لا يمكن فهم تجربة الشاعر العراقي فاضل العزاوي الشعرية والإبداعية الشاملة بمعزل عن مجموعة من الموجهات القرائية السياقية والنصية،الموضوعية والذاتية التي أسهمت في صياغة رؤيته الشعرية الكلية.
وفي المرتبة الأولى تأتي مسألة ارتباط الشاعر بتجربة جيل الستينات في العراق الذي جاء في أعقاب أول تجربة للحداثة الشعرية الخمسينية تمثلت بتجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. وفي قلب هذه القضية الدور الشخصي الذي نهض به الشاعر في التبشير بالموجة الحداثية الجديدة وقيامه شخصيا بكتابة أهم مانيفستو شعري في تاريخ العراق الثقافي هو «البيان الشعري »(1) الذي وقعه أربعة من شعراء الستينات البارزين آنذاك.
والى جانب هذا الموجة، لا بد وان نأخذ بنظر الاعتبار ثراء التجربة الروائية للشاعر والتي تزامنت مع نضج الحداثة الشعرية، ونشير بشكل خاص إلى روايته المبكرة الجريئة «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة»(2) الصادرة عام 1969، والتي وصفها الشاعر في الغلاف الأخير بأنها «قصيدة مخترع شرير»، كما أكد على تداخل الأجناس في الرواية بقوله في التمهيد القصير الذي كتبه للراوية : «وتصبح الرواية قصيدة ومسرحية وفيلما ولوحة وموسيقى في الوقت ذاته دون ان تعني ذلك ».(3)
والعنصر الثالث المهم في فهم تجربة الشاعر يتمثل في تربيته الاجتماعية والثقافية والمؤثرات الفكرية والسياسية والأدبية التي شكلت وعيه الشعري والأدبي والثقافي، فالشاعر من مواليد مدينة كركوك عام 1940، وهي مدينة عراقية عرفت باحترامها للتنوع الأثني واللغوي والديني وانفتاحها على الآخر، وتأثرها بوجود شركات النفط الأجنبية التي ساهمت في إشاعة اللغة الانجليزية. لذا تربى الشاعر في مثل هذا الجو القائم على الانفتاح على الآخر والإيمان بقيم التسامح واحترام الثقافات الأخرى التي أصبحت جزءاً من ثقافته ووعيه.ويرتبط ذلك ايضاً بتربيته الدراسية والسياسية. فبعد ان أكمل دراسته الثانوية في كركوك انتقل إلى بغداد لإكمال دراسته الجامعية طالباً في قسم اللغة الانجليزية في كلية التربية (دار المعلمين العالية سابقا)، وقد ساعده ذلك على تطوير رصيده اللغوي، الذي كانت له بدايات سابقة من احتكاكه بأبناء مدينته، فأفاد إلى حد كبير من قراءاته باللغة الانجليزية واطلاعه على كتابات شعراء الحداثة في الآداب الانجليزية والأمريكية والفرنسية، وهو موجه مهم من موجهات الحداثة الستينية، مثلما كان المؤثر الأجنبي – سواء من خلال الترجمة أو الاطلاع المباشر على اللغة الأجنبية عنصراً حاسماً في تفجير وبلورة منحى الحداثة الشعرية الخمسينية. وان كنا نرى ان اقتصار المؤثر الأجنبي على شعراء الخمسينات كان مقترنا أساسا بشعراء الرومانسية الانجليزية وببدايات حركة الحداثة الشعرية التي مثلتها تجربة ت. س. اليوت وعزرا باوند واديث ستويل وغيرهم. ولم ينتبه شعراء الخمسينات لشعراء الحداثة الفرنسية أمثال بودلير أو رامبو كما لم يتوقفوا أمام المنحى الحداثي الديمقراطي الذي مثلته تجربة الشاعر الأمريكي وولت وتمن في ديوانه «أوراق العشب»(4) أو تجربة شعراء الغضب في الأدبين الأمريكي والانجليزي، وبشكل خاص تأثير شعراء مدرسة البيتنكس التي مثلتها تجارب الن غنربرغ وفرلنغهيتي، وغريغوري كورسو في الشعر في خمسينات القرن الماضي والتي كان لها تأثير كبير على حركة الحداثة الشعرية في الستينات.
ولا يمكن إسقاط جانب مهم في ثقافة الشاعر وتربيته، يتمثل في انتمائه المبكر إلى اليسار العراقي المنظم وأيمانه بقيم العدالة الاجتماعية ومسؤوليته المثقف العراقي في إحداث مجتمعه. وكانت للشاعر تجربة خصبة في هذا المجال. اذ اعتقل بعد انقلاب الثامن من فبراير 1963 الفاشي، واقتيد – مع المئات من الأدباء والمثقفين – إلى السجون والمعتقلات، حيث أمضى فترة من الزمن في سجن بغداد المركزي (الموقف العام) وتحديدا في القلعة «الخامسة»(5) التي كتب عنها رواية بهذا الاسم كما امضى فترة أطول في سجن الحلة. وربما يمثل فشل التجربة السياسية وسيطرة القوى الفاشية على مقدرات البلاد صدمة عنيفة أثرت سلباً على وعي الشاعر وعلى الكثير من أدباء الستينات الذين كفروا – بعد ذلك – بكل القيم والمفاهيم والمؤسسات السياسية وحولوا رفضهم وغضبهم ضد الاستبداد والدكتاتورية إلى غضب شامل ضد الأعراف الأدبية والقيم السياسية، حيث راح الشاعر الستيني يبحث له عن حل فردي لإشكالات تلك المرحلة، لم يكن يخلو من السوداوية والعدمية والذاتية في مواجهة العالم. وقد انعكس ذلك على تجربة الشاعر الفنية وأدواته، فشق له، بالاشتراك مع شعراء الجيل طريقًا جديداً نحو حداثة من طراز جديد، ربما كان «البيان الشعري» صوتا لها. إلا ان هذا الصوت الصاخب المتمرد راح بمرور الزمن يميل إلى الهدوء والاستقرار والى التصالح الجزئي مع العالم الخارجي، وخاصة منذ نهاية السبعينات وبعد ما غادر الشاعر العراق ليعيش في المنفى وتحديدا في ألمانيا منذ عام 1977 وحتى اليوم.
وبسبب اشتباك عناصر ومستويات وصفحات الشاعر الإبداعية المختلفة، يتعين على الناقد ان يدرس المتن النصي والإبداعي للشاعر في كليته لوجود مشتركات تعبيرية وبنيوية ورؤيوية متقاربة.
ولذا فانا في قراءتي لتجربة فاضل العزاوي الشعرية اتفق مع الشاعر المغربي محمد بنيس في كتابه «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب : مقاربة بنيوية تكوينية»(5) الذي يدعو إلى اعتماد المتن الشعري الكلي للشاعر أو لمنحى شعري معين، وعدم الاقتصار على نص شعري مفرد بعينه.
ان ما يدفعنا إلى الأخذ بهذا المنحى ملاحظتنا وجود ملامح أسلوبية مستقرة وثابتة، فضلاً عن تبلور أنساق وبنيات وتوظيفات مماثلة في لغة الشاعر ومعجمه الشعري ورموزه وأقنعته التي يوظفها تشتغل وتتداخل في متنه الشعري الشامل، والى حد ما في تجربته الروائية أيضاً.
كان فاضل العزاوي في اوج الحداثة الشعرية الستينية مثل قنبلة متفجرة، تقذف حممها في جميع الاتجاهات، وتطلق العنان للمخيلة لكي تشاكس كل ما هو تقليدي أو نسقي أو ثابت. فهو يؤمن – وبشكل خاص في كتاباته المبكرة – بلون من الكتابة الأوتوماتيكية التي تفيد من المدارس السريالية والروائية والمستقبلية ومن تجارب مدرسة ( البيتنكس ) في الشعر الأمريكي بشكل خاص. ولذا فقد كان الشاعر قلما يتقصد التحكم في سيل الكلمات والصور والتراكيب التي يطلقها، وخاصة في بواكير تجربته الستينية : فتبدو، نتيجة ذلك،الاستعارات والتشبيهات والمجازات والصور متباعدة الأطراف ومفاجئة وصادمة، وغريبة أحيانا، لكنها تنجح في النهاية، في ان تخلق مناخاً شعرياً فوضوياً متمرداً، لا يخلو من الضجيج والصخب واللامعنى أحياناً , وان لاحظت ان الشاعر عاد، ربما منذ منتصف السبعينات إلى ضبط إيقاع الانفلات والتفجر نسبيا في محاولة لتوجيهه نحو أهداف فنية وتعبيرية موجهة ومنظمة لتحقيق رسالة شعرية محددة، فيها الشيء الكثير من المنطقية والمعقولية، بخلاف المرحلة السابقة التي اتسمت بالتفجر شبه العفوي والتلقائي للكلمات والمرئيات دونما رابط منطقي أو عقلي أو بنيوي من خلال الانثيال الأوتوماتيكي للألفاظ.
لقد شكلت تجربة فاضل العزاوي المبكرة، بما لها وما عليها، منحنى ً شعرياً متميزاً، ربما ميّز، بعض الوقت، تجربته عن بقية مجايليه وأقرانه من شعراء الستينات، بوصفه تجريبياً ومتمرداً ورافضاً، ومدمراً لكل القيم الفكرية والأعراف الفنية والأدبية والاجتماعية والسياسية وخيّل لي، لحظة ما، ان قيمة فاضل العزاوي الشعرية، لا تزيد عن كونه مبشرا باتجاه شعري حداثي جديد وبوصفه صاحب «البيان الشعري»، وكدت أقارن دوره بدور الشاعر الأمريكي تي.ي. (هيوم) المؤسس الحقيقي للمدرسة التصويرية ( الايماجية )(6) في الشعر الأمريكي في الفترة 1912- 1917 الذي لم يكتب الا بضع قصائد لا تتجاوز العشرين قصيدة، لكنه أصبح مبشرا وممثلا لمنحى جديد في التعامل مع الصورة الشعرية تأثر بها كبار شعراء العصر آنذاك ومنهم اليوت وأزرا باوند وايمي لويل. لكن قراءة لاحقة ومتأنية للتجربة الكلية لمتن الشاعر، وبشكل خاص منذ صدوره «الأعمال الشعرية»(7) للشاعر في جزءين عام 2007 دفعتني إلى إعادة النظر في هذا الحكم والاعتراف بثراء تجربة الشاعر وتنوعها وحيويتها، والنظر اليه بوصفه واحدا من كبار شعراء الحداثة الشعرية العربية فضلاً عن تجربته الروائية الخصبة التي تتصادى ومنظوره الشعري والفلسفي، ولذا فنحن بحاجة إلى إعادة فحص وتقييم هذه التجربة، التي تحسب للشعر العراقي، مثلما تحسب للشعر العربي الحديث.
وخلافا للمفهوم الشائع المبكر عن فاضل العزاوي الذي كان ينظر إليه بوصفه شاعرا «موضة» طارئة ومؤقتة، ولا يعنى الا بالهم النرجسي والذاتي والجمالي وبنزعة تدميرية وعدمية عمياء، فقد كان فاضل العزاوي شاعراً إنسانياً وكونياً كبيراً، تجد في تجربته الشعرية ملامسة مباشرة للوجع الإنساني في مختلف اشكاله وتنوعاته، وربما وظف الشاعر لوناً من الكوميديا السوداء، وهو يقدم عوالمه المنتهكة والمسحوقة، انسانياً، لكنه ظل قريبا من المحنة الانسانية والكونية، بكل ابعادها وشمولها، في رفض الاستبداد والشمولية، وظل صادقا في التطلع نحو عالم الحرية والبراءة، لذا تجاوب مع حركات الطلاب عام 1968 ومع كل النضالات الجماهيرية في العراق وفي العالم، ومنها التعاطف مع الانتفاضة المسلحة في اهوار جنوب العراق فضلا عن تضامنه مع القضية الفلسطينية ومشروعات الكفاح المسلح التي مثلتها تجربة جيفارا التي الهمت شبان وكتاب وفناني العالم آنذاك.
كانت من أهداف حركة الحداثة الشعرية الستينية في العراق تجاوز ومشاكسة منجز الحداثة الخمسينية التي مثلتها تجربة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري. وقد بلور الشاعر فاضل العزاوي في كتابه «الروح الحية» أهم أوجه التجديد في الشعر الستيني في النقاط الثمانية التالية :
1 – التخلي الجزئي أو الكامل عن القافية.
