بين جيلي الثمانيني وجيل الشاعر فوزي كريم الستيني ،حسب التصنيفات النقديّة ،يقف جيل شعري يشكّل جدارا زمنيا عازلا بيننا إلا وهو جيل السبعينيات في العراق وإلى جانب ذلك وقف المنفى الذي ركب سفينته عام 1978م خلال الفترة التي بدأنا ندخل فيها الحياة الثقافية ونقيم علاقات مع صناعها ليكون جدارا مكانيا بيننا فصلنا عنه ، لكن صوته الشعري الهادر اخترق الجدارين : الزماني والمكاني ، واقتحم نصوصنا ، شأن أي شاعر كبير يرمي بثقله على ذائقتنا بمجرد أن نقترب من نيرانه الشعرية التي تضيء حروفنا بوهجها , فيفرش خيمته فوق كلماتنا لتكون سماء نهتدي بضوء نجيماتها, بهرتنا غنائيته المدافة بماء العذوبة فيأخذ بيدك ليقودك الى عوالم مليئة بالتساؤلات والرؤى التي تنطلق من فضاء المخيلة لتستقر في فضاء النص وصولا الى طرح الأفكار الكبرى والأسئلة الكبرى المتصلة بالوجود , نص فوزي كريم تجسيد لعذابات الإنسان في معترك الحياة..
ويأتي هذا التجسيد بلغة منحوتة ,رشيقة , تخلو من الزوائد اللغوية، والرموز المقحمة كما رأينا لدى شعراء كثيرين من جيله ,لذا ظل صوته قريبا منا فكان جسرا موصلا بين قمة شاهقة في جيل الرواد وأعني السياب وبيننا ، قصائده التي كانت تصل الينا مستنسخة مع المسافرين العائدين من بيروت وسواها من عواصم الكتاب العربي الثقافية غذاء يمد نصوصنا بنسغ شعري يضمن لها الديمومة وينقذها من الجفاف ،فقرأنا لصاحب «حيث تبدأ الأشياء «1968 و«أرفع يدي احتجاجا 1972» و«جنون من حجر» 1977 و«عثرات الطائر» 1983 و«لا نرث الأرض» 1988 و«مكائد آدم» 1991 و«قارات الأوبئة» 1995 و«قصائد مختارة» 1996 «قصائد من جزيرة مهجورة» 1998 و«مؤلفات في النقد : من الغربة حتى وعي الغربة» و«إدمون صبري : دراسة ومختارات» و«مدينة النحاس» و«ثياب الامبراطور – دراسة في السياق الشعري السائد» وكتب أخرى عديدة .
لقائي الأول به كان في عمّان بمناسبة ثقافية عراقية عام 2007 م حيث قدمني له صديقي الشاعر عدنان الصائغ , وأدهشني صمته الدائم وحين سألت الصائغ عن ذلك أجاب إنه لا يحب المهرجانات لذا ينسحب الى الداخل حين يدعى الى تظاهرة ثقافية» علما بأن الدعوات التي توجه اليه للمشاركة بتلك التظاهرات قليلة وربما نادرة ، وكنت أشاهده يقدم فقرة في الثقافة الموسيقية عبر إحدى الفضائيات العراقية وكشفت تلك الفقرة عن ثقافة موسيقية واسعة ورهافة حس أوضحها في كتابه «صحبة الآلهة»
حين أخبرتني د. لنا عبدالرحمن أن الشاعر فوزي في دبي وينوي زيارة مسقط سررت ، وقلت ستكون فرصة لي لكسر الجدارين اللذين حالا بيني وبينه ولو لأيام قليلة ، لذا فسعادتي كبيرة ، وأنا أجلس الى جوار هذه القامة الشعرية محاورا .
