلية ساخرة هو بحدّ ذاته يبدو دائمًا ساخرًا للغاية. نحتسي القليل ونتسامر، كنت قد بدأت بقصّ حكاية حين دخل علينا سقراط. كانت رغبته أن يكون سقراط في ذلك المساء وناديناه كما يحلو له. دعوناه على الفور لينضمّ للمائدة وطلبنا له كأس نبيذ أحمر، قدّمنا له شوكة واقترح هو أن نشكّل ندوة ما دمنا قد اجتمعنا أربعتنا. حاول هوميروس أن يعترض، فهو يكره الشيوعيين والمؤتمرات والندوات، لكنّ سقراط أوضح بأنّ كلمة ندوة “Symposium” هي من أصول يونانية ويمكن أن تعني أيضًا احتساء الشراب ومداولة الحديث لمجموعة من الأشخاص، ويمكن أن تعني كذلك وليمة. وافقناه على أن تبدأ الوليمة فورًا. ثمّ استحدث سقراط لكلّ منّا اسمًا، «أنت اركسيماك» موجّهًا حديثه لي. من هو اركسيماك هذا يا سقراط؟ سألت بدوري. «طبيب مثلك» أجاب باختصار. ثمّ منح صديقي الساخر اسم أرسطو وكان يليق به حقيقة، أمّا هوميروس صاحب المرآب فنال اسمًا مجهولًا تمامًا – أغاتون، اسم أحد المضيفين في بلاتون.
كنت قد بدأت قصّ حكاية في مرحلة صباي عند مجيء سقراط وقرّرنا تكملتها، وعلى الآخرين سرد حكاية ما لأوّل حادث مؤذٍ تعرّض له أو تجربة ذاتية مختلفة حسب رغبة سقراط. حذّرتهم بأنّ حكايتي مقرفة ولا تتناسب مع المأدبة، لكنّهم أصرّوا على سماعها حتّى النهاية، ومضيت في حديثي:
– كم كرهت مخلّل الخيار في طفولتي، لأنّ والدي يطلب منّي عادة أن أذهب للقبو لإحضار عبوات كبيرة من مخلّل الخيار كلّما قدم إلى بيتنا ضيوف، أنا وحدي أدرك حجم الخوف الذي كان يعتريني في كلّ مرّة أهبط خلالها إلى القبو!
تلقّت عائلتي يومًا دعوة لتناول العشاء مع شخصيات هامّة من كبار الحزبيين والمتنفذّين في المدينة. أذكر يومها أنّ والديّ بدآ بالتحضير لحفل العشاء منذ ساعات الظهر. استبدلت أمّي ثلاثة أثواب، حتى تمكّنت من اختيار الأكثر مناسبة للعقد الذي وضعته خصّيصًا لتلك المناسبة، أمّا والدي فجرح وجهه خلال الحلاقة تحت الأنف مباشرة وشتم طويلا في الحمّام. ألبسوني بدلة أنيقة أرتديها عادة في الحفلات الموسيقية والأعياد المدرسية. كدنا نتأخر لكنّنا وصلنا أخيرًا في الوقت المناسب، ضغطنا على جرس الباب، واستمعنا لمقطع من لحن أغنية «كاتيوشا» قبل الدخول. لن أشرح تفاصيل الأجواء الداخلية لبيت المُضيف وتوصيف أرائك الجلد الفاخرة الكبيرة. شعرت بقلق والديّ أيضًا، لكنّي سرعان ما تناسيت كلّ هذا حين رأيت الابنة. يا لها من شقراء لطيفة وجذّابة! أوشكت وصفها بالمخلوق الأشقرَ وعدا عن هذا وذاك اسمها زينائيدا. حظينا بمكانة بين كبار القوم، قدّموا لنا في نهاية المائدة صحنًا من الخيار المخلّل وعصير الكرز وطلبت أم زينكا «اسم الدلال لزينائيدا» أن نستمتع برفقتنا لتقارب عُمْرينا. كنت خجلا للغاية ولم أتفوّه بكلمة واحدة وانشغلت