الخادمة تبكي في المطار
لا أدري في أي رحلة هيَ
ربما كانت قادمةً من الفلبين، أو إليها
عائدةً من رحلة العناء، وربما من رحلة المسرّة
كانت تسيرُ كظلٍّ خفيفَ
عيناها غارقتان في الدموع
ويداها لا تكفّان تمسحان ثم
تنثالُ الدموعُ من جديد
على خديها الشاحبين
كانت تسيرُ، بلا حقيبة قرب
بوابات الجَيك إن، ربما سُرقتْ
تحويشةُ العمْر من يدها
وربما تركتْ قلباً لها ينبضُ
في البيت، حيثُ كانت تخدمُ.
المغنية العمياء في السليمانية
هناك، خلف الجبال، في تلك الوهاد
يسيرُ المرءُ حزيناً، مستذكراً آلامَ نفسه
حينما كانت الآلام تُحملُ بالأكياس
والآمالُ الصبورة أضاعت الطريقَ
وغير بعيد كانت المغنية العمياء
تلهم السامعين، فيما تهيمُ أبصارهم
في السماء الصافية.
ليس قبل، ليس بعد، الحياةَ التي
كنتَ تراها وقد أضاعَ الحنينُ
معانيها، تعودُ رويداً رويداً
إليكَ، هناك، قبالتك تجلسُ
في الركن الظليل، بانتظاركَ
تسوّي ثوبها، تريدُ أن تراك؟
كم حلمتَ، يئستَ من اليأس حتى
سرتَ في الأحلام حافياً
وطِرتَ هرباً من الذكريات والأفاعي
ثم رأيت وأنت تفتحَ العينين
كم كانت الأشياء صعبة التحقق
كم نسيتَ نفسك، كم وددت أن
تُعانق الذرى، حتى أيقظك صوتُها
هي المغنية العمياء في السليمانية
لتذرف لها الدمعةَ التي حملتها من بعيد.
يومي الجديد
أنت تنام كعادتك
كوابيس النهار تزور أحلامَك
ولا أحدٌ يريدُ أن يخفّف من شقائك
أعوامُك الطويلة التي تركتها
في المدن البعيدة
أحلامُك المندثرة وهي تُعاد
إليك كأكياس مرقّعة
تسيرُ بها من جديد
هدفاً كانت لك
وها هي أخذت تصيرُ مأوى.
لم تعد تعرفَ أين صرتَ
أي بلادٍ تركتَ وأياً قصدتَ
من هنا إلى هناك
تضربُ خطاك الطرقات
كأنك اللأحدَ الذي أردت أن تكونه
وها قد صرته، يدك فارغة
وجهك الحزين يجمع الكلمات
يحفظها لليوم السعيد الذي لن يقدمَ
كلّ يوم تريد أن تجلس إلى الورقة
البيضاء لتكتب الذي عشته
غير أنك متعباً تغرقُ في الجريدة
تمدّد قدميك وتبحر من جديد
في تبديد ساعاتك القليلة.
أسرى بك الحلمُ
الصدى! من يعرفُ الصدى؟
والليلَ الذي حلّ، هامداً
على جباهنا، هنا أو هناك
حينما كنتَ خيالاً تائهاً
عندنا، وأسرى بك الحلمُ
الطويلُ، معرّجاً على باب
المدينة الفارغة.
أين كنتَ؟ في أي أرضٍ
وجدوا خطاك وقد تباعدت
أحياناً كنتَ تركضُ، ربما
هارباً من نفسك، ولكن
لم تعُدْ إلينا! إذن أين
كنتَ؟ نشمّك من بعيدٍ ولا نراكَ
كأنك صرتَ الصدى، خيطاً من
الضوء، خيطاً من الظلّ
ونحنُ نُحشرُ كلّ يومٍ في خرقة
لكي نعودَ إليك، لكي نكونك
في هذا العالم الذي لا يريد
أن نكون!، فصرنا محنةً
لكل عابرٍ وصدى أغنية ميتة
نتجرّعُ الحياةَ كلَّ لحظة ونمسحُ
باليدين جباهنا، علّ نسمة الريح
تهبُّ قليلاً فتنتعشَ ثمالة الآمال.
رحلة الضياع من جديد
تسلكُ الطريقَ عائداً في الأحلام ذاتها
في رحلة الضياع، الكلبُ يهرّك
والذكرياتُ تنثالُ ملحاً، وخفيةً تسكبُ
الدموعَ الغزيرة ماشياً
كنتَ هنا، تطلبُ نفسك ذاتها
لكي ترى تفاصيل الأسى
آنذاك جئتَ من بعيدٍ
أحلامُك عمود ملحٍ وذابَ
دون أن تعرفَ
واليومَ، إذْ تسودُ غيمةُ اليأس فوق رأسك
من هنا، من هناك
حيث ضاعَ الذي بنيتهُ في الخيال
تجمّع نفسك لكي تحلم من جديد
بحياتك التي أضعتها
وأضحيتَ سراباً تلاحق نفسك
في أرق الليالي.
