منى المعولي*
نساجون أنتم وغرباء يا من لا تفارق ألسنتكم كلمة «جميل».
راؤون أنتم يا من تغادروننا وكأنكم لم تكونوا بيننا ببساطة وعفوية ينذري الجمال الذي رأيتموه وأنتم تشقون الطريق إلى الغياب… لكنه ليس الغياب الذي نعرفه، سيكون غياباً مقلقاً لنا، للأحياء الذين ما زالت خطاهم تلاعب الدروب..
كيف لي أن أتحدث عن الشاعر الحاضر في وجداننا مبارك العامري بأسلوب يعطيه حقه الروحي والتي كانت حياته أقرب منها إلى الجوهر لا المظهر… ذلك الذي عاش مراحل مهمة في عالم الثقافة في جانبها المحلي، مبتعدا عن الضجيج الذي تحدثه العربات الفارغة. لكن لا تقف الكلمات ولن تقف إزاء أديب بَصَر الثقافة من لُبها، فخاض تجارب كلها تنصب في الشأن الثقافي. كما أن الزوايا التي ينبغي أن نتحدث فيها عن شاعرنا مبارك العامري زوايا كثيرة لا يمكن أن نجمعها كلها في شهادة واحدة، وإنما هي دِفق لا ينتهي. ولكن وجب علينا نحن من ربطتنا ذاكرة حنونة بالأديب مبارك العامري أن نتحدث عنه كل من زاويته، وها هنا أدلي بما تبوح به النفس إتجاه روح ستظل حاضرة بيننا رغم الغياب.
الحديث عن الشاعر مبارك العامري هو حديث عن الكلمة الحرة التي حَلُم بها كثيرآ وناورها منذ أن تلمس دروب الكتابة بمحتواها العام من صحافة وشعر وسرد، مبعثراً كل تجارب القادمين أمامه، مستفزاً الجوانب الجمالية للنشئ، مؤمناً بالجيل القادم وكأنه يقدم نفسه قرباناً لجيل آت لا محالة. وهنا تأخذني الذاكرة عندما بدأت أتلمس الكتابة، لم أكن على معرفة بالشاعر مبارك ولكنني فوجئت بمنشور عبر صفحته في الفيس بوك يثني على كتاباتي وكانت السعادة تغمره أن يرى أصوات حرة قادرة على التعبير بشكل فني راق. فعندما صدمني خبر رحيله، سقط على ذاكرتي أنه آمن بي منذ البداية كما لم يفعل غيره وهنا أنا الآن أكتب شهادة مبنية على إيمانه الجميل لكل ما يخص المعرفة والثقافة.
لا تقاس رحلة الإنسان بعدد السنوات التي عاشها ولكن بالحيوات التي حاورها بعينيه وتلمسها بيديه، بالخيال والأحلام التي أطلقها، بالخُطى التي عبر بها ضفاف الأماكن، وهنا لا يمكن إلا أن نعتبر الأديب مبارك عاش كل هذا.
فرحلته في مجلة (العقيدة) انطلقت منذ إيمانه بقيمة الكلمة وقيمة الوعي الذي لا يأتي إلا بتتبع المعرفة والنهوض بها وتحفيز الأبناء أو النشئ على ممارسة العمل الثقافي والذهاب به إلى أطراف العالم.. مجلة العقيدة لم تكن له ضفة مأمولة يرتاح فيها إلى الأبد، بل كانت في قرارة نفسه الشرارة التي تأخذه إلى آفاق أرقى وأبعد.. وهنا، عندما أحاول أن أقلب الخيال وأسترجع بعض أعداد المجلة التي أتيح لنا نحن أبناء اليوم أن نطلع على أعدادها المتوفرة، كنت كثيراً ما أتساءل لماذا لم تكن المجلة بتلك الكثافة الحداثية التي كان مبارك يؤمن بها ويدفع بكل شيء للوصول إليها، يأتيني الرد مباشرة بأن الظروف والواقع كان أكبر وأكثر إنغلاقاً وتأزماً، فقوانين النشر لا تتيح لهم الذهاب أبعد من السياق المتعارف عليه، ولكن رغم كل شيء كانت المجلة تقدم نصوصا حالمة متناثرة وحوارات ثرية مع أدباء وكل هذا بفضل شاعرنا مبارك الذي أؤمن أن له اليد الطولى في تمكين المجلة لتقدم ما هو أبعد من السياقات الثقافية المتعارف عليها…
الفرص لا تتكرر دائماً والأحلام خيول تجري أمامنا، فعندما التحق الصديق الشاعر مبارك العامري ليرأس تحرير مجلة العين الساهرة، كان ذلك إيماناً منه بالتنوع والتكامل بين المؤسسات الثقافية في كل قطاعات الدولة، محاولاً زرع زهرة في كل بستان، فانطلق في تحديث المجلة والذهاب بها إلى ذلك التنوع الذي لم يكن متوفراً قبل ذلك، غير غافل عن ممارسة الفعل الثقافي خارج نطاق المجلة.
