لست أدري أية شهوة غادرة تسكنني إذ أتعمد المشي وسط البرك، وأنا أسمع صوت الحذاء يرتاد المياه الضحلة لأرض متخمة بالبلل.
أستحضر وجهها وهي تفكر مثل تمثال أثيني يمني خلف إزاره أجنحة كثيرة. كنت أوشك على البكاء وأنا أعيد قراءة عبارة هامي رسالة للمرة الثالثة. المطر كان يمارس مهامه في غير ما اكتراث بمطريات الغابرين،والسماء كانت واسعة أكثر من العادة، تتنزل منها بروق حدباه بعكاكيز مضيئة وتتدحرج فيها أحجار هائلة وعجلات فولاذية..كنت أخمن أن هناك سيارات كثيرة تدار فيها مفاتيح محركات عملاقة بين أكوام الغمام المقذوف وسط السماء.
المطر يسقط. وأنا أمشي تحته حسيرا مثل راهب شاب يبحث عن قطيع أفكار ضائع. لم تكن الرعود تخيفني. عندما مات جدي وقفت فوق رأسه وقلت انه فقط نائم.. فمه المشرع مثل صيحة خذلها الهواء، وعيناه المتعبتان. كانت الساعة الحائطية تشير دون كبير عناء الى وقت قديم استراحت عنده عقاربها المرحة الواحدة بعد منتصف الليل، وقت جد ملائم لموت العجائز، كنت أقول. لم أعرف أن الأ حجار العملاقة التي كانت تتدحرج في السماء كانت فقط رعودا نزقة الا عندما مات الجد. قلمت له أظافره ورششت قليلا من العطر فوق جسده المغطى بإزار أبيض مطرز بخمس زهور من دون إيماء. فكرت أن رائحة العطر ستجبر رائحة الموت على المغادرة، لكن الرائحة ظلت في ثيابي. وعندما ذهبت لأستحم عرفت أن الرائحة تلك لم تكن في الثياب أو في الغرفة،. بل كانت هنا.. في الداخل.
مات الجد ووضعنا طقم أسنانه في إناء نحاسي كان يرن به القمح الذي يتصدق به صبيحة الأعياد. سكبنا الماء فوقها. كانت الأسنان الذهبية تبتسم بمكر والأخرى التي كانت من عاج مكثت صامتة.. ربما متذمرة هي من مكانها الجديد، كنت أقول بعد موت الجد بأسبوع واحد ماتت دجاجة السطح. ذبحنا الديكة الأخرى، وظل السطح خاليا من فواخها الهش الذي جاور صرخات مبهمة كانت تطلقها صناديق الخم وسياجاته وشقوق الخيطان المتاخمة للحدود الحذرة التي رسمتها العنا كب والسحالي وطيور الدوري المختالة. في ذلك السطح الذي كان يشبه ربوة جرداء، كنت أحتجز أخواتي الصغيرات وألقنهن دور إيماء وقعن في الأسر للتو، وأحملهن على الوقوف من دون أحذية في الزوايا التي لم تزرها شمس الصباح بعد.. فيما كنت أقف أنا مثل هندي صغير بسكين مطبخ مسروق بين أسناني وكومة ريش فوق رأسي. ضيعتني السينما باكرا. أمريكا هي السبب فكنت اعتبر السطح ذاك بحرا حقيقيا وأضطر أخواتي الى تقليد صفير الرياح وهدير الأمواج، بينما أنا أكتفي بجلدهن بحزام جلدي ورثته أمي عن جدتي.
كانت الأمطار كثيرة تلك السنة، كنت أقول انها اذا استمرت شهرا آخر على هذه القسوة فسنضطر الى استبدال أحذيتنا بأذرع مجنحة لنسبح مثل أسماك في الشوارع.لكن الأمطار لم تستمر ولم نستبدل أحذيتنا بغيرها.ولم نتحول الى أسماك حتى.
جلست أستمع اليها باهتمام. كان صوتها يخفي بكاء ما. غيرنا المواضيع لأكثر من مرة. ابتسمنا في وجوه بعضنا البعض بسخاء مبالذ فيه، أحسست كم كانت دافئة بعينيها اللتين تشبهان لغمين عائمين وشعرها المزبد كشاطيء،متوحش.
احتمال كبير أن تكون الآن قد تزوجت. ربما صار لها بيت وأولاد. احتمال كبير أن تنسى هذه الممرضة السمينة لماذا تركت وزرتها منفرجة من الأسفل كابتسامة شامتة ولم تزررها. فم جدي أيضا كان مفتوحا وهو يتحدى رئتيه فيجمع كل الهواء الذي يسعه ليلحق بالحياة. كأنما تخلت عنه هذه الحياة الكلبة وهو يركض إثرها، فيلهث ويحشرج ويجمع الهواء.
ربما كان فمه المفتوح يتحدانا نحن أيضا. نحن الذين حملناه الى الطبيب ليستفسر الحياة عن الخلل الشقي الذي يدسه لها الموت. كان يتحدانا أن نجمع الهواء مثله، بالقدر الذي يستطيعه هو. لذلك ربما نسي أن يقفل فمه قبل أن يموت، وتركه مفتوحا نكاية بنا جميعا.. بي، بالطبيب، بالممرضة، بطقم أسنانه، بالدجاجات، بالسينما..
