[1] تعد "مذكرات أميرة عربية" للسيدة سالمة بنت سعيد (1844-1924) من أقدم النصوص النسائية العربية المعاصرة، التي تحكي سيرة امرأة عربية، وترسم الآفاق التي تشكلت شخصيتها في رحابها.
لقد نشرت هذه المذكرات بالألمانية عام 1886 تحت عنوان: Memorien einer arabischen Prinzessin (1) وترجمت الى اللغة الانجليزية عام 1888 (2) والى الفرنسية عام 1955، وصدرت عام 1985 عن وزارة الثقافة والتراث القومي في سلطنة عمان (3). وقد شكلت ترجمة هذه السيرة المبكرة اثراء للسير النسائية العربية المعاصرة، لأن هذه المذكرات تقوم على اشكالية معرفية وحياتية، وتصدر عن حياة غنية بالتجربة، مترعة بالتحولات.
لقد بدأت السيدة سالمة بلملمة ذكرياتها والشروع في الكتابة ابتداء من عام 1875، أي بعد وفاة زوجها بخمس سنوات، هذه الوفاة التي شكلت تحولا جذريا في حياتها، وأعطت لحياتها في الغرب أبعادا مختلفة. ويبدو أن الشروع في الكتابة، كان متوازيا مع مشروع آخر، تمثل في محاولة العودة الى الوطن، فجاءت الكتابة مسكونة بهذا النزوع، متوافقة مع حركة الوجدان، لأن الهاجس الكبير في المذكرات يتمثل في العودة الروحية الى الوطن من خلال استحضار تجارب الطفولة ورسم عالم الجنوب المغاير تماما لعالم الشمال.
غير أن الشروع في كتابة المذكرات او الاتجاه نحو ذلك، في سن الثلاثين، أمر لافت للنظر، لأن هذه السن، تعد في الظروف الطبيعية، من بدايات العمر التي تتشكل فيها التجارب، وتأخذ بالتبلور، ولكن هذا الشروع مسوغ بأمرين متصلين بطبيعة السيرة الذاتية.
أولهما: أن السيرة الذاتية تنتمي الى ما يعرف بفن الازمة، فالسيرة، تولد في الغالب، بعد أزمة يعيشها صاحبها، لتكون بمثابة شرارة التفاعل التي تعطي للكتابة هويتها، وملامحها الخاصة.
ويمكن أن نشير في هذا الصدد الى "المنقذ من الضلال" للغزالي و "الأيام" لطه حسين فالسيرتان، رغم الفوارق بينهما من حيث تقليب الفكري على الحياتي، ولدتا بعد أزمة فكرية عند الغزالي وفكرية – اجتماعية عند طه حسين. وكانت كتابة السيرة والكشف عن الأنا، لونا من ألوان السعي الى المصالحة بين الذات والواقع، ومعبرا لاجتياز الأزمة وتجاوزها أما الثاني فيتمثل في كون السيرة تتشكل في ضوء تعاقد يقدمه صاحبها للقارئ، يتعهد فيه بأن يكشف بوعي وقصد عن أبرز التجارب التي شكلت ذاته ورسمت ملامحها، ويبدو أن التعاقد الذي تقوم عليه هذه المذكرات، يتمثل في الكشف، للقارئ الأوروبي، عن معالم شخصية صاحبتها، والخلفية الحضارية التي شكلتها لأن ما تنطوي عليه المذكرات من تفصيلات واشارات تبدو وصفية في ظاهرها، تجئ في اطار ذلك الكشف الذي يسعى لمواجهة الآخر. ولو قورنت هذه المذكرات، أعني ما فيها من تفصيلات بالرسائل التي كان يبعث بها John Witt (4) الى هامبورج، يوم كان وكيلا لاحدى الشركات الألمانية في زنجبار، لتبين الفرق الجلي بين المنظورين، فاذا كان Witt يتعمد في رسائله، خلق عالم من الاثارة يشاكل ما في ذهن الأوروبي، من صورة نمطية للشرق مستمدة من "ألف ليلة وليلة" فان المذكرات تتخلص من هذه الغرائبية الفجة، وتقدم عالما مجهولا أو شبه مجهول من منظور مغاير، بمعنى أنه يتم تقديم عالم الجنوب من خلال جدل صامت أو معلن مع الآخر، يهدف الى تصحيح تصوراته عن هذا العالم، هذه التصورات النمطية التي أسهمت عوامل عدة في بلورتها.
