في عام1989 وصلتُ طالبا في روسيا التي كانت شجرة عملاقة جوفاء أصابها سوس، وكان ذلك قبل سنين من سقوطها إلى غيبوبة التاريخ. وكان في الطائرة من دلهي الى موسكو زهاء مائة طالب من الهند متجهين الى الجمهوريات المختلفة في جمهورية الاتحاد السوفييتي لدراسة الهندسة والطب. وفي تلك الحقبة آلاف من الطلبة من الدول الآسيوية كانوا يدرسون هناك على منح دراسية من حكومة الاتحاد السوفييتي.
كانت خلفية اغلبية هؤلاء الطلبة العائلية تتعلق بارتباطها بالحركات اليسارية وخاصة الأحزاب الشيوعية في الدول المعنية. والطلبة الهنود أكثرهم كانوا يلتحقون بالجامعات السوفييتية بناء على شفاعة من الحزب الشيوعي الهندي. وحين وصلنا موسكو عن طريق الجمعية الثقافية – السوفياتية المعروفة باسمها المختصر “إسكس”(ISCUS – Indo Soviet cultural Society)
تمت الترتيبات اللازمة لتوفير سكننا في فندق يقع في قرية الأولمبية في موسكو . وقرار توزيعنا في مختلف الجمهوريات يُتخذ فيما بعد. وفي اليوم التالي تعارفت على “أفيناش” الطالب من ولاية بيهار. وهو يأتي من أسرة تنتمي للحزب الشيوعي الهندي. وخلال مشي مسائي مع “أفيناش” أدهشني أنا الذي تنحصر معلوماته عن الشيوعية في هتافات مثل ” كل شيء يتغير في الحياة إلا قانون التغيير نفسه” و”ليس إدراك الناس هو الذي يحدد معيشتهم بل على العكس من ذلك معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد إدراكهم” و”إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة وقلب عالم لا قلب له”. وأما “أفيناش” فله باع طويل في النظرية الشيوعية وهو مولع في اعمال ماركس جميعا حتى أنه قد قرأ ” المخطوطات الاقتصادية والفلسفية”(Economic and Philosophical Manuscripts) من بواكير أعمال ماركس. قال لي أفيناش إن هذا العمل كتبه ماركس عام 1844 وكان عمره آن ذاك 26 سنة فقط. ذاك الوقت كان الروس يترددون على الفندق الذي نسكن فيه لشراء الدولار بالأسعار الجارية في السوق السوداء. لما التقى “أفيناش” بالروس بدأ يناقشهم عن التطورات الجديدة التي تحدث في النظرية الاشتراكية وعن برامج “غلاسنوست” و”بيريسترويكا” التي يقوم بتطبيقها غورباشيف في الاتحاد السوفييتي. وكانت ملامح الاستغراب واضحة على وجوههم حين سمعوا كلام “أفيناش” فقالوا له: نحن هنا لشراء الدولارات، أما الماركسية أو الاشتراكية فليس موضوعنا وليس لدينا أي اهتمام بمثل هذه المواضيع. فظل “أفيناش” صامتا ربما لما تفهّم الظروف التي تمر بها الاشتراكية السوفييتية. وفي أواخر أيام الاتحاد السوفييتي كان الحديث عن ماركس ولينين يعتبر شيئا ما من منافاة الزمن.
وقبل أن نبدأ دراسة الطب كان علينا أن ندرس اللغة الروسية والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا بالإضافة إلى تاريخ الاتحاد السوفييتي ونزر من الماركسية – اللينينية. واستاذنا في تاريخ السوفييت – كان اسمه ” سفاريان” – متوسط العمر وجميل المنظر، يحكي خلال الدرس كثيرا من حكايات لطيفة. وبما أننا في عهد “الغلاسنوست” كان الفضاء مفتوحا بحيث لكل واحد منا حرية كاملة لانتقاد الآخر بدون خوف. ولهذا السبب ذاته يحكي لنا “سفاريان” لطائف ينتقد فيها النظام السوفييتي بشدة. ومن تلك اللطائف حكاية عن “الغلاغ” جزر يُعذّب (فيها المعارضون).