2 – الابتعاد عن الغنائية الخارجية الطربية للأبيات المنفردة في القصيدة لصالح غنائية داخلية، تنبثق من النص كله.
3 – استخدام بحور عدة داخل القصيدة الواحدة.
4 – المزج بين الشعر الموزون والنثر.
5 – كتابة شعر موزون على شكل مقاطع، لا أبيات، ضمن ايقاع يقربه من قصيدة النثر.
6 – بروز ظاهرة القصيدة النثرية الحرة.
7 – ظهور المحاولات الأولى لكتابة قصيدة النثر.
8 – ظهور المحاولات الأولى للقصيدة الطليعية المركبة التي تستخدم وسائل تعبيرية وبصرية مختلفة , توحد بين النص الشعري والقصة والرواية والرسم والفوتوغراف والملصق والسيناريو والمسرح، في محاولة للوصول إلى الفن الواحد الذي تنعدم فيه الفوارق بين الأشكال الفنية المختلفة : قصيدة اللاقصيدة، أو النص المفتوح. (8)
وتبرز أهمية هذا التوصيف للقصيدة الستينية عند فحص تجربة الشاعر فاضل العزاوي نفسه، حيث نجد هذا النزوع القوي لتطبيق هذا البرنامج الشعري والنقدي والفلسفي على تجربته الشعرية الشاملة. كما حاول الشاعر ان يستنبط بعض ملامح اللغة الشعرية لشعراء الستينات فأشار إلى جملة خصائص، منها ان كل جملة شعرية في هذه اللغة مشحونة بالمعنى كبديل عن اللغة الإنشائية التهويمية التي لا تكاد وتقول شيئا.(9) وهذه الخاصية مهمة لانها تحاول ان تنفي ما أشيع من ان الكثير من كتابات شعراء الستينات كانت تنطوي على لغة إنشائية تهويمية لا تكاد تقول شيئا، وان فاضل العزاوي نفسه قد سقط في هذا الاتهام، وخاصة في بداياته المبكرة الصادمة مثل «قصائد ميكانيكية «المنشورة عام 1966. كما أشار الشاعر في توصيفه لهذه اللغة انها تختلف عن لغة شعراء حداثة مجلة «شعر» من أمثال ادونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط وانسي الحاج. ويرى الشاعر ان مصدر جدة هذه اللغة في انها « قد تنكرت للحلي البلاغية وترهل العبارة لصالح لغة ملموسة (كونكريتية)، تمتلك حيوية اللغة اليومية ودقة اللغة العلمية , كما تتميز أيضا بتحرير الكلمة والجملة من الظلال المائعة التي تراكمت فوقها مع الزمن، بحيث أصبحت الكلمة أكثر حيادية، ولكن ايضا ذات وهج خاص يلتمع من العلاقة الجديدة التي يكتشفها الشاعر أو الكاتب بينها وبين الكلمات الأخرى. (10)
ونرى الشاعر، من جهة أخرى، يؤكد على الجوهر التجريبي في الشعر الستيني، وربما في كل تجربة شعرية خلاقة، كما يرتبط ذلك بما يسميه بجوهر الروح الحية للجيل نفسه :
«هذا الانتقال بالكتابة من الانطباع إلى الموقف هو الذي جعل النص الجديد يختلف عن النص القديم بشكله كما برؤياه. وهنا لا بد من معرفة ان التجريبية التي قام عليها النص الستيني كانت التجلي الإبداعي الوحيد الممكن للروح الحية. وفي الواقع فانه ما من كتابة حديثة بدون تجريبية. فالنص الجيد هو النص الذي ينتهك القواعد الثابتة، وهو اذْ يفعل ذلك يخرج على المؤسس ويقدم ما لا يمكن ان تكون مؤسساً، بسبب جدته والزمن القصير الذي يمتلكه. (11)
وهكذا نجد ان الشاعر فاضل العزاوي يمتلك تصورا نقدياً كاملاً عن طبيعة القصيدة الستينية وأهدافها وخواصها البنيوية اللسانية والبلاغية وظلالها الفلسفية والكونية، وهو ما وجد له صدى واضحاً في «البيان الشعري» الذي كتبه الشاعر نفسه، والذي يمنح فيه الشاعر والقصيدة وظيفة قد تكون رسالة تغييريه وثورية في آن واحد، تذكرنا بالبيانات الشعرية العالمية ومنها البيان المستقبلي الايطالي وبيان اندريه بريتون السريالي (12). لقد كان الشاعر واضحاً عندما قال:
«لقد آن للقصيدة العربية ان تغير العالم،من خلال نسف أضاليل الماضي والحاضر، وإعادة تركيب العالم، داخل رؤيا شعرية جديدة. لقد آن للقصيدة العربية ان تتحدث عن رحلة الإنسان إلى الحقيقة عبر حضور وجدّة كل الموجودات في الذهن، حيث القصيدة آخر طلقة في بندقية هذا الكائن البدائي، المتحرر والمعقد، الواعي غير المتأكد، والذاهب إلى غابات عالم لا يمكن معرفة مغزاه أبداً» (13)
وفي ضوء ذلك يمكن ان نستنتج ان اتجاه الشعر الستيني، وبشكل خاص تجربة الشاعر فاضل العزاوي، يمثل مرحلة متقدمة من مراحل الحداثة الشعرية العراقية والعربية، تختلف عن مرحلة الحداثة الشعرية الأولى في الخمسينات. وكما سبق لي وان بينت في أكثر من دراسة، كانت الحداثة الشعرية الخمسينية تقوم على قاعدة المصالحة مع الواقع الاجتماعي، وفي الوقت ذاته الدعوة لتحقيق تغيير ثوري داخل البنية الاجتماعية عبر آليات تغييريه اجتماعية مدروسة. ولذا فيمكن مقارنتها بمرحلة الحداثة moderity، اما الحداثة الستينية فتقوم على أساس الانشقاق على الواقع والمجتمع ومحاولة تدميره أو نسفه لبناء عالم جديد. ولذا فهي أقرب إلى مصطلح الحداثانية أو الحداثوية modernism التي تتماهى مع منظور رؤيوي وفلسفي معين أفرزته الحضارة الأوروبية واتسم بانشقاق الشاعر عن المجتمع ومحاولته إقامة مملكته بطريقة ذاتية. وهذا ما وجدناه إلى حد كبير في رؤيا الشاعر الستيني الذي حاول تحقيق حلم تغيير الواقع من خلال منحىً تدميري شامل , وبطريقة ذاتية، وبعيداً عن الاعتراف بقوانين التغير الاجتماعي، ولذا بدت نزعة التغيير اقرب ما تكون إلى الملاذ الذاتي، الذي لا يختلف عن ملاذات الصوفيين والميتافيزيقيين وأصحاب النزعات الجمالية المغلقة. لكننا، يتعين ان نعترف ان هذه الرؤيا التي وسمت مواقف الكثير من شعراء الحداثة الستينية في البداية، سرعان ما راحت تكشف عن مواقف اجتماعي وثوري جذري، بعد التخلص من الكثير من الأوهام والأحلام والخيالات الذاتوية لإقامة يوتوبيا شعرية على ارض الواقع.
وكما سبق لي وان بينت في دراسة مبكرة عن مفهوم الاجيال الشعرية ونشرتها في كتابي الموسوم «شعر الحداثة : من بنية التماسك إلى فضاء التشظي» إلى انه «مرت بالعراق، وبعدد من البلدان العربية ظروف موضوعية وذاتية قاسية هزت يقين الشاعر الستيني وجعلته ينكفئ نحو الذات ويرفض التصالح مع المجتمع.
ويمكن القول , ان مشروعه لإصلاح هذا المجتمع كان مشروعا فرديا، وكان هم الخلاص الفردي – وربما بوسائل صوفية او من خلال إسقاطات سيكولوجية هو المهيمن على الرؤيا الشعرية الشابة». (14)
ويتزامن مع هذه الرؤيا شبه العبثية، والنرجسية، هيمنه النزعة التجريبية على تجربة الشاعر فاضل العزاوي المبكرة، حتى كانت تبدو وكأنها تجريبية لأجل التجريب لا غير. ويكمن الاستدلال هنا على أربع قصائد قصيرة نشرها الشاعر عام 1966 تحت عنوان «قصائد ميكانيكية» والتي سببت صدمة قوية للقارئ وللمؤسسة الثقافية في حينها. وقد آثر الشاعر ان لا يضمها إلى أي من دواوينه المبكرة، لكنه أعاد نشرها بشكل ملحق رقم 4 في كتابه «الروح الحية جيل الستينات في العراق في طبعته الأولى الصادرة عام 1997، وكانت تحمل عنوانا رئيسا هو «السائر قرب خط التماس» وتضم القصائد الأربع التالية :
1. المرأة المسلسلة
2. الطوفان الأخير
3. عيون الأجداد
4. ثكنات الجسد(15)
لكنني لاحظت ان الشاعر قد أعاد نشر هذه القصائد في أعماله الشعرية الكاملة التي نشرتها له دار الجمل في جزءين عام 2007، وبالعنوان الرئيس ذاته، لكنه آثر ان يجري تعديلات طفيفة على المقطع الثالث، بإضافة ثمانية أبيات عليه فضلاً عن تغيير عنوانه من «ثكنات الجسد» إلى «ثكنات العصور البالية»(16)
وكان الشاعر قد كتب عن هذه التجربة في العدد المزدوج (4- 5) من مجلة «فراديس» عام 1992،، والتي كان يحررها الشاعر عبدالقادر الجنابي دراسته الموسومة «قصة جيل الستينات في العراق»وضمّن الكثير منها لاحقاً في سيرته الشعرية «الروح الحية : جيل الستينات في العراق». اذ اشار الشاعر إلى انه كان عام 1966 يشرف على الصفحة الأدبية في جريدة الثورة العربية «عندما نشر «قصائد ميكانيكية «والتي أحدثت كما يقول «ضجة كبيرة في الوسط الثقافي، بسبب لغتها، ومحاولة المزج بين المعادلات الرياضية والرسم والوزن والنثر مستفيداً من خبرات الكتابة الروائية والسوريالية والاتجاهات الطليعية». (17) وواضح , كما ألمح الشاعر نفسه، ان «قصائد ميكانيكية» كانت ثمرة التأثر بالكتابة السريالية والروائية، فضلا عن الكتابة الاتوماتيكية التي بشر بها الشاعر بعض الوقت. ففي هذه القصائد الأربع التي يمكن ان تعد بمثابة قصيدة عنقودية تدفق عفوي، غير منضبط للصور والكلمات والرموز والمرئيات، ودونما ضابط منطقي أو سردي أحياناً :
«محتلة كتلة العلبة
تحتشد الأجساد في المعادلة،
ي = 1\2 جذر الابتداء = مسافة العالم»(18)
ويبدو لي ان قيمة هذه القصائد الميكانيكية تتمثل أساسا في صدم ذائقة القارئ التقليدي وخرق الأعراف الأدبية والشعرية السائدة والتبشير بالدور الذي تحققه المخيلة الحرة من ضوابط المنطق والعقل والسلطة. فالشاعر، كما سبق وأعلن مراراً، لا يهدف إلى تحقيق معنىً معين، وهو ربما يلتقي مع الكثير من نقاد الحداثة، ومنهم سوزان برنارد في كتابها «قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا» التي دافعت عن مفهوم «المجانية» في قصيدة النثر، والذي يعني انتقاء الغائية والمعنى من الكتابة الشعرية، لأنها كتابة لذاتها. كما تلتقي هذه الفكرة مع ما قاله الشاعر أرشيبالد ماكليش في كتابه «الشعر والتجربة» من ان القصيدة لا تهدف إلى تحقيق معنى معين،وان هدفها هو» ان تكون «ليس الا.
وكان الشاعر فاضل العزاوي قد أعلن في وقت مبكر في المقدمة التي كتبها لراويته التجريبية المبكرة «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة «ان الرواية تتحدث عن نفسها، بطريقتها الخاصة جدا، حيث لا تقول شيئا بالذات.(19)
لكن الشاعر عاد للحديث عن المعنى في الكتابة والشعر في المقدمة التي كتبها للجزء الأول من «الأعمال الشعرية» إلى تحديد أدق لمفهوم المعنى في الشعر أشار فيه إلى زئبقية المعنى :
«واذْ المعنى هو إشارة إلى معنى آخر، أكثر بعداً وتخفياً، هذه السرية التي تملكها القصيدة تكاد تكون معادلة لنفس الهندسة السرية التي تتجلى في معمار الكون، حيث المعنى واللامعنى يشكلان بنية واحدة، ويكملان بعضهما الأخر، مثلما الحياة والموت».(20)
وعملياً، وعند فحص مجمل تجربة الشاعر، نجد ان المعنى العام لم يكن دائماً غائباً أو زئبقياً، بل ثمة الكثير من المحددات والمؤشرات اللسانية والبلاغية والأسلوبية التي تقود إلى اكتناه المعنى والدلالة في الكثير من تجارب الشاعر، ان لم نقل في متنة الشعري الشامل، ربما عدا بعض استثناءات محدودة مبكرة.