-2-
ولكن هذه المذكرات تضع القارئ أمام إشكالات كثيرة، فنص المذكرات الأصلي مكتوب باللغة الألمانية، وصاحبته ليست كذلك، ومحتوى النص يرتد الى سنوات التكوين الأولى لصاحبته ليصنع عالما مغايرا للعالم الذي يتشكل فيه، ويصنع رؤية مناقضة له.
على الصعيد الزمني أقامت السيدة سالمة في ألمانيا، عند صدور المذكرات حقبة من الوقت، تساوي الحقبة التي أقامتها في زنجبار، على وجه التقريب، ولكن حضور الغرب الأوروبي أو عالم الشمال كما تسميه المذكرات، لا يكاد يذكر مقارنة بحضور عالم الجنوب. فقد ظلت المذكرات، في خضم المواجهة مع الآخر، منشغلة بالوطن، تبعث فيه الحياة، وتستحضر تفصيلاته، وتعمد الى اسدال الستار على تفصيلات الحياة في الشمال، فكأن العلاقة بين السيدة سالمة (الحاضرة في تفصيلات الكتاب، المخيبة عن العنوان) وبين اميلي روتي Emily Reute(التي يتصدر اسمها عنوان الكتاب، وتغيب عن التفصيلات بل تبدو كائنا غريبا)- كأن العلاقة بينهما علاقة محو متبادلة، حيث تقوم سالمة بمحو اميلي وهي تستحضر تكوينها الثقافي والحضاري والمعرفي، مثلما تقوم اميلي بالغاء سالمة على مستوى الواقع، فتبرز الشخصية المعاصرة في رداء مختلف، وفي سياق مغاير.
غير أن جدل العلاقة بين الشخصيتين في النص، يغاير هذا الجدل في الواقع، ولكن التفاعل بينهما أنتج هذه المذكرات ذات النزوع الثقافي- الاثنولوجي.
ولعله ليس من قبيل المصادفة أن يكون هاجس الموت سببا رئيسيا من أسباب كتابة هذه المذكرات، فقد كانت السيدة سالمة تخشى الموت المبكر، واذا كان هذا الهاجس، قد تولد اثر وفاة زوجها في حادث سير، فان نزوع المذكرات نحو الاحتفال بالحياة كان عميقا، لهذا ترتد الى عالم الطفولة والأسرة، وتستحضر الأمكنة الغائبة، لتصنع عالما بديلا أو عالما موازيا، يشكل تعويذة، تقي من الموت أو تبعد هاجسه عن خيالها لتكون قادرة على المواجهة، وان ظل ذلك طه بلورة لصورة الذات في مواجهة الآخر.
-3-
مسار الذات:
وجدت السيدة سالمة نفسها بعد اقامة طويلة في الغرب، مضطرة لتفحص ذاتها ومعرفة المكونات التي أسهمت في صياغتها، واذا كان هذا التفحص يتم في ظروف معقدة، كانت تجبرها على القطيعة الشعورية مع عالمها أحيانا فان الشعور النوستالوجي لا يخفى في هذا السياق، وان تم السعي في كثير من الأحيان الى محاولة تحييده، من خلال نبرة موضوعية وصفية تحتفي بالأشياء وتتجنب المشاعر.
تحتفي "مذكرات أميرة عربية" بالطفولة، وهذا الاحتفاء يتشاكل مع حفاوة الكثير من النصوص السيرية العربية، لأن لهذه الحقبة دورا مهما في تشكيل الشخصية ورسم آفاقها المستقبلية، ولأن الحديث عنها لا يتعارض مع الخطاب الاجتماعي القائم على ضرورة الاستتار.