وصل إلى “الغلاغ” الواقع بـ “كوليما” في سيبيريا ثلاثة سجناء. فسأل الأول الثاني عن الجريمة التي ارتكبها. فأجابه الثاني: انتقدت الرفيق “كارل راديك”. فقال الأول: أنا هنا لتأييدي راديك”. إذًا كلاهما سأل الثالث: لما ذا أنت هنا؟” فرد عليهما” أنا كارل راديك”. (كان كارل رديك شارك في الثورة البولشيفية وتقلد المراتب العليا في السلطة المركزية السوفييتية. ولكن في عام 1930 ادخل اسمه في قائمة المطلوب اعدامهم من قبل ستالين. ومن ثم قُتل في عام 1939 في أحد معسكرات العمل الشاق الاضطراري). وحكى “سفاريان” حكاية أخرى تستهزئ من عهد حكومة غورباتشيف. فور أن تولى غورباتشيف مقاليد الحكم ليس فقط ارتفع سعر “فودكا” بل حدثت ندرة شديدة في توفره. وكانت النتيجة طوابير طويلة أمام كل الحانات. رجل نفد صبره في الطابور وتجمد من البرد القارص صاح: انا ذاهب لأقتل غورباتشيف”. وبعد أن صرح بهذا توجه الى موسكو مباشرا. ولكنه عاد بنفس السرعة التي ذهب بها. فسأله الواقفون في الطابور: ما ذا حدث؟” فأجاب الرجل: الطابور هناك أطول من هنا”. ولما تعود “سفريان” استهزاء النظام سأله مرة طالب من فيتنام: حضرتك ماركسي أم عدو الماركسية؟ هل تحليل كارل ماركس في محله حتى الآن؟” فرد عليه “سفاريان”: تشخيص ماركس عن مرض الرأسمالية صحيح ولكن وصفته غير صحيحة الى حد كبير. إن كان ماركس يحظى بزيارة الاتحاد السوفييتي في منتصف ما بعد 1930 حين يجري “استئصال الأعداء” أو لو كانت بمقدرته تلك الزيارة (معلوم أن ماركس قد توفي قبل ذلك عام 1883) لكان يرفض الاشتراكية التي تُطبق في الاتحاد السوفييتي باسمه كما سينتقد عقوبة الإعدام بشدة، لأنه كان من المعارضين بشدة لعقوبة الإعدام، وقد كتب في “نيو يورك تريبيونال” في منتصف القرن التاسع عشر مقالة انتقد فيها بشديد اللهجة عقوبة الإعدام. ولكن ما ذا حدث هنا؟” اختتم “سفاريان” كلماته بأنه ديموقراطي اجتماعي.”
حتى 1991 كانت توجد في أنحاء روسيا اصنام ماركس ولينين وغيرهما من قادة الماركسية. وأصنام لينين حتى الآن موجودة في موسكو ومدن أخرى في روسيا، وقد دُمِّر كثير من أصنام ماركس عام 1991، ولم يبقى منها في موسكو الآن إلا صنم واحد الذي يقع في مربع “تيياترال نايا”، وقد نصب مؤخرا صنم لماركس في مسقط رأسه “ترايتر” بألمانيا بمناسبة احتفال مرور مائتي سنة من مولد ماركس. احتج بعض الألمان ضد تنصيب ذلك الصنم النحاسي الذي أهدته الصين لألمانيا. إلاّ أن السلطة الألمانية لم تلتفت الى تلك الاحتجاجات، لأن حكام مدينة “ترايتر” لا يخفى عليهم حجم الإيرادات السنوية السياحية من ضريح ماركس الواقع بمقبرة “هاي جيت” بلندن. فأول صنم نصب لماركس كان أمام قصر “سموليني” ببيترس جارد”. وكان ذلك عام 1918. وصنم آخر تم تنصيبه في “سيمبرسك” مسقط رأس لينين. وصنم ثالث نُصب عام 1961 بقرب المربع الأحمر. (ليست للأحمر أي علاقة بالشيوعية. والأحمر هنا أصلا ترجمة الكلمة الروسية “كراسنبا” التي تستعمل بمعنى جميل كما تستعمل بمعنى أحمر. في الحقيقة استُعملت هذه الكلمة هنا بمعنى جميل ولو أنها تُستعمل الآن عموما بمعنى أحمر). كانت عملية صناعته قد انتهت قبل سنين من 1961 كما تم منح جائزة لينين لمعماريه. ولكن عملية تنصيبه أخذت مدة طويلة. وكان سكان موسكو