ويمكن ان نلاحظ انه يميل إلى طرح معنىً مفتوح
، ربما ليمنح الفرصة لقارئه في الدخول في حوار منتج مع نصوصه الشعرية المفتوحة، بوصفها نصوصاً كتابية وليست قرائية حسب مفهوم رولان بارت.
إذ يذهب الشاعر إلى إيضاح موقفه هذا بالقول :
«وهنا لايكون المعنى محددا ونهائيا، والا فسد بعد حين، مثل أي معنى آخر، وإنما معنىً مفتوح على معان أخرى بها توحي بها القصيدة، أكثر مما تبوح بها».(21)
التجربة الشعرية في الستينات التي مثلتها كتابات فاضل العزاوي لم تكن نبتة شيطانية، بل وليدة واقع اجتماعي وسياسي وثقافي محدد. ويحذرنا الشاعر نفسه من النظر إلى ان الثورة التي أحدثها جيل الستينات في الكتابة العراقية هي من صنع واحدٍ أو مجموعة معينة بالذات، رغم أهمية الأدوار التي يلعبها الأفراد. فقد كانت الستينات الثمرة الناضجة لوعي اخطر تجربتين، مرّ بهما المجتمع العراقي، تجربة ثورة 14 تموز 1958، وانقلاب 8 شباط 1963. (22)، ويقدم الشاعر تحليلا سوسيولوجيا وثقافياً لعوامل تشكل وعي الشاعر الستيني، حيث يرى ان ثورة تموز وإعلان الجمهورية أوحيا بإمكانية إقامة الفردوس فوق الأرض العراقية (23) الا ان انقلاب شباط عام 1968 نسف هذا التفاؤل، ويذهب الشاعر إلى ان الشهور التسعة التي عاشها العراقيون في ظل انقلاب 8 شباط كانت أطول كابوس في حياتهم، ولكنها حررتهم، في الوقت ذاته، من التفاؤلية الساذجة التي سيطرة على أرواحهم، وبلورت رؤيا جديدة، لدى الشاعر :
«اتاح غياب السلطة من جهة، ونهاية الوصاية الإيديولوجية والسياسية والثقافية على المجتمع من جهة أخرى، المجال أمام المثقفين ليفكروا، ويكتبوا، ويبدعوا، بعيدا عن ضغط الخارج، وهو ضغط مدمر للثقافة، مهما كانت حجته».(24)
وسبق لي وان أشرت في أكثر من موضع، في وقت مبكر إلى ان من عوامل هذا الوعي الفردي الانشقاقي لدى شعراء الستينات هو انهم نضجوا في ظرف سياسي غابت فيه الحركات والأحزاب السياسية العراقية، وبشكل خاص، اليسارية التي كان لها تأثير على تجارب الشعراء ووعيهم والتزامهم الاجتماعي، كما وجدنا ذلك مثلا في الخمسينات. وقد ادى غياب الرؤيا السياسية إلى نهوض الشاعر الستيني بمهمة التنظير السياسي والاجتماعي والثقافي مانحاً نفسه الحرية الكاملة في التاؤيل والتفسير والاجتهاد. فكانت هذه الرؤيا الذاتية – التي تسقط أحيانا في النرجسية والعدمية (النهلستية) والتي تقترن بنزوع جذري لتحديث البنى الشعرية والبلاغية والأسلوبية، هي خلاصة هذا المخاض المعقد والصعب الذي ولد الشاعر الستيني في رحمه.
ويرى فاضل العزواي ان جيل الستينات قد «ولد من الرماد، بعد ان عاني الانكسار السياسي العام، ولكنه لم يقع تحت وطأته، كما يشيع أعداء الحركة. لقد رفض الستينيون الهزيمة وبشروا بثورة لا حدود لها ضد كل ما كانوا يعتبرونه مضاداً للحرية»(25).
ويوحي الشاعر ان جيل الستينات كان جيلاً مهزوماً، وهذا ما جعله قريبا من جيل البيتنكس في الشعر الأمريكي في الخمسينات التي مثلتها تجارب شعراء أمثال الن غنزبرغ، وفرلنكهيتي، وغريغوري كورسو وغيرهم، اذ يقول عن ذلك الجيل : «لقد كانوا هنا وهناك جيلاً مهزوماً. فإذا ما كان البيتنكس قد خرجوا من رماد الحروب، فان الستينيين العراقيين قد خرجوا من رماد الانقلابات والدكتاتوريات العسكرية»(26)
لقد قال فاضل العزاوي في «البيان الشعري» ما يلي «ان الشاعر هو القصيدة التي يكتبها»(27) وهو بالتأكيد لا ينوي ان يكرر المقولة النقدية الفرنسية القديمة التي كانت تماهي بين الكاتب وأسلوبه «الرجل هو الأسلوب» بل هو يذهب إلى معنى اخر ومغاير :
«من غير الممكن كتابة قصيدة مغايرة لوعي الشاعر. الوعي المسطح والسهل للعالم يوجد قصائد مسطحة وسهلة، أما الوعي المحترق في كل شي فيوجد قصائد ذات وعي أعمق بالإنسان» (28) وهذا ما يدفعنا إلى النظر إلى التجربة الكلية لفاضل العزاوي بوصفها تعبر عن رؤيا فلسفية واجتماعية وفنية معينة في كل ما كتب من شعر ونثر، وهو ما يجعلنا نفترض ان رواية الشاعر المبكرة «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» المبكرة والصادرة عام 1969 كانت جزءاً من رؤيته الشعرية، ومن متنه الشعري الشامل. كان فاضل العزاوي قد أشار في دراسته المنشورة عام 1992 في مجلة «فراديس» إلى الفضاء المشترك الذي كانت تنطلق منه كتاباته الشعرية والرائية في بدايات تجربته الستينية والتي تنبئ بفكرة تداخل الأجناس الأدبية : كانت «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» و«قصائد ميكانيكية» محاولة لابتكار نمط أدبي وفني جديد هو بين القصيدة والقصة والرواية والبوستر والفوتوغراف والرسم والمقالة واليوميات والسيناريو، بل حتى المعادلات الرياضية». (29)
اذ نكتشف هنا بوضوح وحدة الرؤيا الفنية والنزعة التجريبية التي ينطلق منها في مشروعه الكتابي والذي يجعل من روايته الأولى جزءا من مشروعه الشعري والإبداعي. فالرواية تكاد ان تكون لوناً من النص المفتوح، ويمكن ان تضم العشرات من قصائد النثر المستقبلية، فهي جزء من رؤيا شاعر يفيض على كل ما يكتب.
وعلينا ان نعترف ان رواية «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة»، متقدمة على عصرها،واعني عصرها الثقافي والأدبي العربي تحديدا – فهي قد أرهصت بالعناصر التغريبية والفنطازية، والاتجاه الميتا سردي ( ما وراء الرواية )، التي ستنضج بصورة أوضح بعد عقود من تجربة الإبداع الروائي العربي.
ولم يكن عبثا ان يطلق المؤلف على روايته وتحديدا في غلافها الأخير «قصيدة مخترع شرير»(30ًً) ويطلق على فصولها بالأناشيد، حيث تضم «الرواية ثمانية عشر نشيدا»، فضلا عن «الملف العلمي لنظرية المخترع الشرير» ونجد في الرواية انفلاتاً تعبيرياً وأسلوبياً شبه فوضوي، ذلك ان فاضل العزاوي يكتب روايته التي نشرها عام 1969ً هذه، تماما، مثلما يكتب قصائده الميكانيكية المبكرة عام 1966 , لذا افتقدت الرواية إلى التماسك السردي المطلوب، والى النضج المطلوب في مثل هذا اللون من الكتابة الروائية. فالفصلان – أو النشيدان – الأول والثاني يفتقدان إلى اية بنية سردية واضحة، ويكادان يكونا مقاطع من قصائد نثر أو نص مفتوح أو سيناريو، كما نجد ذلك في النشيد الثاني :
«لقطة بعيدة : رجل يعود إلى البحر ويختفي داخل غواصة. شريط مسجل : ليس للحلم سماء العصفور.
لقطة قريبة : طقوس مغادرة الباص»(31)
ولا تبدأ ملامح البنية السردية في الرواية تتضح حتى النشيد الثالث، وان ظلت تتشظى داخل تهويمات شعرية منفلتة، حيث نكتشف ان بطل الرواية – يحمل عشرات الأسماء منها (س ) والمخترع الشرير : «كلنا نتشكل في جسد واحد،مألوف بالنسبة لي، ويصبح لي الف اسم خارج الزمن وداخله».
وعبر ملاحقتنا لنمو تشكل شخصية البطل نتوصل إلى انه ينتمي إلى شريحة المثقفين، وانه اعتقل لسبب يجهله، وهي ثيمة يكررها لاحقا في روايته الثانية «القلعة الخامسة»، وحكم عليه بالإعدام،لكنه،فجأة يطلق سراحه في اليوم التالي، تماما مثل دستويفسكي :ويبدو ان هذه الصدمة مزقت وعيه ودفعته للتحول إلى وحش شرير وقاتل، ربما شبيه إلى حد كبير بوحش رواية «فرانكشتاين» لميري شيللي الصادرة عام 1817، حيث نجد إشارات كثيرة إلى ان فرانكشتاين قد انضم إلى الثوار(32 )، وهكذا يتحول البطل إلى وحش ينتقم من العالم والناس من خلال ابتكار جهاز لتدمير العالم، وإحالة السكان إلى أنصاب حجرية – ربما هي لعنة ميدوزا في الأساطير الإغريقية – كل هذه الملامح تجعل من رواية فرانكشتاين «نصاً غائباً لمخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» – وهو تأثر تجلى بشكل أوضح لاحقاً في الرواية العراقية في رواية «فرانكشتاين في بغداد» (33) للروائي احمد سعداوي التي حصلت على المركز الأول في جائزة بوكر للرواية العربية عام 2014.
وفضلا عن هذا المنحنى الغرائبي الفنتازي، الذي يفيد من رواية الخيال العلمي نجد ملامح ميتا سردية في الرواية تشير إلى وعي المؤلف – وبطله – بفكرة الكتابة الروائية. ففي «الملف العلمي لنظرية المخترع الشرير «يشير الراوي إلى انه كان يود نشر هذه الأوراق ضمن فصول الرواية، لولا ان اقتراحاً قدم اليه من قبل احد الأصدقاء يشير إلى ان مثل هذا العمل قد يغيظ الشبح أكثر مما ينبغي، وسيء إلى الوحدة العامة للرواية. (34)
كما نجد إشارة ميتا سردية أخرى مهمة عندما يتساءل بعض المتفرجين فيما اذا كان القاضي سيعود ام لا، يقول المؤلف هو حر في تصرفاته. (35) كما يكشف الراوي في النشيد الثالث عشر عن طبيعة علاقته بشخوص الرواية :
«انني لا اعرف حتى الأشخاص الذين أتعامل معهم في روايتي. انهم أناس يخرجون ويغيبون» (36) وهذا المنحنى يذكرنا بالكثير من الأعمال الميتاسردية منها رواية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» للكاتب المسرحي الايطالي لويجي بيرانديللو.
وتنطوي الرواية، من جانب آخر، على بنية دائرية، حيث يبدأ «النشيد الاول بمقطع وصفي، اقرب ما يكون إلى قصيدة نثر حديثة. «الليل المتألق كالفراشات يهبط فوق الغابات الجديدة(37)
ويعود هذا المقطع ليختم الرواية ويؤطرها في الفصل الأخير «النشيد الثامن عشر»، ولكن مع إضافة سطر جديد فقط، يكشف عن موت الراوي /الشبح الذي قرر الانتحار لكي يفوت الفرصة على المهاجمين الذين كانوا يزحفون نحوه على الانتصار عليه وقتله. وهذه الإضافة هي :
«لم يفكر الشبح في شيء، لانه لم يكن موجوداً هذه المرة».(38) ومن الواضح ان هذا السرد لا ينتمي إلى الراوي / البطل، وانما إلى الراوي الضمني أو الذات الثانية للمؤلف.
