1- رعشة الصوت الثالث:إن مرت أي أذن ناحية الباب, على الفور سوف تلتقط صياح طفل وأنة ضعيفة. ولن تسمع الصوت الثالث.
تغسل زوينة بنت حامد ظهره المجعد باسفنجة مشربة بالصابون, بينما أناته تتردد في أذنيها, وترش له الماء الذي ينساب ببطء ليختلط مع الصابون ودهن الجلد, لتتشكل كتل رغوية تغوص في ثقب الحوض, ومع كل هذا الخليط تاهت دمعة أو دمعتان من دموعها.
تحاول جاهدة الانتهاء من هذا الطفل العجوز الذي تحممه بيديها. كل لمسة لجلده تتولد عنها رعشة, تسمع نشيج وصياح طفلها لكنها تخاف أن تترك زوجها وحده في حوض الحمام حتى لا يسقط ويشج رأسه مثل المرة الأخيرة. السنون تركض أمامها وتتراكم على ظهر زوجها الستيني, وتشهد على جدارتها واتقانها دور الممرضة والزوجة والأم.
تتأمل أيامها في الماء المتساقط بغزارة على صلعته ولحيته, تتذكر ليلة زفافها على هذا الرجل العجوز حمدان بن هاشل الذي لا يرغب في مداعبة أحفاده, تتذكر نظرات ابن جيرانهم المليئة بالحب والشوق حينما كان يمر أمام منزلهم.. لكنه لم يجسر يوما على محادثتها.. إنها أيام مشحونة بالانتظار والخوف.. أخرجها أبوها من الصف السادس رغم حبها للمدرسة والمعلمات.. تفرغت لمساعدة أمها.. تكسر قلبها وهي تشاهد صديقاتها يذهبن للمدرسة.. يا لجمال تلك الملابس الزرقاء.. كثيرا ما داست على آلامها حينما ساهمت في زفاف الكثير من صديقاتها وهي تغني وترقص لهن, الى أن خطفها رجل قدمه والقبر، ماذا سيحدث لو أن أباها رفض حمدان بن هاشل هذا المتكور تحت الماء.. سقطت دمعة على يدها بينما كانت تتأمل جسده الضامر.
تركته في الحوض برهة لتركض إلى طفلها الذي ازداد في صياحه كي تحمله وتهدهده, ثم جلست ترضعه وتستمتع بحركات يديه الصغيرتين, ولكنها تذكرت زوجها. عادت
وفي حضنها الطفل الى الحمام لتجد رغوة الصابون حمراء تغوص بسرعة في ثقب الحوض.
2- بعيدا عن شاطيء الاسكندرية
بعد أن ابتعد شاطىء الإسكندرية بطيوره.. توغلت داخل السوق.. وفي أحد الدكاكين تهتز أقفاص مملوءة ومفتوحة.. تهتز.. تهتز مع كل يد تلمس طيرا أو أرنبا. عيون مذعورة تحدق في بعضها وفيما حولها.. تشع منها الحيرة والترقب.. لا تحاول الهرب أو حتى تحريك أجنحتها وكأنه قد تم تخديرها.
مساعد الاسكندراني بعد أن يقوم بوزنها يرمي له الطيور أو الارانب بسرعة فائقة, فالزبائن كثيرون وعلى عجلة من أمرهم, بينما السكين الحادة تعمل بجدارة في يد الاسكندراني.. فهي لا تتوقف عن قطع الرؤوس النحيلة. يناوله أربعة طيور صامتة مرتجفة.. تقوم السكين الحادة بفصل الرأس عن الجسد في ثوان.
أسأل الاسكندراني: (لماذا لا تهرب الارانب.. لماذا لا تطير الطيور؟). ندت عنه ضحكة صغيرة دون أن يتوقف عن القطع, اذ تحولت يداه إلى آلة للذبح. فقط قال لي: (تفضل يا بيه.. حمامة.. فرخة.. أرنب.. انت شاور بس ).. ليس لديه وقت للاجابة إن كان يعرفها.. ابتعدت عن الدكان ومازال السؤال يدور في ذهني (لماذا لا تهرب الارانب.. لماذا لا تطير الطيور.. طالما أن الأقفاص مفتوحة؟).