ان المتتبع لهذا الحديث عن الطفولة يدل على أن تلك السيدة كانت تنطوي على شعور بالتميز، مصحوب بقدر كبير من الحزن والشجن، تعيد هذه المذكرات الكثير من خيوط التميز والأسى الى شخصية الأم. فالسيدة سالمة تتحدث عن أمها بنبرة تمزج بين الاعتزاز والألم. فقد كانت مثل والدها السلطان، تستشعر كبرياء أمها، وتحس بتميزها على مستوى الحلقة، ولكنها كانت ترى ان هذه الكبرياء جريحة لانها تنطوي على ذكريات مؤلمة، عاشتها الأم في طفو لتها: "أما أمي فقد كانت شركسية بالولادة، عاشت طفولتها مع أبويها، ولكن حبل الأمن ما لبث ان اختل ونشبت الحرب فجأة وامتلأ المكان بأنواع المغيرين، فالتجأت عائلتها الصغيرة الى مكان تحت الأرض، لكن الغزاة المغيرين اكتشفوا المخبأ واقتحموه وقتلوا الوالدين وتناهبوا الأطفال الصغار" (5)
لقد صارت السيدة سالمة تتماهى تدريجيا مع شخصية الأم، صحيح أن الازمة في حياتها لا تأخذ ذلك الملمح على الاطلاق، ولكنها تذكريها، وان كانت مواجهتها تتم في اطار مختلف تماما. غير أن وفاة الأم المبكرة لعبت دورا في التشكيل النفسي للسيدة سالمة، فقد عزز من تفكيرها المستقل، وخلق منها سيدة رفيعة تواجه مشكلاتها وحيدة، تبوح بمكنونات صدرها للآخرين.
واذا كانت الأبعاد الأخرى للطفولة عادية، فان ثمة بعدين مهمين يؤشران على طبيعة شخصية تلك السيدة وقدرتها على المواجهة، يتمثل البعد الأول في نزعة المواجهة في شخصيتها، فقد كانت منذ طفولتها تحب أدوات الحرب، وتسعي لاتقان فنون القتال، وكانت تستشعر الراحة وهي تشاهد صراع الديكة، وقد حذقت استخدام الأسلحة المختلفة كالبندقية والمسدس والمبارزة بالرمح والسيف والخنجر اضافة الى ركوب الخيل (6).
أما البعد الثاني فيتجلى في حرص السيدة سالمة على تعلم القراءة والكتابة، ومحاولة التعرف الى العالم من حولها، وتشكيل وعي تجاه أحداث الواقع، وهذان البعدان يجمعان بين البعدين العقلي والجسدي، ويحيلان الى دلالة حضارية بليغة، تقول ان صاحبة هذه المذكرات ذات قادرة وفاعلة، دون أن يلغي هذا البعد القتالي، أنوثة المرأة وحضورها المتميز، وان ظل هذا الاحساس بالتميز الفردي في عالم المذكرات، غير منفصل عن احساسها بتميز الذات الحضارية التي تنتمي اليها.
ان عالم الأنا في هذه المذكرات يبرز على نحو جلي من خلال البيوت التي شهدتها السيدة سالمة في طفولتها، فقد توقفت المذكرات عند بيت المتوني، وبيت الواتورو وبيت الساحل والبيت الثاني (7)، وكانت تبين خصائص كل بيت من هذه البيوت وسماته المعمارية، وميزاته الحضارية. فبيت المتوني المكون من عدد من البنايات والأجنحة، مما أفقده حسن الاتساق يرتبط في ذاكرتها بحقبة سعيدة من أيام طفولتها أما بيت الواتورو فقد كان مقارنة بالبيت الأول ضيقا، مملا، ولكن جماله يكمن في حديقته التي كانت مرتع أحلام السيدة.
وبالمقابل فان المسكوت عنه في هذا الحديث، يتمثل على صعيد المواجهة مع الآخر، في تلك البيوت الاوروبية التي عاشت فيها السيدة سالمة، دون أن تذكرها على الاطلاق، أو تتحدث عن جمالياتها وأسرارها وسماتها، ومن اللافت للنظر أن هذه المذكرات تحتفي بالامكنة المغلقة، وتحيلها الى أمكنة أليفة، فاستحضار عالم الأنا لا يتم من خلال فضاءات مفتوحة، تتحرك فيها الأنا بحرية، ولكنه يتجسد من خلال الانتقال من بيت الى آخر، واذا كانت حركة الطفلة بين تلك البيوت تخضع لضرورات كثيرة تمنع الاختيار الحر، فقد ظلت تلك الطفلة سعيدة لأن هذا الانتقال ظل يعني حياة تستشعر فيها السيدة سالمة الأمان والحماية.