وتجدر الإشارة هنا – واذكرها للتاريخ – إلى اني سبق وان درست هذه الرواية دراسة مبكرة تحت عنوان «وهم البحث عن الحرية في عالم ينتفي فيه الآخرون» نشرت لأول مرة في مجلة «الأجيال» التي كانت تصدرها آنذاك نقابة المعلمين عام 1970، أي بعد اقل من عام على صدور الرواية، وقد أعدت نشر دراستي تلك في كتابي النقدي «معالم جديدة في ادبنا المعاصر» الصادر عام 1975، وأشرت فيها إلى ان الشخصيات المختلفة التي يرتدي البطل أقنعتها المختلفة، تكسب الشخصية الرئيسية أوجهها المعقدة الفريدة، كما أشرت إلى ان شخصية البطل تنحو منحى وحشياً وسادياً مما يجعلها قريبة من شخصية فرانكشتاين. (40) لكن علي ان اعترف الآن، أي بعد مضي أكثر من ست وأربعين سنه، اني لم أكن آنذاك متعاطفا بما يكفي مع تلك الرواية، ولم اكتشف الكثير من عناصرها الفنتازية والميتاسردية وتحولها إلى نص كتابي مفتوح وارتباطها العضوي بمشروع الشاعر الستيني، على الرغم من انها كانت لا تخلو من مظاهر المراهقة الفنية والتجريبية التي لم تنضج بعد لتقديم رواية ناضجة للمؤلف مثل روايتيه «آخر الملائكة» و«الأسلاف».
لقد مثلت رواية «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» مفصلاً مهام في تجربة الشاعر ووعيه الكلية، ولذا فهي ترتبط ارتباطا وثيقا برؤيا الشاعر الإبداعية في بداياته التجريبية المتطرفة في الستينات، وهو ما سبق لي وان أشرته عام 1970 في دراستي السابقة للرواية :
«فاضل العزاوي شاعر مولع إلى درجة كبيرة بالاستسلام لانثيالات وتداعيات اللاوعي وإغراء الكتابة الاوتوماتيكية والصورة السريالية. ولذا نستطيع معاملة هذه القيم الفلسفية كنوع من التداعيات اللفظية والفكرية الحرة، اقتضتها طبيعة الرواية ووضع الروائي / الشاعر خلال عملية الخلق الفني».(41 )
ربما مثّل هذا المناخ التجريبي المبكر، الفضاء الذي نضجت فيه تجربة الشاعر في الستينات وراحت تستقر تدريجياً، وتتخلص من الكثير من مظاهر المراهقة التجريبية تلك في العقود الخمسة اللاحقة، لنجد خطاباً شعرياً حداثيا أكثر استقراراً وتوازناً، وان كان لايخلو من جموح الشاعر الستيني وعنفه وتمرده، وهو ما يكسب شعر فاضل العزاوي – وبشكل أدق متنه الشعري هذه الخصوصية التي ميزته خلال هذه الفترة الطويلة عن اقرانه الشعراء الستينيين من موقعي «البيان الشعري « وغيرهم.
ولكي نفهم بشكل موضوعي مسيرة الشاعر، يتعين علينا ان نتوقف أمام أهم محطاته الشعرية التي مثلتها دواوينه العديدة التي جمعها عام 2007 في «الأعمال الشعرية» في جزءين تزيد صفحاتهما عن تسعمائة وخمسين صفحة، ولا بد للناقد ان يتوقف قليلا امام محطة التكوين الأولى التي مثلتها قصائد ديوانه الأول «سلاماً أيتها الموجة، سلاماً ايها البحر» والذي يضم قصائد الشاعر المبكرة خلال عقد الستينات.
وتحتل قصيدته الأولى في هذا الديوان «ها انذا اصرخ في شوارع الجزيرة العربية»(42) والمؤرخة في عام 1969 أهمية خاصة لأنها تمثل مرحلة مهمة من مراحل الرؤيا الشعرية لدى الشاعر تقترن بعدد غير قليل من قصائد الديوان. وهذه القصيدة هي ليست اولى قصائد الشاعر فقد كتب قبلها الكثير. وهذه القصيدة تنتمي إلى نمط قصيدة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة، وتنطوي على مقاطع فيها لون من التدوير الذي لايكترث أحيانا بالتفعيلة، وهو نمط قريب من قصيدة النثر :, جزري مقفلة غابات تغرق في الماء. أنا العاشق، ياوطني , اكتب فوق الموجة حبي»(43) ونجد في هذه القصيدة تراكما لمرئيات وتفاصيل حسية، مثل أجزاء الفسيفساء تتشكل عبر التجاور يطل عبرها صوت (أنا ) الشاعر المتمرد والرسولي معا، حيث يختتم في نهاية القصيدة دعوته الرسالية بالثورة وبناء عاصمة أخرى للعالم :
«لنؤلف جيش العودة، حيث نقاتل في صف المنسيين وتبنى عاصمة أخرى للعالم»(44) وتكاد تشكل القصيدة التالية «لنخرج إلى الشوارع» المكتوبة عام 1968ً امتدادا طبيعيا لهذه القصيدة، ويتحدث فيها الشاعر عن مأساة جيله، في أجواء تذكرنا إلى حد كبير بقصيدة «عواء» للشاعر الأمريكي الن غنربرغ احد ابرز شعراء البتينكس في الخمسينات :
ها انذا اسقط في فخ الأحلام،
ها انذا اسقط في جيلي» (45)
وتحفل هذه القصيدة، مثل اغلب قصائده بمستويات مختلفة من انساق التوازي والتكرار، وبشكل خاص الاستهلالي منه وهي صفة نجدها بشكل خاص في الكثير من قصائد الشاعر الأمريكي والت وتمن في ديوانه «أوراق العشب» والتي أفاد منها الشاعر بشكل خاص.
وتلتحم ضمن الرؤيا الشعرية قصائد أخرى للشاعر منها «كاتدرائية العصافير» التي لفتت اليه الأنظار عند نشرها عام 1969حيث التداخل السوريالي بين الازمنة والامكنة :
«سائراً بين يثرب والقدس، الساعة 3 مساءُ قبل 1876 عاما وقفت أمام كاتدرائية للعصافير.» وتختلط نزعة التمرد العبثي هنا بنزعة ثورية وتمردية عنيفة، ويعود فيها لمخاطبة الجزيرة العربية،في نداء لا يخلو من التفجع :
«أيتها المقيدة بالقصائد،
ياحديقة العالم، ياكتاب الخير والشر،
الجميع يحبونك
الجميع يكرهونك» ( 47)
وتكاد القصيدة التي يحمل الديوان الأول اسمها وهي «سلاماً ايتها الموجة» المكتوبة عام 1971 ان تكون ذروة هذه الرؤيا الشعرية والتي يعود فيها الشاعر لرثاء جيله :
«هل يمكنني اللحظة ان اجلس في زاوية من حان
لأنادي جيلي ؟
اقتربوا مني، اقتربوا مني،
شكرا، هذا يكفي.»(48)
ويختتم الشاعر القصيدة بدعوة أخرى للتمرد والغضب والثورة :
«فتعالوا، يافقراء الأرض، تعالوا
وكلوا من جسدي الجوع
وكلوا من جسدي الموعود
فانا اولمت مصيري للجوع،
وعبرت ظلام العالم جنديا في جيش المنسيين»(49)
يعتمد الشاعر في قصائد هذه المرحلة مجموعة من الإنساق والبنى والصيغ الأسلوبية منها الإفادة من انساق التوازي والتكرار بمختلف أنواعه. فهو يكرر، مثلا كلمة ( أعطونا ) أكثر من عشر مرات في جملة استهلالية مكررة
«أعطونا أوطانا دون عيوب
أعطونا أسئلة الحروب
لم تربحها» (50)
كما يوظف كلمة (في) أكثر من عشر مرات متوالية
«ثمة اسفارا في الروح وأخرى في الرأس
وأنا اقتلعوا روحي
في معركة الكوفة» (51)
كما تتكرر سلسلة من الجمل الاستفهامية المبدوءة بـ ( هل )
«هل تعرف كيف يموت الشعراء ؟
هل تشبع حين نجوع ؟» (52)
لا شك ان هذه الأنساق تغني البيئة الإيقاعية للقصيدة كما انها تكشف عن بنية دلالية من خلال التوكيد والتكرار. وبعد هذه القصائد الأربع – الطويلة نسبياً – تأتي مجموعة من القصائد المكتوبة قبل هذا التاريخ، منها على سبيل المثال قصيدة بصرية أو كونكريتة هي «القصيدة التي تأكل نفسها» والتي طبعت بطريقة تأكل فيها القصيدة نفسها حتى تنتهي بكلمة واحدة فقط، وهي لا تعدو ان تكون لعبة شعرية ولغوية ومحاولة في التجريب وجدنا لها،من قبل، مثيلاً في الشعر الفرنسي.
كما نجد القصائد الأربع التي سبق له وان نشرها تحت عنوان «قصائد ميكانيكية عام 1966 واثارت في حينها ضجة كبيرة.
وقد اعاد الشاعر نشر هذه القصائد لأول مرة،كما اشرنا سابقاً، ضمن ملاحق في كتاب «الروح الحية» لكننا لاحظنا ان الشاعر في ( الاعمال الشعرية ) قد أضاف عددا من المقاطع إلى القصيدة الأخيرة كما رفع اسم «قصائد ميكانيكية»، وكان يفضل بقاء هذه التسمية، لأنها أصبحت جزءاً من التاريخ (53). وكانت قيمة معظم هذه القصائد القصيرة للإثارة ولتحقيق الصدمة وتأكيد التمرد والخروج على المألوف، وهي تكاد ان تكون «تمارين» كتابية وشعرية لما سيأتي لاحقاً في السبعينات وما بعدها من عقود.
لكن قصيدة «مهنة السيد لوقا» تبدو أكثر نضجا، مع انها كتبت في عام 1965، وهي كما يخيل لي تعتمد على بنية قصيدة «أغنية حب لبروفروك» لاليوت حيث نجد تراكماً لمجموعة من المشاهد المنفصلة، المتباعدة في الغالب، والتي توثق لمناخ القصيدة تمهيدا لدخول صوت الشاعر «انا «ليضفي دلالة على هذا المناخ الشعري :
«انهض في هذا المنفى
خارج شارات الحرفة
اجلد وجه الشعراء» (54)
ومن تجارب الشاعر المبكرة المتميزة ديوان «الشجرة الشرقية» المكتوب بين عامي 1974، 1975ً، أي كتب بعد ان هدأت قليلا الموجة الستينية واتخذت مسارات أكثر انضباطا ومنطقية، كما بدأ خلال السبعينات جيل شعري شاب جديد كان يحاول ان يرسخ موقعه بين عملاقين : جيل الخمسينات وجيل السبعينات متكئا أساسا على خفوت النبرة العالية والغاضبة وملامسة تفاصيل الحياة اليومية من خلال اعتماد بنية قصيدة الحياة اليومية الأليفة.
في مثل هذا الجو ظهر ديوان فاضل العزاوي، فأثار اهتمام الشعراء والنقاد، لكن ليس بالدرجة التي كان يثيرها في نهاية الستينات ومطلع السبعينات وتحديدا خلال فترة صدور «البيان الشعري» ومجلة «شعر 69 »
يمتلك الديوان بنية فيها الكثير من التماسك والانضباط والتخطيط ويضم إحدى وخمسين قصيدة – فالديوان مثلا يستهل بقصيدة «اسماها الخاتمة» وهو توزيع يدل على التنظيم ألقصدي لبنية البداية والنهاية.
والديوان في رأيي هو قصيدة واحدة – ربما مقطعية – ضمت إحدى وخمسين حبة أو مقطعاً يربطها خيط سري غير مرئي من خلال وحدة التجربة والثيمة والبنية والدلالة.