بالتهام مخلّل الخيار كمبرّر لتمرّدي وعنادي. أعرف بالطبع ضرورة تجنّب الحديث خلال تناول الطعام، لم أشعر بالطبع بطعم المخلّل الذي سئمته وفي فترة قصيرة من الزمن التهمت كلّ محتويات الصحن أمامي. سألوني إذا رغبتُ بمزيد من المخلّل، هززت رأسي علامة الموافقة ولا أدري كيف أتيتُ على محتويات الصحن الثاني تبعه ثالث. شعرتُ بنظرات زينكا المندهشة من قدراتي الفائقة، نظر إليّ والدي أكثر من مرّة مستفهمًا، أمّي أوضحت بأنّي لم أبدِ سابقًا شغفًا بتناول الخيار المخلّل بهذا القدر، دون أن يتوصّلا إلى نتيجة مقنعة في نهاية المطاف. شعرت بالارتياح حين عرضت والدتها علينا الذهاب لنلعب سوية في غرفة الأطفال. لم أعارض هذه المرّة وما أن أغلقنا باب الغرفة حتّى شعرت بألم حادّ في معدتي، تمكّنت من الانطواء على نفسي..والمعذرة منكم خريتُ في لباسي فورًا. نظرتُ ببلاهة تجاه الفتاة المذهولة وهرعت إلى الحمام. أغلقت الباب بالمفتاح، فتحت صنبور الماء وطفقت بالبكاء. بعد قليل حضر أبي وأمي وحاولا إقناعي بفتح باب دورة المياه، وكان من المستحيل أن أوافق على فتح الباب ومواجهة الحضور. رغبت بالموت في تلك اللحظة هناك، أن أغرق في حوض دورة المياه وأفتح شلال الماء فوقي لأغوص في العدم نهائيًا. بعد ساعة ونصف الساعة وافقت على الحديث بحشرجة ووضعت شروطي للموافقة على الخروج. طلبت من الجميع الابتعاد عن الباب وإطفاء الأنوار في كافّة أنحاء البيت، وحين خيّم الهدوء والصمت من حولي فتحت الباب بنزق وقفزت بخطوات سريعة نحو الباب الخارجي وهرعت إلى العتمة المخيّمة في الحيّ. يا للخجل! أن تخرى أمام أوّل امرأة فتيّة تقابلها في حياتك؟
ضحك الجميع حتّى دَمِعَت أعينهم لحكايتي خاصّة سقراط. حلّ دور هوميروس، عفوًا أقصد دور أغاتون ليبدأ حكايته، وسيذكر بأنّه يمارس هواية الكتابة سرًا، وهذا يعني حسب رأيه، بأنّ تعداد قرّائه يزيد بكثير عن هذا التجمّع لو قدّر لنصوصه أن ترى النور. على أيّة حال، هو أصغرنا وكان قد استقال حديثًا، حدّثنا عن مناسبة احتفال بعيد ميلاد أحد التلاميذ من الصفوف الابتدائية. عندما تناول التلاميذ الساندويتشات والفطائر قرّروا أن يمارسوا لعبة العبوة الزجاجية الفارغة، لعبة جريئة آنذاك واعترف أراغون بأنّ الفضل يعود لتلك اللعبة ليحظى بالقبلة الأولى في حياته، لكنّها تحوّلت لحادث بل لمأساة في حضرة الجنس الناعم. أطفأوا الأضواء ليقبّل أغاتون الفتاة المعنية، عثر عليها بصعوبة في العتمة وتمكّن من تقبيل وجنتها. غرق المتواجدون في الضحك حين أناروا المكان، لأنّ آثار مسحوق الطماطم على شفتيّ أغاتون قد انطبعت على وجنة الفتاة، هذه التجربة أجبرت صاحبنا أن يحذر القبل طوال السنوات الثماني التالية. استحسنّا حكاية أغاتون ودعونا أرسطو ليبدأ حكايته.