تنبثق من عالم هذه البيوت مسألتان ترتبطان باحساس الأنا بالتميز.. أما الأولى فهي ذات صلة بصناعة الجسد والاهتمام به. وقد توقفت المذكرات عند الاهتمام الكبير بجسد الطفل، وبينت الفروقات بين الفتى والفتاة في هذا المجال، وتحدثت عن الطقوس والأبعاد التي تؤدي الى احساس الأنوثة بذاتها، وتلك التي تصنع الرجولة، وكان ذلك يتم في اطار حضاري يبين اختلاف عالم الجنوب عن الشمال، على نحو جذري.
أما المسألة الثانية فذات بعد معرفي- ايديولوجي. فقد قدمت المذكرات ومي تناقش هذه المسألة مجموعة من الآراء والطروحات الفكرية تناقش، من خلال ذكريات وتجارب ذاتية، الصورة النمطية للمرأة العربية في عالم الشمال، وحرصت من خلال عرض لمجموعة من المسائل الفقهية كالزواج والطلاق والتعدد والكفاءة على تبيان ما لحق بالاسلام من ظلم وخطأ في التصور الغربي.
واذا كانت الحركة الوجدانية نحو عالم الجنوب، تجيء مثقلة بالحنين والألم، فإن الحركة الجسدية نحوه، كانت تشكل الحلم الذي يعيد للأنا وحدتها من جديد، فعند رؤيتها الإسكندرية في طريق عودتها الى بلادها، تتلاشى تلك النبرة العقلانية، ويبدأ شجن عاطفي تلقائي قريب من البوح:
"وعند الدخول الى هذه المدينة بنخيلها ومنائرها، غمرتني مشاعر لذيذة من الحنين الى الوطن، وهى مشاعر يمكن للمرء أن يحسها، دون أن يستطيع التعبير عنها… فمنذ تسعة عشر عاما لم أر الجنوب في الواقع، وقد قضيت هذه المدة شتاء بعد شتاء أمام الموقد الدافئ في ألمانيا، ومع أنني كنت أقنن في الشمال، وعلى الكثير من الواجبات، فقد كانت أفكا در دائما جد بعيدة عن المكان الذي أعيش فيه" (8)
ومن اللافت للنظر أن السيدة سالمة تتقبل قدرها راضية ومؤمنة، وتختم المذكرات بأشعار حزينة، تعبر عن احساس مرهف، يرى أن حلم العودة الى الوطن كالحلم بالعودة الى الفردوس.
-4-
مسار الآخر:
تثير كتابة السيدة سالمة بنت سعيد لمذكراتها بالألمانية بعض التساؤلات من زوايا متعددة، بعضها يتعلق بلغة النص وبعضها الآخر يتعلق بنوعية المتلقي، والقارئ الضمني الذي كان يوجه له هذا الخطاب الحضاري المختلف.
لقد توقف الباحث الهولندي في كتابه القيم:
E. Van Donzel: An Arabian Princess Between tow worlds. Memoris, Letters Home, sequds to the Memoris.. الصادر عام 1993 عند هذه المسألة، وتحدث عن تلقي (لنص المبكر في الصحف الألمانية، وحاول أن يبين أن ثمة Goastwriter كان يسوغ هذا الخطاب، على نحو يتشاكل مع أسلوب الخطاب الاستشراقي السائد في نهايات القرن التاسع عشر. كما ناقش معجب الزهراني (9) هذه المسألة من زاوية المنفى ذاته، وعن حالة النفي الداخلية التي يحياها الكاتب، فالنص من هذه الزاوية يشبه ابداعات العرب وغيرهم من الجنسيات عبر لغات أوروبية، فهذه الابداعات عربية قلبا، فرانكفونية أو انجلوسكسونية قالبا.