لو تحدثنا عن الدور الحقيقي الذي كان مبارك يتمتع به وهو الدور الذي يفوق كل الأدوار الجميلة التي يتمتع بها رحمه الله ، هنا لابد أن أذكر أحد المواقف الراسخة في ذاكرتي. فأول كتاب أصدرته وفي حفل التوقيع في معرض الكتاب كان مبارك أول الحاضرين، حتى لدرجة أنني تفاجأت بتواجده رغم حالته الصحية ولكن الذهول الذي سيطر علي سرعان ما تلاشى عندما جلس بجانبي متحدثاً ومحاوراً، تلاشى لأنني شعرت بأن هذا الأمر راسخ فيه ومن ثوابته الوقوف مع الأقلام الواعدة، رأيته رجلاً إنساناً يزرع الورود بحديثه البسيط ويغذي الموقف الذي شجبه الآخرين بطاقة الإرادة، وهنا أتذكر وقوفه معي في الضجة غير المبررة التي أحدثتها روايتي الأولى، كان موقفاً صلبا ً يقول لي «فقاعات لن تدوم» دافعاً بي إلى التماسك وعدم الإنكسار والانطلاق إلى ما أبعد من ذلك.
كان يرى الأشياء ببصيرة العارف – المجرب، وكيف لا وهو الذي خاض تجارب عديدة في الواقع الثقافي المحلي، كان على إطلاع دؤوب بكل ما يحدث في هذا الجانب..
كثيرا ما يناديني بالإنسانة والمبدعة، غير أني لم أشهد مماثلا له في إنسانيته وإبداعه.
حضر لي أمسية ثقافية أدرت دفة حوارها في ركن النادي الثقافي بمعرض الكتاب عام ٢٠١٨، كان يردد أن للثقافة دورا كبيرا وللاطلاع الدور الأكبر يا منى، واصلي فأنتِ في الاتجاه الصحيح.
إثر نوبة صحية تعرضت لها في عام ٢٠١٩ وبعد عودتي للعمل، تفاجأت بزيارته لي هو وابنه لبيد، كنت سعيدة به جدا، لأن في داخلي يتولد الإطمئنان أن شاعرنا البطل أقوى من الظرف والمرض، ولا يزال هو القوة التي تربت على كتف الأصدقاء.
زرته آخر مرة كان فيها على سرير الترقيد بالمستشفى السلطاني، بسماحته المعهودة ولطفه الذي أعرفه يطلب من ابنه محمد أن يحضر لي شيئا ليضيفني به، كريم هو مبارك العامري حتى في أدق التفاصيل تظهر معادنه..
عرفت مبارك الإنسان وربما لن تحتويني الدواوين ومنصات الكتابة ولن أنصفه حقه ولا أستطيع بكليمات قليلة أن أصفه أو أحدده.
على المستوى الشعري فهناك من سيقدمه أكثر مني وبطريقة تحتوي إبداعه، فأنا أعجز عن التوصيف في هذا الجانب.
لا أستطيع أن أقول إلا أنه كان شاعرا مبدعا حقيقيا وأنه كان مدرسة يجب أن تدرس نهجها لجيل اليوم، كياسة ورصانة وأسلوب ولغة حاذقة وتشابيه وصور خيالية تجعلك داخل كل قصيدة تسكن وتجعل روحك سكن لكل قصيدة.
الشاعر الأديب الأريب مبارك العامري سعيدة بأني كنت أحد مزامنيك وتعلمت منك الكثير وسعيدة لأنني عرفت إنسانيتك وسعيدة بأبناءك رفقاء لدرب القلم، فروحك بيننا خالدة وفي عينيهم نراك كلما اشتقناك.
ارقد بسلام ملائكي فروحك النقية ترمقنا من البعيد تبتسم لنا وتطمن قلوبنا وصوتك وقصائدك هي فاكهة المكان وبرغم الحزن المعتق المنبثق بحب الوطن وهمومه إلا أنها اليوم تضحك لتخفف عنا.