فالديوان عملية بحث عن الحقيقة، والإنسان، والحرية، من خلال قصيدة قناع حيث تقدم التجربة من خلال رؤية قناع عبدالله، عبر ضمير المتكلم (أنا) في الغالب مع «عدول «لغوي ونحوي نحو ضميري والمخاطب، بالفتح، والغيبة (هو ) في بعض القصائد ذات الطابع ألمونولوجي أو الوصفي، فضلا عن قصائد حوارية اخرى. والشاعر هنا، كما هو واضح يتقمص قناع عبدالله في بحثه الطويل عن الإنسان والحرية والحقيقة، وهو بحث يذكرنا بالمفكر اليوناني ( ديوجين ) الذي يحمل فانوساً إثناء النهار ليبحث عن الحقيقة والإنسان.
في الديوان لغة شعرية ورؤيا فلسفية وتجربة إنسانية فيها الكثير من المشتركات، مما يجعل الديوان بحق قصيدة واحدة منسجمة.
فالهم الفلسفي مهيمن على التجربة الشعرية التي تذكرنا في جوانب منها بتجربة ئيتشة في «هكذا تكلم زرادشت « فثمة هم كوني، شبه ميتافيزيقي، عن معنى الوجود، والعدم والجوهر الإنساني الذي لا يمكن الإمساك به.
والديوان / القصيدة يتحرك من خلال بنية سردية، ويتسلل عبر الزمان والمكان بحرية، بعيداً عن المسار الخطي البسيط، فدائما ثمة تعرجات وانكسارات في انساق السرد والزمن معاً فالشاعر أو بالأحرى قناعة عبدالله يخوض تجربة حياتية عبر العصور والأمكنة، مكتسباً في رحلته المزيد من الخبرات الإنسانية والكونية.
ولذا فالديوان /القصيدة هو أيضا شكل من أشكال السيرة الذاتية الاوتوبيوغرافية التي تتعرى فيها ذات الشاعر خطوة، خطوة. ففي القصيدة الاستهلالية «الفاتحة» يعرف عبدالله نفسه، بوصفه ليس كائنا استثنائيا، فهو كائن اعتيادي لا يتقن غير الشعر
«اعرف اني لست أميراً من نجد أو ملكاً من بابل
لست نبياً يمشي فوق الماء
أو يضع في فرن الحداد مفاتيح خزانات الحكمة
اعرف اني رجل مثل ملايين المارين على العالم « (55)
من الواضح ان هذا النص الذي يستهل به الشاعر تجربته الشخصية الخصبة فيه الكثير من التناصات والإحالات والرموز الميثولوجية والشعرية منها تناص مع قصيدة اليوت «أغنية حب لألفريد بروفروك «والتي يقول فيها «كلا لست الأمير هاملت، ولم يكتب لي ان أكون كذلك» (56)
ويبدو ان تأثير اليوت على تجربة الشاعر كان كبيراً، حيث يعود في العديد من قصائده إلى حوار مع أجواء اليوت، وفي إحدى قصائده يدعو الشاعر ت.س.اليوت إلى القيام بجولة شبيهة بجولة الفريد بروفروك.
في قصيدة «في شوارع مقفرة مع بروفروك» من ديوان «أعراب تحت سماءغريبة»
«دعنا نذهب يا T.S Eliot نحن الاثنين
حيث يحك الليل الأسود ظهره بأظافره الطويلة.(57).
والقصيدة تكاد ان تكون معارضة، لقصيدة اليوت وحوار فلسفي بين رؤيتين وموقفين من الحياة والعالم، لكن فاضل العزاوي يبدو في النهاية أكثر تفاؤلا من اليوت , لأنه يعلن ثقته من ان كل شيء سيؤول إلى الخير :
«منفانا بعيد وعميق كالنهر
لكن لن نغرق أبداً
وأتيقن من ان كل شيء سيؤول في النهاية إلى الخير
والوردة وحدها ستكون الربيع كله
متحدة بالنار»(58)
وبعد ان يعلن عبدالله ان هدفه ان يكتب إحزان الإنسان :
«ولأني لا أتقن غير الأشعار
جئت أعاني الإنسان واكتب احزانه.»(59)
يخرج عبدالله إلى البرية امتثالا لنداء غامض، قد يكون خارجيا أو داخليا في قصيدة حوارية بين صوتين :
اخرج من جلد واقرأ صوتك في البرية !
فخرجت إلى الصحراء اقول المستقبل.»(60)
ويدرك عبدالله ان عليه ان يخرج من هذا الوادي بعد ان يعبر وادي الحيوان إلى وادي الانسان
«- لا اعرف ما الحكمة
-ان تعبر وادي الحيوان إلى وادي الإنسان»(61)
وهكذا يجتاز «وادي الحيوان» ويجتاز الصحراء
«وكما اجتزت الساعة مغلولا يارجل الصحراء ستحمل حزن الكون.(62)
ويظل عبدالله يجوب العالم متوهماً انه قد وصل بيت الإنسان. في «جبل البلور «وفي «المفتاح « نبرة تفاؤلية مشرقة يؤكد فيها ايمان عبدالله بالمستقبل وبالشعب :
-.. وأصغى عبدالله إلى
نفسه، ثم تهدج في البرية صوته :
كيف أكون وحيداً ومعي حبك ياشعبي !
كيف أكون سجينا ومعي مفتاح المستقبل ! « (63)
ويدخل عبدالله في مملكة الأعراب ليصطحب معه الإنسان إلى مملكة الإنسان.
لقد جئت لآخذ في قافلتي الانسان، وليس معي الإنسان». (64)
وكلما غذّ عبدالله السير اكتشف حقائق جديدة،
حيث يتماهى مع شخصية الحلاج المصلوب
« ألست الحلاج الناهض من موته في كل زمان، المرة بعد الأخرى ؟ «
فعجبت كثيراً أاكون الحلاج المصلوب قديماً واسمى عبدالله (65)
في قصيدة « الشيخوخة» يخيل لعبدالله انه أمسك يد الإنسان ولكنه افلت منه
«أمسكت يد الإنسان ولكنه افلت مني
اغرق نفسه في نهر الأيام وضاع (66)
ويسخر عبدالله من إصراره،مشبهاً نفسه بالبهلول:
«ما الإنسان سوى بهلول
يبحث عن نفسه في حضرة نفسه
بين دهاليز الايام.»(67)
ويتعمق إحساس الشاعر وقناعة عبدالله بالامل والتفاؤل عندما يجد جيشاً قيل له انه جيشه
«قال انهض
هذا جيش الماضيين إلى الآتين إليك فهل تهرب من جيشك يا عبدالله ؟
عندئذ ألقيت بنفسي في اللجة
وأنا ابكي من فرحي الآتين اليُ صفوفاً من اقصى المستقبل. (68)
وتغلب في الكثير من هذه القصائد في هذه المرحلة الحوارات الخارجية مع الآخر، أو مع الذات، كما هو الحال في قصيدة « الأضداد « و «عبدالله في عاموراء » و«جثة أعرابي» وغيرها
وفي حوارية قصيدة «ضياع نجد تناصا صريحا مع ميثولوجيا المفكر اليوناني ديوجين وفانوسه، أو يحقق مقولة سقراط « ابحث عن نفسك»:
« – ماذا تفعل في هذا الليل المظلم ياعبدالله ؟
– أشعل كبريتا
– هل تبحث عن شيء
– ابحث عن نفسي»(69)
وتكاد « الضربة التالية تكثف الثيمة الدلالية لهذا البحث اللامجدي عن الإنسان :
«- هيا انهض يا عبدالله
كل ثقاب العالم لا يكفي.
لتضيء ظلام الليل إلى نفسك» (70)
ويتحول الإنسان الباحث عن السراب إلى مجنون في قصيدة « المجنون»:
« ما الإنسان الا مجنون في جلد نبي
يتبع أشباحه في صحراء سراب.(71)
ومثل جلجامش يقرر عبدالله في جبل التنين ان يقتل التنين من اجل الإنسان والأطفال :
«هذا تنين،
مكتوب ان اقتله
حتى اجلس في بيت الإنسان» (72)
ويتحول عبدالله إلى أسطورة بوصفه قاتل تنين الغابة، تماما مثل جلجامش الذي استقبله الناس استقبال الأبطال:
«- هذا عبدالله القاتل تنين الغابة
قال الرجل الجالس في باب الغرفة.(73)
وفي القصيدة الأخيرة « الخاتمة « نجد نهاية بطولية متفائلة، فرحلة عبدالله الطويلة والمريرة لم تذهب سدى، وعلى الرغم من موته، الا ان الركب الذي سار خلفه لم يتوقف
،نحو الضوء القادم من مملكة الإنسان :
«ثم استلقى عبدالله على العشب ومات
لكن الركب مضى
فلاحون، وعمال، سماكون وأطفال وجنود ونساء
يعبرون جميعا
عبر الفلوات إلى الضوء القادم من ليل الأيام »(74)
ومثلما يختتم برتولد بريخت مسرحياته بخطاب تحريضي إلى الجمهور ليكون طرفاً في إنتاج المعنى والدلالة , يتحول الشاعر في خطابه هذه المرة إلى القارئ، وتحديدا إلى عبدالله القارئ إشعاره إلى ان يلتحق بالموكب اذا ما رآه، فلعله يعثر على كنز حياته مطموراً في الرمل :
« فإذا ما شاهدت الموكب ياعبدالله القارئ اشعاري
في الشارع أو في بيتك
الآن وفي كل الأيام
فاتبعه ولا تسال اين يسير»(75)
ان هذه الضربة الأخيرة تمنح القصيدة بكاملها منحى ميتا شعرياً، لان دخول القارئ وخطاب الشاعر يؤكد الوعي الذاتي بالكتابة ويقيم تواصلا بين النص الشعري والشاعر من جهة وبين القارئ والمتلقي من جهة أخرى، في فعل تفاؤلي وتحريضي على صناعة المستقبل والحلم والأمل والالتحام مع موكب الجموع السائرة نحو الضوء.
ويضم ديوان «الإسفار» والذي كتب في الفترة بين 70- 71 ثلاث مطولات شعرية مهمة يشدها خيط سري يجعلها تلتئم في مناخ شعري متماثل. ففي قصيدة « نزهة المحارب « وهي استهلال لإسفار الشاعر في مختلف الأصقاع، يبرز أمامنا مناخ رواية « مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة « واشتغال على ثيمة الجيل الضائع والمضيع :
«مصلوبا في هذا الليل تهب الريح من العالم، تعبر أصوات الأجيال لتدخل في جيلي.»(76)
وتكاد هذه القصيدة، التي تنطوي على مقاطع عديدة من المؤشرات الاوتوبيوغرافية، ان تكون سيرة ذاتية تخيلية للشاعر عبر الزمان والمكان ويظل في القصيدة هم ثيماتي محوري آخر، هو همّ الإنسان العربي في امتداد جزيرته العربية :
«لتكن لغتي رحلة القادمين من الازمنة
فانا العربي المشيد من حجر غامض في القفار
زمرة الطير تأكل من حدقات عيوني». (77)
والقصيدة، على الرغم لتكديسها لصور سوداوية من حياة الفرد العربي عبر التاريخ الا انها لا تسقط في اليأس، وتمارس التحريض ضد الاستبداد وتتغنى بالحرية مثلما فعل نيرودا :
« من أجلك أيتها الحياة
كتبت فوق ذراعي
بدمي أسماء رفاقي الشهداء» (78)
كما يختتم القصيدة بومضة امل. فهو يخاطب الحب بوصفه نزهة للمحارب :
«لتكن الق الحياة الذي يمنح الحياة نهاراً
وقاربا للغريق
لتكن في مفازتي وطناً ناهضاً يضيء طريقي. «(79)
ويقدم لنا الشاعر في «تعاليم ف. العزاوي إلى العالم» قصيدة مركبة فيها مشروع الشاعر الخيالي لنسف العالم وإعادة بنائه ثانية.
في القصيدة الكثير من اللعب اللغوي والتركيبي، اذ تنطوي القصيدة على « بيان موجه من أخر خندق للثورة « وهو «مانيفستو « للثورة القادمة وفراغات تركت للقارئ ليملأها حسب حاجته والكثير من التكرار، منه تكرار كلمة(لماذا ) ست عشرة مرة بصورة متتالية، كما نجد إشارة – ربما نادرة في تجربته الشعرية إلى سيرته الذاتية يشير فيها إلى اسم زوجته سالمة صالح
– افتحوا كل الأبواب
– فانا اعشق ان تنظر سالمة إلى الله وهي معي.