أعود إلى الحياة
باسمك اليومَ أتكلّمُ
أرفعُ صوتي، لأبدأ من جديد
لأتعب نفسي وأشرد مثلما كنتُ آنذاك
حالماً بالليل الذي كان يحلّ
بعاصفة التراب وهي تبدو من بعيد
أعودُ إلى الحياة، باسمك
وأهجرُ الطريقَ، أتركُ الذي
كانَ، والذي سيكونُ
أنهبُ خيالاً كان لي
وأشدُّ الرحال من جديد
لكي أنأى
وأُبعدُ نفسي
لكي أبكي توحدي، لكي أنام
فيما الرملُ يهمي.
حانَ أن تنام
تحلمُ طيلةَ النهار، وفي الأحلامِ
تسيرُ وتسيرُ حتى تغيبَ
الشمسُ، وتأخذُ العتمةُ
في الهبوط، لتستيقظَ وقد
راحَ النهارُ وحانَ أن تنام.
ملكتَ نفسك حتى مللت
وحينما حاولتَ أن تتركها
تملاّها الآخرون، ملقاةً على الدرب
فيها دبيبُ الحياة لم يزل
ولا أحدٌ مدّ يدَه ليأخذها
فعدتَ إليها بعد حينٍ صاغراً
تدفعكَ إرادةُ الحياة.
تلمسُ الأسى بيديك
يومُك ينتهي لتبدأ نهارَك ليلاً
من جديدٍ وتطفئ شمسَك، لكي
تُشعلَ الأمل الذي كان منكَ
أين كنتَ؟ كيف اهتديت إلى
الطريق؟ وهل جئتَ مُبصراً
أم أن الوهمَ كان عصاك.
يومُك انتهى إذن، فعدتَ إلى
مقعدك، تلمسُ الأسى بيديك
وتنظرُ إلى أيامك التي كانت
لتوهما بأن الأسى ماتَ
وبأن الطريقَ مفتوحٌ وأنتَ
ممسك بالعصا وإليها ما زلتَ تسير.
أن تدخلَ المرآة
تكلّم نفسكَ، حينما صدفةً في المرآة
تراها، تتساءلُ عن المغزى، عن الأمر
الذي حداك إلى أن تفرَّ، وأن
تسيحَ في البلاد، أن تعبرَ البحارَ
تاركاً كلَّ لجّةٍ وراءك، وأن تصبَّ
دموعك شجناً وأن تعوي ككلبٍ في
الليالي الحالكات.
أنتَ تنسى إذن! كيفَ أخذتك
متاهةُ الأجداد لتسيرَ أعواماً
ثم تعودَ، تكلّم نفسك عن شقاء
الفكر، عن نعمة الجهل، تتركَ
عصاك التي في يدك، وتهمَّ بالسيرِ
من جديد، لتدخل المرآة دون
عصىً ويحلُّ الظلامُ بعدك.
جلس الغريبُ
جلسَ الغريبُ، وضعوا له الكأسَ
لقد أوجعتهُ الحياةُ حقاً
ينظرُ في البعيد، يكلّم نفسه
كيفَ عاشَ! كيفَ جالَ في
هذه المدن الكثيرة!
فيما كانت أحزانهُ تقطرُ
في الكأس الذي أمامه
– كان يطفئ لهبَ أحزانه به –
يريدُ أن ينسى أين كانَ
متى وُلدَ وكيف سيموتُ.
جلسَ الغريبُ في ركنه وحيدا.
القبرُ ينادي
من الطابق الأرضي، من الغرفة الضيّقة
يأتي صوتُها، زوجةُ البواب
في آخرة الليل مرة، في عزّ الظهيرة
حينما يُمسك بخناقنا الأرقُ
يتسلل إلى مخادعنا ببطءٍ
ثم يأخذُ في الارتفاعُ، وكأنه
جرعاتُ مشروب قوي، أو
صوتُ واحدٍ يُعذّبُ لسببٍ ما
يأتي صوتُها الأليم، فقد أخذ
البوابُ، أبو حسين، دوري
ينظرُ زوجته التي القبرُ
يناديها، وقد وقفَ رسلُهُ على الباب.
يأتي صوتُها الأليم فيعيدني
إلى برلين، حينما قبل عامين
أُبقيتُ ساهراً أمام صديقي
وفي اليوم التالي رأيتني جالساً
في المقهى، أتقبّل التعازي.
خالـــد المعــــالي
شاعر من العراق