الورود التي كانت تزين عيادة الطبيب كانت ميتة. عرفت أن الطبيب لن يصنع معروفا من أجل الجد. عندما التقيتها في الأسبر ,الماضي أعطيتها وردة حمراء وأخرى وردية، شربت كأسين من القهوة بالحليب.. ولامست يدي بحنو أرهبني. لم تغير عطرها ولا تسريحة شعرها. صارت أكثر رشاقة. تأملت عينيها بقسوة، بادلتني القسوة ذاتها بنظرة غير مبالية.. عثرنا على اعتراف ما في لحظة واحدة وامتد بيننا صمت وقح. وجدت لذة غريبة تدفعني الى ابعاد فنجان القهوة عن كفها العابثة.. تأملت كل الوقت الذي كان يفصلنا عن بعضنا البعض وقدرت أنه امتد لسنوات.
عندما ماتت الدجاجة. قالت الجدة أن الموت جاء ليحملها الى جدي، لكنه تردد وأخذ الدجاجة، هكذا فكرت الجدة. أحسست ذلك الصباح أن الغرفة واسعة وعميقة مثل فكرة في كتاب. تشممت في داخلي رائحة احتراق. عندما سقط الجد للمرة الخامسة قالت الجدة انه عنيد ويصر على الذهاب الى دورة المياه بمفرده, فرت طيور أليفة كانت تتجاسر على النزول وسط البيت في غياب القطة، وحملت الجد بين ذراعي مثل وديعة وركضنا به الى الطبيب.
كانت العيادة دافئة والممرضة كانت تسعل بشدة. بقدر ما لم أكن أفهم لماذا كنت أحب المشى وسط البرك، لم أكن أيضا بنفس الغباء أفهم لماذا كانت الجرذان تتسلل الى أحلامي مع أنني كنت أقضي النهار كله في رسم القطط ودسها تحت وسادتي قبل النوم.. صديقي محمود قال لي أن أفعل ذلك.
في الطريق الى العيادة. شاهدت الناس يشترون الحلوى ويخرجون من المحلات المضاءة وفي أيديهم علب فاخرة محاطة بشرائط ملونة. قلت في نفسي لو فقط أسرق هذا السيدة الفرنسية التي تقود أمامها كلبا يشبه وسادة منفوشة،وأشتري لنفسي قميصا جديدا وبطاقات بريدية للأصدقاء.
كان رأس الجد يبدو رخوا وشرايين يديه مثل أنابيب خضراء، أو مثل طحالب شاهدتها على شاطيء ما. أحسست بالضعف. عندما جلست فوق الكرسي الوتير في المقهى الذي
دعاني اليه أحد الأصدقاء، قلت للنادل عندما سألني عن الطلبات أنني فقط جائع. ابتسم وانصرف في. خمنت أنه أيضا جائع، لذلك ابتسم. التهمت قطعة حلوى وشربت كأسين من الحليب دون احساسي بالذنب. كلمني صديقي عن الفتاة التي طلب يدها فرفضت أمها العرض. وقال بسبب الدم الذي أخذ يتجلط في شرايينه. بل ظل يسأل عن نظارتيه الى أن مات في الربيع أتذكره جيدا. في مارس بالضبط. مارس شهر
كلب، جاء مرة أخذ والدي وانصرف. لكن ليس بمستطاعي أن أنساها هي أيضا، تلك الماكرة بابتساماتها الألف وأنفها الذي مثل حبة الكرز. لم أحب أبدا آن أحكي عنها لآحد. ربما اعتبرت ذلك سرا من أسراري الكثيرة التي لا أطلع عليها أحدا كما لو كانت عيوبي الفادحة عندما يموت الأب تحيا مكانه آلام صغيرة،. كانت تلك الألأم الصغيرة زادي الذي سأحيا به بشكل اعتيادي، لتصبح فيما بعد عاداتي الأئيرة التي سأحرص على حراستها شأن جندي شاب. وغير وسيم بالضرورة. مجبول على نبش الخنادق بلا جدوى، بلا حروب.
لقد انحسر المطر. وبمستطاعي أن أدخل البيت الآن وأجفف ثيابي. حذائي ذآت العنق الطويل سيحترق عندما سأضعه تحت التنور ليجف وسأحزن بسبب ذلك أسبوعا كاملا. عندما تحت التنور ليجف وسآحزن بسبب ذلك أسبوعا كاملا. عندما جاء الرجل الذي سيصبغ لنا البيت بذلك الطلاء الحزين، ستدفع كفه الطائشة مزهريتي الصغيرة لتسقط وتتكمو بشكل سيجعل الأغصان النحيلة والنفث تتقصف وتموت. أن تموت مثلما يموت الغصن أو مثلما تموت المزهرية.. هذا بالضبط ما أفكر به هذا الصباح وأنا أنظر الى كل هذه الثياب.
رشيد نيني (قاص من المغرب)