أما الباحثة الألمانية Anergret Nippa، فقد أصدرت هذه المذكرات بطبعة جديدة عام 1989، وفي تذييلها لهذا الكتاب وضحت المنظور الذي تعيد فيه قراءته وهو منظور اثنولوجي من جهة، تاريخي من جهة أخرى، يعيد قراءة العلاقة بين ألمانيا وبين زنجبار، ويسعى الى اعادة قراءة المحاولات الاستعمارية الألمانية في هذه المنطقة، وتحليل بواعثها، ونتائجها.(10)
ولعل هذا الأمر يطرح أسئلة تتعلق بالعلاقة بين هذه النسخ الألمانية والعربية والانجليزية. واذا كان هذا الأمر يحتاج الى بحث مستقل، فلعل من الضروري أن نلاحظ ما يلي:
1- تتألف النسخة الألمانية من 29 فصلا، في حين تتألف النسخة الانجليزية من 71 فصلا أما الترجمة العربية فتقع في 25 فصلا.
2- تكشف المقارنة بين النسختين الألمانية والانجليزية أن الفصلين الزائدين في الطبعة الانجليزية وهما الفصلان 21 و22 بعنوان: The little festival, The Great festival متضمنان في النسخة الألمانية في الفصل (20) تحت عنوانين فرعيين متشابهين.
3- أما على صعيد الترجمة العربية فان الاختلافات في ترتيب الفصول تبدأ من الفصل السابع وقد قام القيسي بعملية دمج الفصول التالية:
أ- دمج الفصل السابع Our meals في الفصل السادس الذي يحمل في الطبعة العربية عنوان: "الحياة اليومية في بيتنا".
ب- دمج الفصلين 18 و19 في الفصل 17 وهو بعنوان: "زيارات النساء ومجالس الرجال".
جـ- دمج الفصلين 20 و21 في الفصل 18 وهو بعنوان "الصيام والاعياد في الاسلام".
د- دمج الفصل 27 في النسخة الانجليزية و25 في النسخة الألمانية في الفصل الثامن والعشرين "حصاد الشر".
واذا عدنا الى مواجهة الآخر في هذه المذكرات، فمن الواضح أن هذه المواجهة لا تكشف عن انبهار بالغرب، لأن المذكرات تشير الى المظاهر السلبية في حياة الغربيين وتنتقدها. ولكن أمم ما في هذه المواجهة يتمثل في محاولة المذكرات السخرية من الصورة النمطية للجنوب التي تشكلت في الذهن الغربي، وصارت غير قابلة للتغير، فهي تقول: "فقد يذهب سائح بضعة أسابيع الى القسطنطينية او الى سوريا او الى مصر او تونس أو المغرب فيكتب على إثر ذلك كتابا ضخما عن الحياة والأعراف والتقاليد في الشرق، مع انه لم يكن قادرا على أن يرى أكثر من المظاهر الخارجية، ولم يكن بمقدوره أن يعرف طبيعة الحياة العائلية هناك".(11)
لهذا ترفض سالمة هذه الصورة النمطية، مثلما ترفض الربط الآلي بين واقع الجنوب ومعتقداته، فهي ترى أن التقدم أو التخلف يتشكل في ضوء معطيات اجتماعية، لهذا تبرز المذكرات صورة ايجابية لنساء من عالم الجنوب، وتتحدث عما تتحلى به هذه الشخصيات النسائية من استقلالية وقدرة على اتخاذ القرار.
