يشكل عنصر المرأة في قصص المتوالية (المجموعة) (1) التي بين يدينا تمظهرا فنيا، يسيطر على معظم السرد فيها. وهو في ذلك يذكرنا برائد القصة القصيرة في اليمن، القاص محمد عبدالولي، الذي وظف عنصر المرأة توظيفا فنيا، تتخذ فيه بعدا اجتماعيا، تارة، وتارة أخرى، تصبح انموذجا رامزا للارض وللثورة.
ولا نبالغ إن قلنا: إن قصص المتوالية، تتناص تناما بنيويا مع أسلوب السرد المعتمد لدى محمد عبد الولي على أحرف العطف من جهة. وعلى الاستخدام المتكرر للفعل الماضي (كان). وكذا حين يترك المرأة تتحدث عن قضيتها الاجتماعية بنفسها أحيانا، عبر ضمير المتكلم المنطلق من أسلوب السرد الذاتي.
وإن بدا أسلوب القاص الشاب وجدي الأهدل أكثر نضجا وايجازا والتزاما باللغة السليمة، الخالية من الأخطاء النحوية، بحكم طبيعة المرحلة التسعينية المتطورة التي ينتمي اليها، مقارنة بمراحل البدايات السابقة التي كان ينتمي اليها جيل الرواد الأوائل.
ومنذ القراءة الأولى، نلاحظ الجرأة في الأسلوب وفي المعالجة. وهي مغامرة فنية، تتناص بنيويا مع مغامرة رائد القصة القصيرة، التي جاء القاص الشاب فجددها، بأسلوبه الفني الخاص به. لانما أراد بذلك أن يتجاوز التحفظات والأعراف الاجتماعية وإن على مستوى بنية السرد القصصي، وءسلوب لا يخلو في أحايين كثيرة من السخرية والفكاهة، اللتين نجدهما في قصص الأدب العالمي والعربي. وحتى في قصص كتاب يمنيين، كالقاص عبدالكريم الرازحي الذي يتخذ الأسلوب الساخر في قصصه، وظيفة رمزية تكشف عن موقفه من جملة من القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية المختلفة.
وتتجلى فاعلية المرأة في قصص المتوالية التي بين يدينا منذ القصة الأولى والقصص التي تليها، أي منذ اللحظة التي يمنحها القاص دور المبادرة والاقدام المنوط بالرجل عادة، باعتباره الطرف الأمل من طرفي الثنائية الضدية: الفاعل / الموضوع (أو المرأة). فالمرأة لدى القاص، هي التي تقدم. وهي التي تبادر في علاقتها الأيروسية بنصفها الآخر (الرجل). ويظهر ذلك على مستوى بنية السرد القصصي. كأن تصرح برغبتها في آخر سطر من أولى قصص المتوالية، قائلة له: "ما عاد الأسف ينفع.. قل لي أين تسكن؟" أو تقول له في قصة أخرى: "افتح النافذة لو سمحت" وفي قصة ثالثة تعتبره "قليل ذوق" لأنه أغلق النافذة في وجهها. وفي قصة سواها، تهدده قائلة: "في المرة القادمة سوف لن أسمح لك أن تفلت مني بهذه السهولة". وفي قصة "رجل بلا وجه" يتساوى طرفا الثنائية الضدية، وتصبر المرأة مرآة مطابقة لوجه الرجل الذي اعتاد أن يكون هو الأول وهي الثانية. أما أن يتساويا، فذلك أمر ق] يذهب بلبه ويقوده الى الجنون، كالذي حدث في نهاية القصة حين "أصيب الرجل بالجنون
وخرج الى الشارع الذي جاء منه، يطارد ويشاغب ويشحذ شظايا وجهه المتناثرة بين وجوه النساء!" كما تقول لنا لغة السرد القصصي. وحتى حين يحاول الرجل أن يعود الى دوره الطبيعي في المبادرة والاقدام، فان أسلوبه يكون أحمق، كالذي حدث مثلا في قصة "هارد لك"، حيث يصبح الشاب مثارا للسخرية من قبل الفتاة التي ظن أنها تقف خلفه، حين كان يستمتع بملامسة الحقيبة الواقعة وراء ظهره، واذ ذاك ددضحكت الفتاة أيضا بلطف – هزني من الأعماق – بعد أن فهمت الموقف، ثم حملت حقيبتها وقالت لي مودعة: (هارد لك") كما ورد في نهاية القصة. والأمر نفسه، بالقياس الى قصة "أنا في حمالة أثداء" التي يبدو فيها الشاب مغفلا، أبلها حيال الفتاة التي وقع قلبه في حبها، في ذلك الموقف العابر الذي