– متى تكونين معي ياسالمة ؟
– حيث لا نكون موجودين حتى في القصائد. «(80)
وتكاد المطولة الثالثة « انا الصرخة، أية حنجرة تعزفني « ان تتخذ من قصيدة ( عواء) لألن غنربرغ نصا غائبا، حيث الحوار الدائم مع جيله ويكرر أكثر من عشرين مرة سؤاله الوجودي المحرق:
«ماذا افعل ياجيلي ؟»
«وأنا اشهد جيلي يجلس في مقهى العظماء , يدخن أفيون الحرية»(81)
لكن الشاعر يسوق فضاء هذه الرحلة المضنية في أزمنة عديدة وأماكن غربة نحو نهاية ثورية محرضة على الامل :
«فتعال اليّ، وعانقني ياجيلي القاتل والمقتول
ولنخرج مملوءين سلاماً،
نعطي أوراداً للشبان
نقاتل بالحب ليولد في قلب الإنسان الحبُ
وتنتصر الحرية
في قلب جميع الغرباء ». (82)
وتأتي قصيدة» الصحراء « المكتوبة عام 1972 لتكمل هذه الدورة بوصفها ربما من أطول قصائد هذه الرحلة، اذ تضم واحدا وعشرين مقطعا مرقماً، لكن هذه الأجزاء لا تحول دون تماسك البناء العضوي لوحدة القصيدة وأجوائها وهي تشتغل على الثيمات المشتركة لهذه المرحلة :
الصحراء، الجزيرة العربية، الإنسان العربي في خيباته وهزائمه، تمزق جيل الشاعر، التطلع نحو حلم إنسان أجمل، الحب بوصفه خلاصا، والحرية بوصفها الغائبة الأخيرة لكل توق أنساني، وتساؤل لا ينتهي عن المجهول والأتي :
«ماذا يمكن ان نفعل في هذا الربع الخالي
ماذا يمكن ان نفعل في تابوت المقتول ؟»(83)
ويتحول الشاعر إلى شاهد وراو لكل فصول المأساة التي عاشها الإنسان العراقي والعربي في بلاده وفي المنفى، ويعلن بأنه كان الصرخة في حنجرة المطعون،إشارة إلى عنوان القصيدة:
«هذه أسرار المنفى تنثر في صحراء حيلتي أقرؤها كمدائح لا تبلى.
للأجيال تواسيني،لرياح تعصف في الأغوار، وهذه كل همومي (84)
ويتميز فاضل العزاوي عن إقرانه من شعراء الستينات اهتمامه بكتابة المطولات الشعرية التي يتفادى الكثير من الشعراء الحداثيين كتابتها، لأنها تتطلب مجموعة من الشروط التي قد لا تتوفر لكل شاعر، أو تجربة. وكما اشرنا، في دراستنا، فنحن نعًد ديوان « الأسفار «مطولة شعرية واحدة. وربما كانت أول قصيدة طويلة أو مطولة شعرية كتبها الشاعر كانت قصيدة « ها انذا اصرخ في شوارع الجزيرة العربية « التي كانت القصيدة الأولى من ديوانه البكر «سلاماً ايتها الموجة، سلاماً أيها البحر « والتي ضمت معظم قصائده المكتوبة بين 1960 -1970.
ويخلق الشاعر في هذه القصيدة مناخاً متمرداً ورافضاً يستنهض فيه همة المواطن العربي المغلوب على أمره. ويوظف الشاعر في هذه القصيدة ضمير المتكلم (أنا) وقد « يعدل» نحو ضمير المخاطب بالفتح (أنت) في معجم شعري يلتقي مع بدايات الشاعر الستينية وشعرية روايته الأولى « مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة « و»البيان الشعري «الستيني. اذ يستهل الشاعر القصيدة بمشهد وصفي :
«هبط البحر إلى مملكتي، نهض الساحر في راسي، جزري مقفلة» (85).
لكن الشاعر سرعان ما يوظف ضمير المتكلم نحن :
«نحن، الشعراء المبتهجين الممتلئين سلاما، نخرج للنزهة في وادي المنفيين، نغني كالأطفال نشيدك ياصحراء العرب المسجونة في الأحلام»(86)
وتنتهي القصيدة بلغة ثورية تحريضية يدعو فيها « الإنسان المطرود من الجنة « لينضم اليه لتشكيل جيش العودة وبناء عاصمة أخرى للعالم :
تعال اليُ من النافذة المفتوحة في ليل حياتي
لنؤلف جيش العودة، حيث نقاتل في صف المنسيين
ونبني عاصمة أخرى للعالم.»(87)
وتكاد القصيدة الثانية من الديوان ذاته الموسومة «لنخرج إلى الشوارع» ان تكون استكمالا لفضاء القصيدة ونسجاً على منوالها الأسلوبي المعجمي. وغالبا ما يخاطب الشاعر جيله « بطريقة تذكرنا بقصيدة (عواء ) للشاعر الأمريكي الغاضب ألن غنزبرغ التي رثا فيها جيله وهو منحى يتكرر في العديد من قصائد الشاعر اللاحقة، حيث تظل هذه القصيدة تمثل احد النصوص الغائبة في تجربة الشاعر.
«في هذا الوطن المقفر مثل قوارب مقتولة
اطرق أبواباً، ابحث عن جثة جيل
عن شهداء وحلفاء
عن وجه صديقي العائد من سجن السلمان» (88)
وتشكل « كاتدرائية العصافير « مواصلة لهذا الفضاء الشعري وهي من القصائد المطولة التي أثارت اهتمام الوسط الأدبي عند نشرها كما اشرنا الى ذلك سابقاً :
« أيتها الجزيرة العربية، أيتها المقيدة بالقصائد
ياحديقة العالم، ياثقاب الخير والشر
الجميع يحبونك
الجميع يكرهونك.» (89)
ويمكن ان نعد قصيدة «قضية هاملت « وهي قصيدة قناع مقطعية أو عنقودية مبكرة كتبها الشاعر عام 1964 ولفتت إليه الأنظار عند نشرها. وتتشكل القصيدة من ستة مقاطع معنونة. ويتقمص الشاعر في هذه القصيدة قناع شخصية هاملت، التي يتمرد عليها لتكشف أيضا عن عقدة موت التي هي أيضا كناية متمردة عن رفض أبوة جيل الحداثة الشعري الخمسيني. والقصيدة لا تخلو من جوهر درامي محتدم بالصراع :
«هاملت
ياطفلي الذي تحبه السماء
كفى سخافات
فبعد اليوم لن تقتل، لن تنصت
إلى أبيك الحاقد السكير
اسكت»(90)
وتدور ضمن هذا المنحى « المعلقة الثامنة التي لن تعلق ابدا « والتي تنطوي على معارضة للمعلقات السبع وسخرية مريرة من تاريخنا ويأس من الماضي
«تعبنا من تجاربنا ومن مدن بلا ذكرى»
حلمنا مرة أخرى
بمعبدنا القديم وبالاسارى ينزفون دماً. (91)
ويختتم الشاعر القصيدة، مرة اخرى إلى إحدى الثيمات المركزية لتجربة الشاعر الشاملة،وهي رثاء جيله :
« أيا جيلي
مسيح مات في المنفى شهيداً دون ترتيل
مسيح آخر آت فمن يحميه ياجيلي.»(92)
ومن مطولات الشاعر المهمة قصيدة « كل صباح تنهض الحرب من نومها « المكتوبة في 1987، وهي إدانة للحرب بمختلف صورها وأوجهها وأقنعتها. وتعتمد القصيدة على مجموعة من الجمل الشعرية والوحدات التكرارية المتماثلة التي تستهل عادة بجملة :
مابين حرب وحرب
يكبر منفانا ويصغر الوطن» (93)
حيث التوظيف الدلالي لثنائية «يكبر /يصغر التي تلخص واحدة من مخرجات الحرب الكارثية
«كل صباح تنهض الحرب من نومها «
ولكن بتنويعات متقاربة :
«كل صباح تقبل الحرب»
«هكذا تنهض الحرب من نومها»
ونجد تنويعات أخرى لهذه اللازمة منها،
«أيتها الحرب افتحي أبوابك للقائد الميت»
«هذه هي الحرب إذن !»
« وتكشف كل لازمة عن مشهد فاجع من مشاهد الحرب، وهي حرب حسية، وليست مطلقة أو لا تاريخية فقط، وهي في الاغلب حرب الدكتاتورية :
«كل صباح تقبل الحرب
امرأة ينتظرها رجل يضع على فمه
قبلة
كل شيء على ما يرام
:
القتلى يملاون البراري والمدافع تعوي أبداً» (94)
وفي لازمة « هذه هي الحرب اذاً « ثمة محاجة بلاغية وشعرية وعقلية لتشريح الحرب وتعرية وجهها القبيح:
«هذهً هي الحرب اذاً
تسكب دمها في البصرة، مختبئة بين أشجار النخيل، خلف أكياس الرمل، في الخنادق الغارقة في الماء». (95)
وتنطوي القصيدة على مقاطع شعرية محتشدة بحمولات تعبيرية ورؤيوية كاشفة ودلالية.
ولكن القصيدة لا تسقط في سوداوية العنف والحرب فقط، بل تفتح كوة « للأمل والمستقبل عبر نسق تواز تكراري استهلالي تتكرر فيه كلمة «سلام « ست مرات :
« سلام للعراق، للربيع تنشقق عنه الأرض
سلام لبغداد، فادية ومفدية
سلام للبصرة لنخيلها المحترق». (96)
انها قصيدة مضادة للحرب، وملتصقة بهموم الإنسان الذي تذبحه الحرب في كل لحظة.
وتعتمد مطولة « مرثية المشنوقين « المكتوبة عام 1979، على بنية حوارية خارجية بين طرفين أو أكثر، كما يبرز فيها لأول مرة في خطاب الشاعر دور متميز للكورس الذي يعلق على الاحداث ويقدم رؤيته الخاصة لها. والقصيدة مرثاة حزينة للسجناء الذين ينتظرون ساعة اعدامهم داخل السجن الذي يقيم فيه الشاعر سجيناً سياسياً،حيث يودع في هذه القصيدة المشنوقين الذين يعرفهم واحداً واحداً :
«كانوا أطفالاً
اقصد كالأطفال، يغنون طويلاً
حتى لا يدخلهم شبح الموت». (97)
وكان صوت ( الكورس ) يعلو ست مرات
«الكورس :
ليكون العالم أكثر حرية
أو أفضل من ماضيه
سيموت كثيرون يخوضون الحرب
سيجوع كثيرون يرون المستقبل». (98)
وتنتهي القصيدة نهاية متمردة وثورية، عندما يجتمع المارة إمام الساحة في فعل ثوري صريح يستنهض الجميع إلى النهوض :
الكورس :
هاهم ينحدرون إلى الشارع !
انظر ! ها هم يأتون ألينا، فلننهض
الريح تهب
الريح الكبرى
فلننهض !» (99)
وتتحول القصيدة إلى نشيد ثوري يذكرنا بنشيد المارسيليز الفرنسي.
لقد لاحظت من خلال عملية مسح شاملة لمتن الشاعر الشعري – ان اهتمام الشاعر بالمطولات الشعرية قد قلُ في العقود الأخيرة، اذ تميل معظم قصائد هذه المرحلة إلى القصر، وقد تكون متوسطة في الطول. اذ كانت أخر مطولات الشاعر مؤرخة بتاريخ 2003، وهي قصيدة « نزول ف. العزاوي إلى العالم «، كما نجد قصيدة مطولة أخرى في مطلع التسعينات هي «رثاء شبح» مؤرخة عام 1991.