* في كتابك «ثياب الإمبراطور» قدمت قراءة مغايرة للسائد في الساحة الشعرية العربية , فأحدث صدوره صدمة في الأوساط الثقافية،ودفعت ثمن هذه الصدمة التي أحدثتها, ماهي الأطروحة المركزية للكتاب؟
– أنت تعرف بأني بعيد نسبياً عن الوسط الشعري العربي. أتابعه عبر «الكتاب» و»الكتابة» وحدهما. ولا يشغلني ما يعتمل داخل إعلامه ومهرجانه الثقافيين. هذا الموقف لدي قد يكون وليد ردة فعل سلبية من طغيان ظاهرة الاعلام والمهرجان الثقافيين، التي استلبت من «الكتاب» الشعري دوره كمعيار وحيد لتقييم هذا الشاعر أو ذاك. الاعلام والمهرجان صارا هذا المعيار، ولعلك تعرف بأن هذا المعيار يُخرج نجوماً. والنجم ليس شاعراً بالضرورة.
– في كتابي «ثياب الامبراطور: مرايا الحداثة الخادعة» (دار المدى 2000) لم أكن مطمئناً من هيمنة فكرة «الحداثة»، و«ما بعدها»، كما هو مُعلن في العنوان الجانبي للكتاب. فكرة الحداثة وما بعدها ولدت في الغرب، وظلت غربية بصورة مشيمية. أنا أعيش في الغرب، وأشعر ذلك بعمق. نعم، نحن دخلنا الحداثة ولكن بمعنى ما. نحن أحوج ما نكون إلى أن ندخل الحداثة العلمية. لأن هذا الدخول، إلى جانب ضرورته الملحة، ممكن جداً. ولكننا لا يمكن أن ندخل حداثتهم وما بعد حداثتهم الشعريتين. استعارة أو محاكاة تقنيات الطبابة الغربية المتقدمة ضرورية وممكنة في آن. ولكن استعارة ومحاكاة التقنية اللغوية التي تولّد الشعر، تبدو مضحكة، ومثيرة للرثاء. لأن التقنية في اللغة هي وليدة هذه اللغة. واللغة تنطوي على روح فريدة، لا شبه لها بين اللغات.الشعراء الذي أوهموا أنفسهم بهذا كثُر، وهم يشكلون التيار الأعم. والسبب كامن في الميل الشكلاني الذي يعصف بالشعر العربي لقرون طويلة. في «ثياب الامبراطور» حاولت أن أتلمس هذه العورة في طغيان «الغرض» الشعري، الذي أبعد الشاعر عن خبرته الداخلية، وصرفه إلى هدف خارج الشعر دون «الخبرة الداخلية» يحتاج إلى «محسّنات» من المخيلة. محسّنات شكلية جمالية الطابع. تعتمد الإثارة والادهاش. ولهذا السبب ضعف البعد الروحي، أو «الميتافيزيقي» في شعرنا العربي. في حين توفر بصورة بارزة في الشعر الإنساني حيث كان، في الغرب أو الشرق. نحن للأسف لا نملك شعراء من طراز «عمر الخيام»، «رومي»، «شيرازي». حتى التصوف جاءنا من غنوصيات الشرق، ولم يثمر إلا شعراً محدود الموهبة والأفق.
* هذا المنحى الشعري يمثل لدينا «السياق العام»، منذ هيمنة «الغرض» بعد المرحلة الجاهلية، حتى آخر شاعر شاب معاصر لنا. «الأغراض» القديمة معروفة، وأبرز رعاتها أبو تمام والمتنبي. أما «الأغراض» الحديثة فقد اكتفت بتغيير الثياب والأقنعة: القصيدة البكورية، أو الملتزمة، أو الرافضة، أو المتجاوزة، أو البيضاء، أو المفتوحة، أو الميكانيكية، أو قصيدة النثر… أما السياق الاستثنائي فلم يعتمد غرضاً خارج «التجربة الشعرية الداخلية». كان أبو نواس يكتب القصيدة القصيرة، وليدة «خبرة شعرية» بالغة الفرادة. المعري لم يقرب «الأغراض» واعتصم بوسوسة الداخل. السياب لم يكتفِ بالعيش في هذه الوسوسة بل تجاوزها في الانتساب إلى مملكة الموتى. صلاح عبد الصبور مشرد وباحث كالبهلول عن «الإنسان الإنسان». البريكان ساع إلى رؤية مستحيلة لما وراء الظاهر. خليل حاوي، يوسف الخال… ولذلك اتخذتُ نموذجين شعرييْن، حداثيين ومعاصريْن، هما أدونيس والسياب. الأول يمثل أبرز شعراء التيار الأعم الأغلب. والثاني يمثل الآخر الاستثنائي. طبعاً تعييني لأبي تمام والمتنبي على رأس شعراء «الغرض» القدامى أثار علي كتاب الذائقة التقليدية. وحديثي عن أدونيس ومعظم الأجيال التالية له أثار علي المحدثين والطليعيين. ولسوء الحظ فإن هؤلاء هم مالكو زمام الإعلام والمهرجان الثقافييْن منذ عقود.