حسب ما أذكر حكى لنا الرجل ما يشابه النكتة، لكنّ أرسطو أقسم بأنّ القصّة حقيقية حتّى وإن بدت نكتة بل ويفخر لظرافتها. تعود القصّة باختصار إلى فترة انشغال أرسطو بالعمل كطاهٍ لعدّة سنوات في أحد المطاعم التابعة لفندق. في إحدى الأمسيات ارتاد المطعم مواطن وقح من صوفيا، نادى الطاهي للوقوف على قائمة الطعام، أجاب أرسطو مفاخرًا بقدرته على تحضير أيّة وجبة تخطر على بال الزبون، عندها طلب الرجل عين إبل مقلية بالبصل. تفكّر أرسطو قليلا وأجاب «بعد ساعتين ستحصل على طلبك». وعده الضيف بمنحه مائة ليفا إذا تمكّن من تقديم الطبق المطلوب خلال ساعتين وإذا فشل فعليه أن يعتذر للضيف طوال المساء أمام ميكروفون فرقة المطعم الموسيقية. تشارط الطرفان وغادر الضيف للتنزّه في المدينة حتّى يحين الوقت المحدّد، وحين عاد بعد ساعة من الزمن وجد الزبون لدهشته ناقة تلتهم زهر البنفسج أمام الفندق وعينُها مغطّاة بقطعة قماش. دخل إلى المطعم حزينًا وأخرج الورقة المالية من جيبه، لكنّ أرسطو عاجله طالبًا منه أن يحتفظ بماله، لأنّه تمكّن من العثور على الناقة لكنّه فشل بالعثور ولا حتّى على رأس بصل واحد في أنحاء الحيّ في هذه الأوقات من السنة.
«خسرت مئة ليفا لأنّي عجزت عن العثور على رأس بصل واحد» قال أرسطو، وكان عليه أن يعتذر للزبون رسميًا أمام ميكرفون الفرقة الموسيقية، جيّد أنّني لم أفقأ عين ناقة فرقة السيرك الذي يقوم بزيارة ترفيهية للمدينة في تلك الأثناء، وضعت العصابة على عينها لأفقد الرجل رشده ولم تكن لديّ نوايا سيّئة.
تلك هي حكاية أرسطو وأنا مصرٌّ حتّى اللحظة أنّها من نسج خياله. أخيرًا جاء دور سقراط ليقصّ علينا حكايته، صمت في البداية لبضع دقائق وبدلا من سرد إحدى الوقائع طفق يبكي كطفلٍ صغير. سالت الدموع من عينيه واحترنا كيف نتعامل مع هذه الحالة؟ لكنّه هدأ بعد قليل، مسح دمعه بكمّ ردائه وقال بأنّه لا يمتلك حكاية شخصية واحدة، وأنّه قادر على قصّ الكثير من الحكايا التي وردت في الكتب، ومناقشة القصص التي استمع لها للتوّ، لكنّه ومهما بحث في ذاكرته لن يتمكّن من استهلال قصة شخصية واحدة. قصصنا الخاصّة هي الخطوة الوحيدة القادرة على تأجيل النهاية المحتومة لوقت قصير محدود، ورغم أنّنا سنخسر اللعبة استراتيجيًا في نهاية المطاف، إلا أنّ الذكريات والحكايا بمثابة خطوات عبثية ستعمل على تأجيل لحظة النهاية، حتّى وإن كانت ذات طابع كارثي ومأساوي، قال سقراط مبتسمًا وابتلّت عيناه بالدموع، ولم نكن نعرف وقتها بأنّ لقاءنا معه هو الأخير.
تلك كانت حكاية الندوة المثيرة التي أخبرنا بها الدكتور. بعد أيام من تلك الحادثة كنّا سنجد الرجل ذا الأسماء الكثيرة غريقًا في النهر. جسده متعلّقٌ بالأعشاب الغزيرة بالقرب من جسر الحديقة. يُقال بأنّه وخلال تنقلاته ونزهاته الليلية الطويلة قد شهد عملية قتل أو سطو وقد كثر هذا النمط من العمليات الإجرامية مؤخّرًا في أنحاء المدينة، وكان لا بدّ من التخلّص منه كشاهد. وربّما ببساطة، حاول القيام بخطوة استباقية لاصطياد السمك برفقة هرقليطس في إحدى تجمّعات نهر تونجا المسائية. في اليوم الثاني من وفاته ظهر نعيه أعلن فيه عن وفاة غاوستين، غوشو مركز المدينة، سقراط، بلاتون، هرقليطس، بابا نويل وسانتا كروز.
ترجمة وتقديم: خيري حمدان