وربما يعود ذلك إلى ان معظم قصائد الشاعر قد تحولت من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر التي تميل إلى القصيدة القصيرة، لأنها كما ترى سوزان برنار أكثر قدرة على تكثيف التجربة، ولان الطول يؤدي إلى إضعاف قصيدة النثر.كما لاحظت ان حدة الصراخ قد قلت في مطولة «رثاء شبح» المهداة أصلاً إلى ألف طاغية في التاريخ «
فالشاعر يخاطب احد الطغاة :
«فأنت لست سوى ماكنة للموت والعذاب
شبح خرافي هابط من أزمنة الصفر
قادم من زمان لا زمان له
يظهر فجأة
ثم يختفي مخلفاً وراءه ألاف الضحايا.»(100)
يقدم الشاعر في مطولته هذه تشريحا لشخصية الطاغية عبر التاريخ، وإدانته لكل المظاهر التي يتخذها هذا الطاغية، والذي يكشف بالتحديد عن شخصية دكتاتور عراقي بامتياز :
« اسمع ايها الدكتاتور
لقد سرقت من عمري أعواماً أضعتها إلى الأبد » (101)
ويعتمد الشاعر في نسق للتوازي الاستهلالي يكرر فيه كلمة» أوامر» ما يقارب العشرين مرة :
«كنت استلم منك كل يوم
أوامر تمنعني من إطالة شعري
أوامر تمنعني من ارتداء الجينز»»(102)
ولكي يواجه سلطة الطاغية، ربما يلجا الشاعر إلى لعبة ميتا شعرية، وربما ميتا سردية، لا تخلو من تناصات من أعماله السردية المختلفة التي خلق فيها طغاة، كان يتلاعب بهم مثل دمى الاراجوز، لكي ينتقم منهم :
«احيانا كنت تختبئ داخل مغارة ما،
ثم ابحث عنك مثل طفل يلعب
فأجد العنكبوت قد أكمل نسيجه» (103)
وهكذا تتحل السخرية إلى وسيلة من وسائل الانتقام من الطغيان :
«صدقني انك تصلح ان تكون بطلا
في رواية ربما كتبها ذات يوم»(104)
ويقرر الشاعر، بوصفه مؤلفا وخالقا لشخصية الطاغية في لعبة ميتا شعرية ان ينهي لعبة الطاغية الديناصور في إشارة إلى روايته المبكرة « مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة « وربما إشارة إلى رواية « الأسلاف» التي صدرت لاحقا والتي كان يخرج فيها الطغاة من جحورهم ليعيدهم اليها بعد ان يستنفدوا ادوارهم :
« ايها الديناصور الهارب من تاريخه
انني أعيدك إلى مغارتك» (105)
وهكذا ينتقم الشاعر رمزياً من كل طاغية عن طريق الكتابة، وهي لعبة سردية كررها مراراً، كما نوهنا تواً، في روايته «الأسلاف».
ويمكن ان نقول ان شبح الدكتاتور أو الجلاد أو الطاغية ظل يمثل كابوساً مؤرقاً بالنسبة للشاعر في جميع كتاباته الشعرية والسردية. ويمكن ان نشير إلى قصيدة « الدكتاتور « المقطعية المنشورة عام 1979 والتي تضم خمس حبات أو مقاطع معنونة، تدون مراحل حياة الدكتاتور منذ الميلاد وحتى الموت :
«من حائط مبكى مهجور
ينحدر الدكتاتور
مثل رسول اعمى مشبوه في الروح ومكتوب للموت» (106 )
والقصيدة هذه مفعمة بالسخرية، وهي ايضا نبوءة بنهاية الدكتاتور وموته :
«لكن الدكتاتور وهو يموت
استفز كل الشعراء المداحين الكذبة
ليكونوا صحبته في رحلته الكبرى».(107)
وربما تمثل قصيدة « هبوط فاضل إلى العالم» المنشورة عام 2003 آخر مطولة شعرية كتبها الشاعر في حدود علمنا. والشاعر هنا مثل آدم يهبط الأرض في سفر تكوين شعري ارضي يبتكره الشاعر بنفسه، وتكاد القصيدة ان تكون سيرة ذاتية لحياة الشاعر ورحلة معاناته في الحياة :
«ليس ثمة الكثير الذي اذكره الآن عن حياتي الماضية
ليس سوى إنني كنت ذات مرة ملطخاً بالدم
وقابلة تغسلني داخل طست بماء بئرنا المالحة»(108)
ويمكن اكتشاف ان الشاعر مولع بدرجة لافتة للنظر بإدراج اسمه كاملاً أو مختصراً في الكثير من إعماله الإبداعية بدءاً بروايته الأولى التي حملت اسمه « مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة «وبالتأكيد فان هذا التأكيد على اسم الشاعر لا يخلو من نرجسية، لكنها ليست نرجسية رومانسية مرضية، بل هي تأكيد على حضور الشاعر شاهد على عصره وراوياً بالصوت والصورة، كما يقال، الوقائع التي وشمت حياته وجيله.
وتنطوي القصيدة على تناصات ميثولوجية وشعرية عديدة :
«النساء الجالسات أمام أبوابهن على الحصائر
في زقاق الأنبياء
يقشرن التفاح، جارحات أصابعهن
صحبة زليخة، وقد استبد بها الشبق. (109)
فهنا اكثر من تناص منه تناص ميثولوجي مع قصة يوسف وزليخة وثمة تناص فني من ناحية البنية الشعرية يذكرنا بقصيدة اليوت قصيدة حب لبروفروك : وقائع حياة الشاعر مدونة بضربات دالة مشبعة بلون من الكوميديا السوداء:
«لم تقع أحداث خطيرة بعد ذلك
بضع حروب فقط
لتزجية وقت التاريخ الطويل
أعوام في السجن» (110)
فاضل العزاوي هنا يعيد كتابات سفر «المرويات الكبرى» بطريقته الخاصة المليئة بالسخرية والمعارضة والمفارقة. ففي «الحبل» و«يوسف والذئب» نجد صياغة اخرى لقصة يوسف كما فعل في «هبوط فاضل إلى العالم»:
وكذلك الحال في المناخ الشعري والميثولوجي العام لديوان «في كل بئر يوسف يبكي» كذلك هو الحال بالنسبة لقصة آدم وهبوطه والعشرات من المرويات التاريخية التي يعيد صياغتها شعرياً على وفق رؤيا جديدة لتحقق دلالات سيميائية متجددة :
« رايت آدم العارف بالأسرار
يرسف في الأغلال.»(111)
ففي قصيدة « حينما خلق الله الإنسان « يعيد الشاعر سفر تكوينه الخاص « ويختمه بتساؤل آدم القلق الوجودي:
«حين استوي آدم أخيراً وصار واحداً مثل الجميع
جلس عل دكة نائية
وراح يفكر : لماذا فعل الله به كل ذلك وكيف ؟»(112)
ويمارس الشاعر في كتابته الكثير من من لعب الشعر السريالية من خلال إيجاد علاقات بين أشياء ومرئيات متباعدة أو متعارضة أو من خلال انسنة الأشياء أو شخصنتها :
«تخرج الشجرة مساءٌ إلى النزهة
«مجرجرة وراءها أطفالاً
تتبعهم العصافير.»(113)
ويراهن الشاعر كثيرا على التكرار اللفظي، وبشكل خاص الاستهلالي منه لخلق بنيات توازٍ لغوية وأسلوبية متماثلة، فهنا إشارة إلى قصة يوسف والى عنوان الديوان الموسوم «في بئر يوسف يبكي» بوصفه عتبة نصية دالة على احتشاد التاريخ بالضحايا والمغدورين والأبرياء، حيث يتحول البئر إلى كناية عن السجن أو المنفى.
وهذه القصيدة تعتمد على بنية طريفة فيها الكثير من اللعب والتنظيم الهندسي. فهي تتكون من ثلاث كتل أو فقرات، تعتمد على نسق التوازي –
«السفينة التي لم تصل
البيت الذي لم يشيد
البئر التي لم تحفر»(114)
حيث تتكرر هذه الجمل الشعرية الناقصة عشر مرات، تليها في الفقرة الثانية تكملة لهذه الجمل الشعرية الناقصة :
«في كل سفينة مسافر متسلل
في كل بيت ذكريات ضائعة
في كل بئر يوسف يبكي.»(115)
كما نجد ذلك في قصيدة «العين» المنشورة في ديوانه «رجل يرمي أحجاراً في بئر «
«عين سوداء على كفُ
تترصدنا
عين في فكي ذئب ». (116)
ونسق التكرار هذا، من الأنساق المتواترة في الكثير من قصائد الشاعر، وهي تضفي مسحة إيقاعية وتوتراً وتوكيداً دلالياً ولفظياً وسيميائياً على معنى قد يكون مغيباً أو مضمراً، كما يمنح القصيدة مظهراً بصرياً إيقاعياً من خلال تماثل الوحدات التكرارية، وخاصة في الاستهلال. الذي يعتمد على توظيف كلمة واحدة أو صيغة ثابتة مثل النسق النحوي التراتبي الآتي:
اسم (مبتدأ ) مضاف + مضاف إليه
في الكثير من قصائد الشاعر تناصات ورموز ميثولوجية وتاريخية وشعرية وروائية، حتى يمكن القول ان قصائد الشاعر قد أصبحت موسوعة ثقافية وإنسانية فيها حوار مفتوح، وأحيانا مشاكس ومضاد مع الأخر. وهناك العشرات من الأسماء والأقنعة التي تتكرر أحيانا في أكثر من قصيدة مثل آدم، نوح، جلجامش، انكيدو، وولت وتمن، وجلال الدين الرومي، وت. س. اليوت، ولنين وبغداد وأورشليم ويوليوس قيصر ووانتي، يوسف، زليخة وعشرات اخرى من الرموز والأسماء والأقنعة.
ويقيم الشاعر أحياناً حواراً مع هذه الشخصيات. كما هو الحال، عند حواره مع الشاعر ت. س.اليوت وكتابة قصيدة تضارع « قصيدة أغنية حب للعاشق بروفروك « أو حواره مع السياب وكتابة قصيدة مضادة أو معارضه لقصيدة « أنشودة المطر « هي «أنشودة اللامطر» (117) وحواره مع وولت وتمن في قصيدة « أغنية نفسي « حيث كتب الشاعر قصيدة بالعنوان ذاته، مثلت فيه قصيدة وولت وتمن النص الغائب والتي يتحدث فيها عن سيرته الذاتية وتجاربه في الحياة. والحقيقة ان من ثيمات الشاعر الأساسية المتكررة هي استلهام مفاصل من سيرته الذاتية عبر مختلف التجارب، حتى يمكن القول ان المتن الشعري لفاضل العزاوي، هو سيرة متشظية لسيرته الذاتية، حيث الكشف دائما عن محطات ذاتية وموضوعية، سياسية وعاطفية من حياته وتجاربه ومعاناته. وبالإمكان كتابة دراسة مستقلة تحت عنوان : «شعر فاضل العزاوي بوصفه سيرة ذاتية شعرية»
كما نجد في الكثير من المواضيع المقترنة بمفاصل السيرة الذاتية منحىً ميتا –شعريا meta – poetic يتحدث فيه عن القصيدة وكيفية خلقها أو ترويضها أو تمردها، وهو ما يشجع على كتابة مقالة عن « المنحى الميتا شعري في شعر فاضل العزاوي « وتكاد الكثير من قصائد الشاعر تعيد كتابة سفر التكوين بطريقة جديدة وتنفض الكثير من المرويات الكبرى لتعبر عن رؤيا جديدة مفارقة وساخرة أحياناً مثل قصيدة « قلق حول مصيري في الجنة»(118)
المنشورة في احد المواقع الثقافية، والتي تذكرنا بطريقة وبأخرى برسالة الغفران « لابي العلاء المعري، وقصيدة الزهاوي « ثورة في الجحيم « التي كتبها عام 1931.
ويكرس الشاعر العديد من القصائد يستلهم فيها تجربة الشاعر امرؤ القيس ومعاناته منها قصيدة « امرؤ القيس في صحرائه» (119)
«نزهة في مدينة جاهلية»(120 ) و«الحلة المسومة» (121) و«الزائر الليلي» وربما دفع المناخ الشعري إلى كتابة قصيدة أو قصيدتين عموديتين تقليديتين لاقيمة فنية اودلالية لهما ولا تضيفان شيئاً لرصيد الشاعر،ربما كتبهما من باب مشاكسة النسق التقليدي العمودي منها قصيدة « ليلة الذئب « ومطلع قصيدة « نزهة في مدينة جاهلية» :
«أصاح دع الصعلوك يبكي زمانه / فما همك الديجور ناء بكلكل
إلى ان يقول :
فدع ياأمرأ القيس الزمان وشانه / وهل عند رسم دارس من معول»(122)
ومن كل ما تقدم يتبين لنا ان قصائد الشاعر فاضل العزاوي تتراوح بين قصيدة التفعيلة، وبشكل خاص في بداياته الستينية والسبعينية وقصيدة النثر، التي انتقل اليها تدريجياً، وان كان قد جرب كتابتها في بداياته أيضاً. كما مالت القصيدة لديه إلى نسق « النص المفتوح « الذي ينطوي على تداخل أجناس وأنواع شعرية وفنية مختلفة مثل السرد والدراما والسيناريو وبناء المشهد واللقطة السينمائية واللوحة التشكيلية،وهو ما سبق وان بشر به الشاعر منذ البداية كما اتينا على ذلك سابقاً.