* كيف كانت استجابتك أو ردة فعلك؟
– كنت أتوقع كل ردود الأفعال على كتابي بالتأكيد. الحدة أو التجاهل في ردود الأفعال هذه كانت مصدر رضا لي، لأني شعرت أن موقفي النقدي كان قد مس جرحاً، أو كشف عن عورة مستورة. إن استعارة عنوان الكتاب من قصة معروفة للدنماركي أندرسون لم تكن مجانية. الحاجة إلى الطفل الذي يقول للجماهير بأن الامبراطور عار تماماً ولا ثياب ذهبية لامرئية على جسده ملحة تماماً. الذين يتحدثون بلغة المعميات، وبلغة تفكيكية دريدا التي لم يتجرعها الغربيون أنفسهم، لابد يعرفون في سريرتهم مقدار الإيهام الذي هم فيه: إيهام النفس وإيهام الآخر. ويعرفون أن فاعلية الإيهام محدودة النفَس. وأعتقد عن يقين أن هناك مُنحنى واضحاً في خط دعاوى «ما بعد الحداثة» ينحدر، وأن هناك استدارة متشككة تلم بالكثير من أصوات الشعراء وكتاب نقدهم باتجاه مراجعة النفس.
* ألا ترى أن هذه الطروحات بديل مناسب عن نقد المجاملات؟
-المهم أن يكون موقفي النقدي وليد ثقافة شعرية ونقدية عربية مُعاشة. الموروث الشعري والنقدي يعلمنا الكثير، لا في جانبه الإيجابي وحده، بل في جانبه السلبي أيضاً. إن وجود شاعر مثل أبي نواس أو المعري يجعلني أكثر جرأة في النظر النقدي المتشكك من الشاعرين الكبيرين أبي تمام والمتنبي. والتطلّع العميق للخبرة والمعنى لدى ناثر كبير مثل التوحيدي يجعلني أعيد النظر بموقف الجاحظ من تقديمه اللفظ على المعنى. ولا ننسى المسحة المقدسة للعربية بسبب القرآن. هذه القداسة جعلت بيان اللغة سحراً، ولا يصح تجاوز جانبه اللفظيهذا الموقف النقدي جذري، ووليد قراءة متبصرة للنص العربي والعالمي. وقراءة العلاقة بين هذين النصين قراءة مقارنة، لا علاقة محاكاة. النقد الشعري العربي في العقود الأخيرة إيهامي داخل بالونة لغوية. كثير المباهاة بالقوى التي تخرج من الرحم الذهني للنظرية الغربية. يقبل على القصيدة، ويُطبِق عليها بمعادلاته الذهنية. لا يعنيه من القصيدة أن تكون جيدة أو رديئة. وبهذا يتوفر لديه أكثر من سبيل للمجاملات التي تشير إليها أنت. مجاملات مع أصحاب النصوص الذين يعملون في وسائل الإعلام الثقافي. وهم عادة أصوات شعرية ضعيفة، نقاد المرحلة، التي فقدت توازنها، لا يهمهم اكتشاف الشاعر الجيد. لأن أمر اكتشافه يتطلب البحث بين الكتب الشعرية. وهي مهمة لم يعد لها وجود. تلاشى الكِتاب كمعيار قيمة وحل بدله المهرجان ووسائل الإعلام الثقافي. ولذلك فالنقاد يسعون في البحث عن الصوت الشعري داخل هذا المهرجان، وداخل هذه الوسائل الإعلامية. ومعيار هذا البحث ليس الجودة والرداءة، بل تبادل المصلحة،وتألّق النجم. وهو بحث مجاني ومربح في الوقت ذاته. ولذا فالأصوات الشعرية الفاعلة عضلياً هي التي ترقّع كتب النقاد.