يسمونه “ُثلاجة ملتحية”. وفي الآونة الأخيرة ورد تقرير في جريدة “موسكو تايمس” حول دراسة أجراها مركز “نيفادا” الوكالة المستقلة في مجال استطلاع الرأي العام. وبموجب هذا التقرير إن الروس الذين اختاروا ماركس أحد المفكرين العظماء في العالم كان عددهم 39 %، ولكن في عام 1991 انخفض هذا العدد إلى 8 % وفي عام 2008 إلى 3 % فقط. أما العجب العجاب فهو أن 25 في المائة من الجيل الناشئ لا يعرفون من هو ماركس (موسكو تايمس 5 مايو 2018). إذا بحثنا في “كوتامكت” (النسخة الروسية للكلمة الإنجليزية We Contact) يمكننا أن نجد مئات من رجال يحملون اسم ماركس. ولكن أحدا منهم لا ينتمي إلى الجيل الجديد. لمَا كان الاتحاد السوفييتي في حيز الوجود كان هناك 1390 شخصا يحملون اسم ماركس، ربما قد انخفض هذا العدد الآن الى حد كبير. قبل سقوط الاتحاد السوفييتي كانت هناك مدينة بشاطئ فولجا تحمل اسم ماركس. وبمناسبة احتفالات مرور مائتي سنة من مولد ماركس انعقدت مؤتمرات وندوات هنا وهناك في روسيا. عقد إحداها جماعة من الطلاب بجامعة “كاسان الفيدرالية. ولكن اضطر المنظمون لجلب “موسيقارة راب” لملء مقاعد قاعة المؤتمر. ويوجد في روسيا من يعتقد أنه طالما تدوم الرأسمالية وما تتأبط من اللامساواة سيُبَرّر وجود ماركس. والرأسمالية المحسوبية (Crony Capitalism) الراسخة الجذور في روسيا بعد 1991 قد أدت البلاد الى غاية اللامساواة، ولهذا السبب ذاته إن أهمية ماركس في روسيا أزيد مما تكون في أماكن أخرى. غير أن أصحاب هذه الرؤية شرذمة ليس لهم حضور قوي داخل المجتمع الروسي. ويلاحظ هنا تناقض غريب، هو أن الميل الى ستالين يتزايد في روسيا يوما بعد يوم بينما يُرفض ماركس بتاتا. وفي رأي “جود كوف” رئيس مركز نيفادا أن الحنين هذا نحو ستالين ليس مبنيا على أنه كان حاكما ماركسيا مخلصا بل ناتج من الذهنية القومية الروسية الجنونية. الحزب الديموقراطي لـ فلاديمير جيرينوفسكي وحزب روسيا المتحدة لـ فلاديمير بوتين والحزب الشيوعي لـ جينادي شيوغا نوف إنما يعتقد جميعها على السواء أن ستالين هو الذي قاد روسيا الى الفتح في الحرب العالمية الثانية. بعضهم يقول هذا علنا بينما يقول البعض خفية. وجدير بالذكر أن ماركس بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لا توجد له مكانة مذكورة في مناهج الدراسات في الجامعات الروسية، وان وُجد فهو أيضا سطحي فقط. وبعد تسعينات القرن الماضي هناك في روسيا من رجع الى ماركس وأخذ نقده الرأسمالية جديا نتيجة مما تطور من اللامساواة وفقدان الأمن بشكل مرعب في المجتمع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ففجأة تلاشت الترتيبات اللازمة للأمن الاجتماعي وسيطر المافيا على جميع أنحاء البلاد.
هل تعود النظرية الماركسية الى روسيا مرة ثانية؟ قد تعود ولكن إذا انحطت القومية من أوج غليانها وتحطم اقتصاد البلاد الذي يواجه الركود حاليا. وعلى كل حال إن أغلبية الروس لا يرغبون في عودة الاشتراكية إلى حياتهم. إنه من الأمر المؤكد أن البرامج التي انعقدت في كيرالا، أصغر الولايات الهندية التي يحكمها الحزب الشيوعي، بمناسبة مرور مائتي عام من ميلاد ماركس كانت أكثر مما كانت في قارة روسيا الواسعة.
أيه. أم. شيناز
ترجمة: فيلابوراتو عبد الكبير *