كما ان المظهر الطباعي والبصري لقصائد الشاعر يتراوح بين نسقين أساسيين : من نسق السطر أو البيت الشعري الذي اعتمدته قصيدة الشعر الحر في الشعر الفرنسي والانجليزي والذي اعتمدته ايضاً إلى حد كبير تجربة « الشعر الحر «في الشعر العراقي والعربي، إما النسق الثاني فهو المظهر الذي يعتمد على كتلة طباعيه متماسكة تأخذ شكل الفقرة paragraph شبيهة بما نجده في السرد القصصي والروائي، وهو المنحى الأساسي الذي اعتمدته القصيدة « النثر « الفرنسية التي تجنبت إلى حد كبير نسق البيت أو السطر لاعتبارات بيناها في دراسة مستقلة تحت عنوان :
« قصيدة النثر : المطابقة والاختلاف»
كما وجدنا لدى الشاعر ميلاً لكتابة لون من القصيدة المدورة التي أشاعها الشاعر حسب الشيخ جعفر في الشعر العراقي، وخاصة في مرحلة كتابة قصيدة التفعيلة، حيث تتلاحق الجمل الشعرية بتوتر عالٍ يحمل شحنة تعبيرية مكثفة ومركزة.
لقد لاحظنا ان الشاعر فاضل العزاوي يعنى بمعمار القصيدة وهندستها، وهو لا يستسلم فقط للتدفق اللاوعي أو الاتوماتيكي للكتابة الشعرية، كما يشاع عنه غالبا. اذ نجد استهلالا مدروساً، وتنمية للتجربة الشعرية عبر تمفصلات مدروسة – كما نجد وضوحاً بوصول التجربة الشعرية إلى خاتمة أو نهاية معينة، قد تكون مفاجئة أو تمثل صدمة للقارئ ولأفق توقعه.
اذ نجد ان اغلب استهلالات الشاعر في قصائده وصفية تمهد المناخ لدخول الفضاء الشعري. الا ان عملية الوصف ليست خارجية، بل تمر عبر وصاف داخلي هو في الأغلب الشاعر أو قناعه أو ذاته الثانية التي يوظف فيها غالبا ضمير المتكلم، وأحيانا ضمير المخاطب ( بالفتح ) عبر خطابات أو مونولوغات داخلة حوارية مع الآخر أو مع الذات. كما تتصاعد معظم القصائد وخاصة المطولة منها ذروات وعقد صراعية، وان كانت لا تلتزم دائما من بما يسمى بـ«العقدة» التقليدية، فقد تكون القصيدة مجرد مشهد عرضي أو عابر، قد يبدو بريئا أو محايدا، لكنه يحمل في طياته حمولات معرفية ودلالالية تتوجه نحو القارئ لفك شفراتها النصية المغيبة. كما تكشف اغلب قصائد الشاعر عن نهايات منظمة تمثل قرارا،بالمعنى الموسيقي، وهي في الأغلب نهابات مفتوحة مما تجعل هذه القصائد تنتمي إلى نسق قصائد « النص المفتوح « بتعبير امبرتو ايكو أو النص الكتابي «،في مقابل النص القرائي «بتعبير رولان بارت».
فاضل العزاوي تعرض، وللأسف، إلى الكثير من التجني وسوء القراءة، ولا أعفي نفسي بوصفي ناقداً من هذه التهمة، من قبل النقاد واتهم بالنرجسية المفرطة، وبالانشغال بالهموم الفردية والجمالية، وبإهمال الهموم الاجتماعية الكبرى للواقع والعصر. لكن الشاعر، في الحقيقة،مشتبك مع الحياة وهو أشبه ما يكون بمناضل ثوري كوني ضد القبح والطغيان والشمولية ومدافع عن الحرية الفردية والاجتماعية، وكان يقاوم لحظات الانكسار والسوداوية بتطلع كوني نحو الأمل والمستقبل، وكانت قصائده وأعماله الروائية إدانة للدكتاتورية والاستبداد والشمولية بإطارها العام والخاص.
ولذا فانا أدعو إلى إعادة قراءة فاضل العزاوي بوصفه شاعراً ثورياً متمرداً في اللغة والرؤيا، وهو أيضا شاعر موقف وليس مجرد متفرج سلبي على مايدور في عصره ومجتمعه أو ينشغل كليا بكيمياء اللغة الشعرية فقط كما يزعم بعض النقاد.
فاضل العزاوي فوق وذاك صاحب مدرسة شعرية متميزة منذ تجاربه المبكرة في الستينات عمقت المنحى الحداثي في الشعر ولم تنشغل بما هو بلاغي وأسلوبي وجمالي فقط، بل وظفت لغة قريبة من وعي القارئ تذكرنا بدعوة ت.س. اليوت لتمثل لغة الحياة اليومية في الشعر. لم يتوقف فاضل العزاوي عن كتابة الشعر في السنوات الأخيرة وان بدا مقلاً، ربما بسبب انشغاله بكتابة الرواية التي برز فيها بتميز، وأيضا لانشغالاته الفكرية والإعلامية منها انصرافه إلى الترجمة الأدبية.
فاضل العزاوي، اسم لا يمكن ان يتكرر بسهولة في تاريخ الثقافة العراقية، فهو نسيج وحده، في الموقف والرؤيا والفعل.ومرةً قال فاضل العزاوي ان الشاعر هو القصيدة التي يكتبها ويمكن ان نقول معه ان فاضل العزاوي شاعراً وناثراً وروائياً هوالنص أو المتن الذي يكتبه.
الهوامش
1-العزاوي، فاضل « الروح الحية : جيل الستينات في العراق « منشورات المدى، دمشق، ط3، 2003، ص 318.
2- العزاوي، فاضل، مخلوقات فاضل الجميلة : – رواية، منشورات الكلمة، النجف، العراق، 1969.
3- المصدر السابق، ص4
Whitman, Walt, The Portable Walt , Whitman ,Penguin 19844-
5. العزاوي فاضل « القلعة الخامسة «، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1972.
6. Preminger, Alex (Princeton Encyclopedia of Poetry and Poetries , Princeton, University Press,1974,p,377.
7. العزاوي فاضل « الاعمال الشعرية»منشورات الجمل، كولونيا – ألمانيا – بغداد 2007 في جزءين.
8. العزاوي، فاضل «الروح الحية : جيل الستينات في العراق «ص 216- 217.
9. المصدر السابق، ص 216.
10. المصدر السابق، ص 216.
11. المصدر السابق، ص 214- 215.
12. Home , Irving, The Idea of the Modern in Literature and Art , Horizon press ,New York 1967,P. 109.
13. « البيان الشعري»ملحق في كتاب « الروح الحية : جيل الستينات في العراق «ص 334.
14. ثامر، فاضل « شعر الحداثة : من بنية التماسك إلى فضاء التشظي « دار المدى للنشر , سوريا , بيروت، بغداد 2012 ص 95.
15. العزاوي، فاضل « الروح الحية : جيل الستينات في العراق، ص 340 – 343.
16. العزاوي،فاضل « الأعمال الشعرية» – الجزء الأول ( ص 59 – 61)
17. العزاوي فاضل « قصة جيل الستينات في العراق « في مجلة « فراديس « العدد المزدوج، (4-5)، 1992منشوررات الجمل،كولون،ألمانيا.
18. العزاوي، فاضل « الإعمال الشعرية»، الجزء الأول , ص 342.
19. العزاوي، فاضل « مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة «، ص 4.
20. العزاوي فاضل « الأعمال الشعرية» الجزء الاول، ص 9.
21. المصدر السابق، ص 9.
22. العزاوي، فاضل « قصة جيل الستينات في العراق» مجلة « فراديس «» ص 3ذ.
23. المصدر السابق، ص 31.
24. المصدر السابق، ص 31.
25. المصدر السابق، ص 32.
26. العزاوي،فاضل «الروح الحية : جيل الستينات في العراق « ص 173
27. المصدر السابق ص 331.
28. المصدر السابق، ص 331.
29. العزاوي، فاضل « قصة جيل الستينات في العراق» مجلة فراديس «العدد 4-5 ص 33.
30. العزاوي ن فاضل « مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» – الغلاف الاخير.
31. المصدر السابق، ص 16.
32. المصدر السابق، ص 86.
33. سعداوي، احمد « فرانكشتاين في بغداد « منشورات الجمل، كولونيا، المانيا، بغداد، 2013.
34. العزاوي، فاضل « مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة » ص 99.
35. المصدر السابق ن ص 76.
36. المصدر السابق ن ص 75.
37. المصدر السابق، ص 71.
38. المصدر السابق، ص 98.
39. ثامر، فاضل «معالم جديدة في أدبنا المعاصر » منشورات وزارة الإعلام، بغداد، 1975، ص 114- 126.
40. المصدر السابق،ص 116- 117
41. المصدر السابق ن ص 119.
42. العزاوي، فاضل «الأعمال الشعرية » – الجزء الأول، ص 15-18.
43. المصدر السابق، ص 15.
44. المصدر السابق ص 18.
45. المصدر السابق، ص 22.
46. المصدر السابق، ص 26.
47. المصدر السابق ن ص 30ز
48. المصدر السابق ن ص 39.
49. المصدر السابق، ص 40.
50. المصدر السابق، ص 37.
51. المصدر السابق ص 36.
52. المصدر السابق، ص 28.
53. المصدر السابق 59- 61.
54. المصدر السابق ن ص 65.
55. المصدر السابق، ص 235
56-Eliot ,T. S. ,Collected Poems ,London ,Faber,and Faber, 1963,p
57-الاعمال الشعرية، الجزء الثاني ص 303.
58- المصدر السابق، الجزء الثاني , ص 305.
59- المصدر السابق، الجزء الاول، ص 254.
60- المصدر السابق، ص 255.
61 –المصدر السابق، ص 256.
62-المصدر السابق، ص 259.
63- المصدر السابق، 267.
64- المصدر السابق، ص 268.
65- المصدر السابق، ص 271.
66- المصدر السابق، ص 276.
67- المصدر السابق، ص 275.
68- المصدر السابق، ص 278.
69- المصدر السابق، ص 291.
70 –المصدر السابق، ص 291.
71- المصدر السابق، ص 297.
72 – المصدر السابق، ص 310.
73- المصدر السابق، ص 312
74- المصدر السابق، ص 336 -337
75- المصدر السابق، ص 327
76- المصدر السابق، ص 147.
77- المصدر السابق، ص 155.
78- المصدر السابق، ص 159.
79- المصدر السابق، ص 166.
80- المصدر السابق، ص 183.
81-المصدر السابق، ص 183.
82- المصدر السابق، ص 190.
83 –المصدر السابق، ص 200.
84- المصدر السابق، ص 221.
85 –المصدر السابق، ص 15.
86- المصدر السابق، ص 15.
87- المصدر السابق، ص 18.
88- المصدر السابق، ص 24.
89- المصدر السابق، ص 30.
90- المصدر السابق، ص 107.
91- المصدر السابق، ص 109.
92- المصدر السابق -، ص 102.
93 – المصدر السابق ص 419.
94- المصدر السابق، ص 409.
95- المصدر السابق، ص 417.
96- المصدر السابق، ص 422.
97- المصدر السابق، ص 423.
98- المصدر السابق، ص 432
99- المصدر السابق، ص 433.
100- المصدر السابق، ص 312.
101 –المصدر السابق، ص 320.
102 – المصدر السابق، ص 320.
103- المصدر السابق، ص 316.
104 – المصدر السابق، ص 317.
105- المصدر السابق،ص326
106- المصدر السابق،ص 437
???- المصدر السابق،ص???
???- المصدر السابق،ص ???
???- المصدر السابق،ص ???
???- المصر السابق، ص???
???- المصدر السابق، ص ???.
???- المصدر السابق، ص 416.
???- المصدر السابق، ص 404..
???- المصدر السابق، ص 403.
???- المصدر السابق، الجزء الثاني، ص 10.
???- المصدر السابق، ص الجزء الثاني 10.
???- المصدر السابق،الجزء الاول، ص 335.
???- المصدر السابق، الجزء الثاني، ص 242.
???- العزاوي،فاضل « قلق حول مصيري في الجنة «»موقع كيكا الاليكتروني.
???- العزاوي، فاضل « الأعمال الشعرية « الجزء الثاني ص 219.
???- المصدر السابق -، ص 226.
???- المصدر السابق، المصدر ص 227.
???-المصدر السابق، ص 226.
فاضل ثامر