لذا تكثر المذكرات من الربط والمقارنة بين العالمين، فتتحدث عن البعد الاستعماري في حضارة الغرب، وما ينطوي عليه هذا البعد من أبعاد غير أخلاقية، وتناقش أو على الأصح تدافع عن ايمان أهل الجنوب بالقدر وتصحح ما ينطوي عليه ذلك من تصور خاطئ عند الآخر، وتعود الى المقارنة بين تربية الأطفال في الشمال والجنوب، فتنقد قسوة قلوب المربيات الألمانيات، لتتحدث عن ضروب من التجارب السلبية التي عاشتها في الغرب، حيث تعرضت لأسوأ ضروب الابتزاز والاستغلال وأساليب الغش والاحتيال. واذا كانت المذكرات لا تستطيع أن تبلور خطابا نقديا متكاملا فان القارئ يستطيع أن يتلمس في ضوء جدل العلاقة بين الذات والآخر أمرين:
الأول: ايمان المذكرات بأن لكل أمة خصوصيتها وحقها في تطوير نظامها الحضاري الذي يتلاءم مع تكوينها وقد تجلى ذلك في محا ولتها تلمس الهيمنة الاستعمارية التي يصدر عنها الغرب ونزوعه نحو المركزية والغاء الآخر:
"لقد تملك الغرور البلاد الشمالية، فصارت تنظر باستعلاء وازدراء لغيرها من البلاد، وهى خصلة غير محمودة".(12)
والثاني: هروبها الى الوراء، كلما اشتدت عليها وطأة المواجهة، لذا كان من الطبيعي ان تكون البداية والنهاية متعلقتين بالوطن.. فهي تتحدث عن بيت المتوني أولا وتتحدث عن رؤية الوطن أخيرا، عبر نبرة وجدانية مثقلة بالحب والحنين لهذا ظلت الأنا تسعي لمفارقة الآخر، ساعية الى الانفصال عنه، لتستبدل بحضورها في عالمه، حضورا في عالم بديل، يناقض العالم الذي تعيش فيه، وهو أمر يشكل النقطة المركزية في المذكرات، التي تحتشد فيها الثنائيات المتعارضة، فالأنا تتعارض مع الآخر، والخيال يتعارض مع الواقع والحلم يتعارض مع الحقيقة والشمال يتعارض مع الجنوب لهذا كان من الطبيعي أن تغيب في هذه المذكرات التجارب الجديدة في عالم الشمال، وأن يغيب كذلك ما يرتبط بهذه التجارب من تحولات. صحيح أن هذا الغياب قلل من التنامي في هذه المذكرات، هذا التنامي الذي يصنع في النهاية شخصية حية، متحولة، قادرة على الحياة، قابلة للتحليل الفني، ولكن هذا الغياب كان مرتبطا بلون من التغييب المتعمد للآخر، حيث يرتبط الحضور بالغياب، في المقام الأول فالجنوب ظل الغائب الحاضر، في حين بقي الشمال الحاضر المغيب.
الهوامش:
1- صدرت الطبعة الألمانية الأولى في برلين عن دار نشر تسمى H. Rosenberg، وأعادت الباحثة الألمانية A N.Nipp اصدارها عام 1989 وتعتمد هذه الدراسة، على هذه الطبعة.
2- لقد ظهرت ترجمتان للمذكرات واحدة في لندن وأخرى في نيويورك وأعيدت ترجمة المذكرات عام 1907 في نيويورك وقد أعاد الباحث الهولندي E. Van Donzel نشر المذكرات مع دراسة مستفيضة له عن صاحبتها بعنوان:
An Arabian princess Between two worlds, Memoris, letters Home, sequels to the Memoris, Syrian cus toms and usaqes.
وقد صدرت الدراسة عن Brill عام 1993.
3- ترجم المذكرات وقدم لها عبدالمجيد القيسي وتشير مقدمته الى عام 1978 أما الطبعة المتداولة فهي الطبعة الخامسة الصادرة عام 1989.
4- عرضت A. Nippa لهذه الرسائل في تذييلها لمذكرات أميرة عربية انظر التذييل بعنوان:
Leben im sultan palest pp. 269ff.
5- مذكرات أميرة عربية، ص 61.
6- المصدر نفسه، ص 79.
7- يسمى القيسي هذا البيت بيت الموتني، مع أن النسختين الألمانية والانجليزية تسميانه بيت المتونى. حول هذه البيوت انظر الفصول: 1، 2، 3، 4، 5.
8- انظر النسخة الألمانية ص 248 وقارن بالترجمة العربية ص 300.
9- معجب الزهراني، المنفى والسعادة لا يجتمعان، قراءة في مذكرات أميرة عربية للسيدة سالمة بنت سعيد نزوى 3 (1995) ص 21-32.
10- عرضت الباحثة A. Nippa لهذه المسألة في تذييل الكتاب P.28ff وعرض للمسألة على نحو تفصيلي A. Donzel في دراسة له باللغة الألمانية بعنوان:
Sayyida Salem, Rudolph Said- Reute and die deutsche kolonial politik in: Die welt des Islams XXVII (1987) PP. 13-22.
11- Das leben im Sultanpalast. P. 131.
12- ibid. 48
خليل الشيخ (ناقد وأكاديمي من الأردن)