* أنت اليوم تواصل مشروعك النقدي في كتاب عنوانه «شاعر المتاهة وشاعر الراية». من هو شاعر المتاهة؟ ومن هو شاعر الراية؟ الا يمكن لشاعر أن يتحمل عبء المهمتيْن، تحت وطأة الظروف الثقيلة التي يعيشها المثقف العربي؟
-المشروع النقدي الذي أكتب فيه يتعلق بالشعر العراقي خاصة. لك أن تتمثل عبره الشعر العربي أيضاً. «شاعر الراية» يكاد يتماثل مع شاعر «الغرض» في شعرنا العربي. الشاعر الذي يكتب تحت ظل راية «الفكرة» المُعدة مُسبقاً خارجه. وهذه الظاهرة لها جذر في التراث بالتأكيد، ولكنها أصبحت ظاهرة صلبة في نهاية خمسينيات الشعر العراقي. جاءت على قاعدة مهدت لها حركة اليسار وأحزابها. كان البريكان، بلند الحيدري، نازك الملائكة، حسين مردان والسياب في أفتى مراحل نضجهم «شعراء متاهة». كان أحدهم مُعبأً بتساؤلات وحيرات وجودية تتسع لملابسات الانسان، الحياة والكون جميعاً. كانت مهمة الشعر واضحة لديهم: الخوض في المعترك الغامض والملتبس لقدر الانسان، ولمأزق الحياة الذي لا يوفر إجابة. الأحزاب اليسارية أرادت أن تُشعر هذا الشاعر بالذنب، حين عرضت أمام خطاه المتعثرة جادة ذات هدف يقيني، لا لبس فيه، وأنكرت عليه تهيامه في بحران الأسئلة المحيرة. وأرادته أن يتمثل هدفاً بيّناً في نهاية طريقه. ثم قدمت له نموذجاً مؤثراً في شخص عبد الوهاب البياتي، شاعر الالتزام السياسي بامتياز إثارة مشاعر الذنب كانت مجدية، ومؤثرة لدى شعراء مثل السياب ونازك وبلند وحسين مردان. بقي البريكان أصلب عوداً، ولم يلتفت إلى يقينيات اليسار، مع أنه كان يساري التوجه والانتماء في السياسة ولكن ليس في الشعر. لقد استوعب بوعي مهمة الشعر والشاعر، وترك ما عداه للنثر كانت راية البياتي حمراء (لون اليسار المفضل) طيلة الخمسينيات والستينيات. الراية «الأممية» المنشغلة بمناضلي العالم الساعين لهدف. جاءت موهبة سعدي يوسف الكبيرة لتمنح الراية لونها الأخضر(اللون القومي المفضل)، في أواخر الستينيات ( بعد النكسة) والسبعينيات. الراية المنشغلة بمناضلي العالم العربي: فلسطين، الجزائر، المغرب، اليمن…الخ،هذه الموجة الملتزمة بكفاح الانسان السياسي حجّمت من مجرى التيار، الذي بدأ فتياً، صحياً مع مطلع التجديد الريادي. الأجيال التي جاءت بعد ذلك صارت تتكلف تنويعات عدة على مهمة شعر «الراية» هذا. فهم، في المجرى الأعم، مأخوذون براية «الحداثة» وما بعدها، والتجريب، والبكورية، والتجاوز والحرية والثورة..الخ.
* استجابة السياب لتلك الموجة كانت مفتعلة بسبب ضعف واضح في شخصه وروحه. وقد أنتجت قصائد لا تنتسب إليه. في حين بعثرت استجابة نازك موهبتها الشعرية التي كانت متألقة في مجموعتها الأولى والثانية.
* كنت أعي هذا المشهد في مرحلة مبكرة من حياتي الشعرية. وكنت أثق بأصوات إلى جواري لا تقل وعياً له من أمثال حسب الشيخ جعفر، ياسين طه حافظ وسركون بولص. ولذلك أصدرت عنهم أعداداً خاصة من مجلتي «اللحظة الشعرية».