راها فيه، حين كان مارا بشارع جمال. وحين لم تعره أي انتباه في الوقت الذي كان يجد نفسه يمارس السلوك نفسه والحركة التي تتحركها: "ورغم ذلك وجدتني أحرك يدي كما تحرك يديها. وأدير عيني كما تدير عينيها، ويرسم وجهي ذات الملامح التي يرسمها وجهها، وما إن تقترب مني حتى أحس بأنفاسي تسير بوتيرة أنفاسها هي، لا أنا. بل وتظل أنفاسها تتردد في صدري حتى بعد أن خلفتني وراءها.." وهكذا.. تصبح المرأة هي الأصل ويصبح الرجل هو الصورة المنعكسة عنها. وهي الفاعل وهو الموضوع التابع لها، وهي القائد وهو المقود. وهي الأ نموذج وهو الظل. ولذلك يحبها ويرضى بسيطرتها التامة. تلك السيطرة التي تجعل المرأة تتجاوز بعدها الفسيولوجي الى البعد الرمزي للأنثى التي ترمز للطبيعة الأم وللأرض وللحياة بأسرها، بحيث لا يصبح للو جود معنى بدونها. وهذا البعد الرمزي نجده ينطلق (في كل الديانات السماوية) من قصة حواء وآدم عليهما السلام، منذ فجر التاريخ الانساني. ولذلك يستفيد القاص في أحدى قصصه الموسومة "مطرود من الجنة" عبر توظيف التناصر الديني المرتبط بعنوان القصة، أو الأقاصيص القصيرة جدا، التي يعبر فيها عن نماذج علاقته بأنثاه الحبيبة. كأن يتيه في عينيها دون أن يجد له مخرجا من متا هتها، وص اذ ذاك طفل صغير دائما مهما أصبح رجلا يافعا. إذ لا غنى له البتة عن رعايتها، يحتاج اليها بكل معاني الاحتياج الوجودي الذي يربطه بها فينتمي اليها، لأنها أمه وحبيبته وأرضه. لذلك نجده لا يريد أن ينقطع عنها ويعلن عن انتمائه الوجودي اليها وتماهيه بها، بل انصهاره في قصة "ألقيت صحبتها في سرتي" قائلا- مثلا-: "دوخة صيرورتي في أحشائها جنين يمده حبلها السري بالحياة والنور، مغلفا بحبها، محاطا بها، والعالم كله هي! سامحيني يا حبيبتي لأنني مجنون إذ أرجوك أن تبقي سبابتك في سرتي الى الأبد!!". وهكذا.. تغدو المرأة ذاتا فاعلة تحرك حياة الرجل التي لا قيمة لها ولا معنى بدونها. بل تصبح رمزا لمطلق الحياة والحركة والبقاء الذي يستحيل عدما حين لا تكون المرأة على وجه الوجود.
وحتى على مستوى أسلوب السرد الساخر تستمر فاعلية المرأة ودورها في المبادرة والإقدام بجرأة في البحث عن مطالبها التي يصبح الرجل موضوعا لأحد تلك المطالب. كأن تقوم بالبحث علانية عن زوجها الضائع في قصة "بدل فاقد" وتعلن في الصحف عن ذلك. وتطالب أقسام الشرطة بالبحث المستعجل عنه، قائلة لهم في أحدى المرات: "سأعطيكم مهلة عشرة أيام فقط. وبعد ذلك سأضطر الى مطالبتكم ببدل فاقد".
على سبيل السخرية والفكاهة الرامزة الى قوة فاعلية المرأة وامكانية اقدامها على اتخاذ قرارات وخطوات أكثر جرأة ودهشة، إن هي أرادت.
ولذلك، فان ما يمكن أن نستنتجه، من التوظيف البنيوي لفاعلية المرأة في قصص المتوالية التي بين يدينا: هو المحاولة المتعمدة فنيا من قبل القاص، بهدف تحريك المرأة التي ظلت زمنا ترسف بصمت تحت قيود العادات والأعراف والتقاليد الاجتماعية، التي تحول دون قدرتها على المصارحة بحقوقها وبعلاقتها بنصفها الآخر (الرجل). وهو بذلك (أي القاص) يريد تحريضها على الجرأة في المواجهة وكسر القيود بشجاعة. ومن ثم تحريرها المطلق، وإن أدى ذلك الى صدمة المجتمع الذي لم يعتد على أن تكون هي الذات الفاعلة والمبادرة والمقدمة، دون الرجل، الذي أضحى موضوعا لها من وجهة نظر القاص الفنية.
ـــــــــــــــ
1- النماذج القصصية مأخوذة من المجموعة بـ" رطانة الزمن المقماق" للقاص اليمني وجدي الأهدل.
آمنة يوسف (كاتبة واكاديمية من اليمن)