* تبدو في كتاباتك متحمسا لتجربة الشاعر الرائد بدر شاكر السياب , ماهي خصوصيته في الشعرية العربية ؟
– أنت تقصد «خصوصيته في الشعر العربي»، لا في «الشعرية». فهذه مفردة شائعة، ولكنها ملتبسة المعنى، شأنها شأن مفردات كثيرة أقع عليها في نثر الكتاب مثل «السردية» و«النسقية»! السياب يتميز ببضع خصائص استثنائية في شعرنا العربي. ملموسية وعمق تجربته الحية كانت نسغاً دائم الدفق في تجربته الشعرية. كان يختبر الحياة بجهاز شعري داخلي تبدو الصبغة الأدبية والفنية آخر متطلباته. الشكل لديه وليد طبيعي وعفوي لهذه الخبرة الروحية الداخلية. إنه غريزي بهذا المعنى. ولذلك كان ضعفه الشخصي والجسدي ينبوع رحيله العظيم في ليل الروح. الحداثة الشعرية لديه وليدة هذه الخبرة الداخلية، وليدة هذا الرحيل. وليس العكس كما هو واضح في تجربة كثيرين. لم تكن تجربته الشعرية الداخلية وليدة حداثته الشعرية. أو وليدة الحداثة جملةً، صحيح أن السياب استعان ببعض الأساطير المعروفة، إلا أن صوته المتميز كامن في خلق أسطورته الشعرية. العالم السفلي الذي انتسب إليه السياب الشاعر هو عالم أسطوري مكتمل. لا هوية للزمن فيه، وللمكان هوية ماورائية، حتى لو استخدم أسماء أمكنة حقيقية مثل بويب وجيكور وأم البروم. وشخوصه وأشياؤه ماورائية هي الأخرى: ابنة الشلبي، وفيقة وشباكها، الجدة، المطر، المقبرة، الشناشيل…الخ عناصر عديدة مثل هذه تشكل التكوين الضبابي لأسطورة العالم السفلي. هذا العالم الذي يمد جذوراً مائية إلى عالم سومر وأكد.
* وماذا عن المجايلين للسياب، عراقيين وعربا؟
-سبق أن أشرت إلى شعراء ينتسبون إلى هذا المجرى من «شعر المتاهة»، أو شعر «المدرسة البغدادية» في مقابل «المدرسة الشامية»، وقد استخدمت هذين المصطلحين النقديين القديمين في كتابي «ثياب الامبراطور». شاعر مثل صلاح عبد الصبور يبدو بالغ التميز في هذا المجرى، كتب قصيدته من خبرته الداخلية التي أسست حداثتها الخاصة. لم تترسم حداثة جاهزة في كتب النقاد، أو في تطلعات الشعراء النظرية. لقد أنكر نقاد اليسار في الستينيات حزنَه الإنساني. كما أنكر عُبّاد مفهوم الحداثة ضعف البلاغة اللفظية في شعره. إنه من الشعراء القلة الذين يحلو لي أن أنفرد بشعره بين الحين والآخر، وأقرأه بهمس. البريكان علمٌ في هذا المجرى. بصيرته الشعرية تترصد غير المرئي وراء الظاهر. وهو الآخر خلّف مباريات التجريبيين وموضاتهم وراء ظهره، وانصرف بصافي وعيه الشعري إلى عالم الداخل.
* عليّ أن أنبه هنا إلى أن ملامح هذا التوجه الشعري، الذي أراه صحياً، متوفرٌ بمقدار في تجربة الشعراء الذين نسبتهم إلى «الراية»، أو المدرسة «الشامية. ولكن تجربتهم ظلت تسعى بشكل أساس تحت راية الفكرة الجاهزة المبيّتة.
* لا بد أن هذه الطروحات قد أثارت غضب الأوساط الثقافية، والشعراء والنقاد الذين يسيطرون على إدارة المهرجانات، والأقسام الثقافية في الصحف والمجلات، فتضطر الى دفع ثمنها بالإقصاء والتهميش،ألاتشعر أنك تدفع ثمن ذلك غاليا؟
-دعني أتوسع في تشخيص عوامل التهميش، بالنسبة لي شخصياً، وبالنسبة لشعراء آخرين ينتسبون للتوجه الشعري والنقدي ذاته. حين استولى حزب البعث على السلطة في العراق، وصعد صدام حسين سدة الحكم ابتكروا ظاهرة المهرجان. كان «مهرجان المربد» نموذجاً احتذته كل السلطات الثقافية العربية، بنية تجيير نشاط الشعراء والمثقفين لصالحها. إلا أن لسلطة البعث غاية أخرى من المهرجان لم ينتبه إليها أحد، هي تهميش الشعراء العراقيين جملة، لمعرفة السلطة اليقينية بأن هؤلاء الشعراء ليسوا من نصرائهم، إن لم يكونوا أعداءً. هذا التهميش والملاحقة الخانقة دفعت معظم شعرائنا إلى المنافي القريبة والبعيدة. وهذا ما كانت تريده السلطة. ولم تكتفِ بذلك بل صارت تفرض على مهرجانات العالم العربي التي نشطت بعد المربد، بالوعد والوعيد، أن تهمشّنا بدورها. وأعطتهم بدلاً منا أسماء شعراء بعثيين كحميد سعيد وسامي مهدي كممثلين وحيدين للشعر العراقي. واستجابت هذه المهرجانات ومثقفوها المنتفعون، وجعلت الفرض واجباً، ثم صار الواجب عُرفاً ساري المفعول حتى بعد انتهاء مسبباته. عامل التهميش هذا شمل أكثر الشعراء العراقيين، وأنا ضمنا، العامل الثاني شخصي يتعلق مباشرة بموقفي النقدي الذي أزعج كثيرين، وفي مقدمتهم معظم العاملين في حقل الإعلام الثقافي. هؤلاء أصبحوا شعراء على أثر أنشطتهم الصحفية. خاصة بعد أن يسّرت قصيدة النثر سبل الانتساب إلى بهو الشعر المهرجاني. فلمَ لا يصبح الصحفيُّ شاعراً؟ وهوية الشعر أسمى، كما تعرف، من هوية الصحافة في عالمنا العربي للأسف. بعض الأصدقاء من الشعراء المعروفين، الذين أسكرتهم التأثيرات الإيهامية الغربية، والفرنسية خاصة، الميالة إلى الشكلانية، والموضة، والقفزات، والإدهاش وتجاوز المألوف، لم يكتفوا باتخاذ موقف مختلف مني، بل صيروا اجتهادهم العقلي اجتهاداً عضليّاً، فصاروا يغمروني بظل كثيف من التهميش. غير أني شاعر ظلال على كل حال، وأنتسب للظل والعزلة الشعرية عن إرادة (أرجو أن لا تُفهم العزلة الشعرية على أنها عزلة حياة زهدية كما هي العادة!).
في السنوات المتأخرة صار الجميع يتبين الوهن الذي بدأ يدب في تلك الظواهر، التي بدت في مطلعها طليعية. والظاهرة، لعلمك ليست عربية، بل عالمية أيضاً. وهذا التغير عالمي بدوره.
* هل جاء ذلك على حساب فوزي كريم الشاعر الستيني الذي يحتل مكانة متميزة في الشعر العراقي؟
-لا أشعر بذلك، لأني أؤمن بأن العلاقة بين الشاعر والجمهور، والتي تُحسب حساب الكم قد انتهت مع خمود القصيدة العربية التقليدية، وانطلاق القصيدة الجديدة. ولذلك أعتبر ظاهرة المهرجان الشعري سلبية تماماً، ومحكومة بمصلحة إعلامية لا علاقة لها بالشعر. ولذلك لا أشعر بأني أصلح لقراءة مهرجانية. وحين أُدعى، وقليل ما أُدعى، عادة ما أفضل القراءة في ركن صغير ولحفنة صغيرة من المعنيين، أو أقترح حديثاً نقدياً . قد يتألق الشاعر المهرجاني، ولكن ذلك التألق يصنع منه نجماً، لا شاعراً. جمهور الشاعر الجيد قليل عادة.أستلم بين الحين والآخر رسائل من قراء مجهولين، تُشعرني بأن هناك، في ركن ما، قارئ يُحسن الحوار معي، أو أُحسن الحوار معه. وفي هذا كفايتي.
* كل شاعر له نظرة نقدية تجاه قصيدته. كيف ترى قصيدتك؟ وكيف ترى القصيدة؟
– القصيدة تُقبل علي من داخلي مشروطةً بحالة من الأسى. لا أعرف لمَ. ولكنه الأسى الذي يمنحني غبطةَ من يبتكر ويخلق. عادة ما تبدأ القصيدة، كلغة، في هيئة موقّعة، ومُنغّمة. هل لأن القصيدة كانت لحناً في البدء؟ الشاعر لديَّ «راهبُ اللامرئي» بتعبير الأمريكي والاس ستيفنز. مهمته تختلف عن مهمة الناثر في أنه يسعى، عبر بصيرة داخلية بالغة الحساسية، إلى استخدام اللغة كوسيلة وغاية في آن. اللغة في حالة كهذه من التداخل تُحدث ثقباً في سطح الوجود الظاهر إلى وجود خفيّ أكثر غنى. ولأن القصيدة معنية باستثارة التساؤل، وهو تساؤل لا يشبه تساؤل الفلاسفة، إلا أنها لا تطمّعك بإجابة. إنها غنية بتساؤلها، غنى يشبه غنى المتاهة.
* ولكن ألا تُثقل الفلسفة أجنحة الشاعر وتمنعه من التحليق؟
– أجنحة الفلسفة في التحليق لا تقل قدرة عن أجنحة الشاعر. وأنا أفضل قراءة الفلسفة التي تجاور الشعر، ولا تبتعد عنه. قراءة أبي حيان التوحيدي، المتصوفة، شوبنهاور، كيركارد، نيتشة ملهمة كقراءة ريلكة وأبي العلاء. نحن نفتقد البعد الميتافيزيقي في شعرنا العربي. البعد التأملي. شعراؤنا الذين استوحوا هذا البعد قلة ولكن مؤثرة (عبد الصبور، البريكان، يوسف الخال، خليل حاوي، السياب…). أما الأجيال المتتالية فقد أهلكتها ظروف الرداءة السياسية والثقافية والعمل الصحفي. للشاعر أن يُسهم في الصحافة ككاتب لا غير. الانغمار في العمل الصحفي يميت الموهبة الشعرية ويُصحّر ثقافة الشاعر.
* هل هذه الاهتمامات المتعددة في النقد، الرسم والموسيقى جعلتك مقلا في الكتابة الشعرية، أم أنت حريص أن تظل منطقة الشعر محصنة؟
– تعدد مصادر المعرفة ملهمة شعرياً، وأنا لست مُقلاً في كتابة الشعر أو نشره أبداً. مجموعاتي الشعرية ومُختاراتها كثيرة، ولكن النقاد والقراء يلتفتون إلى المهرجان ووسائل الإعلام ماذا تقدم، لا إلى دور النشر، كما قلت سابقاً. ولكني لا أنشر قصائد منفردة في مجلة أو جريدة. ما أكتبه في الصحافة الثقافية يقتصر على الأعمدة النقدية والإغوائية، إن صح التعبير، في حقل الشعر والموسيقى والرسم. لا أطمئن على قصيدتي إلا حين تستقر في كتاب. الكتاب الشعري لا يُقرأ هذه الأيام. هذه الحقيقة قد تؤثر على الناشرين، وشكواهم من هذا مشروعة، ولكنها لا تؤثر علي. أعرف مُسبقاً وبعمق أن لي قراءً مجهولين في زوايا هادئة متفرقة، وخالصة للقراءة الجادة. أحاورهم، وننتفع من بعض. وأنا لا أطمع بجمهور مهرجاني. أحضر المهرجان، إذا دُعيت، لألتقي أصدقاء، وأقرأ إذا ما توفر لي ركن صغير، وأتحدث. أحب أن أكون فاعلاً في الحديث والمحاورة في حقل الشعر ونقده. النقد لدينا معترك ذهني ونظري (ونظري مُستلب الهوية، لأنه محاكاة).
حاوره :عبدالرزاق الربيعي
شاعر وكاتب من العراق يقيم في عُمان